(يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) أي يوم القيامة (فأما الذين اسودت وجوههم) وهم الكافرون فيلقون في النار ويقال لهم توبيخا (أكفرتم بعد إيمانكم) يوم أخذ الميثاق (فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.
وأما قوله : "فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم"، فإن معناه : فأما الذين اسودت وجوههم ، فيقال لهم : "أكفرتم بعد إيمانكم ؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون". ولا بد لـ أما من جواب بالفاء، فلما أسقط الجواب سقطت الفاء معه . وإنما جاز ترك ذكر فيقال ، لدلالة ما ذكر من الكلام عليه.
وأما معنى قوله جل ثناؤه : "أكفرتم بعد إيمانكم"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عني به.
فقال بعضهم : عني به أهل قبلتنا من المسلمين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، الآية، لقد كفر أقوام بعد إيمانهم كما تسمعون . ولقد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "والذي نفس محمد بيده ، ليردن على الحوض ممن صحبني أقوام ، حتى إذا رفعوا إلي ورأيتهم ، اختلجوا دوني ، فلأقولن : رب ! أصحابي ! أصحابي ! فليقالن : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!"، وقوله : "وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله"، هؤلاء أهل طاعة الله ، والوفاء بعهد الله ، قال الله عز وجل : "ففي رحمة الله هم فيها خالدون".
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا.
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن حماد بن سلمة والربيع بن صبيح ، عن أبي مجالد، عن أبي أمامة : "فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم"، قال : هم الخوارج.
وقال آخرون : عني بذلك : كل من كفر بالله بعد الإيمان الذي آمن ، حين أخذ الله من صلب آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بما بين في كتابه.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا علي بن الهيثم قال ، أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب في قوله : "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، قال : صاروا يوم القيامة فريقين ، فقال لمن اسود وجهه ، وعيرهم : "أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، قال : هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم ، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم ، وأقروا كلهم بالعبودية، وفطرهم على الإسلام ، فكانوا أمة واحدة مسلمين . يقول : "أكفرتم بعد إيمانكم"، يقول : بعد ذلك الذي كان في زمان آدم. وقال في الآخرين : الذين استقاموا على إيمانهم ذلك ، فأخلصوا له الدين والعمل ، فبيض الله وجوههم ، وأدخلهم في رضوانه وجنته.
وقال آخرون : بل الذين عنوا بقوله : "أكفرتم بعد إيمانكم"، المنافقون.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، عن عباد، عن الحسن : "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، الآية ، قال : هم المنافقون ، كانوا أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم ، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها زي ذلك بالصواب ، القول الذي ذكرناه عن أبي بن كعب أنه عني بذلك جميع الكفار، وأن الإيمان الذي يوبخون على ارتدادهم عنه ، هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم : "ألست بربكم قالوا بلى شهدنا" [الأعراف: 172].
وذلك أن الله جل ثناؤه جعل جميع أهل الآخرة فريقين : أحدهما سوداً وجوهه ، والآخر بيضاً وجوهه . فمعلوم - إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان - أن جميع الكفار داخلون في فريق من سود وجهه ، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بيض وجهه . فلا وجه إذا لقول القائل : عني بقوله : "أكفرتم بعد إيمانكم"، بعض الكفار دون بعض ، وقد عم الله جل ثناؤه الخبر عنهم جميعهم . وإذا دخل جميعهم في ذلك ، ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ثم ارتدوا كافرين بعد إلا حالة واحدة، كان معلوما أنها المرادة بذلك.
فتأويل الآية إذا: أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه قوم وتسود وجوه آخرين . فأما الذين اسودت وجوههم ، فيقال : أجحدتم توحيد الله وعهده وميثاقه الذي واثقتموه عليه ، بأن لا تشركوا به شيئاً، وتخلصوا له العبادة - بعد إيمانكم ، يعني : بعد تصديقكم به؟ -"فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، يقول : بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالإقرار به والتصديق.
