(واتبعوا) عطف على نبذ (ما تتلوا) أي تلت (الشياطين على) عهد (مُلْك سليمان) من السحر وكانت دفنتْه تحت كرسيه لما نزع ملكه أو كانت تسترق السمع وتضم إليه أكاذيب وتلقيه إلى الكهنة فيدوِّنونه وفشا ذلك وشاع أن الجن تعلم الغيب فجمع سليمان الكتب ودفنها فلما مات دلت الشياطين عليها الناس فاستخرجوها فوجدوا فيها السحر فقالوا إنما ملككم بهذا فتعلموه فرفضوا كتب أنبيائهم. قال تعالى تبرئة لسليمان وردَّاً على اليهود في قولهم انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحراً : (وما كفر سليمان) أي لم يعمل السحر لأنه كفر (ولكنَّ) بالتشديد والتخفيف (الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) الجملة حال من ضمير كفروا (و) يعلمونهم (ما أنزل على المَلَكين) أي ألهماه من السحر وقرئ بكسر اللام الكائنين (ببابل) بلد في سواد العراق (هاروت وماروت) بدل أو عطف بيان للملكين ، قال ابن عباس : هما ساحران كانا يعلمان السحر وقيل ملكان أنزلا لتعليمه ابتلاء من الله للناس (وما يعلمان من) زائدة (أحد حتى يقولا) له نصحاً (إنما نحن فتنة) بلية من الله إلى الناس ليمتحنهم بتعليمه فمن تعلمه كفر ومن تركه فهو مؤمن (فلا تكفر) بتعلمه فإن أبى إلا التعلم علماه (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) بأن يبغض كلا إلى الآخر (وما هم) أي السحرة (بضارِّين به) بالسحر (من) زائدة (أحد إلا بإذن الله) بإرادته (ويتعلمون ما يضرهم) في الآخرة (ولا ينفعهم) وهو السحر (ولقد) لام قسم (علموا) أي اليهود (لمن) لام ابتداء معلقة لما قبلها ومن موصولة (اشتراه) اختاره أو استبدله بكتاب الله (ما له في الآخرة من خلاق) نصيب في الجنة (ولبئس ما) شيئا (شروا) باعوا (به أنفسهم) أي الشارين : أي حظها من الآخرة إن تعلموه حيث أوجب لهم النار (لو كانوا يعلمون) حقيقة ما يصيرون إليه من العذاب ما تعلموه
قوله تعالى واتبعوا ما تتلو الآية ك أخرج ابن جرير عن شهر بن حوشب قال قالت اليهود انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل يذكر سليمان مع الأنبياء أفما كان ساحرا يركب الريح فأنزل الله تعالى واتبعوا ما تتلو الشياطين الآية
وأخرج ابن أبى حاتم عن أبى العالية أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوا عنه
فيخصمهم فلما رأوا ذلك قالوا هذا أعلم بما أنزل إلينا منا وأنهم سألوه عن السحر وخاصموه به فأنزل الله واتبعوا ما تتلو الشياطين
القول في تأويل قوله تعالى :
"واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون"
يعني بقوله : واتبعوا ما تتلوا الشياطين الفريق من أحبار اليهود وعلمائها الذين وصفهم الله جل ثناؤه بأنهم نبذوا كتابه الذي أنزله على موسى وراء ظهورهم ، تجاهلا منهم وكفرا بما هم به عالمون ، كأنهم لا يعلمون . فأخبر عنهم أنهم رفضوا كتابه الذي يعلمون أنه منزل من عنده على نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونقضوا عهده الذي أخذه عليهم في العمل بما فيه ، وآثروا السحر الذي تلته الشياطين في ملك سليمان بن داود فاتبعوه وذلك هو الخسار والضلال المبين .
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله : "واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان . "فقال بعضهم : عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوراة ، فوجدوا التوراة للقرآن موافقة ، تأمرهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه بمثل الذي يأمر به القرآن ، فخاصموا بالكتب التي كان الناس اكتتبوها من الكهنة على عهد سليمان . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان على عهد سليمان . قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء ، فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم ، فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا . حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم ، فأدخلوا فيه غيره فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة . فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب . فبعث سليمان في الناس ، فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ، ثم دفنها تحت كرسيه ، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق ، وقال : لا أسمع أحدا يذكر أن الشياطين تعلم الغيب إلا ضربت عنقه . فلما مات سليمان ، وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ، وخلف بعد ذلك خلف ، تمثل الشيطان في صورة إنسان ، ثم أتى نفرا من بني إسرائيل ، فقال : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبدا؟ قالوا : نعم . قال : فاحفروا تحت الكرسي وذهب معهم فأراهم المكان . فقام ناحية ، فقالوا له : فادن قال : لا ولكني هاهنا في أيديكم ، فإن لم تجدوه فاقتلوني . فحفروا فوجدوا تلك الكتب ، فلما أخرجوها قال الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر . ثم طار فذهب . وفشا في الناس أن سليمان كان ساحرا واتخذت بنو إسرائيل تلك الكتب . فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها ، فذلك حين يقول : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان قالوا : إن اليهود سألوا محمدا صلى الله عليه وسلم زمانا عن أمور من التوراة ، لا يسألونه عن شيء من ذلك إلا أنزل الله عليه ما سألوه عنه فيخصمهم . فلما رأوا ذلك قالوا : هذا أعلم بما أنزل إلينا منا . وإنهم سألوه عن السحر وخاصموه به ، فأنزل الله جل وعز : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر . وإن الشياطين عمدوا إلى كتاب فكتبوا فيه السحر والكهانة وما شاء الله من ذلك ، فدفنوه تحت مجلس سليمان ، وكان سليمان لا يعلم الغيب ، فلما فارق سليمان الدنيا استخرجوا ذلك السحر ، وخدعوا به الناس وقالوا : هذا علم كان سليمان يكتمه ويحسد الناس عليه . فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث . فرجعوا من عنده ، وقد حزنوا وأدحض الله حجتهم .
وحدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان قال : لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب الاية . قال : اتبعوا السحر ، وهم أهل الكتاب . فقرأ حتى بلغ : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر .
وقال آخرون : بل عنى الله بذلك اليهود الذين كانوا على عهد سليمان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : تلت الشياطين السحر على اليهود على ملك سليمان فاتبعته اليهود على ملكه يعني اتبعوا السحر على ملك سليمان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق ، قال : عمدت الشياطين حين عرفت موت سليمان بن داود عليه السلام ، فكتبوا أصناف السحر : من كان يحب أن يبلغ كذا وكذا ، فليفعل كذا وكذا . حتى إذا صنعوا أصناف السحر ، جعلوه في كتاب ، ثم ختموا عليه بخاتم على نقش خاتم سليمان ، وكتبوا في عنوانه : هذا ما كتب آصف بن برخيا الصديق للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم . ثم دفنوه تحت كرسيه ، فاستخرجته بعد ذلك بقايا بني إسرائيل حين أحدثوا ما أحدثوا ، فلما عثروا عليه قالوا : ما كان سليمان بن داود إلا بهذا . فأفشوا السحر في الناس وتعلموه وعلموه ، فليس في أحد أكثر منه في يهود . فلما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله سليمان بن داود وعده فيمن عده من المرسلين ، قال من كان بالمدينة من يهود : ألا تعجبون لمحمد صلى الله عليه وسلم يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا والله ما كان إلا ساحرا فأنزل الله في ذلك من قولهم على محمد صلى الله عليه وسلم : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا قال : كان حين ذهب ملك سليمان ارتد فئام من الجن والإنس واتبعوا الشهوات . فلما رجع الله إلى سليمان ملكه ، قام الناس على الدين كما كانوا . وإن سليمان ظهر على كتبهم فدفنها تحت كرسيه . وتوفي سليمان حدثان ذلك ، فظهرت الجن والإنس على الكتب بعد وفاة سليمان ، وقالوا : هذا كتاب من الله نزل على سليمان أخفاه منا . فأخذوا به فجعلوه دينا ، فأنزل الله : ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلوا الشياطين وهي المعازف واللعب وكل شيء يصد عن ذكر الله .
والصواب من القول في تأويل قوله : "واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان "أن ذلك توبيخ من الله لأحبار اليهود الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجحدوا نبوته وهم يعلمون أنه لله رسول مرسل ، وتأنيب منه لهم في رفضهم تنزيله ، وهجرهم العمل به وهو في أيديهم يعلمونه ويعرفون أنه كتاب الله ، واتباعهم واتباع أوائلهم وأسلافهم ما تلته الشياطين في عهد سليمان . وقد بينا وجه جواز إضافة أفعال أسلافهم إليهم فيما مضى ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وإنما اخترنا هذا التأويل لأن المتبعة ما تلته الشياطين في عهد سليمان وبعده إلى أن بعث الله نبيه بالحق وأمر السحر لم يزل في اليهود ، ولا دلالة في الاية أن الله تعالى أراد بقوله : واتبعوا بعضا منهم دون بعض ، إذ كان جائزا فصيحا في كلام العرب إضافة ما وصفنا من اتباع أسلاف المخبر عنهم بقوله : واتبعوا ما تتلوا الشياطين إلى أخلافهم بعدهم . ولم يكن بخصوص ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر منقول ، ولا حجة تدل عليه ، فكان الواجب من القول في ذلك أن يقال : كل متبع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من اليهود داخل في معنى الاية ، على النحو الذي قلنا .
القول في تأويل قوله تعالى : "ما تتلوا الشياطين . "يعني جل ثناؤه بقوله : ما تتلوا الشياطين : الذي تتلو . فتأويل الكلام إذا : واتبعوا الذي تتلو الشياطين .
واختلف في تأويل قوله : تتلوا فقال بعضهم : يعني بقوله : تتلوا تحدث وتروى وتتكلم به وتخبر ، نحو تلاوة الرجل للقرآن وهي قراءته . ووجه قائلوا هذا القول تأويلهم ذلك إلى أن الشياطين هي التي علمت الناس السحر وروته لهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن عمرو ، عن مجاهد في قول الله : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان قال : كانت الشياطين تسمع الوحي ، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مائتين مثلها ، فأرسل سليمان إلى ما كتبوا من ذلك فجمعه . فلما توفي سليمان وجدته الشياطين فعلمته الناس وهو السحر .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من الكهانة والسحر وذكر لنا والله أعلم أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم ، ثم أفشوه في الناس وعلموهم إياه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عطاء : قوله : واتبعوا ما تتلوا الشياطين قال : نراه ما تحدث .
حدثني سلم بن جنادة السوائي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : انطلقت الشياطين في الأيام التي ابتلى فيها سليمان ، فكتبت فيها كتبا فيها سحر وكفر ، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها فقرءوها على الناس .
وقال آخرون : معنى قوله : ما تتلوا ما تتبعه وترويه وتعمل به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن عمرو العنقزي ، قال : حدثني أبي ، عن أسباط ، عن السدي ، عن أبي مالك ، عن ابن عباس : تتلوا قال : تتبع .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأزدي ، قال : حدثنا يحيى بن إبراهيم ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ، عن أبي رزين مثله .
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله عز وجل أخبر عن الذين أخبر عنهم أنهم اتبعوا ما تتلو الشياطين على عهد سليمان باتباعهم ما تلته الشياطين . ولقول القائل : هو يتلو كذا في كلام العرب معنيان : أحدهما الاتباع ، كما يقال : تلوت فلانا إذا مشيت خلفه وتبعت أثره ، كما قال جل ثناؤه : هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت يعني بذلك تتبع . والاخر : القراءة والدراسة ، كما تقول : فلان يتلو القرآن ، بمعنى أنه يقرؤه ويدرسه ، كما قال حسان بن ثابت :
نبي يرى ما لا يرى الناس حولهويتلو كتاب الله في كل مشهد
ولم يخبرنا الله جل ثناؤه بأي معنى التلاوة كانت تلاوة الشياطين الذين تلوا ما تلوه من السحر على عهد سليمان بخبر يقطع العذر . وقد يجوز أن تكون الشياطين تلت ذلك دراسة ورواية وعملا ، فتكون كانت متبعته بالعمل ، ودارسته بالرواية فاتبعت اليهود منهاجها في ذلك وعملت به وروته .
القول في تأويل قوله تعالى : "على ملك سليمان ."
يعني بقوله جل ثناؤه : على ملك سليمان في ملك سليمان وذلك أن العرب تضع في موضع على وعلى في موضع في ، من ذلك قول الله جل ثناؤه : ولاصلبنكم في جذوع النخل يعني به : على جذوع النخل ، وكما قال : فعلت كذا في عهد كذا وعلى عهد كذا بمعنى واحد . وبما قلنا من ذلك كان ابن جريج وابن إسحاق يقولان في تأويله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : على ملك سليمان يقول : في ملك سليمان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق في قوله : على ملك سليمان أي في ملك سليمان .
القول في تأويل قوله تعالى" : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر" .
