(ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض) يفعل ما يشاء (وما لكم من دون الله) من غيره (من) زائدة (ولي) يحفظكم (ولا نصير) يمنع عذابه إن أتاكم ، ونزل لما سأله أهل مكة أن يوسعها ويجعل الصفا ذهباً
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "ما ننسخ من آية": ما ننقل من حكم آية، إلى غيره فنبدله ونغيره. وذلك أن يحول الحلال حرامًا، والحرام حلالاً، والمباح محظورًا، والمحظور مباحًا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة، فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.
وأصل النسخ من نسخ الكتاب، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها. فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها. فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية، فسواء إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها، ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها اقر خطها فترك، أو محي أثرها فعفي ونسي، إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة، والحكم الحادث، المبدل به الحكم الأول، والمنقول إليه فرض العباد، هو الناسخ. يقال منه: نسخ الله آية كذا وكذا ينسخها نسخاً والنسخة الأسم. وبمثل الذي قلناه في ذلك كان الحسن البصري يقول:حدثنا سوار بن عبدالله العنبري قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها"، قال: إن نبيكم أقرىء قرآنا، ثم نسيه فلم يكن شيئًا، ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرأونه.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في قوله: "ما ننسخ ". فقال بعضهم بما: حدثني به موسى بن هرون قال، حدثنا عمروبن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ما ننسخ من آية"، أما نسخها، فقبضها.
وقال آخرون بما:حدثني به المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "ما ننسخ من آية"، يقول: ما نبدل من آية.
وقال آخرون بما:حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أصحاب عبدالله بن مسعود أنهم قالوا: "ما ننسخ من آية"، نثبت خطها، ونبدل حكمها.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ما ننسخ من آية "، نثبت خطها، ونبدل حكمها. حدثت به عن أصحاب ابن مسعود.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثني بكر بن شوذب، عن ابن أبي نجيح،عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود: "ما ننسخ من آية " نثبت خطها، ونبدل حكمها.
القول في تأويل قوله: "أو ننسها".
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قوله ذلك. فقرأها أهل المدينة والكوفة: "أو ننسها". ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل.
أحدهما، أن يكون تأويله: ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها. وقد ذكر أنها في مصحف عبدالله: ما ننسك من آية أو ننسخها نجىء بمثلها، فذلك تأويل: النسيان . وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"، كان ينسخ الآية بالآية بعدها، ويقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك، ثم تنسى وترفع.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها"، قال: كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء، وينسخ ما شاء.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: "ننسها"، نرفعها من عندكم.
حدثنا سوار بن عبدالله قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال: في قوله: "أو ننسها"، قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرىء قرآناً ثم نسيه.
وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأول الآية، إلا أنه كان يقرؤها: ( أو تنسها) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه عنى: أو تنسها أنت يا محمد. ذكر الأخبار بذلك:حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يعلى بن عطاء، عن القاسم ابن ربيعة قال، سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: ( ما ننسخ من آية أو تنسها)، قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرؤها: (أو تنسها )، قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب! قال الله:"سنقرئك فلا تنسى" ( الأعلى: 6) " واذكر ربك إذا نسيت" ( الكهف24)
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم قال، حدثنا يعلى بن عطاء قال، حدثنا القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي قال، سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه.
حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعًا، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء قال، سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول: قلت لسعد بن أبي وقاص: إني سمعت ابن المسيب يقرأ: (ما ننسخ من آية أو تنسها) فقال سعد: إن الله لم ينزل القرآن على المسيب ولا على ابنه! إنما هي: (ما ننسخ من آية أو تنسها) يا محمد. ثم قرأ: "سنقرئك فلا تنسى" و "اذكر ربك إذا نسيت".
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها"، يقول: "ننسها" نرفعها. وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورًا من القرآن ثم رفعها.
والوجه الآخر منهما، أن يكون بمعنى الترك من قول الله جل ثناؤه: "نسوا الله فنسيهم"( التوبة: 67)، يعني به: تركوا الله فتركهم. فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل: ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها، نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها. وعلى هذا التأويل تأوله جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: "أو ننسها"، يقول: أو نتركها لا نبدلها.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "أو ننسها"، نتركها لا ننسخها.
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها"، قال: الناسخ والمنسوخ.
قال أبو جعفر: وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما: حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ننسها"، نمحها.
