(واعتصموا) تمسكوا (بحبل الله) أي دينه (جميعا ولا تفرقوا) بعد الإسلام (واذكروا نعمة الله) إنعامه (عليكم) يا معشر الأوس والخزرج (إذ كنتم) قبل الإسلام (أعداءً فألف) جمع (بين قلوبكم) بالإسلام (فأصبحتم) فصرتم (بنعمته إخواناً) في الدين والولاية (وكنتم على شفا) طرف (حفرة من النار) ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا كفاراً (فأنقذكم منها) بالإيمان (كذلك) كما بين لكم ما ذكر (يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعاً. يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم ، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق ، والتسليم لأمر الله.
وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الاعتصام.
وأما الحبل، فإنه السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة . ولذلك سمي الأمان حبلاً، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف، والنجاة من الجزع والذعر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
وإذا تجوزها حبال قبيلة أخذت من الأخرى إليك حبالها
ومنه قول الله عز وجل: "إلا بحبل من الله وحبل من الناس" [آل عمران: 112].
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا العوام، عن الشعبي، عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله: "واعتصموا بحبل الله جميعا"، قال: الجماعة.
حدثنا المثنى قال ، حدثنا عمرو بن عون قال ، حدثنا هشيم، عن العوام، عن الشعبي، عن عبد الله في قوله: "واعتصموا بحبل الله جميعا"، قال: حبل الله، الجماعة.
وقال آخرون: عنى بذلك القران والعهد الذي عهد فيه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "واعتصموا بحبل الله جميعا"، حبل الله المتين الذي أمر أن يعتصم به : هذا القرآن.
حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعا"، قال: بعهد الله وأمره.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن شقيق ، عن عبد الله قال: إن الصراط محتضر، تحضره الشياطين ، ينادون: يا عبد الله ، هلم هذا الطريق! ليصدوا عن سبيل الله ، فاعتصموا بحبل الله ، فإن حبل الله هو كتاب الله.
حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد بن المفضل ، عن أسباط ، عن السدي: "واعتصموا بحبل الله جميعا"، أما "بحبل الله"، فكتاب الله.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "بحبل الله"، بعهد الله.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج، عن عطاء: "بحبل الله"، قال: العهد.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله: "واعتصموا بحبل الله"، قال: حبل الله، القرآن.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله : "واعتصموا بحبل الله جميعا"، قال: القرآن.
حدثنا سعيد بن يحيى قال: حدثنا أسباط بن محمد، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله ، هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض".
وقال آخرون: بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: "واعتصموا بحبل الله جميعا"، يقول: اعتصموا بالإخلاص لله وحده.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "واعتصموا بحبل الله جميعا"، قال: الحبل، الإسلام. وقرأ : "ولا تفرقوا".
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: بقوله: "ولا تفرقوا"، ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه ، من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى أمره، كما:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم"، إن الله عز وجل قد كره لكم الفرقة، وقدم إليكم فيها، وحذركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم، ولا قوة إلا بالله.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع، عن أبي العالية: "ولا تفرقوا"، لا تعادوا عليه ، يقول : على الإخلاص لله، وكونوا عليه إخواناً.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح: أن الأوزاعي حدثه ، أن يزيد الرقاشي حدثه أنه سمع أنس بن مالك قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة. قال: فقيل: يا رسول الله، وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يده وقال: الجماعة، "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"".
حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال ، حدثنا الوليد بن مسلم قال ، سمعت الأوزاعي يحدث ، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا المحاربي، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي، عن ثابت بن قطبة المدني، عن عبد الله، أنه قال: يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به ، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة، هو خير مما تستحبون في الفرقة.
حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري قال ، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسمعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن ثابت بن قطبة قال: سمعت ابن مسعود وهو يخطب وهو يقول: يا أيها الناس ، ثم ذكر نحوه.
حدثنا إسمعيل بن حفص الأبلي قال ، حدثنا عبد الله بن نمير أبو هشام قال ، حدثنا مجالد بن سعيد، عن عامر، عن ثابت بن قطبة المدني قال: قال عبد الله: عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمر به، ثم ذكر نحوه.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "واذكروا نعمة الله عليكم"، واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام.
واختلف أهل العربية في قوله: "إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم".
فقال بعض نحويي البصرة في ذلك : انقطع الكلام عند قوله: "واذكروا نعمة الله عليكم"، ثم فسر بقوله: "فألف بين قلوبكم"، وأخبر بالذي كانوا فيه قبل التأليف، كما تقول: أمسك الحائط أن يميل.
وقال بعض نحويي الكوفة قوله: "إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم"، تابع قوله: "واذكروا نعمة الله عليكم"، غير منقطعة منها.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله: "إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم"، متصل بقوله: "واذكروا نعمة الله عليكم"، غير منقطع عنه.
وتأويل ذلك: واذكروا، أيها المؤمنون ، نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم، حين كنتم أعداء في شرككم ، يقتل بعضكم بعضاً عصبيةً في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم ، فجعل بعضكم لبعض إخواناً بعد إذ كنتم أعداءً، تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه، كما:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم"، كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام فآخى به بينكم ، وألف به بينكم . أما والله الذي لا إله إلا هو، إن الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذاب.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء"، يقتل بعضكم بعضاً، ويأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام فألف به بينكم ، وجمع جمعكم عليه ، وجعلكم عليه إخواناً.
قال أبو جعفر: فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن يذكروها، هي ألفة الإسلام، واجتماع كلمتهم عليها، والعداوة التي كانت بينهم التي قال الله عز وجل: "إذ كنتم أعداء"، فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام، يزعم العلماء بأيام العرب أنها تطاولت بينهم عشرين ومئة سنة، كما:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال ، قال ابن إسحق: كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومئة سنة، حتى قام الإسلام وهم على ذلك ، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لأب وأم، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم. ثم إن الله عز وجل أطفأ ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
فذكرهم جل ثناؤه إذ وعظهم، عظيم ما كانوا في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضاً، وقتل بعضهم بعضاً، وخوف بعضهم من بعض، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان به وبما جاء به، من الائتلاف والاجتماع ، وأمن بعضهم من بعض، ومصير بعضهم لبعض إخواناً، وكان سبب ذلك ما:
حدثنا به ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال ، حدثني ابن إسحق قال ، حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة المدني، عن أشياخ من قومه ، قالوا: قدم سويد بن صامت، أخو بني عمرو بن عوف، مكة حاجاً أو معتمراً. قال: وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم: الكامل، لجلده وشعره ونسبه وشرفه. قال: فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به ، فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام، قال: فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي! قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان -يعني: حكمة لقمان- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعرضها علي. فعرضها عليه ، فقال: إن هذا لكلام حسن، معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله علي، هدىً ونور. قال: فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، ودعاه إلى الإسلام، فلم يبعد منه ، وقال: إن هذا لقول حسن! ثم انصرف عنه وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتلته الخزرج. فإن كان قومه ليقولون: قد قتل وهو مسلم. وكان قتله قبل يوم بعاث.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق قال ، حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، أحد بني عبد الأشهل: أن محمود بن لبيد، أحد بني عبد الأشهل قال: لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة، ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم فقال: هل لكم إلى خير مما جئتم له؟ قالوا: وما ذاك؟ قال: أنا رسول الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأنزل علي الكتاب. ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ، وكان غلاماً حدثاً: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له! قال: فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع حفنةً من البطحاء، فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا! قال: فصمت إياس بن معاذ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا إلى المدينة، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج. قال: ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال: فلما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجاز موعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب، كما كان يصنع في كل موسم. فبينا هو عند العقبة، إذ لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً.