إن قال لنا قائل : وما هذا الكلام من قوله : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ولا خير معنا قبل عن أحد أنه أضاف الكفر إلى سليمان ، بل إنما ذكر اتباع من اتبع من اليهود ما تلته الشياطين؟ فما وجه نفي الكفر عن سليمان بعقب الخبر عن اتباع من اتبعت الشياطين في العمل بالسحر وروايته من اليهود؟ قيل : وجه ذلك أن الذين أضاف الله جل ثناؤه إليهم اتباع ما تلته الشياطين على عهد سليمان من السحر والكفر من اليهود ، نسبوا ما أضافه الله تعالى ذكره إلى الشياطين من ذلك إلى سليمان بن داود ، وزعموا أن ذلك كان من علمه وروايته ، وأنه إنما كان يستعبد من يستعبد من الإنس والجن والشياطين وسائر خلق الله بالسحر . فحسنوا بذلك من ركوبهم ما حرم الله عليهم من السحر أنفسهم عند من كان جاهلا بأمر الله ونهيه ، وعند من كان لا علم له بما أنزل الله في ذلك من التوراة ، وتبرأ بإضافة ذلك إلى سليمان من سليمان ، وهو نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم بشر ، وأنكروا أن يكون كان لله رسولا ، وقالوا : بل كان ساحرا . فبرأ الله سليمان بن داود من السحر والكفر عند من كان منهم ينسبه إلى السحر والكفر لأسباب ادعوها عليه قد ذكرنا بعضها ، وسنذكر باقي ما حضرنا ذكره منها . وأكذب الاخرين الذين كانوا يعملون بالسحر ، متزينين عند أهل الجهل في عملهم ذلك بأن سليمان كان يعمله . فنفى الله عن سليمان عليه السلام أن يكون كان ساحرا أو كافرا ، وأعلمهم أنهم إنما اتبعوا في عملهم السحر ما تلته الشياطين في عهد سليمان ، دون ما كان سليمان يأمرهم من طاعة الله واتباع ما أمرهم به في كتابه الذي أنزله على موسى صلوات الله عليه . ذكر الدلائل على صحة ما قلنا من الأخبار والاثار :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر ، فيأخذه فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته . فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه ، فدنت إلى الإنس ، فقالوا لهم : أتريدون العلم الذي كان سليمان يسخر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا : نعم : قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه . فاستثارته الإنس فاستخرجوه فعملوا به . فقال أهل الحجاز : كان سليمان يعمل بهذا وهذا سحر . فأنزل الله جل ثناؤه على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان ، فقال : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان الاية ، فأنزل الله براءة سليمان على لسان نبيه عليهما السلام .
حدثني أبو السائب السوائي ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان الذي أصاب سليمان بن داود في سبب أناس من أهل امرأة يقال لها جرادة ، وكانت من أكرم نسائه عليه ، قال : فكان هوى سليمان أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم ، فعوقب حين لم يكن هواه فيهم واحد . قال : وكان سليمان بن داود إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من نسائه أعطى الجرادة خاتمه . فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به ، أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي فأخذه فلبسه ، فلما لبسه دانت له الشياطين والجن والإنس . قال : فجاءها سليمان فقال : هاتي خاتمي فقالت : كذبت لست بسليمان . قال : فعرف سليمان أنه بلاء ابتلي به . قال : فانطلقت الشياطين فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها فقرءوها على الناس وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب . قال : فبرىء الناس من سليمان وأكفروه ، حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فأنزل جل ثناؤه : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان يعني الذي كتب الشياطين من السحر والكفر وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا فأنزل الله جل وعز وعذره .
حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت عمران بن حدير ، عن أبي مجلز ، قال : أخذ سليمان من كل دابة عهدا ، فإذا أصيب رجل فسئل بذلك العهد خلي عنه ، فرأى الناس السجع والسحر وقالوا : هذا كان يعمل به سليمان فقال الله جل ثناؤه : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر .
حدثنا أبو حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن حصين بن عبد الرحمن ، عن عمران بن الحارث ، قال : بينا نحن عند ابن عباس إذ جاءه رجل ، فقال له ابن عباس : من أين جئت؟ قال : من العراق ، قال : من أيه؟ قال : من الكوفة . قال : فما الخبر؟ قال : تركتهم يتحدثون أن عليا خارج إليهم . ففزع فقال : ما تقول لا أبا لك لو شعرنا ما نكحنا نساءه ولا قسمنا ميراثه ، أما إني أحدثكم من ذلك أنه كانت الشياطين يسترقون السمع من السماء فيأتي أحدهم بكلمة حق قد سمعها ، فإذا حدث منه صدق كذب معها سبعين كذبة ، قال : فيشربها قلوب الناس فأطلع الله عليها سليمان فدفنها تحت كرسيه . فلما توفي سليمان بن داود قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنزه الممنع الذي لا كنز مثله؟ تحت الكرسي . فأخرجوه فقالوا : هذا سحر . فتناسخها الأمم ، حتى بقاياهم ما يتحدث به أهل العراق . فأنزل الله عذر سليمان : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا والله أعلم أن الشياطين ابتدعت كتابا فيه سحر وأمر عظيم ، ثم أفشوه في الناس وأعلموهم إياه . فلما سمع بذلك سليمان نبي الله صلى الله عليه وسلم تتبع تلك الكتب ، فأتى بها فدفنها تحت كرسيه كراهية أن يتعلمها الناس . فلما قبض الله نبيه سليمان عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها الذي كانت فيه فعلموها الناس ، فأخبروهم أن هذا علم كان يكتمه سليمان ويستأثر به . فعذر الله نبيه سليمان وبرأه من ذلك ، فقال جل ثناؤه : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : كتبت الشياطين كتبا فيها سحر وشرك ، ثم دفنت تلك الكتب تحت كرسي سليمان . فلما مات سليمان استخرج الناس تلك الكتب ، فقالوا : هذا علم كتمناه سليمان . فقال الله جل وعز : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا حجاج ، حدثنا الحسين قال : عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان قال : كانت الشياطين تستمع الوحي من السماء ، فما سمعوا من كلمة زادوا فيها مثلها . وإن سليمان أخذ ما كتبوا من ذلك فدفنه تحت كرسيه فلما توفي وجدته الشياطين فعلمته الناس .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن أبي بكر ، عن شهر بن حوشب ، قال : لما سلب سليمان ملكه كانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان ، فكتبت : من أراد أن يأتي كذا وكذا فليستقبل الشمس وليقل كذا وكذا ، ومن أراد أن يفعل كذا وكذا فليستدبر الشمس وليقل كذا وكذا . فكتبته وجعلت عنوانه : هذا ما كتب آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم ، ثم دفنته تحت كرسيه . فلما مات سليمان قام إبليس خطيبا فقال : يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبيا ، وإنما كان ساحرا ، فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه ، فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحرا ، هذا سحره ، بهذا تعبدنا ، وبهذا قهرنا . فقال المؤمنون : بل كان نبيا مؤمنا . فلما بعث الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم جعل يذكر الأنبياء حتى ذكر داود وسليمان ، فقالت اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل ، يذكر سليمان مع الأنبياء ، وإنما كان ساحرا يركب الريح . فأنزل الله عذر سليمان : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان الاية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : حدثني ابن إسحاق : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين ، قال بعض أحبار اليهود : ألا تعجبون من محمد يزعم أن ابن داود كان نبيا ، والله ما كان إلا ساحرا فأنزل الله في ذلك من قولهم : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا أي بإتباعهم السحر وعملهم به وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت .
قال أبو جعفر : فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا وتأويل قوله : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ما ذكرنا فتبين أن في الكلام متروكا ترك ذكره اكتفاء بما ذكر منه ، وأن معنى الكلام : واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر على ملك سليمان فتضيفه إلى سليمان ، وما كفر سليمان فيعمل بالسحر ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر .
وقد كان قتادة يتأول قوله : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا على ما قلنا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يقول : ما كان عن مشورته ، ولا عن رضا منه ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه .
وقد دللنا فيما مضى على اختلاف المختلفين في معنى تتلو ، وتوجيه من وجه ذلك إلى أن تتلوا بمعنى تلت ، إذ كان الذي قبله خبرا ماضيا وهو قوله : واتبعوا وتوجيه الذين وجهوا ذلك إلى خلاف ذلك . وبينا فيه وفي نظيره الصواب من القول ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . وأما معنى قوله : ما تتلوا فإنه بمعنى الذي تتلو وهو السحر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان أي السحر .
قال أبو جعفر : ولعل قائلا أن يقول : أو ما كان السحر إلا أيام سليمان؟ قيل له : بلى قد كان ذلك قبل ذلك ، وقد أخبر الله عن سحرة فرعون ما أخبر عنهم ، وقد كانوا قبل سليمان ، وأخبر عن قوم نوح أنهم قالوا لنوح إنه ساحر قال : فكيف أخبر عن اليهود أنهم اتبعوا ما تلته الشياطين على عهد سليمان؟ قيل : لأنهم أضافوا ذلك إلى سليمان على ما قد قدمنا البيان عنه ، فأراد الله تعالى ذكره تبرئة سليمان مما نحلوه وأضافوا إليه مما كانوا وجدوه إما في خزائنه وإما تحت كرسيه ، على ما جاءت به الاثار التي قد ذكرناها من ذلك . فحصر الخبر عما كانت اليهود اتبعته فيما تلته الشياطين أيام سليمان دون غيره لذلك السبب ، وإن كان الشياطين قد كانت تالية للسحر والكفر قبل ذلك .
القول في تأويل قوله تعالى" : وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ."
اختلف أهل العلم في تأويل ما التي في قوله : وما أنزل على الملكين فقال بعضهم : معناه الجحد وهي بمعنى لم . ذكر من قال ذلك : .
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فإنه يقول : لم ينزل الله السحر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثني حكام عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس : وما أنزل على الملكين قال : ما أنزل الله عليهما السحر .
فتأويل الاية على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع من توجيههما معنى قوله : وما أنزل على الملكين إلى : ولم ينزل على الملكين ، واتبعوا الذي تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر ، وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فيكون حينئذ قوله : ببابل وهاروت وماروت من المؤخر الذي معناه التقديم .
فإن قال لنا قائل : وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : وابتعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت . فيكون معنيا بالملكين : جبريل وميكائيل لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود . فأكذبها الله بذلك وأخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط ، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر ، فأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس ببابل ، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما هاروت واسم الاخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة على الناس وردا عليهم .
وقال آخرون : بل تأويل ما التي في قوله : وما أنزل على الملكين الذي . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : قال معمر ، قال قتادة والزهري عن عبد الله : وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت كانا ملكين من الملائكة فأهبطا ليحكما بين الناس . وذلك أن الملائمكة سخروا من أحكام بني آدم ، قال : فحاكمت إليهما امرأة فحافا لها ، ثم ذهبا يصعدان ، فحيل بينهما وبين ذلك وخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الاخرة ، فاختارا عذاب الدنيا . قال معمر : قال قتادة : فكانا يعلمان الناس السحر ، فأخذ عليهما أن لا يعلما أحدا حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما قوله : وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فهذا سحر آخر خاصموه به أيضا يقول : خاصموه بما أنزل على الملكين وإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان سحرا .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فالسحر سحران : سحر تعلمه الشياطين ، وسحر يعلمه هاروت وماروت .
حدثني المثنى قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت قال : التفريق بين المرء وزوجه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين فقرأ حتى بلغ : فلا تكفر قال : الشياطين والملكان يعلمون الناس السحر .
قال أبو جعفر : فمعنى الاية على تأويل هذا القول الذي ذكرنا عمن ذكرناه عنه : واتبعت اليهود الذي تلت الشياطين في ملك سليمان الذي أنزل على الملكين ببابل وهاروت وماروت . وهما ملكان من ملائكة الله ، سنذكر ما روي من الأخبار في شأنهما إن شاء الله تعالى .
وقالوا : إن قال لنا قائل : وهل يجوز أن ينزل الله السحر ، أم هل يجوز لملائكته أن تعلمه الناس؟ قلنا له : إن الله عز وجل قد أنزل الخير والشر كله . وبين جميع ذلك لعباده ، فأوحاه إلى رسله وأمرهم بتعليم خلقه وتعريفهم ما يحل لهم مما يحرم عليهم وذلك كالزنا والسرقة وسائر المعاصي التي عرفهموها ونهاهم عن ركوبها ، فالسحر أحد تلك المعاصي التي أخبرهم بها ونهاهم عن العمل بها .
قالوا : ليس في العلم بالسحر إثم ، كما لا إثم في العلم بصنعة الخمر ونحت الأصنام والطنابير والملاعب ، وإنما الإثم في عمله وتسويته .
قالوا : وكذلك لا إثم في العلم بالسحر ، وإنما الإثم في العمل به وأن يضر به من لا يحل ضره به .
قالوا : فليس في إنزال الله إياه على الملكين ولا في تعليم الملكين من علماه من الناس إثم إذا كان تعليمهما من علماه ذلك بإذن الله لهما بتعليمه بعد أن يخبراه بأنهما فتنة وينهاه عن السحر والعمل به والكفر وإنما الإثم على من يتعلمه منهما ويعمل به ، إذ كان الله تعالى ذكره قد نهاه عن تعلمه والعمل به .
قالوا : ولو كان الله أباح لبني آدم أن يتعلموا ذلك ، لم يكن من تعلمه حرجا ، كما لم يكونا حرجين لعلمهما به ، إذ كان علمهما بذلك عن تنزيل الله إليهما .
وقال آخرون : معنى ما معنى الذي ، وهي عطف على ما الأولى ، غير أن الأولى في معنى السحر والاخرة في معنى التفريق بين المرء وزوجه .
فتأويل الاية على هذا القول : واتبعوا السحر الذي تتلو الشياطين في ملك سليمان ، والتفريق الذي بين المرء وزوجه الذي أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وهما يعلمان ما يفرقون به بين المرء وزوجه ، وذلك قول الله جل ثناؤه : وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا وكان يقول : أما السحر فإنما يعلمه الشياطين ، وأما الذي يعلم الملكان فالتفريق بين المرء وزوجه ، كما قال الله تعالى .
وقال آخرون : جائز أن تكون ما بمعنى الذي ، وجائز أن تكون ما بمعنى لم . ذكر من قال ذلك .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني الليث بن سعد ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد ، وسأله رجل عن قول الله : يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت فقال الرجل : يعلمان الناس ما أنزل عليهما ، أم يعلمان الناس ما لم ينزل عليهما؟ قال القاسم : ما أبالي أيتهما كانت .
حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا بشر بن عياض ، عن بعض أصحابه ، أن القاسم بن محمد سئل عن قول الله تعالى ذكره : وما أنزل على الملكين فقيل له : أنزل أو لم ينزل؟ فقال : لا أبالي أي ذلك كان ، إلا أني آمنت به .