فيه ثلاث مسائل :
الأولى :قوله تعالى : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة . ويقال : إن ذلك عند قراءة الكتاب ، إذا قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيض وجهه ، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته أسود وجهه . ويقال : إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه ، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه . ويقال : ذلك عند قوله تعالى : " وامتازوا اليوم أيها المجرمون " [ يس : 59 ] . ويقال : إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده ، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم ، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون ، فيقول الله تعالى للمؤمنين : < من ربكم > ؟ فيقولون : ربنا الله عز وجل . فيقول لهم : < أتعرفونه إذا رأيتموه > . فيقولون : سبحانه ! إذا رأيناه عرفناه . فيرونه كما شاء الله . فيخر المؤمنون سجداً لله تعالى ، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضاً ، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسود وجوههم ، وذلك قوله تعالى : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " . ويجوز < تبيض وتسود > بكسر التاءين ، لأنك تقول : ابيضت ، فتكسر التاء كما تكسر الألف ، وهي لغة تميم وبها قرأ يحيى بن وثاب . وقرأ الزهري < يوم تبياض وتسواد > ويجوز كسر التاء أيضاً ، ويجوز < يوم يبيض وجوه > بالياء على تذكير الجمع ، ويجوز < أجوه > مثل < أقتت > . وابيضاض الوجوه إشراقها بالنعيم . واسودادها هو ما يرهقها من العذاب الأليم .
الثانية : واختلفوا في التعيين ، فقال ابن عباس : تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة .
قلت : " وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله الله تعالى : " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " قال : يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة " ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب .وقال فيه منكر من حديث مالك . قال عطاء : تبيض وجوه المهاجرين والأنصار وتسود وجوه بني قريظة والنضير وقال أبي بن كعب : الذي اسودت وجوههم هم الكفار ، وقيل لهم : أكفرتم بعد إيمانكم لأقراركم حين أخرجتم من ظهر آدم كالذر . هذا اختيار الطبري . الحسن : الآية في المنافقين . قتادة : هي في المرتدين . عكرمة : هم قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث عليه السلام كفروا به ، فذلك قوله : " أكفرتم بعد إيمانكم " . وهو اختيار الزجاج . مالك بن أنس : هي في أهل الأهواء . " أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم هي في الحرورية " وفي خبر آخر أنه " عليه السلام قال : هي في القدرية . " روى الترمذي عن أبي غالب قال أمامة : كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء ، خير قتلى من قتلوه - ثم قرأ - " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " إلى آخر الآية . قلت لأبي أمامة : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً - حتى عد سبعاً - ما حدثتكموه . قال هذا حديث حسن . " وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنى فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم " قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال : أهكذا سمعت من سهل بن سعد ؟ فقلت : نعم فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : < فأقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً لمن غير بعدي > . " وعن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون على الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى " والأحاديث في هذا المعنى كثيرة . فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله ما لايرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتعدين منه المسودي الوجوه ، وأشدهم طرداً وإبعاداً من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم ، كالخوارج على اختلاف فرقها ، والروافض على تباين ظلالها ، والمعتزلة على أصناف أهواءها ، فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون ، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم ، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي ، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع ، كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية ، والخبر كما بينا ، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان . وقد قال ابن القاسم : وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء . وكان يقول : تمام الإخلاص تجنب المعاصي .
الثالثة : قوله تعالى : " فأما الذين اسودت وجوههم " في الكلام حذف ، أي فيقال لهم " أكفرتم بعد إيمانكم " يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى . ويقال : هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به . وقال أبو العالية : هذا للمنافقين ، يقال : أكفرتم في السر بعد أقراركم في العلانية . وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جوار < أما > لأن المعنى في قولك < أما زيد فمنطلق ، مهما يكن من شيء فزيد منطلق > .
يقول تعالى: "ولتكن منكم أمة" منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, "وأولئك هم المفلحون", قال الضحاك : هم خاصة الصحابة وخاصة الرواة, يعني المجاهدين والعلماء. وقال أبو جعفر الباقر : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير" ثم قال "الخير اتباع القرآن وسنتي" رواه ابن مردويه . والمقصود من هذه الاية, أن تكون فرقة من هذه الأمةمتصدية لهذا الشأن, وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه, كما ثبت في صحيح مسلم , عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرأً فيلغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" وفي رواية: " وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان الهاشمي , أنبأنا إسماعيل بن جعفر , أخبرني عمرو بن أبي عمرو , عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي , عن حذيفة بن اليمان , أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده, لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر, أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده, ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم" ورواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمرو بن أبي عمرو به, وقال الترمذي : حسن, والأحاديث في هذا الباب كثيرة, مع الايات الكريمة, كما سيأتي تفسيرها في أماكنها, ثم قال تعالى: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" الاية, ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر, مع قيام الحجة عليهم.
