(يا أيها الناس) أي أهل مكة (اتقوا ربكم) أي عقابه بأن تطيعوه (الذي خلقكم من نفس واحدة) آدم (وخلق منها زوجها) حواء بالمد من ضلع من أضلاعه اليسرى (وبث) فرق ونشر (منهما) من آدم وحواء (رجالاً كثيراً ونساء) كثيرة (واتقوا الله الذي تَسَّاءلون) فيه إدغام التاء في الأصل في السين ، وفي قراءة بالتخفيف بحذفها أي تتساءلون (به) فيما بينكم حيث يقول بعضكم لبعض: أسألك بالله وأنشدك بالله (و) اتقوا (الأرحام) أن تقطعوها ، وفي قراءة بالجر عطفا على الضمير في به وكانوا يتناشدون بالرحم (إن الله كان عليكم رقيبا) حافظا لأعمالكم فيجازيكم بها ، أي لم يزل متصفا بذلك
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره : "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة"، احذروا، أيها الناس ، ربكم في أن تخالفوه فيما أمركم وفيما نهاكم ، فيحل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به.
ثم وصف تعالى ذكره نفسه بأنه المتوحد بخلق جميع الأنام من شخص واحد، معرفاً عباده كيف كان مبتدأ إنشائه ذلك من النفس الواحدة، ومنبههم بذلك على أن جميعهم بنو رجل واحد وأم واحدة، وأن بعضهم من بعض ، وأن حق بعضهم على بعض واجب وجوب حق الأخ على أخيه ، لاجتماعهم في النسب إلى أب واحد وأم واحدة، وأن الذي يلزمهم من رعاية بعضهم حق بعض ، وإن بعد التلاقي في النسب إلى الأب الجامع بينهم ، مثل الذي يلزمهم من ذلك في النسب الأدنى، وعاطفاً بذلك بعضهم على بعض ، ليتناصفوا ولا يتظالموا، وليبذل القوي من نفسه للضيف حقه بالمعروف على ما ألزمه الله له ، فقال : "الذي خلقكم من نفس واحدة"، يعني : من آدم ، كما:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : أما "خلقكم من نفس واحدة"، فمن آدم عليه السلام.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد بن زريع قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة"، يعني آدم صلى الله عليه.
حدثنا سفيان بن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد: "خلقكم من نفس واحدة"، قال : آدم.
ونظير قوله : "من نفس واحدة"، والمعني به رجل ، قول الشاعر
أبوك خليفة ولدته أخرى وأنت خليفة، ذاك الكمال
فقال : ولدته أخرى، وهو يريد الرجل، فأنث للفظ الخليفة. وقال تعالى ذكره: "من نفس واحدة" لتأنيث النفس، والمعنى : من رجل واحد. ولو قيل : من نفس واحد، وأخرج اللفظ على التذكير للمعنى ، كان صواباً.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه : "وخلق منها زوجها"، وخلق من النفس الواحدة زوجها، يعني ب الزوج، الثاني لها. وهو فيما قال أهل التأويل ، امرأتها حواء.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : وخلق منها زوجها، قال : حواء، من قصيرى آدم وهو نائم ، فاستيقظ فقال : أثا - بالنبطية، إمرأة.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وخلق منها زوجها"، يعني حواء، خلقت من آدم ، من ضلع من أضلاعه.
حدثني موسى بن هارون قال ، أخبرنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : أسكن آدم الجنة، فكان يمشي فيها وحشاً ليس له زوج يسكن إليها. فنام نومةً، فاستيقظ ، فإذا عند رأسه امرأة قاعدة، خلقها الله من ضلعه ، فسألها ما أنت ؟ قالت : امرأة. قال : ولم خلقت؟ قالت : تسكن إلي.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال : ألقى على آدم صلى الله عليه وسلم السنة- فيما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم ، عن عبد الله بن العباس وغيره - ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه ، من شقه الأيسر، ولأم مكانه ، وآدم نائم لم يهب من نومته ، حتى خلق الله تبارك وتعالى من ضلعه تلك زوجته حواء، فسواها امرأة ليسكن إليها، فلما كشفت عنه السنة وهب من نومته ، رآها إلى جنبه ، فقال - فيما يزعمون ، والله أعلم -: لحمي ودمي وزوجتي! فسكن إليها.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "وخلق منها زوجها"، جعل من آدم حواء.
وأما قوله : "وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء" ، فإنه يعني : ونشر منهما، يعني من آدم وحواء، "رجالا كثيرا ونساء"، قد رآهم ، كما قال جل ثناؤه : "كالفراش المبثوث" [القارعة : 4 ].
يقال منه : بث الله الخلق ، وأبثهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل ، قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "وبث منهما رجالا كثيرا ونساء"، وبث ، خلق.