والصواب من القول في ذلك عندي قول من وجه ما التي في قوله : وما أنزل على الملكين إلى معنى الذي دون معنى ما التي هي بمعنى الجحد . وإنما اخترت ذلك من أجل أن ما إن وجهت إلى معنى الجحد ، فتنفي عن الملكين أن يكونا منزلا إليهما . ولم يخل الاسمان اللذان بعدهما أعني هاروت وماروت من أن يكونا بدلا منهما وترجمة عنهما ، أو بدلا من الناس في قوله : يعلمون الناس السحر وترجمة عنهما . فإن جعلا بدلا من الملكين وترجمة عنهما بطل معنى قوله : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه لأنهما إذا لم يكونا عالمين بما يفرق به بين المرء وزوجه ، فما الذي يتعلم منهما من يفرق بين المرء وزوجه؟
وبعد ، فإن ما التي في قوله : وما أنزل على الملكين إن كانت في معنى الجحد عطفا على قوله : وما كفر سليمان فإن الله جل ثناؤه نفى بقوله : وما كفر سليمان عن سليمان أن يكون السحر من عمله ، أو من علمه أو تعليمه . فإن كان الذي نفى عن الملكين من ذلك نظير الذي نفى عن سليمان منه ، وهاروت وماروت هما الملكان ، فمن المتعلم منه إذا ما يفرق به بين المرء وزوجه؟ وعمن الخبر الذي أخبر عنه بقوله : وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر؟ إن خطأ هذا القول لواضح بين . وإن كان قوله هاروت وماروت ترجمة من الناس الذين في قوله : ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر فقد وجب أن تكون الشياطين هي التي تعلم هاروت وماروت السحر ، وتكون السحرة إنما تعلمت السحر من هاروت وماروت عن تعليم الشياطين إياهما . فإن يكن ذلك كذلك ، فلن يخلو هاروت وماروت عند قائل هذه المقالة من أحد أمرين : إما أن يكونا ملكين ، فإن كانا عنده ملكين فقد أوجب لهما من الكفر بالله والمعصية له بنسبته إياهما إلى أنهما يتعلمان من الشياطين السحر ويعلمانه الناس ، وإصرارهما على ذلك ومقامهما عليه أعظم مما ذكر عنهما أنهما أتياه من المعصية التي استحقا عليها العقاب ، وفي خبر الله عز وجل عنهما أنهما لا يعلمان أحدا ما يتعلم منهما حتى يقولا : إنما نحن فتنة فلا تكفر ما يغني عن الإكثار في الدلالة على خطأ هذا القول . أو أن يكونا رجلين من بني آدم فإن يكن ذلك كذلك فقد كان يجب أن يكون بهلاكهما قد ارتفع السحر والعلم به والعمل من بني آدم لأنه إذا كان علم ذلك من قبلهما يؤخذ ومنهما يتعلم ، فالواجب أن يكون بهلاكهما وعدم وجودهما عدم السبيل إلى الوصول إلى المعنى الذي كان لا يوصل إليه إلا بهما وفي وجود السحر في كل زمان ووقت أبين الدلالة على فساد هذا القول . وقد يزعم قائل ذلك أنهما رجلان من بني آدم ، لم يعدما من الأرض منذ خلقت ، ولا يعدمان بعد ما وجد السحر في الناس . فيدعي ما لا يخفى بطوله .
فإذا فسدت هذه الوجوه التي دللنا على فسادها ، فبين أن معنى : ما التي في قوله : وما أنزل على الملكين بمعنى الذي ، وأن هاروت وماروت مترجم بهما عن الملكين ولذلك فتحت أواخر أسمائهما ، لأنهما في موضع خفض على الرد على الملكين ، ولكنهما لما كانا لا يجران فتحت أواخر أسمائهما .
فإن التبس على ذي غباء ما قلنا ، فقال : وكيف يجوز لملائكة الله أن تعلم الناس التفريق بين المرء وزوجه؟ أم كيف يجوز أن يضاف إلى الله تبارك وتعالى إنزال ذلك على الملائكة؟ قيل له : إن الله جل ثناؤه عرف عباده جميع ما أمرهم به وجميع ما نهاهم عنه ، ثم أمرهم ونهاهم بعد العلم منهم بما يؤمرون به وينهون عنه . ولو كان الأمر على غير ذلك ، لما كان للأمر والنهي معنى مفهوم فالسحر مما قد نهى عباده من بني آدم عنه ، فغير منكر أن يكون جل ثناؤه علمه الملكين اللذين سماهما في تنزيله وجعلهما فتنة لعباده من بني آدم كما أخبر عنهما أنهما يقولان لمن يتعلم ذلك منهما : إنما نحن فتنة فلا تكفر ليختبر بهما عباده الذين نهاهم عن التفريق بين المرء وزوجه وعن السحر ، فيمحص المؤمن بتركه التعلم منهما ، ويخزي الكافر بتعلمه السحر والكفر منهما ، ويكون الملكان في تعليمهما من علما ذلك لله مطيعين ، إذ كانا عن إذن الله لهما بتعليم ذلك من علماه يعلمان . وقد عبد من دون الله جماعة من أولياء الله ، فلم يكن ذلك لهم ضائرا إذ لم يكن ذلك بأمرهم إياهم به ، بل عبد بعضهم والمعبود عنه ناه ، فكذلك الملكان غير ضائرهما سحر من سحر ممن تعلم ذلك منهما بعد نهيهما إياه عنه وعظتهما له بقولهما : إنما نحن فتنة فلا تكفر إذ كانا قد أديا ما أمر به بقيلهما ذلك . كما :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن في قوله" : وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت "إلى قوله : فلا تكفر أخذ عليهما ذلك .
فيه أربع وعشرون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : "واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان" هذا إخبار من الله تعالى عن الطائفة الذين نبذوا الكتاب بأنهم اتبعوا السحر أيضاً ، وهم اليهود . وقال السدي : عارضت اليهود محمداً صلى الله عليه وسلم بالتوارة فاتفقت التوارة والقرآن فنبذوا التوارة وأخذوا بكتاب آصف وبسحر هاروت وماروت . وقال محمد بن إسحاق : لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان في المرسلين قال بعض أحبارهم : يزعم محمد أن ابن داود كان نبياً ! والله ما كان إلا ساحراً ، فأنزل الله عز وجل : "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" أي ألقت إلى بني آدم أن ما فعله سليمان من ركوب البحر واستسخار الطير والشياطين كان سحراً . وقال الكلبي : كتبت الشياطين السحر والنيرنجيات على لسان آصف كاتب سليمان ، ودفنوه تحت مصلاه جين انتزع الله ملكه ولم يشعر بذلك سليمان ، فلما مات سليمان استخرجوه وقالوا للناس : إنما ملككم بهذا فتعلموه ، فأما علماء بني إسرائيل فقالوا : معاذ الله أن يكون هذا علم سليمان ! وأما السفلة فقالوا : هذا علم سليمان ، وأقبلوا على تعليمه ورفضوا كتب أنبيائهم حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عز وجل على نبيه عذر سليمان وأظهروا براءته مما رمي به فقال : "واتبعوا ما تتلوا الشياطين" . قال عطاء : تتلوا تقرأ من التلاوة . وقال ابن عباس : تتلو تتبع ، كما تقول : جاء القوم يتلو بعضهم بعضاً . وقال الطبري : اتبعوا فضلوا .
قلت :لأن كل من اتبع شيئاً وجعله أمامه فقد فضله على غيره . ومعنى تتلو يعني تلت ، فهو بمعنى المضي ، قال الشاعر :
وإذا مررت بقبره فاعقر به كوم الهجان وكل طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها فلقد يكون أخا دم وذبائح
أي : فلقد كان . و كا مفعول بـ اتبعوا ، أي اتبعوا ما تقولته الشياطين على سليمان وتلته . وقيل : ما نفي ، وليس بشيء لا في نظام الكلام ولا في صحته ، قاله ابن العربي . "على ملك سليمان" أي على شرعه ونبوته . قال الزجاج : المعنى على عهد ملك سليمان . وقيل : :المعنى في ملك سليمان ، يعني في قصصه وصفاته وأخباره . قال الفراء تصلح على وفي ، في مثل هذا الموضع . وقال على ولم يقل بعد لقوله تعالى : "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" . أي في تلاوته . وقد تقدم معنى الشيطان واشتقاقه ، فلا معنى لإعادته . والشياطين هنا قيل : هم شياطين الجن ، وهو المفهوم من هذا الاسم . وقيل : المراد شياطين الإنس المتمردون في الضلال ، كقول جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزلي وكن يهوينني إذ كنت شيطانا
الثانية : قوله تعالى : "وما كفر سليمان" تبرئة من الله لسليمان ، ولم يتقدم في الآية أن أحداً نسبه إلى الكفر ، ولكن اليهود نسبته إلى السحر ، ولكن لما كان السحر كفراً صار بمنزلة من نسبه إلى الكفر ، ثم قال "ولكن الشياطين كفروا" فأثبت كفرهم بتعليم السحر . و يعلمون في موضع نصب على الحال ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على أنه خبر ثان . وقرأ الكوفيون سوى عاصم ولكن الشياطين بتخفيف لكن ، ورفع النون من الشياطين ، وذلك في الأنفال :"ولكن الله رمى" ووافقهم ابن عامر . الباقون بالتشديد والنصب . و لكن كلمة لها معنيان : نفي الخبر الماضي ، وإثبات الخبر المستقبل ، وهي مبنية من ثلاث كلمات : لا ، ك ، إن . لا نفي ، و الكاف خطاب ، و إن إثبات وتحقيق ، فذهبت الهمزة استثقالاً ، وهي تثقل وتخفف ، فإذا ثقلت نصبت كإن الثقيلة ، وإذا خففت رفعت بها كما ترفع بإن الخفيفة .
الثالثة : السحر ، قيل :السحر أصله التمويه بالحيل والتخاييل ، وهو أن يفعل الساحر أشياء ومعاني ، فيخيل للمسحور أنها بخلاف ما هي به ، كالذي يرى السراب من بعيد فيخيل إليه أنه ماء ، وكراكب السفينة السائرة سيراً حثيثاً يخيل إليه أن ما يرى من الأشجار والجبال سائرة معه . وقيل هو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته ، وكذلك إذا عللته . والتسحير مثله ، قال لبيد :
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
آخر :
أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
عصافير وذبان ودود وأجرأ من مجلحة الذئاب
وقوله تعالى : "إنما أنت من المسحرين" يقال : المسحر الذي خلق ذا سحر ، ويقال من المعللين ، أي ممن يأكل الطعام ويشرب الشراب . وقيل : أصله الخفاء ، فإن السحر يفعله في خفية . وقي أصله الصرف ، يقال : ما سحرك عن كذا ، أي ما صرفك عنه ، فالسحر مصروف عن جهته . وقيل: أصله الاستمالة ، وكل من استمالك فقد سحرك . وقيل : في قوله تعالى : "بل نحن قوم مسحورون" أي سحرنا فأزلنا بالتخييل عن معرفتنا . وقال الجوهري : السحر الأخذة ، وكل ما لطف مأخذه ودق فهو سحر ، وقد سحره يسحره سحراً . والساحر : العالم ، وسحره أيضاً بمعنى خدعه ، وقد ذكرناه . وقال ابن مسعود : كنا نسمي السحر في الجاهلية العضة ... والعضة عند العرب : شدة البهت وتمويه الكذب ، قال الشاعر :
أعوذ بربي من النافثا ت في عضه العاضه المعضه
الرابعة : واختلف هل له حقيقة أم لا ، فذكر الغزنوي الحنفي في عيون المعاني له : أن السحر عند المعتزلة خدع لا أصل له ، وعند الشافعي وسوسة وأمراض . قال : وعندنا أصله طلسم يبنى على تأثير خصائص الكواكب ، كتأثير الشمس في زئبق عصي فرعون ، أو تعظيم الشياطين ليسهلوا له ما عسر .
قلت : وعندنا أنه حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما شاء ، على ما يأتي . ثم من السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة . والشعوذي : البريد لخفة سيره . قال ابن فارس في المجمل : الشعودة ليست من كلام أهل البادية ، وهي خفة في اليدين وأخذة كالسحر ، ومنه ما يكون كلاماً يحفظ ، ورقى من أسماء الله تعالى . وقد يكون من عهود الشياطين ، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك .
الخامسة : سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفصاحة في الكلام واللسانة فيه سحراً ، فقال :
"إن من البيان لسحرا" أخرجه مالك وغيره . وذلك لأن فيه تصويب الباطل حتى يتوهم السامع أنه حق ، فعلى هذا يكون قوله عليه السلام : "إن من البيان لسحرا" خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة ، إذ شبهها بالسحر . وقيل خرج مخرج المدح للبلاغة والتفضيل للبيان ، قاله جماعة من أهل العلم . والأول أصح ، والدليل عليه قوله عليه السلام :
"فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض" ،وقوله :
"إن أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون" . الثرثرة : كثرة الكلام وترديده ، يقال : ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار . والمتفيهق نحوه . قال ابن دريد . فلان يتفيهق في كلامه إذا توسع فيه وتنطع ، قال : وأصله الفهق وهو الامتلاء ، كأنه ملأ به فمه .
قلت : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان فقالا : أما قوله صلى الله عليه وسلم : "إن من البيان لسحرا" فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وهو عليه ، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسانة ما لم تخرج إلى حد الإسهاب والإطناب ، وتصوير الباطل في صورة الحق . وهذا بين ، والحمد لله .
السادسة : من السحر ما يكون كفراً من فاعله ، مثل ما يدعون من تغيير صور الناس ، وإخراجهم في هيئة بهيمة ، وقطع مسافة شهر في ليلة ، والطيران في الهواء ، فكل من فعل هذا ليوهم الناس أنه محق فذلك كفر منه ، قاله أبو نصر عبد الرحيم القشيري . قال أبو عمرو : من زعم ان الساحر يقلب الحيوان من صورة إلى صورة ، فيجعل الإنسان حماراً او نحوه ، ويقدر على نقل الأجساد وهلاكها وتبديلها ، فهذا يرى قتل الساحر لأنه كافر بالأنبياء ، يدعي مثل آياتهم ومعجزاتهم ، ولا يتهيأ مع هذا علم صحة النبوة إذ قد يحصل مثلها بالحيلة . وأما من زعم أن السحر خدع ومخاريق وتمويهات وتخييلات فلم يجب على أصله قتل الساحر ، إلا أن يقتل بفعله أحداً فيقتل به .