وقرأ ذلك آخرون: (أو ننساها) بفتح النون وهمزة بعد السين، بمعنى: نؤخرها، من قولك: نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأ ونساءً، إذا أخرته. وهو من قولهم: بعته بنساء، يعني بتأخير، ومن ذلك قول طرفة بن العبد:
لعمرك إن الموت ما انسأ الفتى لكالطول المرخى وثنياه باليد
يعني بقوله: أنسأ، أخر.
وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين، وتأوله كذلك جماعة من أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال أخبرنا عبد الملك عن عطاء في قوله: (ما ننسخ من آية أو ننسأها)، قال: نؤخرها.
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله: (أو ننسأها)، قال: نرجئها.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثناشبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو ننسأها)، نرجئها ونؤخرها.
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا فضيل، عن عطية: (أو ننسأها)، قال: نؤخرها فلا ننسخها.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال. أخبرني عبدالله بن كثير، عن عبيد الأزدي، عن عبيد بن عمير: (أو ننسأها)، إرجاؤها وتأخيرها.
هكذا حدثنا القاسم، عن عبدالله بن كثير، عن عبيد الأزدي، وإنما هو عن علي الأزدي .
حدثني أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبدالله بن كثير، عن علي الأزدي، عن عبيد بن عمير أنه قرأها: (ننسأها).
قال أبو جعفر: فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدل من آية أنزلناها إليك يا محمد، فنبطل حكمها ونثبت خطها، أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها، نأت بخير منها أو مثلها.
وقد قرأ بعضهم ذلك: (ما ننسخ من آية أو تنسها). وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ: "أو ننسها"، إلا أن معنى (أو تنسها)، أنت يا محمد.
وقد قرأ بعضهم: "ما ننسخ من آية"، بضم النون وكسر السين، بمعنى: ما ننسخك يا محمد نحن من آية من أنسختك فأنا انسخك. وذلك خطأ من القراءة عندنا، لخروجه عما جاءت به الحجة من القرأة بالنقل المستفيض. وكذلك قراءة من قرأ (تنسها) أو (تنسها)، لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة.
وأولى القرا آت في قوله: "أو ننسها" بالصواب، من قرأ "أو ننسها" بمعنى: نتركها. لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكمًا أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره، فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية، إذ كان ذلك معناها، أن يكون إذ قدم الخبر عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع إذ هو لم يبدل ذلك ولم يغير. فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله: "ما ننسخ من آية" قوله: أو نترك نسخها، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرىء كذلك بالمعنى الذي وصفت، فهو يشتمل على معنى الإنساء الذي هو بمعنى الترك، ومعنى النساء الذي هو بمعنى التأخير. إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك.
وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: (أو تنسها)، إذا عنى به النسيان، وقالوا: غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسي من القرآن شيئًا مما لم ينسخ، إلا أن يكون نسي منه شيئًا، ثم ذكره. قالوا: وبعد، فإنه لو نسي منه شيئًا لم يكن الذين قرأوه وحفظوه من أصحابه، بجائز على جميعهم أن ينسوه. قالوا: وفي قول الله جل ثناؤه: "ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك" (الإسراء: 86)، ما ينبىء عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئًا مما أتاه من العلم.
قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد على بطوله وفساده، الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا: حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك : أن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة، قرأنا بهم وفيهم كتابًا: بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم إن ذلك رفع.
والذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرأون: لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب . ثم رفع.
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب.
وغيرمستحيل في فطرة ذي عقل صحيح، ولا بحجة خبر، أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم، بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول: ذلك غير جائز.
وأما قوله: "ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك"(الاسراء: 86)، فإنه جل ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله، بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه. وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه. وقد قال الله تعالى ذكره: "سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله" (الأعلى: 6-7)، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء. فالذي ذهب منه، الذي استثناه الله.
فأما نحن، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى، لا إنكارأن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله.
القول في تأويل قوله تعالى: " نأت بخير منها أو مثلها".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "نأت بخير منها أو مثلها". فقال بعضهم بما:حدثني المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "نأت بخير منها أو مثلها"، يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.