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة تساءلون بالتشديد، بمعنى : تتساءلون ، ثم أدغم إحدى التاءين في السين ، فجعلهما سينا مشددة.
وقرأه بعض قرأة الكوفة : "تساءلون"، بالتخفيف ، على مثال تفاعلون.
وهما قراءتان معروفتان ، ولغتان فصيحتان - أعني التخفيف والتشديد في قوله : "تساءلون به"- وبأي ذلك قرأ القارىء أصاب الصواب فيه. لأن معنى ذلك ، بأي وجهيه قرىء، غير مختلف.
وأما تأويله : واتقوا الله ، أيها الناس ، الذي إذا سأل بعضكم بعضاً سأل به ، فقال السائل للمسؤول : أسألك بالله ، وأنشدك - بالله ، وأعزم عليك بالله ، وما أشبه ذلك. يقول تعالى ذكره : فكما تعظمون ، أيها الناس ، ربكم بألسنتكم حتى تروا أن من أعطاكم عهده فأخفركموه ، فقد أتى عظيماً. فكذلك فعظموه بطاعتكم إياه فيما أمركم ، واجتنابكم ما نهاكم عنه ، واحذروا عقابه من مخالفتكم إياه فيما أمركم به أو نهاكم عنه ، كما:
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله : "واتقوا الله الذي تساءلون به"، قال يقول : اتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع "واتقوا الله الذي تساءلون به"، يقول : اتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس مثله.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، أخبرنا حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : "تساءلون به"، قال : تعاطفون به.
وأما قوله : "والأرحام"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم : معناه : واتقوا الله الذي إذا سألتم بينكم قال السائل للمسؤول : أسالك به وبالرحم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام ، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم : "اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، يقول : اتقوا الله الذي تعاطفون به والأرحام ، يقول : الرجل يسأل بالله وبالرحم.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة، عن إبراهيم قال : هو كقول الرجل : أسألك بالله ، أسألك بالرحم، يعني قوله : "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام".
حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن منصور، عن إبراهيم : "اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، قال يقول : أسألك بالله وبالرحم.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : هو كقول الرجل : أسألك بالرحم.
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا عبد الرحمن قال ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، قال يقول : أسألك بالله وبالرحم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن منصور- أو مغيرة- عن إبراهيم في قوله : "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، قال : هو قول الرجل : أسألك بالله والرحم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر، عن الحسن قال : هو قول الرجل : أنشدك بالله والرحم. قال محمد : وعلى هذا التأويل قول بعض من قرأ قوله : والأرحام، بالخفض عطفاً ب الأرحام، على الهاء التي في قوله : به، كأنه أراده واتقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام ، فعطف بظاهر على مكني مخفوض. وذلك غير فصيح من الكلام عند العرب ، لأنها لا تنسق بظاهر على مكني في الخفض ، إلا في ضرورة شعر، وذلك لضيق الشعر. وأما الكلام ، فلا شيء يضطر المتكلم إلى اختيار المكروه من المنطق ، والرديء في الإعراب منه . ومما جاء في الشعر من رد ظاهر على مكني في حال الخفض ، قول ا لشاعر:
نعتق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب غوط نفانف
فعطف ب الكعب وهو ظاهر، على الهاء والألف في قوله : بينها وهي مكنية.
وقال آخرون : تأويل ذلك: واتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، يقول : اتقوا الله ، واتقوا الأرحام لا تقطعوها.
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا"، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : اتقوا الله ، وجملوا الأرحام ، فإنه أبقى لكم في الدنيا، وخير لكم في الآخرة.
حدثني علي بن داود قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قول الله : "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، يقول : اتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الله في الأرحام فصلوها.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا هشيم ، عن منصور، عن الحسن في قوله: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، قال : اتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوه في الأرحام.
حدثنا سفيان قال ، حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة في قول الله : "الذي تساءلون به والأرحام"، قال : اتقوا الأرحام أن تقطعوها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله : "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، قال : هو قول الرجل : أنشدك بالله والرحم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا الله ، وصلوا الأرحام.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "الذي تساءلون به والأرحام"، قال : اتقوا الأرحام أن تقطعوها.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثني أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله : "الذي تساءلون به والأرحام"، قال يقول : اتقوا الله في الأرحام فصلوها.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع : "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، قال يقول : واتقوا الله في الأرحام فصلوها.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحق ، عن عبد الرحمن بن أبي حماد- وأخبرنا أبو جعفر الخزاز، عن جويبر، عن الضحاك : أن ابن عباس كان يقرأ : "والأرحام"، يقول : اتقوا الله لا تقطعوها.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال ابن عباس : اتقوا الأرحام.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قال : "اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، أن تقطعوها.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : "واتقوا الله الذي تساءلون به"، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقرأ: "والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل" [الرعد: 21].