السابعة : ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة . وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الإسترابادي من أصحاب الشافعي إلى ان السحر لا حقيقة له ، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به ، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة ، كما قال تعالى : "يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى" ولم يقل تسعى على الحقيقة ،ولكن قال يخيل إليه . وقال أيضاً : "سحروا أعين الناس" . وهذا لا حجة فيه ، لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر ، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوزها العقل وورد بها السمع ، فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه ، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه ، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس ، فدل على أن له حقيقة . وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون . "وجاؤوا بسحر عظيم" . وسورة الفلق ، مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم ، وهو مما خرجه البخاري و مسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت :
"سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم" الحديث . وفيه : "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما حل السحر : إن الله شفاني" . والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض ، فدل على أن له حقاً وحقيقة ، فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه . وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع ، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق . ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان وتكلم الناس فيه ، ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله . وروى سفيان عن ابي الأعور عن عرمة عن ابن عباس قال : علم السحر في قرية من قرى مصر يقال لها : الفرما فمن كذب به فهو كافر ، مكذب لله ورسوله ، منكر لما علم مشاهدةً وعياناً .
الثامنة : قال علماؤنا : لا ينكر أن يظهر على يد الساحر خرق العادات مما ليس في مقدور البشر من مرض وتفريق وزوال وتعويج عضو ، إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد . قالوا : ولا يبعد في السحر أن يستدق جسم الساحر حتى يتولج في الكوات والخوخات و الانتصاب على رأي قصبة ، والجري على خيط مستدق ، والطيران في الهواء والمشيء على الماء وركوب كلب وغير ذلك . ومع ذلك فلا يكون السحر موجباً لذلك ، ولا علة لوقوعه ولا سبباً مولداً ، ولا يكون الساحر مستقلا به ، وإنما يخلق الله تعالى هذه الأشياء ويحدثها عند وجود السحر ، كما يخلق الشبع عند الأكل ، والري عند شرب الماء . روى سفيان عن عمار الدهني أن ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل ، ويدخل في است الحمار ويخرج من فيه ، فاشتمل له جندب على السيف فقتله جندب ـ هذا هو جندب بن كعب الأزدي ويقال البجلي ـ وهو الذي قال في حقه النبي صلى الله عليه وسلم :
"يكون في أمتي رجل يقال له جندب يضرب ضربة بالسيف يفرق بين الحق والباطل" . فكانوا يرونه جندباً هذا قاتل الساحر . قال علي بن المديني : روى عنه حارثة بن مضرب .
التاسعة : أجمع المسلمون على أنه في السحر ما يفعل الله عنده إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى وإنطاق العجماء ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام . فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون ولا يفعله الله عند إرادة الساحر . قال القاضي أبو بكر بن الطيب : وإنما منعنا ذلك بالإجماع ولولاه لأجزناه .
العاشرة : في الفرق بين السحر والمعجزة ، قال علماؤنا : السحر يوجد من الساحر وغيره ، وقد يكون جماعة يعرفونه ويمكنهم الإتيان به في وقت واحد . والمعجزة لا يمكن الله أحداً أن يأتي بمثلها وبمعارضتها ، ثم الساحر لم يدع النبوة فالذي يصدر منه متميز عن المعجزة ، فإن المعجزة شرطها اقتران دعوى النبوة والتحدي بها ، كما تقدم في مقدمة الكتاب .
الحادية عشرة : واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذمي ، فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفراً يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته ، لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني ، ولأن الله تعالى سمى السحر كفراً بقوله :
"وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" وهو قول أحمد بن حنبل و أبي ثور و اسحق و الشافعي و أبي حنيفة . وروي قتل الساحر عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وابي موسى وقيس بن سعد وعن سبعة من التابعين . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"حد الساحر ضربه بالسيف" خرجه الترمذي وليس بالقوي ، انفرد به اسماعيل بن مسلم وهو ضعيف عندهم ، رواه ابن عيينة عن اسماعيل بن مسلم عن الحسن مرسلاً ، ومنهم من جعله عن الحسن عن جندب . قال ابن المنذر : وقد روينا عن عائشة أنها باعت ساحرة كانت سحرتها وجعلت ثمنها في الرقاب . قال ابن المنذر : وإذا أقر الرجل أنه سحر بكلام يكون كفراً وجب قتله إن لم يتب ، وكذلك لو ثبتت به عليه بينة ووصفت البينة كلاماً يكون كفراً . وإن كان الكلام الذي ذكر أنه سحر به ليس بكفر لم يجز قتله ، فإن كان أحدث في المسحور جناية توجب القصاص اقتص منه إن كان عمد ذلك ، وإن كان مما لا قصاص فيه ففيه دية ذلك . قال ابن المنذر : وإذا اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسألة وجب اتباع أشبههم بالكتاب والسنة ، وقد يجوز أن يكون السحر الذي أمر من أمر منهم بقتل الساحر سحراً يكون كفراً فيكون ذلك موافقاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن تكون عائشة رضي الله عنها أمرت ببيع ساحرة لم يكن سحرها كفراً . فإن احتج محتج بحديث جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم : "حد الساحر ضربه بالسيف" فلو صح لاحتمل أن يكون أمر بقتل الساحر الذي يكون سحره كفراً ، فيكون ذلك موافقاً للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"لا يحل دم امرىء إلا بإحدى ثلاث" ... .
قلت : وهذا صحيح ، ودماء المسلمين محظورة لا تستباح إلا بيقين ولا يقين مع الاختلاف والله تعالى أعلم . وقال بعض العلماء : إن قال أهل الصناعة : إن السحر لا يتم إلا مع الكفر والاستكبار ، أو تعظيم الشيطان فالسحر إذا دال على الكفر على هذا التقدير ، والله تعالى أعلم . وروي عن الشافعي : لا يقتل الساحر إلا أن يقتل بسحره ويقول تعمدت القتل ، وإن قال لم أتعمده لم يقتل ، وكانت فيه الدية كقتل الخطأ ، وإن أضر به أدب على قدر الضرر . قال ابن العربي : وهذا باطل من وجهين ، أحدهما : أنه لم يعلم السحر ، وحقيقته أنه كلام مؤلف يعظم به غير الله تعالى ، وتنسب إليه المقادير والكائنات . الثاني : أن الله سبحانه قد صرح في كتابه بأنه كفر فقال : "وما كفر سليمان" بقول السحر "ولكن الشياطين كفروا" به وبتعليمه . وهاروت وماروت يقولان "إنما نحن فتنة فلا تكفر" وهذا تأكيد للبيان .
احتج أصحاب مالك بأنه لا تقبل توتبه ، لأن السحر باطن لا يظهره صاحبه فلا تعرف توتبه كالزنديق ، وإنما يستتاب من أظهر الكفر مرتداً . قال مالك : فإن جاء الساحر أو الزنديق تائباً قبل أن يشهد عليهما قبلت توبتهما ، والحجة لذلك قوله تعالى : "فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا" فدل على أنه كان ينفعهم إيمانهم قبل نزول العذاب ، فكذلك هذان .
الثانية عشرة : وأما ساحر الذمة ، فقيل يقتل . وقال مالك : لا يقتل إلا أن يقتل بسحره ويضمن ما جنى ، ويقتل إن جاء منه ما لم يعاهد عليه . وقال ابن خويز منداد : فأما إذا كان ذمياً فقد اختلفت الرواية عن مالك ، فقال مرة : يستتاب وتوبته الإسلام . وقال مرة : يقتل وإن أسلم . وأما الحربي فلا يقتل إذا تاب ، وكذلك قال مالك في ذمي سب النبي صلى الله عليه وسلم : يستتاب وتوبته الإسلام . وقال مرة : يقتل ولا يستتاب كالمسلم . وقال مالك أيضاً في الذمي إذا سحر : يعاقب ، إلا أن يكون قتل بسحره ، أو أحدث حدثاً فيؤخذ منه بقدره . وقال غيره : يقتل ، لأنه قد نقض العهد . ولا يرث الساحر ورثته ، لأنه كافر إلا أن يكون سحره لا يسمى كفراً . وقا لمالك في المرأة تعقد زوجها عن نفسها أو عن غيرها : تنكل ولا تقتل .
الثالثة عشرة : واختلفوا هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور ، فأجازه سعيد بن المسيب على ما ذكره البخاري ، وإليه مال المزني وكرهه الحسن البصري . وقال الشعبي : لا بأس بالنشرة . قال ابن بطال : وفي كتاب وهب بن منبه : أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ عليه آية الكرسي ، ثم يحسوا منه ثلاث حسوات ويغتسل له ، فإنه يذهب عنه كل ما به ، إن شاء الله تعالى ،وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله .
الرابعة عشرة : :أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن ، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة دياناتهم ، وليس في إثباتهم مستحيل عقلي ، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم ، وحق على البيب المعتصم بحبل الله أن يثبت ما قضى العقل بجواره ، ونص الشرع على ثبوته ، قال الله تعالى : "ولكن الشياطين كفروا" وقال :"ومن الشياطين من يغوصون له" إلى غير ذلك من الآي ، وسورة الجن تقضي بذلك ، وقال عليه السلام :
"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" . وقد أنكر هذا الخبر كثير من الناس ، وأحالوا روحين في جسد ، والعقل لا يحيل سلوكهم في الإنس إذا كانت أجسامهم رقيقة بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم ، ولو كانوا كثافاً لصح ذلك أيضاً منهم ، كما يصح دخول الطعام والشراب في الفراغ من الجسم ، وكذلك الديدان قد تكون في بني آدم وهي أحياء .
الخامسة عشرة : قوله تعالى : "وما أنزل على الملكين" ما نفي ، والواو للعطف على قوله : "وما كفر سليمان" وذلك أن اليهود قالوا : إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر ، فنفى الله ذلك . وفي الكلام تقديم وتأخير ، التقدير :وما كفر سليمان ، وما أنزل على الملكين ، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله : "ولكن الشياطين كفروا" . هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل ، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه ، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ، ودقة أفهامهم ، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن ، قال الله تعالى : "ومن شر النفاثات في العقد" . وقال الشاعر :
أعوذ بربي من النافثا ت .... .... .... .... ....
السادسة عشرة : إن قال قائل : كيف يكون اثنان بدلاً من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل منه ، فالجواب من وجوه ثلاثة ، الأول : أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع ، كما قال تعالى "فإن كان له إخوة فلأمه السدس" ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الإخوة فصاعداً ، على ما يأتي بيانه في النساء . الثاني أنهما لما كانا الرأس في التعليم نص عليهما دون اتباعهما ، كما قال تعالى "عليها تسعة عشر" . الثالث : إنما خصا بالذكر من بينهم لتمردهما ، كما قال تعالى : "فيهما فاكهة ونخل ورمان" وقوله : "وجبريل وميكال" . وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب ، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله ، كقوله تعالى : "إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي" وقوله :"وجبريل وميكال" ، وإما لطيبه كقوله :"فاكهة ونخل ورمان" وإما لأكثريته ، كقوله صلى الله عليه وسلم :
"جعلت لي الأرض مسجداً وتربتها طهورا" ، وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية ، والله تعالى أعلم . وقد قيل : إ ن ما عطف على السحر وهي مفعولة ، فعلى هذا يكون ما بمعنى الذي ، ويكون السحر منزلاً على الملكين فتنة للناس وامتحاناً ، ولله أن يمتحن عباده بما شاء ، كما امتحن بنهر طالوت ، ولهذا يقول الملكان : إنما نحن فتنة ، أي محنة من الله ، نخبرك أن عمل الساحر كفر فإن أطعتنا نجوت ، وإن عصيتنا هلكت . وقد روي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وكعب الأحبار و السدي و الكلبي ما معناه : أنه لما كثر الفساد من أولاد آدم عليه السلام ـ وذلك في زمن إدريس عليه السلام ـ عيرتهم الملائكة ، فقال الله تعالى : أما إنكم لو كنتم مكانهم وركبت فيكم ما ركبت فيهم لعملتم مثل أعمالهم ، فقالوا : سبحانك ! ما كان ينبغي لنا ذلك ، قال : فاختاروا ملكين من خياركم ، فاختاروا هاروت وماروت ، فأنزلهما إلى الأرض فركب فيهما الشهوة ، فما مر بهما شهر حتى فتنا بامرأة اسمها بالنبطية بيدخت وبالفارسية ناهيل وبالعربية الزهرة اختصمت إليهما ، وراوداها عن نفسها فأبت إلا أن يدخلا في دينها ويشربا الخمر ويقتلا النفس التي حرم الله ، فأجاباها وشربا الخمر وألما بها ، فرآهما رجل فقتلاه ، وسألتهما عن الاسم الذي يصعدان به إلى السماء فعلماها فتكلمت به فعرجت فمسخت كوكباً . وقال سالم عن ابيه عن عبد الله : فحدثني كعب الحبر أنهما لم يستكملا يومهما حتى عملا بما حرم الله عليهما . وفي غير هذا الحديث : فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فاختارا عذاب الدنيا ، فهما يعذبان ببابل في سرب من الأرض . قيل : بابل العراق . وقيل :بابل نهاوند . وكان ابن عمر فيما يروى عن عطاء أنه كان إذا رأى الزهرة وسهيلا سبهما وشتمهما ، يقول : إن سهيلاً كان عشاراً باليمن يطلم الناس ، وإن الزهرة كانت صاحبة هاروت وماروت .