قال ابن حميد، قال سلمة، قال محمد بن إسحق ، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج. قال: أمن موالي يهود؟ قالوا: نعم . قال : أفلا تجلسون حتى أكلمكم؟ قالوا: بلى! قال: فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله ، وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام، أن يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا أهل شرك أصحاب أوثان، وكانوا قد غزوهم بلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شيء قالوا لهم: إن نبياً الآن مبعوث قد أظل زمانه، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم! فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ودعاهم إلى الله عز وجل، قال بعضهم لبعض : يا قوم ، تعلمون والله إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه! فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صدقوه وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك ، وسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، قد آمنوا وصدقوا، وهم فيما ذكر لي ستة نفر. قال: فلما قدموا المدينة على قومهم، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم ، فلم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العام المقبل، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى. فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن عكرمة: أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الأنصار فآمنوا به وصدقوه، فأراد أن يذهب معهم ، فقالوا: يا رسول الله، إن بين قومنا حرباً، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد. فوعدوه العام المقبل، وقالوا: يا رسول الله، نذهب ، فلعل الله أن يصلح تلك الحرب! قال: فذهبوا ففعلوا، فأصلح الله عز وجل تلك الحرب ، وكانوا يرون أنها لا تصلح، وهو يوم بعاث. فلقوه من العام المقبل سبعين رجلاً قد آمنوا، فأخذ عليهم النقباء اثني عشر نقيباً، فذلك حين يقول: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم".
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما "إذ كنتم أعداء"، ففي حرب ابن سمير، "فألف بين قلوبكم"، بالإسلام.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال ، حدثنا أبو سفيان ، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة بنحوه، وزاد فيه: فلما كان من أمر عائشة ما كان ، فتثاور الحيان، فقال بعضهم لبعض: موعدكم الحرة! فخرجوا إليها، فنزلت هذه الآية: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا"، الآية. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يتلوها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضاً، وحتى إن لهم لخنيناً، يعني البكاء.
وسمير الذي زعم السدي أن قوله: "إذ كنتم أعداء" عني به حربه، هو سمير بن زيد بن مالك ، أحد بني عمرو بن عوف، الذي ذكره مالك بن العجلان في قوله:
إن سميراً، أرى عشيرته قد حدبوا دونه وقد أنفوا
إن يكن الظن صادقي ببني النـ ـجار لم يطمعوا الذي علفوا
وقد ذكر علماء الأنصار: أن مبدأ العداوة التي هيجت الحروب التي كانت بين قبيلتيها الأوس والخزرج وأولها، كان بسبب قتل مولى لمالك بن العجلان الخزرجي يقال له: الحر بن سمير من مزينة، وكان حليفاً لمالك بن العجلان، ثم اتصلت تلك العداوة بينهم إلى أن أطفأها الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فذلك معنى قول السدي: حرب ابن سمير.
وأما قوله: فأصبحتم بنعمته إخواناً، فإنه يعني: فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام وكلمة الحق، والتعاون على نصرة أهل الإيمان ، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر، إخواناً متصادقين ، لا ضغائن بينكم ولا تحاسد، كما:
حدثني بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "فأصبحتم بنعمته إخوانا"، وذكر لنا أن رجلاً قال لابن مسعود: كيف أصبحتم؟ قال: أصبحنا بنعمة الله إخواناً.
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "وكنتم على شفا حفرة من النار"، وكنتم، يا معشر المؤمنين ، من الأوس والخزرج، على حرف حفرة من النار. وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام. يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخواناً، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم ، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له.
وشفا الحفرة، طرفها وحرفها، مثل شفا الركية والبئر، ومنه قول الراجز:
نحن حفرنا للحجيج سجله نابتة فوق شفاها بقله
يعني: فوق حرفها. يقال: هذا شفا هذه الركية مقصور وهما شفواها.
وقال: "فأنقذكم منها"، يعني فأنقذكم من الحفرة، فرد الخبر إلى الحفرة، وقد ابتدأ الخبر عن الشفا، لأن الشفا من الحفرة. فجاز ذلك ، إذ كان الخبر عن الشفا على السبيل الذي ذكرها في هذه الآية، خبراً عن الحفرة، كما قال جرير بن عطية:
رأت مر السنين أخذن مني كما أخذ السرار من الهلال
فذكر: مر السنين، ثم رجع إلى الخبر عن السنين، كما قال العجاج:
طول الليالي أسرعت في نقضي طوين طولي وطوين عرضي
وقد بينت العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك فيما مضى قبل.
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته"، كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاه عيشاً، وأبينه ضلالة، وأعراه جلوداً، وأجوعه بطوناً، مكعومين، على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات ردي في النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلاً يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظاً، وأدق فيها شأناً، منهم ، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام ، فورثكم به الكتاب ، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرزق ، وجعلكم به ملوكاً على رقاب الناس . وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين ، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قوله: "وكنتم على شفا حفرة من النار"، يقول: كنتم على الكفر بالله، "فأنقذكم منها"، من ذلك، وهداكم إلى الإسلام.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي: "وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها"، بمحمد صلى الله عليه وسلم. يقول: كنتم على طرف النار، من مات منكم أوبق في النار، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فاستنقذكم به من تلك الحفرة.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا حسن بن حي: "وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها"، قال: عصبية.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "كذلك"، كما بين لكم ربكم في هذه الآيات ، أيها المؤمنون من الأوس والخزرج، من غل اليهود الذي يضمرونه لكم ، وغشهم لكم ، وأمره إياكم بما أمركم به فيها، ونهيه لكم عما نهاكم عنه ، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم ، والتي صرتم إليها في إسلامكم ، معرفكم في كل ذلك مواقع نعمة قبلكم وصنائعه لديكم ، فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، "لعلكم تهتدون"، يعني: لتهتدوا إلى سبيل الرشاد وتسلكوها، فلا تضلوا عنها.
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : " واعتصموا " العصمة المنعة ، ومنه يقال للبذرقة : عصمة . والبذرقة : الخفارة للقافلة ، وذلك بأن يرسل معها من يحميها ممن يؤذيها . قال ابن خالويه : البذرقة ليست بعربية وإنما هي كلمة فارسية عربتها العرب ، يقال : بعث السلطان بذرقة مع القافلة .