قال أبو جعفر: وعلى هذا التأويل قرأ ذلك من قرأه نصباً بمعنى : واتقوا الله الذي تساءلون به ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها، عطفاً ب "الأرحام"، في إعرابها بالنصب على اسم الله تعالى ذكره.
قال : والقراءة التي لا نستجيز لقارىء أن يقرأ غيرها في ذلك ، النصب : "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام"، بمعنى : واتقوا الأرحام أن تقطعوها، لما قد بينا أن العرب لا تعطف بظاهر من الأسماء على مكني في حال الخفض ، إلا في ضرورة شعر، على ما قد وصفت قبل.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره : إن الله لم يزل عليكم رقيباً.
ويعني بقوله : "عليكم"، على الناس الذين قال لهم جل ثناؤه : "يا أيها الناس اتقوا ربكم"، والمخاطب والغائب إذا اجتمعا في الخبر، فإن العرب تخرج الكلام على الخطاب ، فتقول إذا خاطبت رجلاً واحداً أو جماعةً فعلت هي وآخرون غيب معهم فعلاً فعلتم كذا، وصنعتم كذا.
ويعني بقوله : "رقيبا"، حفيظاً، محصياً عليكم أعمالكم ، متفقداً رعايتكم حرمة أرحامكم وصلتكم إياها، وقطعكموها وتضييعكم حرمتها، كما:
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "إن الله كان عليكم رقيبا"، حفيظا.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، سمعت ابن زيد في قوله : "إن الله كان عليكم رقيبا"، على أعمالكم ، يعلمها ويعرفها.
ومنه قول أبي دؤاد الإيادي:
كمقاعد الرقباء للضرباء أيديهم نواهد.
وهي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله : " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " النساء : 58 على ما يأتي بيانه . قال النقاش : وقيل نزلت عند هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة . وقد قال بعض الناس : إن قوله تعالى : "يا أيها الناس " حيث وقع إنما هو مكي ، وقال علقمة وغيره فيشله أن يكون صدر السورة مكيا ، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني . وقال النحاس : هذه السورة مكية .
قلت : والصحيح الأول ، فإن" في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تعنى قد بنى بها . ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة . ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها . وأما من قال : إن قوله " يا أيها الناس " مكي حيث وقع فليس بصحيح ، فإن البقرة مدنية وفيها قوله : " يا أيها الناس " في موضعين ، وقد تقدم . والله أعلم .
فيه ست مسائل
الأولى: قوله تعالى:" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم " قد مضى في البقرة اشتقاق الناس ومعنى التقوى والرب والخلق والزوج والبث، فلا معنى للإعادة. وفي الآية تنبيه على الصانع. وقال: " واحدة" على تأنيث لفظ النفس. ولفظ النفس يؤنث وإن عنى به مذكر. ويجوز في الكلام من نفس واحد وهذا على مراعاة المعنى إذ المراد بالنفس آدم قاله مجاهد وقتادة. وهي قراءة ابن أبي عبلة واحد بغير هاء :" وبث " معناه فرق ونشر في الأرض ومنه " وزرابي مبثوثة " [الغاشية:16] وقد تقدم في البقرة و"منهما" يعنى آدم وحواء قال مجاهد: خلقت حواء من قصيرى آدم و"في الحديث :
خلقت المرأة من ضلع عوجاء" وقد مضى في البقرة." رجالا كثيرا" حصر ذريتهما في نوعين، فاقتضى أن الخنثى ليس بنوع، لكن له حقيقة ترده إلى هذين النوعين وهي الآدمية فيلحق بأحدهما، على ما تقدم ذكره في البقرة من اعتبار نقص الأعضاء وزيادتها.
الثانية - قوله تعالى:" واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام" كرر الاتقاء تأكيداً تنبيهاً لنفوس المأمورين. والذي في موضع نصب على النعت. والأرحام معطوف أي اتقوا الله أن تعصوه واتقوا الأرحام أن تقطعوها وقرأ أهل المدينة تساءلون بإدغام التاء في السين. وأهل الكوفة بحذف التاء، لاجتماع تائين، وتخفيف السين، لأن المعنى يعرف، وهو كقوله : " ولا تعاونوا على الإثم " [ المائدة: 2] و" تنزل" [ القدر:4] وشبهه. وقرأ إبراهيم النخعي وقتادة والأعمش وحمزة الأرحام بالخفض وقد تكلم النحويون في ذلك فأما البصريون فقال رؤساؤهم هو لحن لا تحل القراءة به. وأما الكوفيون فقالوا: هو قبيح، ولم يزيدوا على هذا ولم يذكروا علة قبحه، قال النحاس: فيما علمت .