قلنا : هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره ، لا يصح منه شيء ، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذي هم أمناء الله على وحيه ، وسفراؤه إلى رسله "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون" . "بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون" . "يسبحون الليل والنهار لا يفترون" . وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة ويوجد منهم خلاف ما كلفوه ، ويخلق فيهم الشهوات ، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم ، ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء ، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرك إلا بالسمع ولم يصح . ومما يدل على عدم صحته أن الله تعالى خلق النجوم وهذه الكواكب حين خلق السماء ، ففي الخبر :
أن السماء لما خلقت خلق فيها سبعة دوارة زحل والمشتري وبهرام وعطارد والزهرة والشمس والقمر وهذا معنى قول الله تعالى : "وكل في فلك يسبحون" فثبت بهذا أن الزهرة وسهيلاً قد كانا قبل خلق آدم ، ثم إن قول الملائكة : :"ما كان ينبغي لنا" عورة : لا تقدر على فتنتنا ، وهذا كفر نعوذ بالله منه ومن نسبته إلى الملائكة الكرام صلوات الله عليهم أجمعين ، وقد نزهناهم وهم المنزهون عن كل ما ذكره ونقله المفسرون ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون .
السابعة عشرة : قرأ ابن عباس وابن أبزى والضحاك و الحسن الملكين بكسر اللام . قال ابن أبزى :هما داود وسليمان . فـ ما على هذا القول أيضاً نافية ، وضعف هذا القول ابن العربي . وقال الحسن : هما علجان كانا ببابل ملكين ، فـ ما على هذا القول مفعولة غير نافية .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : "ببابل" بابل لا ينصرف للتأنيث والتعريف والعجمة ، وهي قطر من الأرض ، قيل : العراق وما والاه . وقال ابن مسعود لأهل الكوفة : أنتم بين الحيرة وبابل . وقال قتادة : هي من نصيبين إلى رأس العين .وقال قوم هي بالمغرب . قال ابن عطية : وهذا ضعيف . وقال قوم : هو جبل نهاوند ، فالله تعالى أعلم .
واختلف في تسميته ببابل ، فقيل :سمي بذلك لتبلبل الألسن بها حين سقط صرح نمروذ . وقيل : سمي به لأن الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحاً فحشرتهم من الآفاق إلى بابل ، فبلب الله ألستنهم بها ، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد والبلبلة . وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس : أن نوحاً عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين ، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألستنهم على ثمانين لغة ، إحداها اللسان العربي ، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض .
التاسعة عشرة : روى عبد الله بن بسر المازني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"اتقوا الدنيا فوالذي نفسي بيده أنها لأسحر من هاروت وماروت" . قال علماؤنا : إنما كانت الدنيا أسحر منهما لأنها تسحر بخدعها ، وتكتمك فتنتها ، فتدعوك إلى التحارص عليها والتنافس فيها ، والجمع لها والمنع ، حتى تفرق بينك وبين طاعة الله تعالى ، وتفرق بينك وبين رؤية الحق ورعايته ، فالدنيا أسحر منهما ، تأخذ بقلبك عن الله ، وعن القيام بحقوقه ، وعن وعده ووعيده . وسحر الدنيا : محبتها وتلذذك بشهواتها ، وتمنيك بأمانيها الكاذبة حتى تأخذ بقلبك ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"حبك الشيء يعمي ويصم" .
الموفية عشرين : قوله تعالى : "هاروت وماروت" لا ينصرف هاروت ، لأنه أعجمي معرفة ، وكذا ماروت ، ويجمع هواريت ومواريت ، مثل طواغيت ، ويقال : هوارته وهوار ، وموارتة وموار ، ومثله جالوت وطالوت ، فاعلم . وقد تقدم هل هما ملكان أو غيرهما ؟ خلاف . قال الزجاج : وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال : أي والذي أنزل على الملكين ، وأن الملكين يعلمان الناس تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه . قال الزجاج : وهذا القول الذي عليه أكثر اهل اللغة والنظر ، ومعناه أنهما يعلمان الناس على النهي فيقولان لهم : لاتفعلوا كذا ، ولا تحتالوا بكذا لتفرقوا بين المرء وزوجه . والذي أنزل عليهما هو النهي ، كأنه قولا للناس : لا تعملوا كذا ، فـ يعلمان بمعنى يعلمان ، كما قال "ولقد كرمنا بني آدم" أي أكرمنا .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : "وما يعلمان من أحد" من زائدة للتوكيد ، والتقدير : وما يعلمان أحداً . "حتى يقولا" حتى يقولا نصب بحتى فلذلك حذفت منه النون ، ولغة هذيل وثقيف عتى بالعين غير المعجمة . والضمير في يعلمان لهاروت وماروت ، وفي يعلمان قولان ، أحدهما : أنه على بابه من التعليم . الثاني : أنه من الإعلام لا من التعليم ، فـ يعلمان بمعنى يعلمان ، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم ، ذكره ابن الأعرابي و ابن الأنباري . قال كعب بن مالك :
تعلم رسول الله أنك مدركي وأن وعيداً منك كالأخذ باليد
وقال القطامي :
تعلم أن بعد الغي رشدا وأن لذلك الغي انقشاعا
وقال زهير :
تعلمن ها لعمر الله ذا قسما وأقدر بذرعك وانظر أين تنسلك
وقال آخر :
تعلم أنه لا طير إلا على متطير وهو الثبور
"إنما نحن فتنة" لما أنبأ بفتنتهما كانت الدنيا أسحر منهما حين كتمت فتنتها . "فلا تكفر" قالت فرقة بتعليم السحر ، وقالت فرقة باستعماله . وحكى المهدوي أنه استهزاء ، لأنهما يقولانه لمن قد تحققنا ضلاله .
الثانية والعشرون : قوله تعالى :"فيتعلمون منهما" قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون ، قاله مثله "كن فيكون" . وقيل هو معطوف على موضع ما يعلمان ، لأن قوله :"وما يعلمان " وإن دخلت عليه ما النافية فمضمته الإيجاب في التعليم . وقال الفراء : هي مردودة على قوله : "يعلمون الناس السحر" فيتعلمون ، ويكون فيتعلمون متصلة بقوله : :" إنما نحن فتنة" فيأتون فيتعلمون . قال السدي : كانا يقولان لمن جاءهما : إنما نحن فتنة فلا تكفر ، فإن أبى أن يرجع قالا له : أئت هذا الرماد فبل فيه ، فإذا بال فيه خرج منه نور يسطع إلى السماء ، وهو الإيمان ، ثم يخرج منه دخان أسود فيدخل في أذنيه وهو الكفر ، فإذا أخبرهما بما رآه من ذلك علماه ما يفرقون به بين المرء وزوجه . ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر ليس يقدر على أكثر مما أخبر الله عنه من التفرقة ، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر والغاية في تعليمه ، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره . وقالت طائفة : ذلك خرج على الأغلب ، ولا ينكر أن السحر له تأثير في القلوب ، بالحب والبغض وبإلقاء الشرور حتى يفرق الساحر بين المرء وزوجه ، ويحول بين المرء وقلبه ، وذلك بإدخال الآلام وعظيم الأسقام ، وكل ذلك مدرك بالمشاهدة وإنكاره معاندة ، وقد تقدم هذا ، والحمد لله .
الثالثة والعشرون : قوله تعالى : "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" ما هم إشارة إلى السحرة . وقيل إلى اليهود ، وقيل إلى الشياطين . "بضارين به " أي بالسحر . " من أحد " أي أحداً ، ومن زائدة . " إلا بإذن الله " أي بإرادته وقضائه لا بأمره ، لأنه تعالى لا يأمر بالفحشاء ويقضي على الخلق بها . وقال الزجاج : "إلا بإذن الله " إلا بعلم الله . قال النحاس : وقول أبي اسحق "إلا بإذن الله" إلا بعلم الله غلط ، لأنه إنما يقال في العلم : أذن ، وقد أذنت أذنا . ولكن لما لم يحل فيما بينهم وبينه وظلوا يفعلونه كان كأن أباحه مجازاً .
الرابعة والعشرون : قوله تعالى : "ويتعلمون ما يضرهم" يريد في الآخرة وإن أخذوا بها قليلاً في الدنيا . وقيل : يضرهم في الدنيا ، لأن ضرر السحر والتفريق يعود على الساحر في الدنيا إذا عثر عليه ، لأنه يؤدب ويزجر ، ويلحقه شؤم السحر . وباقي الآي بين لتقدم معانيها . واللام في "ولقد علموا" لام توكيد . "لمن اشتراه" لام يمين ، وهي للتوكيد أيضاً . وموضع من رفع بالابتداء ، لأنه لا يعمل ما قبل اللام فيما بعدها . و من بمعنى الذي . وقال الفراء : هي للمجازاة . وقال الزجاج : ليس هذا بموضع شرط ، و من بمعنى الذي ، كما تقول : لقد علمت ، لمن جاءك ما له عقل . "من خلاق" من زائدة ، والتقدير ما له في الآخرة خلاق ، ولا تزاد في الواجب ، هذا قول البصريين . وقال الكوفيون : تكون زائدة في الواجب ، واستدلوا بقوله تعالى : "يغفر لكم من ذنوبكم" والخلاق : النصيب ، قال مجاهد . قال الزجاج : وكذلك هو عند أهل اللغة ، إلا أنه لا يكاد يستعمل إلا للنصيب من الخير . وسئل عن قوله تعالى : "ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق" فأخبر أنهم قد علموا ، ثم قال : "ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون" فأخبر أنهم لا يعلمون ، فالجواب وهو قول قطرب و الأخفش : أن يكون الذين يعلمون الشياطين ، والذين شروا أنفسهم ـ أي باعوها ـ هم الإنس الذين لا يعلمون . قال الزجاج وقال علي بن سليمان : الأجود عندي أن يكون "ولقد علموا" للملكين ، لأنهما أولى بأن يعلموا . وقال : علموا كما يقال : الزيدان قاموا . وقال الزجاج : الذين علموا علماء اليهود ، ولكن قيل : " لو كانوا يعلمون" أي فدخلوا في محل من يقال له : لست بعالم ، لأنهم تركوا العمل بعملهم واسترشدوا من الذين عملوا بالسحر .
وقوله تعالى: "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" قال أبو جعفر الرازي, عن الربيع بن أنس عن قيس بن عباد عن ابن عباس قال: فإذا أتاهما الاتي يريد السحر نهياه أشد النهي وقالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر, وذلك أنهما علما الخير والشر والكفر والإيمان, فعرفا أن السحر من الكفر, قال: فإذا أبى عليهما أمراه يأتي مكان كذا وكذا, فإذا أتاه عاين الشيطان فعلمه, فإذا تعلمه خرج منه النور, فنظر إليه ساطعاً في السماء فيقول: يا حسرتاه, يا ويله ماذا صنع, وعن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الاية: نعم انزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس, فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفروا, رواه ابن أبي حاتم, وقال قتادة: كان أخذ عليهما ان لا يعلما أحداً حتى يقولا: إنما نحن فتنة أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر. وقال السدي: إذا أتاهما إنسان يريد السحر وعظاه وقالا له: لا تكفر إنما نحن فتنة, فإذا أبى قالا له: ائت هذا الرماد فبل عليه, فإذا بال عليه خرج منه نور فسطع حتى يدخل السماء وذلك الإيمان, وأقبل شيء أسود كهيئة الدخان حتى يدخل في مسامعه, وكل شيء, وذلك غضب الله, فإذا أخبرهما بذلك علماه السحر, فذلك قول الله تعالى: "وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر" الاية, وقال سنيد عن حجاج عن ابن جريج في هذه الاية: لا يجترىء على السحر إلا كافر, وأما الفتنة فهي المحنة والاختيار, ومنه قول الشاعر:
وقد فتن الناس في دينهم وخلى ابن عفان شراً طويلاً
وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال "إن هي إلا فتنتك" أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك "تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء" وقد استدل بعضهم بهذه الاية على تكفير من تعلم السحر, واستشهد له بالحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار, حدثنا محد بن المثنى, أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش, عن إبراهيم عن همام عن عبد الله قال: "من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول, فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" وهذا إسناد صحيح وله شواهد أخر, وقوله تعالى: "فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه" أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر وما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين, مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف, وهذا من صنيع الشياطين, كما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن طلحة بن نافع عن جابر بن عبد الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس, فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة, ويجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا, فيقول إبليس: لا والله ما صنعت شيئاً! ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال: فيقر به ويدنيه ويلتزمه ويقول: نعم أنت" وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الاخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك أو عقد أو بغضه أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة, والمرء عبارة عن الرجل وتأنيثه امرأة ويثنى كل منهما ولا يجمعان والله اعلم.
وقوله تعالى "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" قال سفيان الثوري: إلا بقضاء الله, وقال محمد بن إسحاق: إلا بتخلية الله بينه وبين ما أراد, وقال الحسن البصري "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" قال: نعم, من شاء الله سلطهم عليه, ومن لم يشأ الله لم يسلط ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله, كما قال الله تعالى. وفي رواية عن الحسن أنه قال: لا يضر هذا السحر إلا من دخل فيه, وقوله تعالى: "ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم" أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره " ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق " أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم, ذلك أنه ما له في الاخرة من خلاق, قال ابن عباس وكمجاهد والسدي: من نصيب, وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: ما له في الاخرة من جهة عند الله, وقال عبد الرزاق, وقال الحسن: ليس له دين, وقال سعد عن قتادة " ما له في الآخرة من خلاق " قال: ولقد علم أهل الكتاب فيم عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الاخرة, وقوله تعالى "ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون * ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون" يقول تعالى: "ولبئس" البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول لو كان لهم علم بما وعظوا به "ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير" أي ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم لكان مثوبة الله على ذلك خيراً لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به كما قال تعالى: "وقال الذين أوتوا العلم: ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً ولا يلقاها إلا الصابرون".