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة , حدثنا صفوان , حدثني أزهر بن عبد الله الهوزني , عن أبي عامر عبد الله بن لحي , قال: حججنا مع معاوية بن أبي سفيان فلما قدمنا مكة, قام حين صلى الظهر, فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة, وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاثة وسبعين ملة ـ يعني الأهواء ـ كلها في النار إلا واحدة ـ وهي الجماعة ـ وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه, لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله يا معشر العرب, لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم صلى الله عليه وسلم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به " , وهكذا رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى , كلاهما عن أبي المغيرة واسمه عبد القدوس بن الحجاج الشامي به, وقد ورد هذا الحديث من طرق.
وقوله تعالى: "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" يعني يوم القيامة, حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة, وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة قاله ابن عباس رضي الله عنهما, "فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم" قال الحسن البصري : وهم المنافقون "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون" وهذا الوصف يعم كل كافر "وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون" يعني الجنة ماكثون فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً, وقد قال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الاية: حدثنا أبو كريب , حدثنا وكيع عن ربيع بن صبيح وحماد بن سلمة , عن أبي غالب , قال: رأى أبو أمامة رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق, فقال أبو أمامة , كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه, ثم قرأ " يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" إلى آخر الأية, قلت لأبي أمامة : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟: قال: لو لم أسمعه إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعاً ـ حتى عد سبعاً ـ ما حدثتكموه, ثم قال: هذا حديث حسن, وقد رواه ابن ماجه من حديث سفيان بن عيينة عن أبي غالب وأخرجه أحمد في مسنده عن عبد الرزاق , عن معمر , عن أبي غالب بنحوه.
وقد روى ابن مردويه عند تفسير هذه الاية عن أبي ذر حديثاً مطولاً غريباً عجيباً جداً, ثم قال تعالى: "تلك آيات الله نتلوها عليك" أي هذه آيات الله وحججه وبيناته نتلوها عليك يا محمد "بالحق" أي نكشف ما الأمر عليه في الدنيا والاخرة "وما الله يريد ظلماً للعالمين" أي ليس بظالم لهم بل هو الحكم, العدل الذي لا يجور, لأنه القادر على كل شيء, العالم بكل شيء, فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحداً من خلقه, ولهذا قال تعالى: "ولله ما في السموات وما في الأرض" أي الجميع ملك له وعبيد له "وإلى الله ترجع الأمور" أي هو الحاكم المتصرف في الدنيا والاخرة.
وقوله 106- "يوم تبيض وجوه" منتصب بفعل مضمر: أي اذكر، وقيل: بما دل عليه قوله "لهم عذاب عظيم" فإن تقديره استقر لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه، أي: يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة. ويقال: إن ذلك عند قراءة الكتاب إذا قرأ المؤمن كتابه رأى حسناته فاستبشر وابيض وجهه، وإذا قرأ الكافر كتابه رأى سيئاته فحزن واسود وجهه. والتنكير في وجوه للكثير: أي وجوه كثيرة. وقرأ يحيى بن وثاب تبيض وتسود بكسر التاءين. وقرأ الزهري تبياض وتسواد. قوله: "أكفرتم" أي: فيقال لهم: أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم، وهذا تفصيل لأحوال الفريقين بعد الإجمال، وقدم بيان حال الكافرين لكون المقام مقام تحذير وترهيب، قيل: هم أهل الكتاب، وقيل: المرتدون، وقيل: المنافقون، وقيل: المبتدعون.
106-"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه "، "يوم" نصب على الظرف ، أي : في يوم ، وانتصاب الظرف على التشبية بالمفعول ، يريد: تبيض وجوه المؤمنين وتسود وجوه الكافرين وقيل: تبيض وجوه المخلصين وتسود وجوه المنافقين .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ هذه الآية قال تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة.
قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس اذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم ماكانوا يعبدونه ، فيسعى كل قوم الى ماكنوا يعبدون ، وهو قوله تعالى :" نوله ما تولى " (النساء -115) فإذا انتهوا اليه حزنوا فتسود وجوههم من الحزن ، وبقى أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئاً مما رفع لهم ، فيأتيهم الله فيسجد له من كان يسجد في الدنيا مطيعاً مؤمناً ويبقى اهل الكتاب والمنافقون لا يستطيعون السجود، ثم يؤذن لهم فيرفعون رؤوسهم ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضاً والمنافقون وأهل الكتاب اذا نظروا الى وجوه المؤمنين حزنوا حزناً شديداً فاسودت وجوههم ، فيقولون : ربنا مالنا مسودة وجوهنا فو الله ماكنا مشركين؟ فيقول الله للملائكة :" انظر كيف كذبوا على أنفسهم ".