والحبل لفظ مشترك ، وأصله في اللغة السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة . والحبل : حبل العاتق . والحبل : مستطيل من الرمل ، ومنه الحديث : " والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه ، فهل لي من حج " والحبل الرسن . والحبل العهد ، قال الأعشى :
وإذا تجوزها حبال قبيلة أخذت من الأخرى إليك حبالها
يريد الأمان . والحبل الداهية ، قال كثير :
فلا تعجلي يا عز أن تتفهمي بنصح أتى الواشون أم بحبول
والحبالة : حبالة الصائد .وكلها ليس مراداً في الآية إلا الذي بمعنى العهد ، عن ابن عباس . وقال ابن مسعود : حبل الله القرآن . " ورواه علي وأبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن مجاهد وقتادة مثل ذلك . وأبو معاوية عن الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا القرآن هو حبل " وروى بقي بن مخلد حدثنا يحيى بن عبد الحميد حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن الشعبي عن عبد الله بن مسعود " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " قال : الجماعة ، روي عنه وعن غيره من وجوه ، والمعنى كله متقارب متداخل ، فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة . ورحم الله ابن المبارك حيث قال :
إن الجماعة حبل الله فاعتصموا منه بعروته الوثقى لمن دانا
الثانية : قوله تعالى : " ولا تفرقوا " يعني في دينكم كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم ، عن ابن مسعود وغيره . ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة ، وكونوا في دين الله إخواناً ، فيكون ذلك منعاً لهم عن التقاطع والتدابر ، ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا " . وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع : فإن ذلك ليس اختلافاً إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع ، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع ، ومازالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث ، وهم مع ذلك متآلفون . " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اختلاف أمتي رحمة " وإنما منع الله اختلافاً هو سبب الفساد . " روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " قاله الترمذي : هذا حديث صحيح . " وأخرجه أيضاً عن ابن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا : من هي يارسول الله ؟ قال ما أنا عليه وأصحابي " أخرجه من حديث عبد الله بن زياد الأفريقي ، عن عبد الله بن يزيد عن ابن عمرو ، وقال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه . قال أبو عمر : و عبد الله الإفريقي ثقة وثقه قومه أثنوا عليه ، وضعفه آخرون . " وأخرجه أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله " وفي سنن ابن ماجه " عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات والله عنه راض " . قال أنس - : وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث واختلاف الأهواء ، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل ، يقول الله : " فإن تابوا " قال : خلعوا الأوثان وعبادتها " وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة " [ التوبة : 5 ] ، وقال في آية أخرى : " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين " [ التوبة : 11 ] أخرجه عن نصر بن علي الجهضمي عن أبي أحمد عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس . قال أبو الفرج الجوزي : فإن قيل هذه الفرق معروفة ، فالجواب أنا نعرف الافتراق وأصول الفرق وأن كل طائفة من الفرق انقسمت إلى فرق ، وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها ، فقد ظهر لنا من أصول الفرق الحرورية والقدرية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية . وقال بعض أهل العلم : أصل الفرق الضالة هذه الفرق الست ، وقد انقسمت كل فرقة منها اثنتي عشرة فرقة ، فصارت اثنتين وسبعين فرقة . انقسمت الحرورية اثنتي عشرة فرقة ، فأولهم الأزرقية - قالوا : لا نعلم أحدا مؤمناً ، وكفروا أهل القبلة إلا من دان بقولهم . والأباضية - قالوا : من أخذ بقولنا فهو مؤمن ، ومن أعرض عنه فهو منافق . والثعلبية - قالوا : إن الله عز وجل لم يقض ولم يقدر . والخازمية - قالوا : لا ندري ما الإيمان ، والخلق كلهم معذورون . والخلفية - زعموا أن من ترك الجهاد من ذكر أو أنثى كفر . والكوزية - قالوا : ليس لأحد أن يمس أحداً لأنه لا يعرف الطاهر من النجس ولا أن يؤاكله حتى يتوب ويغتسل . والكنزية - قالوا : لا يسع أحداً أن يعطي ماله أحداً ، لأنه ربما لم يكن مستحقاً بل يكنزه في الأرض حتى يظهر أهل الحق . والشمراخية - قالوا : لا بأس بمس النساء الأجانب لأنهن رياحين . والأخنسية - قالوا : لا يلحق الميت بعد موته خير ولا شر . والحكمية - قالوا : من حاكم إلى مخلوق فهو كافر . والمعتزلة - قالوا : اشتبه علينا أمر علي ومعاوية فنحن نتبرأ من الفريقين . والميمونية - قالوا : لا إمام إلا برضا أهل محبتنا .
وانقسمت القدرية اثنتي عشرة فرقة : الأحمرية - وهي التي زعمت أن في شرط العدل من الله أن يملك عباده أمورهم ، ويحول بينهم وبين معاصيهم . والثنوية - وهي التي زعمت أن الخير من الله والشر من الشيطان . والمعتزلة - وهم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا صفات الربوبية . والكيسانية - وهم الذين قالوا : لا ندري هذه الأفعال من الله أو من العباد ، ولا نعلم أيثاب الناس بعد أو يعاقبون . والشيطانية - قالوا : إن الله تعالى لم يخلق الشيطان . والشريكية - قالوا : إن السيئات كلها مقدرة إلا الكفر . والوهمية - قالوا : ليس لأفعال الخلق وكلامهم ذات ، ولا للحسنة والسيئة ذات . والزبرية - قالوا : كل كتاب نزل من عند الله فالعمل به حق ، ناسخاً كان أو منسوخاً . والمسعدية - زعموا أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته . والناكثية - زعموا أن من نكث بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه . والقاسطية - تبعوا إبراهيم بن النظام في قوله : من زعم أن الله شيء فهو كافر . وانقسمت الجهمية اثنتي عشرة فرقة : المعطلة - زعموا أن كل ما يقع عليه وهم الإنسان فهو مخلوق ، وأن من ادعى أن الله يرى فهو كافر . والمريسية قالوا : أكثر صفات الله تعالى مخلوقة . والملتزقة - جعلوا الباري سبحانه في كل مكان . والواردية - قالوا لا يدخل النار من عرف ربه ، ومن دخلها لم يخرج منها أبداً . والزنادقة - قالوا : ليس لأحد أن يثبت لنفسه رباً ، لأن الإثبات لا يكون إلا بعد إدراك الحواس ، وما لا يدرك لا يثبت . والحرقية - زعموا أن الكافر تحرقه النار مرة واحدة ثم يبقى محترقاً أبداً لا يجد حر النار . والمخلوقية -زعموا أن القرآن مخلوق . والفانية - زعموا أن الجنة والنار يفنيان ، ومنهم من قال لم يخلقا . والعبدية - جحدوا الرسل وقالوا : إنما هم حكماء . والواقفية - قالوا : لا نقول إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق . والقبرية - ينكرون عذاب القبر والشفاعة . واللفظية - قالوا : لفظنا بالقرآن مخلوق .