وقد استدل بقوله "ولو أنهم آمنوا واتقوا" من ذهب إلى تكفير الساحر, كما هو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل وطائفة من السلف, وقيل: بل لا يكفر, ولكن حده ضرب عنقه, لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل, قالا: أخبرنا سفيان, هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار, أنه سمع بجالة بن عبدة يقول: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة, قال: فقتلنا ثلاث سواحر وقد أخرجه البخاري في صحيحه أيضاً, وهكذا صح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها, فأمرت بها, فقتلت, قال الإمام أحمد بن حنبل: صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الساحر. وروى الترمذي من حديث اسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب الأزدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حد الساحر ضربه بالسيف" ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه, وإسماعيل بن مسلم يضعف في الحديث, والصحيح عن الحسن عن جندب موقوفاً قلت. قد رواه الطبراني من وجه آخر عن الحسن عن جندب مرفوعاً. والله أعلم. وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة: كان عنده ساحر يلعب بين يديه فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه, فقال الناس: سبحان الله يحيي الموتى, ورآه رجل من صالحي المهاجرين , فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك, فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر, وقال: إن كان صادقاً فليحي نفسه, وتلا قوله تعالى: " أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ", فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك, فسجنه ثم أطلقه, والله أعلم. وقال الإمام أبو بكر الخلال: أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل, حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد, حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال: كان عند بعض الأمراء رجل يلعب فجاء جندي مشتملاً على سيفه فقتله, قال: أراه كان ساحراً, وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً والله أعلم.
(فصل) حكى أبو عبد الله الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر, قال: وربما كفروا من اعتقد وجوده, قال: وأما أهل السنة فقد جوزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ويقلب الإنسان حماراً, والحمار إنساناً إلا أنهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم, فلا, خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصابئة, ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى: "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" ومن الأخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر, وأن السحر عمل فيه وبقصة تلك المرأة مع عائشة رضي الله عنها وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر قال: وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثير, ثم قال بعد هذا.
(المسألة الخامسة) في أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور ـ اتفق المحققون على ذلك لأن العلم لذاته شريف, وأيضاً لعموم قوله تعالى: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " ولأن السحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بينه وبين المعجزة والعلم بكون المعجز معجزاً واجب, وما يتوقف الواجب عليه فهو واجب فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً, وما يكون واجباً, فكيف يكون حراماً وقبيحاً ؟ هذا لفظه بحروفه في هذه المسألة, وهذا الكلام فيه نظر من وجوه أحدها قوله: العلم بالسحر ليس بقبيح عقلاً, فمخالفوه من المعتزلة يمنعون هذا, وإن عنى أنه ليس بقبيح شرعاً, ففي هذه الاية الكريمة تبشيع لتعلم السحر, وفي الصحيح "من أتى عرافاً أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد", وفي السنن "من عقد عقدة ونفث فيها فقد سحر" وقوله: ولا محظور, اتفق المحققون على ذلك, كيف لا يكون محظوراً مع ما ذكرناه من الاية والحديث واتفاق المحققين يقتضي أن يكون قد نص إلى هذه المسألة أئمة العلماء أوأكثرهم وأين نصوصهم على ذلك ؟ ثم إدخاله في علم السحر في عموم قوله تعالى: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" فيه نظر, لأن هذه الاية إنما دلت على مدح العالمين العلم الشرعي ولم قلت إن هذا منه ثم ترقية إلى وجوب تعلمه إنه لا يحصل العلم بالمعجز إلا به ضعيف بل فاسد, لأن أعظم معجزات رسولنا عليه الصلاة والسلام هي القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. ثم إن العلم بأنه معجزة لا يتوقف على علم السحر أصلاً, ثم من المعلوم بالضرورة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم, كانوا يعلمون المعجز, ويفرقون بينه وبين غيره, ولم يكونوا يعلمون السحر ولا تعلموه ولا علموه, والله أعلم.
ثم ذكر أبو عبد الله الرازي, أن أنواع السحر ثمانية (الأول) سحر الكذابين والكشدانيين, الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة, وهي السيارة, وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم, وأنها تأتي بالخير والشر, وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلاً لمقالتهم ورداً لمذهبهم, وقد استقصى في (كتاب السر المكتوم, في مخاطبة الشمس والنجوم) المنسوب إليه, كما ذكرها القاضي ابن خلكان وغيره, ويقال أنه تاب منه, وقيل بل صنفه على وجه إظهار الفضيلة, لا على سبيل الاعتقاد, وهذا هو المظنون به إلا أنه ذكر فيه طريقهم في مخاطبة كل من هذه الكواكب السبعة وكيفية ما يفعلون وما يلبسونه وما يتمسكون به.
قال (والنوع الثاني) سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية, ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض, ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه, قال: وكما أجمعت الأطباء على نهي المرعوف عن النظر إلى الأشياء الحمر, والمصروع إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران, وما ذلك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام. قال: وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق ـ وله أن يستدل على ذلك بما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" ـ قال فإذا: عرفت هذا فنقول النفس التي تفعل هذه الأفاعيل قد تكون قوية جداً فتستغني في هذه الأفاعيل عن الاستعانه بالالات والأدوات, وقد تكون ضعيفة فتحتاج إلى الاستعانة بهذه الالات, وتحقيقه أن النفس إذا كانت متعلية عن البدن شديدة الانجذاب إلى عالم السماوات صارت كأنها روح من الأوراح السماوية, فكانت قوية على التأثير في مواد هذا العالم, وإذا كانت ضعيفة شديدة التعلق بهذه الذات البدنية, فحينئذ لا يكون لها تأثير البتة إلا في هذا البدن, ثم أرشد إلى مداواة هذا الداء بتقليل الغذاء, والانقطاع عن الناس والرياء "قلت" وهذا الذي يشير إليه هو التصرف بالحال, وهو على قسمين, تارة تكون حالاً صحيحة شرعية يتصرف بها فيما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, ويترك ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فهذه الأحوال مواهب من الله تعالى وكرامات للصالحين من هذه الأمة ولا يسمى هذا سحراً في الشرع. وتارة تكون الحال فاسدة لا يمتثل صاحبها ما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, ولا يتصرف بها في ذلك, فهذه حال الأشقياء المخالفين للشريعة ولا يدل إعطاء الله إياهم هذه الأحوال على محبته لهم, كما أن الدجال له من الخوارق للعادات ما دلت عليه الأحاديث الكثيرة مع أنه مذموم شرعاً لعنه الله, وكذلك من شابهه من مخالفي الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام, وبسط هذا يطول جداً وليس هذا موضعه.
قال (والنوع الثالث) من السحر, الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن خلافاً للفلاسفة والمعتزلة وهم على قسمين: مؤمنون, وكفار وهم الشياطين, وقال: واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينها من المناسبة والقرب, ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الاتصال بهذه الأرواح الأرضية يحصل بها أعمال سهلة قليلة من الرقي والدخن والتجريد, وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير.
قال (النوع الرابع) من السحر التخيلات والأخذ بالعيون والشعبذة, ومبناه على أن البصر قد يخطىء ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديث ونحوه عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة, وحينئذ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه فيتعجبون منه جداً ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعلمه, ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه, لفطن الناظرون لكل ما يفعله (قال) وكلما كانت الأحوال تفيد حسن البصر نوعاً من أنواع الخلل أشد, كان العمل أحسن مثل أن يجلس المشعبذ في موضع مضيء جداً أو مظلم فلا تقف القوة الناظرة على أحوالها والحالة هذه.
(قلت) وقد قال بعض المفسرين: إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب الشعبذة ولهذا قال تعالى: "فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم" وقال تعالى: "يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى" قالوا: ولم تكن تسعى في نفس الأمر, والله أعلم.
(النوع الخامس من السحر): الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية كفارس على فرس في يده بوق كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد ـ ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينهما وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية, إلى أن قال: فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل, قال: وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل (قلت) يعني ما قاله بعض المفسرين: إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها قال الرازي: ومن هذا الباب تركيب صندوق الساعات, ويندرج في هذا الباب علم جر الأثقال بالالات الخفيفة قال: وهذا في الحقيقة لا ينبغي أن يعد من السحر لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطلع عليها قدر عليها. (قلت) ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد القدس, وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على العوام منهم. وأما الخواص فهم معترفون بذلك, ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم فيرون ذلك سائغاً لهم. وفيهم شبهة على الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" وقوله: "حدثوا عني ولا تكذبوا علي فإنه من يكذب علي يلج النار" ثم ذكر ههنا حكاية عن بعض الرهبان وهو أنه سمع صوت طائر حزين الصوت ضعيف الحركة فإذا سمعته الطيور ترق له فتذهب فتلقي في وكره من ثمر الزيتون ليتبلغ به, فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله وتوصل إلى أن جعله أجوف فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت الطائر وانقطع في صومعة ابتناها وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم وعلق على ذلك الطائر في مكان منها فإذا كان زمان الزيتون فتح باباً من ناحيته فيدخل الريح إلى داخل هذه الصورة, فيسمع صوتها كل طائر في شكله أيضاً, فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئاً كثيراً, فلا ترى في النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة ولا يدرون ما سببه, ففتنهم بذلك وأوهم أن هذا من كرامات صاحب هذا القبر, عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
(قال الرازي: النوع السادس من السحر) الاستعانة بخواص الأدوية يعني في هذا الأطعمة والدهانات قال: واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص فإن تأثير المغناطيس مشاهد. (قلت) يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص مدعياً أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات.
قال (النوع السابع من السحر) التعليق للقلب, وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور فإذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخافة فإذا ما حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة فحينئذ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء. (قلت) هذا النمط يقال له التنبلة وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم.وفي علم الفراسة ما يرشد إلى معرفة العقل من ناقصه فإذا كان المتنبل حاذقاً في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره.
قال (النوع الثامن من السحر) السعي بالنميمة والتقريب من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس (قلت) النميمة على قسمين تارة تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه, فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين كما جاء في الحديث "ليس بالكذاب من ينم خيراً" أو يكون على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة, فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث "الحرب خدعة", وكما فعل نعيم بن مسعود في تفريق كلمة الأحزاب وبني قريظة: جاء إلى هؤلاء فنمى إليهم عن هؤلاء كلاماً, ونقل من هؤلاء إلى أولئك شيئاً آخر, ثم لأم بين ذلك فتناكرت النفوس وافترقت, وإنما يحذو على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة والله المستعان.
ثم قال الرازي: فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه, (قلت) وإنما أدخل كثيراً من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي بسببه, ولهذا جاء في الحديث "إن من البيان لسحراً", وسمي السحور لكونه يقع خفياً آخر الليل, والسحر: الرئة, وهي محل الغذاء وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن وغضونه, كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة: انتفخ سحره أي انتفخت رئته من الخوف. وقالت عائشة رضي الله عنها: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري, وقال تعالى: "سحروا أعين الناس" أي أخفوا عنهم علمهم, والله أعلم.
وقال أبو عبد الله القرطبي: وعندنا أن السحر حق وله حقيقة يخلق الله عنده ما يشاء خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرايني من الشافعية حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل قال ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة, والشعوذي البريد لخفة سيره, قال ابن فارس: وليست هذه الكلمة من كلام أهل البادية, قال القرطبي: ومنه ما يكون كلاماً يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى وقد يكون من عهود الشياطين ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك, قال: وقوله عليه السلام: "إن من البيان لسحراً" يحتمل أن يكون مدحاً كما تقول طائفة, ويحتمل أن يكون ذماً للبلاغة قال: وهذا أصح, قال لأنها تصوب الباطل حتى توهم السامع أنه حق كما قال عليه الصلاة والسلام: "فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له" الحديث.
(فصل) وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد ابن هبيرة رحمه الله في كتابه(الإشراف على مذاهب الأشراف) باباً في السحر فقال: أجمعوا على أن السحر له حقيقة إلا أبا حنيفة فإنه قال: لا حقيقة له عنده واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله, فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد يكفر بذلك. ومن أصحاب أبي حنيفة من قال إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه كفر, وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر. وقال الشافعي رحمه الله: إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر, وإن كان لايوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر, قال ابن هبيرة: وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله ؟ فقال مالك وأحمد نعم, وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا فأما إن قتل بسحره إنساناً فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين, وإذا قتل فإنه يقتل حداً عندهم إلا الشافعي فإنه قال: يقتل والحالة هذه قصاصاً قال: وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم: لا تقبل, وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأخرى تقبل, وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم, وقال مالك وأحمد والشافعي: لايقتل يعني لقصة لبيد بن الأعصم واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس, وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل, والله أعلم. وقال أبو بكر الخلال: أخبرنا أبو بكر المروزي قال: قرأ على أبي عبد الله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ عمر ابن هارون أخبرنا يونس عن الزهري: قال يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها. وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله, أنه قال في الذمي يقتل إن قتل سحره, وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر: إحداهما أنه يستتاب فإن أسلم وإلا قتل, والثانية أنه يقتل وإن أسلم, وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفراً كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى: "وما يعلمان من أحد حتى يقولا: إنما نحن فتنة فلا تكفر". لكن قال مالك إذا ظهر عليه لم تقبل توبته لأنه كالزنديق فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائباً قبلناه, فإن قتل سحره قتل قال الشافعي: فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطىء تجب عليه الدية.