قال اهل المعاني: ابيضاض الوجوه: اشراقها واستبشارها وسرورها بعملها وبثواب الله ، واسودادها: حزنها وكآبتها وكسوفها بعملها وبعذاب الله ، يدل عليه قوله تعالى :"للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة "(يونس-26) وقال تعالى :"والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة "/(يونس-27) وقال:" وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة " ( القيامة -22-24) وقال " وجوه يومئذ مسفرة * ضاحكة مستبشرة * ووجوه يومئذ عليها غبرة "(عبس 37-40) .
"فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " ، معناه : يقال لهم : اكفرتم بعد إيمانكم ؟ "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون".
فإن قيل : كيف قال : اكفرتم بعد إيمانكم ، وهم لم يكونوا مؤمنين ؟ حكي عن ابي بن كعب انه اراد به : الأيمان يوم الميثاق، حين قال لهم : ألست بربكم ؟ قالوا: يقول : أكفرتم بعد إيمانكم يوم الميثاق؟ وقال الحسن : هم المنافقون تكلموا بالأيمان بألسنتهم ، وانكروا بقلوبهم .
وعن عكرمة : أنهم اهل الكتاب، آمنوا بانبيائنم وبمحمد صلى الله عليه وسلم قبل ان يبعث ، فلما بعث كفروا به .
وقال قوم : هم من أهل قبلتنا ، وقال ابو أمامة : هم الخوارج ، وقال قتادة: هم اهل البدع .
اخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحيأخبرنااحمد بن عبد الله النعيمي ،أخبرنامحمد بن يوسف أنامحمد بن اسماعيلأناسعيد بن ابي مريم عننافع بن عمر حدثني ابن ابي مليكة عن اسماء بنت ابي بكر ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"اني فرطكم على الحوض حتى أنظر من يرد علي منكم وسيؤخذ ناس دوني، فأقول : يارب مني ومن أمتي ، فيقال لي هل شعرت ماعملوا بعدك؟ والله مابرحوا يرجعون على أعقابهم".
وقال الحارث الأعور:سمعت علياً رضي الله عنه على المنبر يقول : ان الرجل ليخرج من اهله فما يؤوب اليهم حتى يعمل عملاً يستوجب به الجنة ، وإن الرجل ليخرج من اهله فما يعود اليهم حتى يعمل عملاً يستوجب به النار ، ثم قرأ "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" الآية ، ثم نادى: هم الذين كفروا بعد الأيمان - ورب الكعبة .
أخبرنا ابو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أخبرنا ابو الحسن الطيسفونيأناعبد الله بن عمر الجوهريأخبرنااحمد بن علي الكشميهني أناعلي بن حجر أنااسماعيل بن جعفر عنالعلاء بن عبد الرحمن عن ابية عن ابي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً ، يبيع دينه بعرض من الدنيا ".
106"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" نصب بما في لهم من معنى الفعل، أو بإضمار اذكر. وبياض الوجوه سواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور وكآبة الخوف فيه. وقيل يوسم أهل الحق ببياض الوجوه والصحيفة وإشراق البشرة وسعي النور بين بيديه وبيمينه، وأهل الباطل بأضداد ذلك. " فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم " على إرادة القول أي يقل لهم أكفرتم، والهمزة للتوبيخ والتعجب من حالهم، وهم المرتدون أو أهل الكتاب كفروا بالرسول صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم به قبل مبعثه، أو جميع الكفار كفروا بعدما أقروا به حين أشهدهم على أنفسهم أو تمكنوا من الإيمان بالنظر في الدلائل والآيات. "فذوقوا العذاب" أمر إهانة. "بما كنتم تكفرون" بسبب كفركم أو جزاء لكفركم.
106. On the day when (some) faces will be whitened and (some) faces will be blackened; and as for those whose faces have been blackened, it will be said unto them: Disbelieved ye after your (profession of) belief? Then taste the punishment for that ye disbelieved.
106 - On the day when some faces will be (lit up with) white, and some faces will be (in the gloom of) black: to those whose faces will be black, (will be said): did you reject faith after accepting it? taste then the penalty for rejecting faith,