وانقسمت المرجئة اثنتي عشرة فرقة : التاركية - قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الإيمان به ، فمن آمن به فليفعل ما شاء . والسائبية - قالوا : إن الله تعالى سيب خلقه ليفعلوا ما شاءوا . والراجية - قالوا : لا يسمى الطائع طائعاً ولا العاصي عاصياً ، لأنا لا ندري ما له عند الله تعالى . والسالبية - قالوا : الطاعة ليست من الإيمان . والبهيشية - قالوا : الإيمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر . والعملة - قالوا : الإيمان عمل . والمنقوصية - قالوا : الإيمان لا يزيد ولا ينقص . والمستثنية - قالوا : الاستثناء من الإيمان . والمشبهة - قالوا : بصر كبصر ويد كيد . والحشيوية - قالوا : حكم الأحاديث كلها واحد ، فعندهم أن تارك النفل كتارك الفرض . والظاهرية - الذين نفوا القياس . والبدعية - أول من ابتدع هذه الأحداث في هذه الأمة .
وانقسمت الرافضة اثنتي عشرة فرقة : العلوية - قالوا : إن الرسالة كانت إلى علي وإن جبريل أخطأ . والأمرية - قالوا : إن علياً شريك محمد في أمره . والشيعة - قالوا : إن علياً رضي الله عنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليه من بعده ، وإن الأمة كفرت بمبايعة غيره . والإسحاقية - قالوا : إن النبوة متصلة إلى يوم القيامة ، وكل من يعلم علم أهل البيت فهو نبي . والناووسية - قالوا : علي أفضل الأمة ، فمن فضل غيره عليه فقد كفر . والإمامية - قالوا : لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الحسين ، وإن الإمام يعلمه جبريل عليه السلام ، فإذا مات بدل غيره مكانه . والزيدية - قالوا : ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات ، فمتى وجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيرهم ، برهم وفاجرهم . والعباسية - زعموا أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره . والتناسخية - قالوا : الأرواح تتناسخ ، فمن كان محسناً خرجت روحه فدخلت في خلق يسعد بعيشه . والرجعية - زعموا أن عليا وأصحابه يرجعون إلى الدنيا ، وينتقمون من أعدائهم . واللاعنة - يلعنون عثمان وطلحة والزبير ومعاوية وأبا موسى وعائشة وغيرهم . والمتربصة -تشبهوا بزي النساك ونصبوا في كل عصر رجلاً ينسبون إليه الأمر ، يزعمون أنه مهدي هذه الأمة ، فإذا مات نصبوا آخر .
ثم انقسمت الجبرية اثنتي عشرة فرقة : فمنهم المضطرية - قالوا : لا فعل للآدمي ، بل الله يفعل الكل . والأفعالية - قالوا : لنا أفعال ولكن لا استطاعة لنا فيها ، وإنما نحن كالبهائم نقاد بالحبل . والمفروغية - قالوا : كل الأشياء قد خلقت ، والآن لا يخلق شيء . والنجارية - زعمت أن الله تعالى يعذب الناس على فعله لا على فعلهم . والمنانية - قالوا : عليك بما يخطر بقلبك ، فافعل ما توسمت منه الخير . والكسبية - قالوا : لا يكتسب العبد ثواباً ولا عقاباً . والسابقية - قالوا : من شاء فليعمل ومن شاء فلا يعمل ، فإن السعيد لا تضره ذنوبه والشقي لا ينفعه بره . والحبية - قالوا : من شرب كأس محبة الله تعالى سقطت عنه عبادة الأركان . والخوفية - قالوا : من أحب الله تعالى لم يسعه أن يخافه ، لأن الحبيب لا يخاف حبيبه . والفكرية - قالوا : من ازداد علماً أسقط عنه بقدر ذلك من العبادة .
والخشبية - قالوا : الدنيا بين العباد سواء ، لا تفاضل بينهم فيما ورثهم أبوهم آدم . والمنية - قالوا : منا الفعل ولنا الاستطاعة . وسيأتي بيان الفرقة التي زادت في هذه الأمة في آخر سورة < الأنعام > إن شاء الله تعالى . وقال ابن عباس لسماك الحنفي : يا حنفي الجماعة الجماعة !! فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها ، أما سمعت الله عز وجل يقول : " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " وفي صحيح مسلم " عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ، ويكره لكم ثلاثاً قيل : وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال " فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف ، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملاً ، وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين ، والسلامة من الاختلاف ، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين . هذا معنى الآية على التمام ، وفيها دليل على صحة الإجماع حسبما هو مذكور في موضعه من أصول الفقه والله أعلم .
قوله تعالى : " واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها " . أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام واتباع نبيه محمد عليه السلام ، فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والألفة . والمراد الأوس والخزرج ، والآية تعم . ومعنى " فأصبحتم بنعمته إخوانا " أي صرتم بنعمة الإسلام إخواناً في الدين . وكل ما في القرآن < أصبحتم > معناه صرتم ، كقوله تعالى : " إن أصبح ماؤكم غورا " [ الملك : 30 ] أي صار غائراً . والإخوان جمع أخ ، وسمي أخاً لأنه يتوخى مذهب أخيه ، أي يقصده . وشفا كل شيء حرفه ، وكذلك شفيره ومنه قوله تعالى : " على شفا جرف هار " [ التوبة : 109 ] قال الراجز :
نحن حفرنا للحجيج سجله نابته فوق شفاها بقله
وأشفى على الشيء أشرف عليه ، ومنه أشفى المريض على الموت . وما بقي منه إلا شفا أي قليل . قال ابن السكيت : يقال للرجل عند موته وللقمر عند أمحاقه وللشمس عند غروبها : ما بقي منه إلا شفا أي قليل : قال العجاج :
ومربا عال لمن تشرفا أشرفته بلا شفى أو بشفى
قوله < بلا شفى > أي غابت الشمس . < أو بشفى > وقد بقيت منها بقية . وهو من ذوات الياء ، وفيه لغة أنه من الواو . وقال النحاس : الأصل في شفا شفو ، ولهذا يكتب بالألف ولا يمال . وقال الأخفش : لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو ، ولأن الإمالة بين الياء ، وتثنيته شفوان . قال المهدوي : وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الإيمان .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان , حدثنا عبد الرحمن عن سفيان وشعبة عن زبيد اليامي , عن مرة , عن عبد الله هو ابن مسعود "اتقوا الله حق تقاته" قال: أن يطاع فلا يعصى, وأن يذكر فلا ينسى, وأن يشكر فلا يكفر, وهذا إسناد صحيح موقوف, وقد تابع مرة عليه عمرو بن ميمون عن ابن مسعود , وقد رواه ابن مردويه من حديث يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب , عن سفيان الثوري , عن زبيد , عن مرة , عن عبد الله , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله حق تقاته": أن يطاع فلا يعصى, ويشكر فلا يكفر, ويذكر فلا ينسى " , وكذا رواه الحاكم في مستدركه من حديث مسعر عن زبيد , عن مرة , عن ابن مسعود مرفوعاً, فذكره, ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه, كذا قال, والأظهر أنه موقوف, والله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم : وروي نحوه عن مرة الهمداني والربيع بن خثيم وعمرو بن ميمون وإبراهيم النخعي وطاوس والحسن وقتادة وأبي سنان والسدي , نحو ذلك. وروي عن أنس أنه قال: لا يتقي الله العبد حق تقاته حتى يخزن لسانه. وقد ذهب سعيد بن جبير وأبو العالية , والربيع بن أنس وقتادة ومقاتل بن حيان وزيد بن أسلم والسدي وغيرهم إلى أن هذه الاية منسوخة بقوله تعالى: "فاتقوا الله ما استطعتم" وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: "اتقوا الله حق تقاته" قال: لم تنسخ, ولكن "حق تقاته" أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ولا تأخذهم في الله لومة لائم, ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وقوله تعالى: "ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون" أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه, فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه, ومن مات على شيء بعث عليه, فعياذاً با لله من خلاف ذلك.