(مسألة) وهل يسئل الساحر حلاً لسحره فأجاز سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري, وقال عامر الشعبي: لا بأس بالنشرة وكره ذلك الحسن البصري, وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت: يارسول الله هلا تنشرت, فقال: "أما الله فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شراً" وحكى القرطبي عن وهب: أنه قال يؤخذ سبع ورقات من سدر فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به, وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته (قلت) أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في ذهاب ذلك وهما المعوذتان, وفي الحديث "لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما" وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشياطين
قوله: 102- "واتبعوا ما تتلوا الشياطين" معطوف على قوله: نبذوا أي نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تتلوا الشياطين من السحر ونحوه. قال الطبري: اتبعوا بمعنى فعلوا. ومعنى تتلوا تتقوله وتقرأه و"على ملك سليمان" على عهد ملك سليمان، قاله الزجاج، وقيل: المعنى في ملك سليمان: يعني في قصصه وصفاته وأخباره. قال الفراء: تصلح على وفي في هذا الموضع، والأول أظهر. وقد كانوا يظنون أن هذا هو علم سليمان وأنه يستجيزه ويقول به، فرد الله ذلك عليهم وقال: "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا" ولم يتقدم أن أحداً نسب سليمان إلى الكفر، ولكن لما نسبته اليهود إلى السحر صاروا بمنزلة من نسبه الكفر لأن السحر يوجب ذلك، ولهذا أثبت الله سبحانه كفر الشياطين فقال: "ولكن الشياطين كفروا" أي بتعليمهم. وقوله: "يعلمون الناس السحر" في محل نصب على الحال، ويجوز أن يكون في محل رفع على أنه خبر بعد خبر. وقرأ ابن عامر والكوفيون سوى عاصم "ولكن الشياطين" بتخفيف لكن ورفع الشياطين، والباقون بالتشديد والنصب. والسحر: هو ما يفعله الساحر من الحيل والتخييلات التي تحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السراب فيظنه ماء، وما يظنه راكب السفينة أو الدابة من أن الجبال تسير، وهو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته، وقيل: أصله الخفاء، فإن الساحر يفعله خفية، وقيل: أصله الصرف لأن السحر مصروف عن جهته، وقيل: أصله الاستمالة لأن من سحرك فقد استمالك. وقال الجوهري: السحر الأخذة، وكل ما لطف ودق فهو سحر. وقد سحره يسحره سحراً، والساحر: العالم، وسحره أيضاً بمعنى خدعه. وقد اختلف هل له حقيقة أم لا؟ فذهبت المعتزلة وأبو حنيفة إلى أنه [خداع] لا أصل له ولا حقيقة. وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة مؤثرة. وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم سحر، سحره لبيد بن الأعصم اليهودي حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه ثم شفاه الله سبحانه، والكلام في ذلك يطول. وقوله: "وما أنزل على الملكين" أي ويعلمون الناس ما أنزل على الملكين فهو معطوف على السحر، وقيل: هو معطوف على قوله: ما تتلوا الشياطين أي واتبعوا ما أنزل الله على الملكين. وقيل: إن ما في قوله: "وما أنزل على الملكين" نافية، والواو عاطفة على قوله: وما كفر سليمان وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: وما كفر سليمان وما أنزل على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله: "ولكن الشياطين كفروا" ذكر هذا ابن جرير وقال: فإن قال لنا قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان وما أنزل الله على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل وهاروت وماروت، فيكون منيعاً بالملكين جبريل وميكائيل، لأن سحرة اليهود فيما ذكر كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر، وبرأ سليمان مما نحلوه من السحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان أحدهما هاروت والآخر ماروت فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم. انتهى. وقال القرطبي في تفسيره بعد أن حكى معنى هذا الكلام ورجح أن هاروت وماروت بدل من الشياطين ما لفظه: هذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم ودقة أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهن، قال الله: "ومن شر النفاثات في العقد" ثم قال: إن قيل كيف يكون اثنان بدلاً من جمع والبدل إنما يكون على حد المبدل؟ ثم أجاب عن ذلك بأن الاثنين قد يطلق عليهما الجمع، أو أنهما خصا بالذكر دون غيرهما لتمردهما، ويؤيد هذا أنه قرأ ابن عباس والضحاك والحسن الملكين بكسر اللام، ولعل وجه الجزم بهذا التأويل مع بعده وظهور تكلفه تنزيه الله سبحانه أن ينزل السحر إلى أرضه فتنه لعباده على ألسن ملائكته. وعندي أنه لا موجب لهذا التعسف المخالف لما هو الظاهر، فإن الله سبحانه أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن بنهر طالوت، ولهذا يقول الملكان: "إنما نحن فتنة" قال ابن جرير: وذهب كثير من السلف إلى أنهما كانا ملكين من السماء، وأنهما أنزلا إلى الأرض فكان من أمرهما ما كان وبابل قيل: هي العراق، وقيل: نهاوند، وقيل: نصيبين، وقيل: المغرب. وهاروت وماروت اسمان أعجميان لا ينصرفان. وقوله: "وما يعلمان من أحد حتى يقولا" قال الزجاج: تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه، قال: وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر، ومعناه: أنهما يعلمان على النهي فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا، و"من" في قوله: "من أحد" زائدة للتوكيد، وقد قيل: إن قوله: يعلمان من الإعلام لا من التعليم، وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم كما حكاه ابن الأنباري وابن الأعرابي، وهو كثير في أشعارهم كقول كعب بن مالك:
تعلم رسول الله أنك مدركي وأن وعيداً منك كالأخذ باليد
وقال القطامي:
تعلم أن بعد الغي رشدا وأن لذلك الغي انقشاعا
وقوله: "إنما نحن فتنة" هو على ظاهره. أي إنما نحن ابتلاء واختبار من الله لعباده، وقيل: إنه استهزاءً منهما لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله وفي قولهما: "فلا تكفر" أبلغ إنذار وأعظم تحذير: أي أن هذا ذنب يكون من فعله كافراً فلا تكفر، وفيه دليل على أن تعلم السحر كفر وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد، وبين من تعلمه ليكون ساحراً ومن تعلمه ليقدر على دفعه. وقوله: "فيتعلمون" فيه ضمير يرجع إلى قوله: "من أحد" قال سيبويه: التقدير فهم يتعلمون، قال: ومثله "كن فيكون" وقيل: هو معطوف على موضع ما يعلمان، لأنه وإن كان منفياً فهو يتضمن الإيجاب. وقال الفراء: هي مردودة على قوله: "يعلمون الناس السحر" أي يعلمون الناس فيتعلمون وقوله: "ما يفرقون به بين المرء وزوجه" في إسناد التفريق إلى السحرة وجعل السحر سبباً لذلك دليل على ان للسحر تأثيراً في القلوب بالحب والبغض والجمع والفرقة والقرب والبعد. وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى إن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من التفرقة، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذم للسحر وبين ما هو الغاية في تعليمه، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره. وقالت طائفة أخرى: إن ذلك خرج مخرج الأغلب، وأن الساحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه، وقيل: ليس للسحر تأثير في نفسه أصلاً لقوله تعالى: "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله" والحق أنه لا تنافي بين قوله: "فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه" وبين قوله: " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيراً في نفسه، ولكنه لا يؤثر ضرراً إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه. وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيراً في نفسه وحقيقة ثابتة، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة كما تقدم، وقوله: "ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم" فيه تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ولا يجلب إليه منفعة بل هو ضرر محض وخسران بحت، واللام في قوله: "ولقد" جواب قسم محذوف، وفي قوله: "لمن اشتراه" للتأكيد ومن موصولة وهي في محل رفع على الابتداء، والخبر قوله: "ما له في الآخرة من خلاق" وقال الفراء: إنها شرطية للمجازاة. وقال الزجاج: ليس هذا بموضع شرط، ورجح أنها موصولة كما ذركنا. والمراد بالشراء هنا الاستبدال أي من استبدل ما تتلوا الشياطين على كتاب الله. والخلاق: النصيب عند أهل اللغة، كذا قال الزجاج. والمراد بقوله: "ما شروا به أنفسهم" أي باعوها. وقد أثبت لهم العلم في قوله: "ولقد علموا" ونفاه عنهم في قوله: "لو كانوا يعلمون" واختلفوا في توجيه ذلك فقال قطرب والأخفش: إن المراد بقوله: "ولقد علموا" الشياطين، والمراد بقوله: "لو كانوا يعلمون" الإنس. وقال الزجاج: إن الأول للملكين وإن كان بصيغة الجمع فهو مثل قولهم: الزيدان قاموا. والثاني المراد به علماء اليهود، وإنما قال: "لو كانوا يعلمون" لأنهم تركوا العمل بعلمهم.
102. قوله تعالى: " واتبعوا " يعني اليهود " ما تتلوا الشياطين " أي: ماتلت، والعرب تضع المستقبل موضع الماضي، والماضي موضع المستقبل، وقيل: ما كنت تتلو أي تقرأ، قال ابن عباس رضي الله عنه: تتبع وتعمل به، وقال عطاء تحدث وتكلم به " على ملك سليمان " أي: ملكه وعهده.
وقصة الآية: أن الشياطين كتبوا السحر والنيرنجيات على لسان آصف بن برخيا هذا ما علم آصف بن برخيا سليمان الملك، ثم دفنوها تحت مصلاه حتى نزع الله الملك عنه ولم يشعر بذلك سليمان فلما مات استخرجوها وقالوا للناس: إنما ملكهم سليمان بها فتعلموه فأما علماء بني اسرائيل وصلحاؤهم فقالوا: معاذ الله أن يكون هذا من علم الله، وأما السفلة، فقالوا: هذا علم سليمان، وأقبلوا على تعلمه، ورفضوا كتب أنبيائهم، وفشت الملامة على سليمان فلم يزل هذا حالهم وفعلهم حتى بعث الله محمدأ صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه براءة سليمان، هذا قول الكلبي .
وقال السدي : كانت الشياطين تصعد إلى السماء، فيسمعون كلام الملائكة فيما يكون في الأرض من موت وغيره، فيأتون الكهنة ويخلطون بما يسمعون في كل كلمة سبعين كذبة ويخبرونهم بها [فكتب ذلك] وفشا في بني إسرائيل أن الجن يعلمون الغيب، فبعث سليمان في الناس وجمع تلك الكتب وجعلها في صندوق ودفنه تحت كرسيه وقال: لا أسمع أحداً يقول إن الشيطان يعلم الغيب إلا ضربت عنقه، فلما مات سليمان وذهب العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ودفنه الكتب، وخلف بعدهم من خلف، تمثل الشيطان على صورة إنسان فأتى نفراً من بني إسرائيل فقال: أدلكم علىكنز لا تأكلونه أبداً قالوا: نعم فذهب معهم فأراهم المكان الذي تحت كرسيه، فحفروا فأقام ناحية فقالوا له: أدن وقال: لا أحضر، فإن لم تجدوه فاقتلوني، وذلك أنه لم يكن أحد من الشياطين يدنو من الكرسي إلا احترق، فحفروا وأخرجوا تلك الكتب، فقال الشيطان لعنه الله: إن سليمان كان يضبط الجن والإنس والشياطين والطير بهذا، ثم طار الشيطان عنهم، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً، وأخذوا تلك الكتب (واستعملوها) فلذلك أكثر ما يوجد السحر في اليهود، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم برأ الله تعالى سليمان من ذلك، وأنزل في عذر سليمان: " وما كفر سليمان " بالسحر، وقيل: لم يكن سليمان كافراً بالسحر ويعمل به " ولكن الشياطين كفروا " قرأ ابن عباس رضي الله عنه و الكسائي و حمزة ، (( لكن )) خفيفة النون، (( والشياطين )) رفع، وقرأ الآخرون ولكن مشددة النون (( والشياطين )) نصب وكذلك " ولكن الله قتلهم " (17-الأنفال) " ولكن الله رمى " (17-الأنفال) ومعنى لكن: نفي الخبر الماضي وإثبات المستقبل.
" يعلمون الناس " قيل: معنى السحر العلم والحذق بالشيء قال الله تعالى " وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك " (49-الزخرف) أي العالم، والصحيح: أن السحر عبارة عن التمويه والتخييل، والسحر وجوده حقيقة عند أهل السنة، وعليه أكثر الأمم، ولكن العمل به كفر، حكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: السحر يخيل ويمرض وقد يقتل، حتى أوجب القصاص على من قتل به فهو من عمل الشيطان، يتلقاه الساحر منه بتعليمه إياه، فإذا تلقاه منه استعمله في غيره، وقيل: إنه يؤثر في قلب الأعيان فيجعل الآدمي على صورة الحمار ويجعل الحمار على صورة الكلب، والأصح أن ذلك تخييل قال الله تعالى: " يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " (66-طه) لكنه يؤثر في الأبدان بالأمراض والموت والجنون، وللكلام تأثير في الطباع والنفوس وقد يسمع الإنسان ما يكره فيحمى ويغضب وربما يحم منه، وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العوارض والعلل التي تؤثر في الأبدان.
قوله عز وجل " وما أنزل على الملكين ببابل " أي ويعملون الذي أنزل على الملكين [أي إلهاماً وعلماً، فالإنزال بمعنى الإلهام والتعليم، وقيل: واتبعوا ما أنزل على الملكين] وقرأ ابن عباس و الحسن الملكين بكسر اللام، وقال ابن عباس: هما رجلان ساحران كانا ببابل، وقال الحسن : علجان لأن الملائكة لا يعلمون السحر.
وبابل هي بابل العراق سميت بابل لتبلبل الألسنة بها عند سقوط صرح نمرود أي تفرقها، قال ابن مسعود: بابل أرض الكوفة، وقيل جبل دماوند، والقراءة المعروفة على الملكين بالفتحز فإن قيل كيف يجوز تعليم السحر من الملائكة؟ قيل: له تأويلان: أحدهما، أنهما لا يتعمدان التعليم لكن يصفان السحر ويذكران بطلانه ويأمران باجتنابه، والتعليم بمعنى الإعلام، فالشقي يترك نصيحتهما ويتعلم السحر من صنعتهما.
والتأويل الثاني: وهو الأصح: أن الله تعالى امتحن الناس بالملكين في ذلك الوقت فمن شقى يتعلم السحر منهما [ويأخذه عنهما ويعمل به] فيكفر به، ومن سعد يتركه فيبقى على الايمان، ويزداد المعلمان بالتعليم عذاباًن ففيه ابتلاء للمعلم [والمتعلم] ولله أن يمتحن عباده بما شاء، فله الأمر والحكم.