وقال سبيويه: لم يعطف على المضمر المخفوض، لأنه بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه. وقال جماعة: هو معطوف على المنكي، فإنهم كانوا يتساءلون بها، يقول الرجل: سألتك بالله والرحم، هكذا فسره الحسن والنخعي ومجاهد، وهو الصحيح في المسألة على ما يأتي وضعفه أقوام منهم الزجاج، وقالوا: يقبح عطف الاسم الظهر على المضمر في الخفض إلا بإظهار الخافض، كقوله " فخسفنا به وبداره الأرض " [ القصص: 81] ويقبح مررت به وزيد قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان، يحل كل واحد منهما محل صاحبه، فكما لا يجوز مررت بزيدوك كذلك لا يجوز مررت بك وزيد وأما سيبويه فهي عنده قبيحة ولا تجوز إلا في الشعر، كما قال:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
عطف الأيام على الكاف في بك بغير الباء للضرورة وكذلك قول الآخر:
نعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب مهوى نفانف
عطف الكعب على الضمير في بينها ضرورة وقال أبو علي: ذلك ضعف في القياس. وفي كتاب التذكرة المهدية عن الفارسي أن أبا العباس المبرد قال: لو صليت خلف إمام يقرأ " وما أنتم بمصرخي" [إبراهيم:22] واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام لأخذت نعلي ومضيت قال الزجاج: حمزة مع ضعفها وقبحها في العربية خطأ عظيم في أصول أمر الدين، "لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لا تحلفوا بآبائكم " فإذا لم يجز الحلف بغير الله فكيف يجوز بالرحم. ورأيت إسماعيل بن إسحاق يذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم، وأنه خاص لله تعالى. قال النحاس: وقول بعضهم والأرحام قسم خطأ من المعنى والإعراب، لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على النصب. وروى شعبة عن عون بن أبي حنيفة "عن المنذر بن جرير عن أبيه قال:
كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاء قوم من مضر حفاةً عراةً، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى من فاقتهم، ثم صلى الظهر وخطب الناس فقال: يا أيها الناس اتقوا ربكم إلى: والأرحام ثم قال: تصدق رجل بدينار تصدق رجل بدرهمه تصدق رجل بصاع تمرة وذكر الحديث فمعنى هذا على النصب، لأنه حضهم على صلة أرحامهم وأيضاً فقد صح "عن النبي صلى الله عليه وسلم :
من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " فهذا يرد قول من قال: المعنى أسألك بالله وبالرحم. وقد قال أبو إسحاق: معنى تساءلون به يعنى تطلبون حقوقكم به ولا معنى للخفض أيضاً مع هذا .
قلت : هذا ما وقفت عليه من القول لعلماء اللسان في منع قراءة والأرحام بالخفض ، واختاره ابن عطية. ورده الإمام أبو النصر عبد الرحمن بن عبد الكريم القشيري واختار العطف فقال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً يعرفه أهل الصنعة، وإذا ثبت شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم التي قرأ بها فمن رد ذلك فقد رد عن النبي صلى الله عليه وسلم واستقبح ما قرأ به وهذا مقام محذور، ولا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو، فإن العربية تتلقى من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يشك أحد في فصاحته وأما ما ذكر من الحديث ففيه نظر، "لأنه عليه السلام قال لأبي العشراء .
وأبيك لو طعنت في خاصرته" ثم النهي إنماء جاء في الحلف بغير الله وهذا توسل إلى الغير بحق الرحم فلا نهي فيه. قال القشيري: وقد قيل هذا إقسام بالرحم، أي اتقوا الله وحق الرحم، كما تقول: افعل كذا وحق أبيك. وقد جاء في التنزيل: والنجم، والطور، والتين، لعمرك وهذا تكلف .