وقال آخرون بما:حدثني به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "نأت بخير منها أو مثلها"، يقول: آية فيها تخفيف، فيها رحمة، فيها أمر، فيها نهي. وقال آخرون: نأت بخير من التي نسخناها، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها. ذكر من قال ذلك:حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "نأت بخير منها"، يقول: نأت بخير من التي نسخناها، "أو مثلها"، أومثل التي تركناها.
فالهاء والألف اللتان في قوله: منها، عائدتان على هذه المقالة على الآية في قوله: "ما ننسخ من آية". والهاء والألف اللتان في قوله: "أو مثلها"، عائدتان على الهاء والألف اللتين في قوله: "أو ننسها".
وقال آخرون بما: حدثني به المثنى قال، حدثنا أبوحذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: "ننسها": نرفعها من عندكم، نأت بمثلها أو خير منها.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "أو ننسها"، نرفعها، نأت بخير منها أو بمثلها.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا بكربن شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود مثله.
والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدل من حكم آية فنغيره، أو نترك تبديله فنقره بحاله، نأس بخير منها لكم من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها إما في العاجل، لخفته عليكم، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم، فأسقط ثقله عنكم، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم، فكان ذلك خيرًا لهم في عاجلهم، لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم، وإما في الآجل، لعظم ثوابه، من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان. كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة، فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول. فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة، أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات. غير أن ذلك وان كان كذلك، فالثواب عليه أجزل، والأجر عليه أكثر، لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات. فذلك وإن كان على الأبدان أشق، فهو خير من الأول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره، الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات. فذلك معنى قوله: "نأت بخير منها". لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه، أو في الاجل لعظم ثوابه وكثرة أجره.
أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس، إلى فرضها شطر المسجد الحرام. فالتوجه شطر بيت المقدس، وإن خالف التوجه شطر المسجد، فكلفة التوجه شطر أيهما توجه شطره واحدة. لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدس من مؤونة توجهه شطره، نظير الذي على بدنه من مؤونة توجهه شطر الكعبة، سواء. فذلك هو معنى المثل الذي قال جل ثناؤه: "أو مثلها".
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها": ما ننسخ من حكم آية أو ننسه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهومًا عندهم معناها، اكتفي بدلالة ذكر الآية من ذكر حكمها. وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا، كقوله: "وأشربوا في قلوبهم العجل" (البقرة: 193) بمعنى حب العجل، ونحو ذلك.
فتأويل الآية إذا: ما نغير من حكم آية فنبدله، أو نتركه فلا نبدله، نأت بخير لكم أيها المؤمنون حكمًا منها، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب.
فإن قال قائل: فإنا قد علمنا أن العجل لا يشرب في القلوب، وأنه لا يلتبس على من سمع قوله: "وأشربوا في قلوبهم العجل"، أن معناه: وأشربوا في قلوبهم حب العجل، فما الذي يدل على أن قوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها " لذلك نظير؟
قيل: الذي دل على أن ذلك كذلك قوله: "نأت بخير منها أو مثلها"، وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء، لأن جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال: بعضها أفضل من بعض، وبعضها خيرمن بعض.
القول في تأويل قوله تعالى: "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير".
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير"، ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك، ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك، وأنفع لك ولهم، إما عاجلاً في الدنيا، وإما آجلاً في الآخرة أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم، عاجلاً في الدنيا وآجلاً في الآخرة، وشبيهه في الخفة عليك وعليهم؟ فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير. ومعنى قوله: "قدير" في هذا الموضع: قوي. يقال منه: قد قدرت على كذا وكذا، إذا قويت عليه، أقدر عليه وأقدر عليه قدرة وقدرانا ومقدرة، وبنو مرة من غطفان تقول: قدرت عليه بكسر الدال.
فأما من التقدير من قول القائل: قدرت الشيء، فإنه يقال منه قدرته أقدره قدرًا وقدرًا.
قوله تعالى : "ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير" .
قوله تعالى : "ألم تعلم" جزم بلم ، وحروف الاستفهام لا تغير عمل العامل ، وفتحت "أن" لأنها في موضع نصب . "له ملك السماوات والأرض" أي يالإيجاد والاختراع ، والملك والسلطان ، ونفوذ الأمر والإرادة . وارتفع ملك بالابتداء ، والخبر له والجملة خبر أن . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته ،لقوله : "وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير" . وقيل المعنى أي قل لهم يا محمد ألم تعلموا أن لله سلطان السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ، من وليت أمر فلان ، أي قمت به ، ومنه ولي العهد ، أي القيم بما عهد إليه من أمر المسلمين . ومعنى "من دون الله" سوى الله وبعد الله ، كما قال أمية بن أبي الصلت .