قوله عز وجل " هاروت وماروت " اسمان سريانيان وهما في محل الخفض على تفسير الملكين إلا أنهما نصبا لعجمتها ومعرفتهما، وكانت قصتهما على ذكر ابن عباس والمفسرون: أن الملائكة رأوا ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم الخبيثة في زمن إدريس عليه السلام فعيروهم وقالوا: هؤلاء الذين جعلتهم في الأرض خليفة واخترتهم فهم يعصونك فقال الله تعالى: لو أنزلتكم إلى الأرض وركبت فيكم ما ركبت فيهم لركبتم مثل ما ركبوا فقالوا: سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نعصيك قال لهم الله تعالى: فاختاروا ملكين من خياركم أهبطهما إلى الأرض، فاختاروا هاروت وماروت وكانا من أصلح الملائكة وأعبدهم، وقال الكلبي : قال الله تعالى لهم: اختاروا ثلاثة فاختاروا عزا وهو هاروت وعزايا وهو ماروت - غير إسمهما لما قارفا الذنب - وعزائيل، فركب الله فيهم الشهوة وأهبطهم إلى الأرض وأمرهم أن يحكموا بين الناس بالحق ونهاهم عن الشرك والقتل بغير الحق والزنا وشرب الخمر، فأما عزائيل فإنه لما وقعت الشهوة في قلبه استقبل ربه وسأله أن يرفعه إلى السماء، فأقاله إلى السماء، فأقاله فسجد أربعين سنة لم يرفع رأسه، ولم يزل بعد ذلك مطأطءاً رأسه حياء من الله تعالى.
وأما الآخران: فإنهما ثبتا على ذلك وكانا يقضيان بين الناس يومهما، فإذا أمسيا ذكرا اسم الله الأعظم وصعدا إلى السماء، قال قتادة : فما مر عليهما شهر حتى افتتنا. قالوا جميعاً إنه اختصمت إليهما ذات يوم الزهرة وكانت من أجمل النساء، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وكانت من أهل فارس وكانت ملكة في بلدها فلما رأياها أخذت بقلوبهما فراواداها عن نفسها فأبت وانصرفت ثم عادت في اليوم الثاني ففعلا مثل ذلك فأبت وقالت: لا إلا أن تعبدا ما أعبد وتصليا لهذا الصنم وتقتلا النفس وتشربا الخمر فقالا: لا سبيل إلى هذه الأشياء فإن الله تعالى قد نهانا عنها، فانصرفت ثم عادت في اليوم الثالث ومعها / قدح من خمر، وفي أنفسهما من الميل إليها ما فيها فراواداها عن نفسها فعرضت عليهما ما قالت بالأمس فقالا: الصلاة لغير الله عظيم، وقتل النفس عظيم، وأهون الثلاثة شرب الخمر، فشربا الخمر فانتشيا ووقعا بالمرأة، فزنيا فلما فرغا رآهما إنسان فقتلاه، قال الربيع بن أنس وسجدا للصنم فمسخ الله الزهرة كوكباً - وقال بعضهم: جاءتهما امرأة من أحسن الناس تخاصم زوجها فقال أحدهما للآخر: هل سقط في نفسك مثل الذي سقط في نفسي (من حب هذه)؟ قال: نعم فقال: وهل لك أن تقضي لها على زوجها بما تقول؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ماعند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال له صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فسألاها نفسها، فقالت: لا إلا أن تقتلاه فقال أحدهما: أما تعلم ما عند الله من العقوبة والعذاب؟ فقال صاحبه: أما تعلم ما عند الله من العفو والرحمة فقتلاه ثم سألاها نفسها، فقالت: لا، إن لي صنماً أعبده، إن أنتما صليتما معي له: فعلت، فقال: أحدهما لصاحبه مثل القول الأول فقال صاحبه مثله، فصليا معها له فمسخت شهاباً.
قال ابن أبي طالب رضي الله عنه و الكلبي و السدي : إنها قالت لهما حين سألاها نفسها: لن تدركاني حتى تخبراني بالذي تصعدان به إلى السماء فقالا: باسم الله الأكبر، قالت: فما أنتم تدركاني حتى تعلمانيه، فقال أحدهما لصاحبه: علمها فقال: إني أخاف الله رب العالمين، قال الآخر: فأين رحمة الله تعالى؟ فعلماها ذلك فتكلمت، فصعدت إلى السماء فمسخها الله كوكباً، فذهب بعضهم إلى أنها الزهرة بعينها وأنكر الآخرون هذا وقالوا: إن الزهرة من الكواكب السبعة السيارة التي أقسم الله بها فقال " فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس " (15-التكوير) والتي فتنت هاروت وماروت امرأة كانت تسمى الزهرة لجمالها فلما بغت مسخها الله تعالى شهاباً، قالوا: فلما أمسى هاروت وماروت بعدما قارفا الذنب هما بالصعود إلى السماء فلم تطاوعهما أجنحتهما، فعلما ما حل بهما (من الغضب) فقصدا إدريس النبي عليه السلام، فأخبراه بأمرهما وسألاه أن يشفع لهما إلى الله عز وجل وقالا له: إنا رأيناك يصعد لك من العبادات مثل ما يصعد لجميع أهل الأرض فاستشفع لنا، إلى ربك ففعل ذلك إدريس عليه السلام فخيرهما الله بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا إذ علما أنه ينقطع فهما ببابل يعذبان.
واختلفوا في كيفية عذابهما فقال عبد الله بن مسعود: هما معلقان بشعورهما إلى قيام الساعة، وقال عطاء بن أبي رباح : رؤوسهما مصوبة تحت أجنحتهما، وقال قتادة (كبلا) من أقداهما إلى أصول أفخاذهما، وقال مجاهد : جعلا في جب ملئت ناراً، وقال عمر بن سعد: منكوسان يضربان بسياط من الحديد.
وروي أن رجلاً قصد هاروت وماروت لتعلم السحر فوجدهما معلقين بأرجلهما، مزرقة أعينهما، مسودة جلودهما، ليس بين ألسنتهما وبين الماء إلا أربع أصابع وهما يعذبان بالعطش، فلما رأى ذلك هاله مكانهما فقال: لا إله الله، فلما سمعا كلامه قالا له: من أنت؟ قال: رجل من الناس، قالا: من أي أمة أنت؟ قال: من أمة محمد صلى الله عليه وسلم قالا: إنه نبي الساعة وقد دنا انقضاء عذابنا.
قوله تعالى: " وما يعلمان من أحد " أي أحداً، و ((من)) صلة " حتى " ينصحاه أولاً و " يقولا إنما نحن فتنة " ابتلاء ومحنة " فلا تكفر " أي لا تتعلم السحر فتعمل به فتكفر، وأصل الفتنة: الاختبار والامتحان، من قولهم: فتنت الذهب والفضة إذا أذبتهما بالنار، ليتميز الجيد من الرديء، وإنما وحد الفتنة وهما اثنان، لأن الفتنة مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع، وقيل: إنهما يقولان (( إنما نحن فتنة فلا تكفر )) سبع مرات.
قال عطاء و السدي : فإن أبى إلا التعلم قالا له: ائت هذا الرماد (وأقبل عليه) فيخرج منه نور ساطع في السماء فذلك نور المعرفة، وينزل شيء أسود شبه الدخان حتى يدخل مسامعه وذلك غضب الله تعالى، قال مجاهد : إن هاروت وماروت لا يصل إليهما أحد ويختلف فيما بينهما شيطان في كل مسألة اختلافة واحدة، " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه " وهو أن (يؤخذ) كل واحد عن صاحبه، ويبغض كل واحد إلى صاحبه قال الله تعالى: " وما هم " قيل أي: السحرة وقيل: الشياطين " بضارين به " أي بالسحر " من أحد " أي أحداً، " إلا بإذن الله " أي: بعلمه وتكوينه، فالساحر يسحر والله يكون.
قال سفيان الثوري : معناه إلا بقضائه وقدرته ومشيئته، " ويتعلمون ما يضرهم " يعني: أن السحر يضرهم " ولا ينفعهم، ولقد علموا " يعني اليهود " لمن اشتراه " أي اختار السحر " ما له في الآخرة من خلاق " أي في الجنة من نصيب " ولبئس ما شروا به " باعوا به " أنفسهم " حظ أنفسهم، حيث اختاروا السحر والكفر على الدين والحق " لو كانوا يعلمون " فإن قيل: أليس قد قال " ولقد علموا لمن اشتراه " فما معنى قوله تعالى " لو كانوا يعلمون " بعدما أخبر أنهم علموا؟ قيل: أراد بقوله " ولقد علموا " يعني الشياطين وقوله " لو كانوا يعلمون " يعني اليهود، وقيل: كلاهما في اليهود يعني: لكنهم لما يعملوا بما علموا فكأنهم لم يعلموا.
102-" واتبعوا ما تتلوا الشياطين " عطف على نبذه ، أي نبذوه كتاب الله واتبعوا كتب السحر التي تقرؤها ، أو تتبعها الشياطين من الجن ، أو الإنس ، أو منهما . " على ملك سليمان " أي عهده ، وتتلو حكاية حال ماضية ، قيل : كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى ما سمعوا أكاذيب ، ويلقونها إلى الكهنة وهم يدونونها ويعلمون الناس ، وفشا ذلك في عهد سليمان عليه السلام حتى قيل : إن الجن يعلمون الغيب ، وأن ملك سليمان تم بهذا العلم ، وأنه تسخر به الجن والإنس والريح له . " وما كفر سليمان " تكذيب لمن زعم ذلك ، وعبر عن السحر بالكفر ليدل على أنه كفر ، وأن من كان نبياً كان معصوماً منه . " ولكن الشياطين كفروا " باستعماله ، وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و " لكن " بالتخفيف ، ورفع " الشياطين " . " يعلمون الناس السحر " إغواءً وإضلالاً ، والجملة حال من الضمير ، والمراد بالسحر ما يستعان في تحصيله بالتقرب إلى الشيطان مما لا يستقل به الإنسان ، وذلك لا يستتب إلا لمن يناسبه في الشرارة وخبث النفس . فإن التناسب شرط في التضام والتعاون ، وبهذا تميز الساحر عن النبي والولي ، وأما ما يتعجب منه كما يفعله أصحاب الحيل بمعونة الآلات والأدوية أو يريه صاحب خفة اليد فغير مذموم ، وتسميته سحراً عمل التجوز ، أو لما فيه من الدقة لأنه في الأصل لما خفي سببه . " وما أنزل على الملكين " عطف على السحر والمراد بهما واحد ، والعطف لتغاير الاعتبار ، أو المراد به نوع أقوى منه ، أو على ما تتلو . وهما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس ، وتمييزاً بينه وبين المعجزة . وما روي أنهما مثلاً بشرين ، وركب فيهما الشهوة فتعرضا لامرأة يقال لها : زهرة ، فحملتهما على المعاصي والشرك ، ثم صعدت إلى السماء بما تعلمت منهما فمحكي عن اليهود ولعله من رموز الأوائل وحله لا يخفى على ذوي البصائر . وقيل : رجلان سميا ملكين باعتبار صلاحهما ، ويؤيده قراءة الملكين بالكسر . وقيل : ما أنزل نفي معطوف على ما كفر سليمان تكذيب لليهود في هذه القصة . " ببابل " ظرف ، أو حال من الملكين ، أو الضمير في أنزل والمشهور أنه بلد من سواد الكوفة . " هاروت وماروت " عطف بيان للملكين ، ومنع صرفهما للعملية والعجمة ، ولو كانا من الهرت والمرت بمعنى الكسر لانصرفا . ومن جعل ما نافية أبدلهما من الشياطين بدل البعض ، وما بينهما اعتراض وقرئ بالرفع على هما " هاروت وماروت " . " وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر " فمعناه على الأول ما يعلمان أحداً حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله ، فمن تعلم منا وعمل به كفر ، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان ، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به . وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور ، وإنما المنع من اتباعه والعمل يه . وعلى الثاني ما يعلمانه حتى يقولا إنما نحن مفتونان فلا تكن مثلنا . " فيتعلمون منهما " الضمير لما دل عليه من أحد . " ما يفرقون به بين المرء وزوجه " أي من السحر ما يكون سبب تفريقهما . " وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " لأنه وغيره من الأسباب غير مؤثرة بالذات ، بل بأمره تعالى وجعله . قرئ " بضاري " على الإضافة إلى أحد ، وجعل الجار جزء منه والفصل بالظرف . " ويتعلمون ما يضرهم " لأنهم يقصدون به العمل ، أو لأن العلم يجر إلى العمل غالباً " ولا ينفعهم " إذ مجرد العلم به غير مقصود ولا نافع في الدارين . وفيه أن التحرز عنه أولى " ولقد علموا " أي اليهود . " لمن اشتراه " أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله تعالى ، والأظهر أن اللام لام الإبتداء علقت علموا عن العمل " ما له في الآخرة من خلاق " نصيب " ولبئس ما شروا به أنفسهم " يحتمل المعنيين على ما مر . " لو كانوا يعلمون " يتفكرون فيه ، أو يعلمون قبحه على التعيين ، أو حقيه ما يتبعه من العذاب ، والمثبت لهم أولاً على التوكيد القسمي العقل الغريزي أو العلم الإجمالي يقبح الفعل ، أو ترتب العقاب من غير تحقيق وقيل ، معناه لو كانوا يعملون بعلمهم ، فإن من لم يعمل بما علم فهو كمن لم يعلم .
102. And follow that which the devils falsely related against the kingdom of Solomon. Solomon disbelieved not; but the devils disbelieved, teaching mankind magic and that which was revealed to the two angels in Babel, Harut and Marut. Nor did they (the two angels) teach it to anyone till they had said: We are only a temptation, therefore disbelieve not (in the guidance of Allah). And from these two (angels) people learn that by which they cause division between man and wife; but they injure thereby no one save by Allah's leave. And they learn that which harmeth them and profiteth them not. And surely they do know that he who trafficketh therein will have no (happy) portion in the Hereafter; and surely evil is the price for which they sell their souls, if they but knew.
102 - They followed what the evil ones gave out (falsely) against the power of Solomon: the blasphemers were, not Solomon, but the evil ones, teaching men magic, and such things as came down at Babylon to the angels Harut and Marut. but neither of these taught anyone (such things) without saying: we are only for trial; so do not blaspheme. they learned from them the means to sow discord between man and wife. but they could not thus harm anyone except by God's permission. and they learned what harmed them, not what profited them. and they knew that the buyers of (magic) would have no share in the happiness of the hereafter. and vile was the price for which they did sell their souls, if they but knew!