قلت: لا تكلف فيه فإنه لا يبعد أنه يكون والأرحام من هذا القبيل فيكون أقسم به كما أقسم بمخلوقاته الدالة على وحدانيته وقدرته تأكيداً لها حتى قرنها بنفسه. والله أعلم. ولله أن يقسم بما شاء ويمنع ما شاء ويبيح ما شاء، فلا يبعد أن يكون قسماً. والعرب تقسم بالرحم. ويصح أن تكون الباء مرادةً فحذفها كما حذفها في قوله :
متشائيم ليسوا مصلحين عشيرةً ولا ناعب إلا ببين غرابها
فجر وإن لم يتقدم باء. قال ابن الدهان أبو محمد سعيد بن مبارك: والكوفي يجيز عطف الظاهر على المجرور، ولا يمنع منه ومنه قوله :
آبك أيه بي أو مصدر من حمر الجلة جأب حشور
ومنه
فاذهب فما بك والأيام من عجب
وقول الآخر:
وما بينها والكعب غوط نفانف
ومنه :
فحسبك والضحاك سيف مهند
وقول الآخر:
وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعداً فيها ولا الأرض مقعداً
وقول الآخر:
ما إن بها والأمور من تلف ما حم من أمر غيبه وقعا
وقول الآخر:
أمر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها
ف سواها مجرور الموضع بفي. وعلى هذا حمل بعضهم قوله تعالى:" وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين " [الحجر: 20 ]فعطف على الكاف والميم. وقرأ عبد الله بن يزيد والأرحام بالرفع على الابتداء والخبر مقدر تقديره : والأرحام أهل أن توصل. ويحتمل أن يكون إغراء لأن من العرب من يرفع المغرى. وأنشد الفراء :
إن قوماً منهم عمير وأشبا ه عمير ومنهم السفاح
لجديرون باللقاء إذا قا ل أخو النجدة السلاح السلاح
وقد قيل: إن والأرحام بالنصب عطف على موضع به، لأن موضعه نصب، ومنه قوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
وكانوا يقولون: أنشدك بالله والرحم. والأظهر أنه نصب بإضمار فعل كما ذكرنا.
الثالثة- اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة. وقد صح "أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لأسماء وقد سألته أأصل أمي نعم صلي أمك فأمرها بصلتها وهي كافرة" فلتأكيدها دخل الفضل في صلى الكافر، حتى انتهى الحال بأبي حنيفة وأصحابه فقالوا بتوارث ذوي الأرحام إن لم يكن عصبة ولا فرض مسمى، ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرحم، وعضدوا ذلك بما رواه أبو داود "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
من ملك ذا رحم محرم فهو حر " وهو قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود، ولا يعرف لهما مخالف من الصحابة. وهو قول الحسن البصري وجابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري، وإليه ذهب الثوري وأحمد وإسحاق، ولعلمائنا في ذلك أقوال: الأول - إنه مخصوص بالآباء والأجداد. الثاني- الجناحان يعني الأخوة. الثالث- كقول أبي حنيفة . وقال الشافعي: لا يعتق عليه إلا أولاده وآباؤه وأمهاته، ولا يعتق عليه أخوته ولا أحد من ذوي قرابته ولحمته، والصحيح الأول للحديث الذي ذكرناه وأخرجه الترمذي والنسائي. وأحسن طرقه رواية النسائي له. رواه من حديث ضمرة عن سفيان عن عبد الله بن دينار "عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
من ملك ذا رحم محرم فقد عتق عليه " وهو حديث ثابت بنقل العدل عن العدل ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بعلة توجب تركه، غير أن النسائي قال في آخره: هذا حديث منكر. وقال غيره: تفرد به ضمرة. وهذا هو معنى المنكر والشاذ في اصطلاح المحدثين وضمرة عدل ثقة وانفراد الثقة بالحديث لا يضره. والله أعلم .
الرابعة- واختلفوا من هذا الباب في ذوي المحارم من الرضاعة. فقال أكثر أهل العلم لا يدخلون في مقتضى الحديث. وقال شريك القاضي بعتقهم. وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب لا يعتق على الابن إذا ملكه، واحتجوا "بقوله عليه السلام:
لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه " قالوا: فإذا صح الشراء فقد ثبت الملك، ولصاحب الملك التصرف. وهذا جهل منهم بمقاصد الشرع، فإن الله تعالى يقول :" وبالوالدين إحسانا" [البقرة: 83] فقد قرن بين عبادته وبين الإحسان للوالدين في الوجوب، وليس من الإحسان أن يبقى والده في ملكه وتحت سلطانه، فإذاً يجب عليه عتقه إما لأجل الملك عملاً بالحديث فيشتريه فيعتقه أو لأجل الإحسان عملاً بالآية. ومعنى الحديث عند الجمهور أن الولد لما تسبب إلى عتق أبيه باشترائه نسب الشرع العتق إليه نسبة الإيقاع منه. وأما اختلاف العلماء فيمن يعتق بالملك، فوجه القول الأول ما ذكرناه من معنى الكتاب والسنة، ووجه الثاني إلحاق القرابة القريبة المحرمة بالأب المذكور في الحديث، ولا أقرب للرجل من ابنه فيحمل على الأب، والأخ يقاربه في ذلك لأنه يدلي بالأبوة، فإنه يقول: أنا ابن أبيه. وأما القول الثالث فمتعلقه حديث ضمرة وقد ذكرناه والله أعلم .
الخامسة - قوله تعالى:" والأرحام" الرحم اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره .وأبو حنيفة يعتبر الرحم المحرم في منع الرجوع في الهبة، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام مع أن القطيعة موجودة والقرابة حاصلة، ولذلك تعلق بها الإرث والولاية وغيرهما من الأحكام. فاعتبار المحرم زيادة على نص الكتاب من غير مستند. وهم يرون ذلك نسخاً، سيما وفيه إشارة إلى التعليل بالقطيعة، وقد جوزوها في حق بني الأعمام وبني الأخوال والخالات والله أعلم .