قال الإمام أحمد : حدثنا روح , حدثنا شعبة , قال: سمعت سليمان عن مجاهد : أن الناس كانوا يطوفون بالبيت و ابن عباس جالس معه محجن, فقال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون", ولو أن قطرة من الزقوم قطرت لأمرت على أهل الأرض عيشتهم, فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم ؟" وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه و الحاكم في مستدركه من طرق عن شعبة به وقال الترمذي : حسن صحيح, وقال الحاكم : على شرط الشيخين, ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع , حدثنا الأعمش عن زيد بن وهب , عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة , عن عبد الله بن عمرو , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن با لله واليوم الاخر, ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه " .
وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا أبو معاوية , حدثنا الأعمش عن أبي سفيان , عن جابر , قال: " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن با لله عز وجل" ورواه مسلم من طريق الأعمش به. وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى , حدثنا ابن لهيعة , حدثنا أبو يونس عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه " قال إن الله قال: أنا عند ظن عبدي بي, فإن ظن بي خيراً فله, وإن ظن شراً فله", وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من وجه آخر عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي " .
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الملك القرشي , حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت وأحسبه عن أنس , قال: " كان رجل من الأنصار مريضاً, فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده, فوافقه في السوق فسلم عليه, فقال له :كيف أنت يا فلان ؟ قال: بخير يا رسول الله, أرجو الله وأخاف ذنوبي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف", ثم قال: لا نعلم رواه عن ثابت غير جعفر بن سليمان , وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديثه, ثم قال الترمذي : غريب, وقد رواه بعضهم عن ثابت مرسلاً, فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن أبي بشر , عن يوسف بن ماهك , عن حكيم بن حزام , قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أخر إلا قائماً , ورواه النسائي في سننه عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث عن شعبة به, وترجم عليه فقال (باب كيف يخر للسجود), ثم ساقه مثله فقيل: معناه أن لا أموت إلا مسلماً, وقيل: معناه أن لا أقتل إلا مقبلاً غير مدبر وهو يرجع إلى الأول.
وقوله تعالى: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" قيل "بحبل الله" أي بعهد الله, كما قال في الاية بعدها " ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس " أي بعهد وذمة, وقيل "بحبل من الله" يعني القرآن كما في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعاً في صفة القرآن هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم .
وقد ورد في ذلك حديث خاص بهذا المعنى, فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي , حدثنا أسباط بن محمد عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي عن عطية , عن أبي سعيد , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض".
وروى ابن مردويه من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري عن أبي الأحوص , عن عبد الله رضي الله عنه, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا القرآن هو حبل الله المتين, وهو النور المبين, وهو الشفاء النافع, عصمة لمن تمسك به, ونجاة لمن اتبعه", وروى من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك. وقال وكيع : حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال : قال عبد الله : إن هذا الصراط محتضر يحضره الشياطين. يا عبد الله هذا الطريق, هلم إلى الطريق فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن.
وقوله: " ولا تفرقوا " أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة, وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق, والأمر بالاجتماع والائتلاف, كما في صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح , عن أبيه , عن أبي هريرة , أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إن الله يرضى لكم ثلاثاً, ويسخط لكم ثلاثاً, يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا, وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا, وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم, ويسخط لكم ثلاثا: قيل وقال, وكثرة السؤال, وإضاعة المال" وقد ضمنت لهم العصمة عند اتفاقهم من الخطأ, كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضاً, وخيف عليهم الافتراق والاختلاف, وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة, منها فرقة ناجية إلى الجنة ومسلمة من عذاب النار, وهم الذين على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقوله تعالى: "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً" إلى آخر الاية, وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج, فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية, وعدواة شديدة وضغائن وإحن وذحول, طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم, فلما جاء الله بالإسلام, فدخل فيه من دخل منهم, صاروا إخواناً متحابين بجلال الله, متواصلين في ذات الله, متعاونين على البر والتقوى, قال الله تعالى: " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم " إلى آخر الاية, وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم, فأنقذهم الله منها أن هداهم للإيمان, وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين, فعتب من عتب منهم, بما فضل عليهم في القسم, بما أراه الله فخطبهم فقال "يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي. وكنتم متفرقين فألفكم الله بي, وعالة فأغناكم الله بي ؟ فكلما قال شيئاً قالوا: الله ورسوله أمن " . وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره: أن هذه الاية نزلت في شأن الأوس والخزرج, وذلك أن رجلاً من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج, فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة, فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب, ففعل, فلم يزل ذلك دأبه, حتى حميت نفوس القوم, وغضب بعضهم على بعض, وتثاوروا ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم وتوعدوا إلى الحرة, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم ؟ وتلا عليهم هذه الاية, فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم " . وذكر عكرمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفك, والله أعلم.