يا نفس ما لك دون الله من واق وما على حدثان الدهر من باق
وقراءة الجماعة "ولا نصير" بالخفض عطفاً على ولي ويجوز ولا نصير بالرفع عطفاً على الموضع ، لأن المعنى ما لكم من دون الله ولي ولا نصير .
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما "ما ننسخ من آية" ما نبدل من آية، وقال ابن جريج عن مجاهد "ما ننسخ من آية" أي ما نمحو من آية، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "ما ننسخ من آية" قال نثبت خطها ونبدل حكمها، حدث به عن أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن أبي العالية ومحمد بن كعب القرظي نحو ذلك، وقال الضحاك "ما ننسخ من آية" ما ننسك، وقال عطاء أما "ما ننسخ"، فما نترك من القرآن. وقال ابن أبي حاتم: يعني ترك فلم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وقال السدي "ما ننسخ من آية" نسخها قبضها وقال ابن أبي حاتم: يعني قبضها ورفعها، مثل قوله "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة"، وقوله "لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً" وقال ابن جرير : "ما ننسخ من آية"، ما ننقل من حكم آية إلى غيره، فنبدله ونغيره، وذلك أن نحول الحلال حراماً، والحرام حلالاً، والمباح محظوراً، والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك، إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها وسواء نسخ حكمها أو خطها، إذ هي كلتا حالتيها منسوخة. وأما علماء الأصول، فاختلفت عباراتهم في حد النسخ والأمر في ذلك قريب، لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ولحظ بعضهم أن رفع الحكم بدليل شرعي متأخر . فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدله، وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة، في أصول الفقه. وقال الطبراني: أخبرنا أبو سنبل عبيد الله بن عبد الرحمن بن واقد، أخبرنا أبي أخبرنا العباس بن الفضل، عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانا يقرآن بها، فقاما ذات ليلة يصليان، فلم يقدرا منها على حرف، فأصبحا غاديين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرا ذلك له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها مما نسخ وأنسي، فالهوا عنها، فكان الزهري يقرؤها: "ما ننسخ من آية أو ننسها"، بضم النون الخفيفة، سليمان بن الأرقم ضعيف. وقد روى أبو بكر بن الأنباري عن أبيه عن نصر بن داود عن أبي عبيد الله عن عبد الله بن صالح عن الليث عن يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أمامة بن سهل بن حنيف، مثله مرفوعاً، ذكره القرطبي، وقوله تعالى: "أو ننسها"، فقرئ على وجهين، ننسأها وننسها، فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه نؤخرها. قال علي ابن أبي طلحة: عن ابن عباس، " ما ننسخ من آية أو ننسها "، يقول ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها، وقال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود: أو ننسأها، نثبت خطها ونبدل حكمها، وقال عبد بن عمير ومجاهد وعطاء أو ننسأها، نؤخرها ونرجئها. وقال عطية العوفي: أو ننسأها، نؤخرها فلا ننسخها، وقال السدي: مثله أيضاً وكذا الربيع بن أنس، وقال الضحاك: " ما ننسخ من آية أو ننسها "، يعني الناسخ والمنسوخ. وقال أبو العالية: " ما ننسخ من آية أو ننسها " نؤخرها عندنا، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عبيد الله بن إسماعيل البغدادي، أخبرنا خلف، أخبرنا الخفاف، عن إسماعيل يعني ابن أسلم، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: خطبنا عمر رضي الله عنه، فقال: يقول الله عز وجل: " ما ننسخ من آية أو ننسها "، أي نؤخرها، وأما على قراءة "أو ننسها"، فقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: "ما ننسخ من آية أو ننسها"، قال كان الله عز وجل: ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما يشاء، وينسخ ما يشاء .