السادسة- قوله تعالى:" إن الله كان عليكم رقيبا" أي حفيظاً عن ابن عباس ومجاهد. ابن زيد: عليماً وقيل: رقيباً حافظاً قيل: بمعنى فاعل. فالرقيب من صفات الله تعالى، والرقيب الحافظ والمنتظر تقول: رقيب أرقب رقبة ورقباناً إذا انتظرت والمرقب: المكان العالي المشرف، يقف عليه الرقيب. والرقيب: السهم الثالث من السبعة التي لها أنصباء ويقال: إن الرقيب ضرب من الحيات، فهو لفظ مشترك. والله أعلم .
يقول تعالى آمراً خلقه بتقواه, وهي عبادته وحده لا شريك له, ومنبهاً لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة, وهي آدم عليه السلام "وخلق منها زوجها" وهي حواء عليها السلام خلقت من ضلعه الأيسر, من خلفه وهو نائم, فاستيقظ فرآها فأعجبته, فأنس إليها وأنست إليه, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن مقاتل, حدثنا وكيع عن أبي هلال عن قتادة, عن ابن عباس, قال: خلقت المرأة من الرجل فجعل نهمتها في الرجل وخلق الرجل من الأرض فجعل نهمته في الأرض, فاحبسوا نساءكم. وفي الحديث الصحيح: "إن المرأة خلقت من ضلع, وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه, فإن ذهبت تقيمه كسرته, وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج". وقوله: "وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء" أي وذرأ منهما أي من آدم وحواء رجالاً كثيراً ونساء, ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم, ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر. ثم قال تعالى: "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام" أي واتقوا الله بطاعتكم إياه. قال إبراهيم ومجاهد والحسن "الذي تساءلون به" أي كما يقال: أسألك بالله وبالرحم, وقال الضحاك: واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به, واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها, قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد والحسن والضحاك والربيع وغير واحد وقرأ بعضهم: والأرحام بالخفض على العطف على الضمير في به أي تساءلون بالله وبالأرحام, كما قال مجاهد وغيره. وقوله: "إن الله كان عليكم رقيباً" أي هو مراقب لجميع أحولكم وأعمالكم, كما قال: "والله على كل شيء شهيد". وفي الحديث الصحيح "اعبد الله كأنك تراه, فإن لم تكن تراه, فإنه يراك" وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب. ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة ليعطف بعضهم على بعض, ويحننهم على ضعفائهم. وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر وهم مجتابو النمار ـ أي من عريهم وفقرهم ـ قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة", حتى ختم الاية. وقال: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد", ثم حضهم على الصدقة فقال: "تصدق رجل من ديناره, من درهمه, من صاع بره, من صاع تمره" وذكر تمام الحديث, وهكذا رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خطبة الحاجة, وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها "يا أيها الناس اتقوا ربكم" الاية.
هي مدنية كلها. قال القرطبي: إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي، وهي قوله تعالى "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" على ما سيأتي إن شاء الله، قال النقاش: وقيل: نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وعلى ما تقدم عن بعض أهل العلم أن قوله تعالى "يا أيها الناس" حيثما وقع، فإنه مكي يلزم أن يكون هذه السورة مكياً، وبه قال علقمة وغيره. وقال النحاس: هذه الآية مكية. قال القرطبي: والصحيح الأول، فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. يعني قد بنى بها. ولا خلاف بين العماء أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة، ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. قال: وأما من قال: "يا أيها الناس" مكي حيث وقع فليس بصحيح، فإن البقرة مدنية وفيها "يا أيها الناس" في موضعين. وقد أخرج ابن الضريس في فضائله والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة النساء بالمدينة، وفي إسناده العوفي وهو ضعيف، وكذا أخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت، وأخرجه ابن المنذر عن قتادة.