قوله 103- "واعتصموا بحبل الله جميعاً" الحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يتوصل به إلى البغية، وهو إما تمثيل أو استعارة. أمرهم سبحانه بأن يجتمعوا على التمسك بدين الإسلام أو بالقرآن، ونهاهم عن التفرق الناشئ عن الاختلاف في الدين، ثم أمرهم بأن يذكروا نعمة الله عليهم وبين لهم من هذه النعمة ما يناسب المقام، وهو أنهم كانوا أعداء مختلفين بقتل بعضهم بعضاً وينهب بعضهم بعضاً، فأصبحوا بسبب هذه النعمة إخواناً وكانوا على شفا حفرة من النار بما كانوا عليه من الكفر فأنقذهم الله من هذه الحفرة بالإسلام. ومعنى قوله "أصبحتم" صرتم، وليس المراد به معناه الأصلي: وهو الدخول في وقت الصباح، وشفا كل شيء حرفه وكذلك شفيره، وأشفى على الشيء: أشرف عليه، وهو تمثيل للحالة التي كانوا عليها في الجاهلية. وقوله "كذلك" إشارة إلى مصدر الفعل الذي بعده: أي مثل ذلك البيان البليغ يبين الله لكم. وقوله "لعلكم تهتدون" إرشاد لهم إلى الثبات على الهدى والازدياد منه.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال: مر شاس بن قيس، وكان شيخاً قد عسا في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الطعن على المسلمين، شديد الحسد لهم على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتى شاباً معه من يهود فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار، وكان يوم بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج ففعل، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعاً وقالوا: قد فعلنا، السلاح السلاح موعدكم الظاهرة، والظاهرة الحرة، فخرجوا إليها وانضمت الأوس بعضها إلى بعض والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال: يا معشر المسلمين الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم لهم، فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا، وعانق الرجال بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس، وأنزل الله في شأن شاس بن قيس وما صنع "قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون" إلى قوله "وما الله بغافل عما تعملون" وأنزل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا "يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله "وأولئك لهم عذاب عظيم" وقد رويت هذه القصة مختصرة ومطولة من طرق. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله "لم تصدون عن سبيل الله" قال: كانوا إذا سألهم أحد تجدون محمداً؟ قالوا: لا، قال: فصدوا الناس عنه وبغوا محمداً عوجا هلاكاً. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة: لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله من آمن بالله وأنتم شهداء فيما تقرأون من كتاب الله أن محمداً رسول الله، وأن الإسلام دين الله الذي لا يقبل غيره ولا يجزي إلا به يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله "ومن يعتصم بالله" قال: يؤمن به. وأخرجوا عن أبي العالية قال: الاعتصام الثقة بالله. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: "اتقوا الله حق تقاته" قال: أن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر. وقد رواه الحاكم وصححه وابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعاً بدون قوله: ويشكر فلا يكفر. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: حق تقاته أن يطاع فلا يعصى فلن تستطيعوا، فأنزل الله بعد ذلك "فاتقوا الله ما استطعتم". وأخرج عبد بن حميد عنه نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله "حق تقاته" قال: لم تنسخ ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في الله حق جهاده ولا يأخذهم في الله لومة لائم ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر والطبراني، قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود في قوله "واعتصموا بحبل الله" قال: حبل الله القرآن. وقد وردت أحاديث أن كتاب الله هو حبل الله الممدود. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: واعتصموا بحبل الله بالإخلاص لله وحده. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: بطاعته. وأخرج أيضاً عن قتادة قال: بعهده وأمره. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: بالإسلام. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله "إذ كنتم أعداء" قال: ما كان بين الأوس والخزرج في شأن عائشة. وأخرج ابن إسحاق قال: كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة، حتى قام الإسلام فأطفا الله ذلك وألف بينهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله "وكنتم على شفا حفرة من النار" يقول: كنتم على طرف النار، من مات منكم وقع في النار، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم واستنقذكم به من تلك الحفرة.
103-قوله عز وجل:" واعتصموا بحبل الله جميعاً" الحبل: السبب الذي (يتوصل) به الى البغية ، وسمي الإيمان حبلاً لأنه سبب يتوصل به الى زوال الخوف.
واختلفوا في معناه هاهنا ، قال ابن عباس : معناه تمسكوا بدين الله ، وقال ابن مسعود : هو الجماعة وقال : عليكم بالجماعة فإنها حبل الله الذي امر الله به ، وإن ماتكرهون في الجماعة والطاعة خير مما تحبون في الفرقة . وقال مجاهد وعطاء : بعهد الله ، وقال قتادة والسدي : هو القرآن ، وروى عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن هذا القرآن هو حبل الله ، وهو النور المبين ، والشفاء النافع ، وعصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن تبعة". وقال مقاتل بن حيان : بحبل الله : أي بأمر الله وطاعته ، " ولا تفرقوا " كما [افترقت ] اليهود والنصارى ، أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن احمد ابو اسحاق الهاشمي أخبرناابو مصعب عن مالك بن سهيل بن ابي صالح عن ابيه عن ابي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثاً، ويسخط لكم ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ، وأن تناصحوا من ولى الله أمركم ، ويسخط لكم : قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال".
قوله تعالى :" واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم " قال محمد بن اسحاق وابن يسار وغيره من اهل الأخبار: كانت الأوس والخزرج أخوين لأب وأم فوقعت بينهما عداوة بسبب قتيل ، فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم عشرين ومائة سنة الى ان أطفأ الله عز وجل ذلك بالإسلام وألف [بينهم] برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان سبب ألفتهم ان سويد بن الصامت أخاً بني عمرو بن عوف وكان شريفاً يسميه قومه الكامل لجلده ونسبه ، قدم مكة حاجاً او معتمراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث وأمر بالدعوة ، فتصدى له حين سمع به ودعاه الى الله عز وجل وإلى الإسلام ، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :[ وما الذي معك قال : مجلة لقمان ، يعني: حكمته ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ] اعرضها علي فعرضها ، فقال : إن هذا لكلام حسن ، معي أفضل من هذا ، قرآن أنزله الله علي نوراً وهدىً ، فتلا عليه القرآن ودعاه إلى الإسلام ، فلم [يبعد] منه وقال : إن هذا [لقول] حسن ، ثم انصرف الى المدينة فلم يلبث أن قتلته الخزرج قبل يوم بعاث ، فإن قومه ليقولون : قد قتل وهو مسلم.
ثم قدم أبو الحيسر أنس بن رافع ، ومعه / فئة من بني الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج ، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم فجلس اليهم ، فقال : هل لكم إلى خير مما جئتم له ؟ فقالوا: وما ذلك ؟ قال: أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن لا يشركوا بالله شيئاً ، وأنزل علي الكتاب ، ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً : أي قوم هذا والله خير مما جئتم له ، فأخذ أبو الحيسر حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس وقال: دعنا منك فلعمري لقد جئنا لغير هذا ، فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا الى المدينة ، وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخرزرج ، ثم لم يلبث إياس بن معاذ ان هلك.
فلما أراد لله عز وجل إظهار دينه واعزاز نبيه خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم ، فلقي عند العقبة رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً، وهم ستة نفر: أسعد بن زرارة ، وعوف بن الحارث وهو ابن عفراء ، ورافع ابن مالك العجلان ، وقطبة بن عامر بن حديدة ، وعقبة بن عامر بن نابي ، وجابر بن عبد الله ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أنتم ؟ قالوا: نفر من الخزرج، قال : أمن موالي يهود؟ قالوا : نعم: قال : أفلا تجلسون حتى أكلمكم ؟ قالوا : بلى ، فجلسوا معه فدعاهم الى الله عز وجل وعرض علهيم الإسلام وتلا عليهم القرآن .
قالوا : وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهوداً كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا اهل كتاب وعلم وهم كانوا اهل اوثان وشرك ، وكانوا اذا كان منهم شئ قالوا: إن نبياً الآن مبعوث قد أظل زمانه ، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما كلم رسول الله أولئك النفر ودعاهم الى الله عز وجل قال بعضهم لبعض : ياقوم تعلمون والله انه النبي الذي توعدكم به يهود ، فلا يسبقنكم اليه ، فأجابوه وصدقوه وأسلموا وقالوا : إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر مابينهم ، وعسى الله ان يجمعهم بك وسنقدم عليهم فندعوهم الى أمرك ، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك.
ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين الى بلادهم قد آمنوا به صلى الله عليه وسلم ، فلما قدموا المدينة ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم الى الإسلام ، حتى فشا فيهم فلم يبق دار من دور الأنصار الا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً وهم : أسعد بن زرارة ،وعوف ومعاذ ابنا عفراء ورافع بن مالك بن العجلان ، وذكوان بن عبد القيس ، وعبادة بن الصامت ، ويزيد بن ثعلبة ، وعباس بن عبادة ، وعقبة بن عامر ، وقطبة بن عامر ، وهؤلاء خزرجيون وابو الهيثم بن التيهان وعويمر بن ساعدة من الأوس ، فلقوه بالعقبة وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء،على أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا، إلى آخر الآيه ، فإن وفيتم فلكم الجنة ، وان غشيتم شيئاً من ذلك فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له ، وإن ستر عليكم فأمركم الى الله إن شاء عذبكم وإن شاء غفر لكم ، قال: وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب.
قال : فلما انصرف القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف ، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الاسلام ويفقههم في الدين ، وكان مصعب يسمى بالمدينة المقرئ وكان منزله على أسعد بن زرارة ، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر ، فجلسا في الحائط واجتمع اليهما رجال ممن أسلم ، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: انطلق الى هذين الرجلين اللذين قد أيا دارنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما ، فإن أسعد بن زرارة ابن خالتي ولولا ذاك لكفيتكه ، وكان سعد بن معاذ واسيد بن حضير سيدي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان ، فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل الى مصعب وأسعد وهما جالسان في الحائط ، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك ، فاصدق وأسعد وهما جالسان في الحائط ، فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب : هذا سيد قومه قد جاءك ، فاصدق الله فيه ، قال مصعب : إن يجلس أكلمه ، قال : فوقف عليهما متشتماً ، فقال: ما جاء بكما الينا تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلا ان كانت لكما في أنفسكما حاجة ، فقال له مصعب : او تجلس فتسمع ؟ فإن رضيت امراً قبلته وأن كرهته كف عنك ماتكره ، قال : أنصفت ، ثم ركز حربته وجلس اليهما ، فكلمة مصعب بالإسلام وقرا عليه القرآن ، فقالا والله لعرفنا في وجهة الاسلام قبل ان يتكلم به ، في إشراقة وتسهله ، ثم قال : ماأحسن هذا الكلام وأجمله كيف تصنعون اذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين ؟ قالا له : تغتسل وتطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ، ( ثم تصلي ركعتين ، فقام فاغتسل وطهر ثوبيه ، وشهد شهادة الحق ) ثم قام وركع ركعتين ، ثم قال لهما : إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه وسأرسله اليكما الآن ، سعد بن معاذ ، ثم اخذ حربته فانصرف الى سعد وقومه ، وهم جلوس في ناديهم ، فلما نظر اليه سعد بن معاذ مقبلاً قال : أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب من عندكم ، فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت ؟ قال : كلمت الرجلين فوالله مارأيت بهما بأساً وقد نهيتهما ، فقالا : فافعل ما أحببت ، وقد حدثت أن بني حارثة خرجو ا الى اسعد بن زرارة ليقتلوه ، وذلك انهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك فقام سعد (مغضباً) مبادراً للذي ذكر له من بني حارثة ، فأخذ الحربة ، ثم قال : والله ماأراك أغنيت شيئاً فلما رأهما مطمئنين عرف ان اسيداً إنما أراد ان يسمع منهما فوقف عليهما متشتماً ، ثم قال لأسعد بن زرارة: لولا مابيني وبينك من القرابة مارمت هذا مني ، تغشانا في دارنا بما نكره وقد قال أسعد لمصعب : جاءك والله سيد قومه ، إن يتبعك لم يخالفك منهم احد ، فقال له مصعب : أو تقعد فتسمع فإن رضيت امراً ورغبت فيه قبلته ، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ، قال سعد : انصفت ، ثم ركز الحربة وجلس ، فعرض عليه الإسلام وقرأ عليه القرآن : قالا:/ فعرفنا والله في وجهة الإسلام : قبل أن يتكلم به في اشراقه وتسهله ،ثم تشهد شهادة الحق ثم (تصلي) ركعتين ، فقام واغتسل وطهر ثوبيه وشهد شهادة الحق وركع ركعتين ، ثم أخذ حربته فأقبل عامداً الى نادي قومه ومعه اسيد بن خضير ، فلما رآه قومه مقبلاً قالوا: نحلف بالله لقد رجع سعد اليكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ، فلما وقف عليهم قال: يابني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا : سيدنا وأفضلنا رأياً وأيمننا نقيبة قال : فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله ، قال : فما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة الا مسلم او مسلمة ، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب الى منزل أسعد بن زرارة ، فأقام عنده يدعو الناس الى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الانصار الا وفيها رجال مسلمون ونساء مسلمات الا ماكان من دار بني امية بن زيد وخطمة ووائل ووافق وذلك انه كان فيهم ابو قيس بن الأسلت الشاعر، وكانوا يسمعون منه ويطيعونه فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم الى المدينة ، ومضى بدر وأحد والخندق.
قالوا : ثم ان مصعب بن عمير رجع الى مكة وخرج معه من الأنصار من المسلمين سبعون رجلاً مع حجاج قومهم من اهل الشرك حتى قدموا مكة فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة من اوسط أيام التشريق وهي بيعة العقبة الثانية .
قال كعب بن مالك - وكان قد شهد ذلك - فلما فرغنا من الحج ، وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام او جابر اخبرناه وكنا نكتم عمن معنا من المشركين من قومنا أمرنا فكلمناه ، وقلنا له : يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه ان تكون حطباً للنار غداً ، ودعوناه الى الإسلام فأسلم ، وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة ، وكان نقيباً ، فبتنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى اذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل مستخفين تسلل القطا ، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ، ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا نسيبة بنت كعب أم عمارة احدى نساء بني النجار، وإسماء بنت عمرو بن عدي أم منيع احدى نساء بني سلمة ، فاجتمعنا بالشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى جاءنا ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، وهو يومئذ على دين قومه الا انه احب ان يحضر امر ابن أخيه ، ويتوثق له ، فما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد الملطب ، فقال : يامعشر الخزرج - وكانت العرب يسمون هذا الحي من الأنصار الخزرج خزرجها وأوسها - إن محمداً صلى الله عليه وسلم منا حيث قد علمتم وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا وهو في عز من قومه ومنعه في بلدة ، وأنه قد أبى الا الانقطاع اليكم واللحوق بكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه ومانعوه ممن خالفه ، فأنتم وما تحملتم من ذلك وان كنتم ترون انكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج اليكم فمن الآن فدعوه ، فإنه في عز ومنعة .