وقد ورد في فضل هذه السورة ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود قال: إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها "إن الله لا يظلم مثقال ذرة" الآية، "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الآية، "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية، "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم" الآية. ثم قال: هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود سمع من أبيه، وقد اختلف في ذلك. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن ابن مسعود قال: خمس آيات من النساء هن أحب إلي من الدنيا جميعاً "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الآية "وإن تك حسنة يضاعفها" الآية "إن الله لا يغفر أن يشرك به" الآية "من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية "والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم" الآية. ورواه ابن جرير. ثم روي من طريق صالح المري عن قتادة عن ابن عباس قال: ثمان آيات نزلت في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، وذكر ما ذكره ابن مسعود، وزاد "يريد الله ليبين لكم" الآية "والله يريد أن يتوب عليكم" الآية "يريد الله أن يخفف عنكم" الآية. وأخرج أحمد وابن الضريس ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أخذ السبع فهو حبر". وأخرج البيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطيت مكان التوراة السبع الطوال والمئين كل سورة بلغت مائة فصاعداً"، والمثاني كل سورة دون المئين وفوق المفصل. وأخرج أبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: "وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة شيئاً فلما أصبح قيل: يا رسول الله إن أثر الوجع عليك لبين، قال: أما إني على ما ترون بحمد الله قد قرات السبع الطوال". وأخرج أحمد عن حذيفة قال: "قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ السبع الطوال في سبع ركعات". وأخرج عبد الرزاق عن بعض أهل النبي صلى الله عليه وسلم "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالسبع الطوال في ركعة واحدة". وأخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قال: "سلوني عن سورة النساء فإني قرأت القرآن وأنا صغير" قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عنه قال: "من قرأ سورة النساء فعلم ما يحجب مما لا يحجب علم الفرائض".
المراد بالناس الموجودون عند الخطاب من بني آدم، ويدخل من سيوجد بدليل خارجي وهو الإجماع على أنهم مكلفون بما كلف به الموجودون، أو تغليب الموجودين على من لم يوجد كما غلب الذكور على الإناث في قوله "اتقوا ربكم" لاختصاص ذلك بجمع المذكر. والمراد بالنفس الواحدة هنا آدم. وقرأ ابن أبي عبلة واحد بغير هاء على مراعاة المعنى، فالتأنيث باعتبار اللفظ، والتذكير باعتبار المعنى. قوله 1- "وخلق منها زوجها" قيل: هو معطوف على مقدر يدل عليه الكلام: أي خلقكم من نفس واحدة خلقها أولاً، وخلق منها زوجها، وقيل: على خلقكم، فيكون الفعل الثاني داخلاً مع الأول في حيز الصلة. والمعنى: وخلق من تلك النفس التي هي عبارة عن آدم زوجها وهي حواء. وقد تقدم في البقرة معنى التقوى والرب والزوج والبث، والضمير في قوله "منها" راجع إلى آدم وحواء المعبر عنها بالنفس والزوج. وقوله "كثيراً" وصف مؤكد لما تفيده صيغة الجمع لكونها من جموع الكثرة وقيل: هو نعت لمصدر محذوف: أي بثاً كثيراً. وقوله "ونساء" أي كثيرة، وترك التصريح به استغناء بالوصف الأول. قوله "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام" قرأ أهل الكوفة بحذف التاء الثانية، وأصله تتساءلون تخفيفاً لاجتماع المثلين. وقرأ أهل المدينة وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بإدغام التاء في السين، والمعنى: يسأل بعضكم بعضاً بالله والرحم، فإنهم كانوا يقرنون بينهما في السؤال والمناشدة، فيقولون: أسألك بالله والرحم، وأنشدك الله والرحم، وقرأ النخعي وقتادة والأعمش وحمزة "والأرحام" بالجر. وقرأ الباقون بالنصب.
وقد اختلف أئمة النحو في توجيه قراءة الجر، فأما البصريون فقالوا: هي لحن لا تجوز القراءة بها. وأما الكوفيون فقالوا: هي قراءة قبيحة. قال سيبويه في توجيه هذا القبح: إن المضمر المجرور بمنزلة التنوين، والتنوين لا يعطف عليه. وقال الزجاج وجماعة بقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى "فخسفنا به وبداره الأرض" وجوز سيبويه ذلك في ضرورة الشعر، وأنشد:
فاليوم قربت تهجونا وتمدحنا فاذهب فما بك والأيام من عجب
ومثله قول الآخر:
تعلق في مثل السواري سيوفنا وما بينها والكعب بهو نفانف
بعطف الكعب على الضمير في بينها. وحكى أبو علي الفارسي أن المبرد قال: لو صليت خلف إمام يقرأ "واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام" بالجر، لأخذت نعلي ومضيت. وقد رد الإمام أبو نصر القشيري ما قاله القادحون في قراءة الجر فقال: ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء أثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً، ولا يخفى عليك أن دعوى التواتر باطلة يعرف ذلك من يعرف الأسانيد التي رووها بها، ولكن ينبغي أن يحتج للجواز بورود ذلك في أشعار العرب كما تقدم، وكما في قوله بعضهم:
وحسبك والضحاك سيف مهند
وقول الآخر:
وقد رام آفاق السماء فلم يجد له مصعداً فيها ولا الأرض مقعدا
وقول الآخر:
ما إن بها والأمور من تلف
وقول الآخر:
أكر على الكتيبة لست أدري أحتفي كان فيها أم سواها
فسواها في موضع جر عطفاً على الضمير في فيها، ومنه قوله تعالى "وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين". وأما قراءة النصف فمعناها واضح جلي لأنه عطف الرحم على الاسم الشريف: أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، فإنها مما أمر الله به ان يوصل، وقيل: إنه عطف على محل الجار والمجرور في قوله "به" كقولك مررت بزيد وعمراً: أي اتقوا الله الذي تساءلون به وتتساءلون بالأرحام. والأول أولى. وقرأ عبد الله بن يزيد والأرحام بالرفع على الابتداء والخبر مقدر: أي والأرحام صلوها أو والأرحام أهل أن توصل، وقيل: إن الرفع على الإغراء عند من يرفع به، ومنه قول الشاعر:
إن قوماً منهم عمير وأشبا ه عـمــير ومنـهـــم الســفـاح
لجديـرون باللقــاء إذا قـا ل أخ النجدة السلاح السلاح
والأرحام: اسم لجميع الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره، لا خلاف في هذا بين أهل الشرع ولا بين أهل اللغة. وقد خصص أبو حنيفة وبعض الزيدية الرحم بالمحرم في منع الرجوع في الهبة مع موافقتهم على أن معناها أعم، ولا وجه لهذا التخصيص. قال القرطبي: اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة انتهى. وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة. والرقيب: المراقب وهي صيغة مبالغة، يقال: رقبت أرقب رقبة ورقباناً: إذا انتظرت.
1-قوله تعالى:" يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" ،يعني: آدم عليه السلام، "وخلق منها زوجها " ،يعني:
حواء،"وبث منهما"، نشر وأظهر، "رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به"،أي: تتساءلون به ، وقرأ أهل الكوفة بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين، كقوله تعالى :" ولا تعاونوا"،"والأرحام" ، قراءة العامة بالنصب،أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وقرأ حمزة بالخفض،أي: به وبالأرحام كما يقال: سألتك بالله والأرحام ، والقراءة الأولى أفصح لأن العرب لاتكاد تنسق بظاهر على مكنى إلا أن تعيد الخافض فتقول: مررت به وبزيد، إلا أنه جائز مع قلته،"إن الله كان عليكم رقيباً"،أي: حافظاً.
1" يا أيها الناس " خطاب يعم بني آدم. " اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة " هي آدم. " وخلق منها زوجها " عطف على خلقكم أي خلقكم من شخص واحد وخلق منه أمكم حواء من ضلع من أضلاعه، أو محذوف تقديره من نفس واحدة خلقها وخلق منها زوجها، وهو تقرير لخلقهم من نفس واحدة. " وبث منهما رجالا كثيرا ونساء " بيان لكيفية تولدهم منهما، والمعنى ونشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة، واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها، إذ الحكمة تقتضي أن يكن أكثر، وذكر " كثيرا " حملاً على الجمع وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تخشى، والنعمة الباهرة التي توجب طاعة موليها، أو لأن المراد به تمهيد الأمر بالتقوى فيما يتصل بحقوق أهل منزله وبني جنسه على ما دلت عليه الآيات التي بعدها. وقرئ " خالق " " وبث " على حذف مبتدأ تقديره وهو خالق وباث. " واتقوا الله الذي تساءلون به " أي يسأل بعضكم بعضاً تقول أسألك بالله، وأصله تتساءلون فأدغمت التاء الثانية في السين. وقرأ عاصم و حمزة و الكسائي بطرحها. " والأرحام " بالنصب عطف على محل الجار والمجرور كقولك: مررت بزيد وعمراً، أو على الله أي اتقوا الله واتقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها. وقرأ حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور وهو ضعيف لأنه كبعض الكلمة. وقرئ بالرفع على انه مبتدأ محذوف الخبر تقديره والأرحام كذلك، أي مما يتقى أو يتساءل به. وقد نبه سبحانه وتعالى إذ قرن الأرحام باسمه الكريم على أن صلتها بمكان منه. وعنه عليه الصلاة والسلام "الرحم معلقة بالعرش تقول ألا من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله". " إن الله كان عليكم رقيبا " حافظاً مطلعاً.
Surah 4. An-Nisaa
1. O mankind! Be careful of your duty to your Lord Who created you from a single soul and from it created its mate and from them twain hath spread abroad a multitude of men and women. Be careful of your duty toward Allah in Whom ye claim ( your rights ) of one another, and toward the wombs (that bare you ). Lo! Allah hath been a Watcher over you.
SURA 4: NISA
1 - O mankind reverence your guardian Lord, who created you from a single person, created, of like nature, his mate, and from them twain scattered (like seeds) countless men and women; reverence God, through whom ye demand your mutual (rights), and (reverence) the wombs (that bore you): for God ever watches over you.