قال : فقلنا قد سمعنا ما قلت : فتكلم يارسول الله وخذ لنفسك ولربك ماشئت.
قال : فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا القرآن ودعا الى الله تعالى ورغب في الاسلام ، ثم قال أبايعكم على ان تمنعوني ممما تمنعون منه (انفسكم ونساءكم) وأبناءكم ، قال : فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : والذي بعثك بالحق نبياً لنمنعك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يارسول الله ، فنحن أهل الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر.
قال( فاعترض ) القول- والبراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم - ابو الهيثم بن التيهان ، فقال : يارسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً يعني العهود ، وأنا قاطعوها فهل عسيت ان فعلنا نحن ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع الى قومك وتدعنا ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: الدم الدم والهدم والهدم ، أنتم مني وأنا منكم أحارب من حاربتم وأسلم من سالمتم .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخرجوا إلي منكم اثنى عشر نقيباً كفلاء على قومهم بما فيهم ن ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم فاخرجو اثنى عشر نقيباً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
قال عاصم بن عمرو بن قتادة : ان القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضله النصاري: يامعشر الخزرج هل تدرون علاماً تبايعون هذا الرجل؟ انكم تبايعونه على حرب الحمر والأسود ، فإن كنتم ترون أنكم اذا نهكت اموالكم مصيبة واشرافكم قتلى اسلمتموه ، فمن الآن ، فهو والله ان فعلتم خزي في الدنيا والآخرة ، وان كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه اليه على تهلكة الاموال وقتل الأشراف فخذوه فهو والله خير الدينا والآخرة.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يارسول الله إن نحن وفينا ؟ قال: الجنة قال: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه ن وأول من ضرب على يده البراء بن معرور ، ثم تتابع القوم ، فلما بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صرح الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت ماسمعته قط : ياأهل الجباجب هل لكم في مذمم والصباة قد اجتمعوا على حربكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عدو الله هذا أزب العقبة ، اسمع أي عدو الله أما والله لأفرغن لك ن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارفضوا إلى رحالكم .
فقال العباس بن عبادة بن نضلة : والذي بعثك بالحق لئن شئت (لنميلن) غداً على اهل منى باسيافنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :لم نؤمر بذلك ولكن ارجعوا إلى رحالكم .
قال فرجعنا الى مضاجعنا فنمنا عليها حتى أصبحنا فلما أصبحنا غدت علينا جلة قريش حتى جاؤونا في منازلنا ن فقالوا : يامعشر الخزرج بلغنا انكم جئتم صاحبنا هذا تستخرجونه من بين اظهرنا .وتبايعونه على حربنا ، وإنه والله ماحي من العرب أبغض الينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم (منكم). قال : فانبعث من هناك من مشركي قومنا يحلفون لهم بالله : ماكان من هذا شئ ومعلمناه . وصدقوا. ولم يعلموا ، وبعضنا ينظر إلى بعض ، وقام القوم وفيهم الحرث بن هشام بن المغيرة (المخزومي) وعليه نعلان جديدان ، قال فقلت له كلمة كأني أريد أن / أشرك القوم بها فيما قالوا ياجابر أما تستطيع ان تتخذ وأنت سيد من ساداتنا مثل نعلي هذا الفتى من قريش ، قال فسمعها الحراث فخلعهما من رجليه ثم رمى بهما الي وقال : والله لتنتعلنهما قال يقول أبو جابر رضي الله عنه : مه ، والله احفظت الفتى فاردد اليه نعليه ، قال: لا أردهما فأل - والله - صالح ، والله لئن صدق الفأل (لأسلبنه).
قال : ثم أنصرف الأنصار الى المدينة قد شددوا العقد ، فلما قدموها أظهروا الإسلام بها وبلغ ذلك قريشاً فآذوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :إن الله تعالى قد جعل لكم اخواناً وداراً تأمنون فيها فأمرهم بالهجرة الى المدينة واللحوق بإخوانهم من الأنصار.
فاول من هاجر الى المدينة أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، ثم عامر بن ربيعة ثم عبد الله بن جحش ثم تتابع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً الى المدينة فجمع الله أهل المدينة أوسها وخزرجها بالإسلام ، وأصلح ذات بينهم نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
قال الله تعالى :" واذكروا نعمة الله عليكم " يامعشر النصار" إذ كنتم أعداء" قبل الاسلام" فألف بين قلوبكم " بالإسلام ،" فأصبحتم" ، أي فصرتم ،" بنعمته " ، برحمته وبدينه الإسلام " إخواناً " في الدين والولاية بينكم . " وكنتم" يامعشر الأوس والخزرج " على شفا حفرة من النار" أي على طرف حفرة مثل شفا البئر، معناه : كنتم على طرف حفرة من النار ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا ان تموتوا على كفركم ، " فأنقذكم " الله "منها" بالإيمان ، " كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون".
103"واعتصموا بحبل الله جميعاً" بدين الإسلام، أو بكتابه لقوله عليه السلام: "القرآن حبل الله المتين". استعار له الحبل من حيث إن التمسك به سبب للنجاة من الردي، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردي والوثوق به والاعتماد عليه الاعتصام ترشيحاً للمجاز. "جميعاً" مجتمعين عليه " ولا تفرقوا " أي ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب، أو لا تتفرقوا تفرقكم في الجاهلية يحارب بعضكم بعضاً، أو لا تذكروا ما يوجب التفرق ويزيل الألفة. "واذكروا نعمة الله عليكم" التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الغل. "إذ كنتم أعداءً" في الجاهلية متقاتلين. "فألف بين قلوبكم" بالإسلام. "فأصبحتم بنعمته إخواناً" متحابين مجتمعين على الأخوة في الله. وقيل كان الأوس والخزرج أخوين فوقع بين أولادهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الله بالإسلام وألف بينهم برسوله صلى الله عليه وسلم. " وكنتم على شفا حفرة من النار " مشفين على الوقوع في نار جهنم لكفركم، إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم في النار. "فأنقذكم منها" بالإسلام، والضمير للحفرة، أو للنار، أو للشفا. وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها طرفها كالجانب والجانبة، وأصله شفو فقلبت الواو ألفاً في المذكر وحذفت في المؤنث. "كذلك" مثل ذلك التبيين. "يبين الله لكم آياته" دلائله. " لعلكم تهتدون " إرادة ثباتكم على الهدى وازديادكم فيه.
103. And hold fast, all of you together, to the cable of Allah, and do not separate. And remember Allah's favor unto you: how ye were enemies and He made friendship between your hearts so that ye became as brothers by His grace; and (how) ye were upon the brink of an abyss of fire, and He did save you from it. Thus Allah maketh clear His revelations unto you, that haply ye may be guided,
103 - And hold fast, all together, by the rope which God (stretches out for you), and be not divided among yourselves; and remember with gratitude God's favour on you; for ye were enemies and he joined your hearts in love, so that by his grace, ye became brethren; and ye were on the brink of the pit of fire, and he saved you from it. thus doth God make his signs clear to you: that ye may be guided.