وقال ابن جرير: أخبرنا سواد بن عبد الله، أخبرنا خالد بن الحارث، أخبرنا عوف، عن الحسن أنه قال: في قوله: "أو ننسها" قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم، قرأ علينا قرآناً ثم نسيه، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن نفيل، أخبرنا محمد بن الزبير الحراني، عن الحجاج يعني الجزري عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، الوحي بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل الله عز وجل: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"، قال ابن أبي حاتم: قال لي أبو جعفر بن نفيل، ليس هو الحجاج بن أرطاة هو شيخ لنا جزري، وقال عبيد بن عمير: "أو ننسها" نرفعها من عندكم، وقال ابن جرير: حدثني يعقوب بن إبراهيم، أخبرنا هشيم، عن يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة، قال سمعت سعد بن أبي وقاص يقرأ "ما ننسخ من آية أو ننسها" قال: قلت له فإن سعيد بن المسيب يقرأ "أو ننسها" قال: قال سعد: إن القرآن، لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب، قال: قال الله جل ثناؤه: "سنقرئك فلا تنسى" "واذكر ربك إذا نسيت"، وكذا رواه عبد الرزاق عن هشيم، وأخرجه الحاكم في مستدركه، من حديث أبي حاتم الرازي، عن آدم عن شعبة عن يعلى بن عطاء به، وقال على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال ابن أبي حاتم وروى عن محمد بن كعب وقتادة وعكرمة نحو قول سعيد. وقال الإمام أحمد: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان الثوري: عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: قال عمر : علي أقضانا وأبي أقرؤنا، وإنا لندع من قول أبي، وذلك أن أبيا يقول: ما أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يقول: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"، قال البخاري: أخبرنا يحيى أخبرنا سفيان عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، قال: قال عمر : أقرؤنا أبي وأقضانا علي، وإنا لندع من قول أبي، وذلك أن أبيا يقول: لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله: "ما ننسخ من آية أو ننسها" وقوله: "نأت بخير منها أو مثلها"، أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس "نأت بخير منها" ويقول خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وقال أبو العالية: "ما ننسخ من آية" فلا نعمل بها " أو ننسها "، أي نرجئها عندنا نأت بها أو نظيرها، وقال السدي "نأت بخير منها أو مثلها" يقول: نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه. وقال قتادة: "نأت بخير منها أو مثلها" يقول: آية فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي، وقوله: "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير"، يرشد عباده تعالى بهذا، إلى أنه المتصرف في خلقه، بما يشاء ، فله الخلق والأمر وهو المتصرف، فكما خلقهم كما يشاء ، ويسعد من يشاء ، ويشقي من يشاء ويصح من يشاء ويمرض من يشاء ، ويوفق من يشاء، ويخذل من يشاء كذلك يحكم في عباده بما يشاء، فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويختبر عباده وطاعتهم لرسله بالنسخ، فيأمر بالشيء لما فيه من المصحلة التي يعلمها تعالى، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا، وامتثال ما أمروا، وترك ما عنه زجروا وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله، في دعوى استحالة النسخ، إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله: فتأويل الاية: ألم تعلم يا محمد، أن لي ملك السموات والأرض وسلطانها دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير، من أحكامي التي أحكم بها في عبادي، بما أشاء إذ أشاء، وأقر فيهما ما أشاء، ثم قال: وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى، لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر، عن عظمته فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة السلام، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله، بتغيير ما غير الله من حكم التوراة، فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، وأن الخلق أهل مملكته، وطاعته وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء، ونسخ ما يشاء، وإقرار ما يشاء، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه، (قلت) الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ، إنما هو الكفر والعناد، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى، لأنه يحكم ما يشاء، كما أنه يفعل ما يريد، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية، كما أحل لادم تزويج بناته من بنيه، ثم حرم ذلك، وكما أباح لنوح، بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات، ثم نسخ حل بعضها، وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل وبنيه، وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده، ثم نسخه قبل الفعل، وأمر جمهور بني إسرائيل بقتل من عبد العجل منهم، ثم رفع عنهم القتل كيلا يستأصلهم القتل، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه وما يجاب به عن هذه الأدلة بأجوبة لفظية فلا يصرف الدلالة في المعنى، إذ هو المقصود ، وكما في كتبهم مشهوراً من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم والأمر باتباعه، فإنه يفيد وجوب متابعته عليه الصلاة والسلام، وأنه لا يقبل عمل إلا على شريعته، وسواء قيل إن الشرائع المتقدمة مغياة إلى بعثه عليه السلام، فلا يسمى ذلك نسخاً لقوله: "ثم أتموا الصيام إلى الليل"، وقيل: إنها مطلقة، وإن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم نسختها، فعلى كل تقدير فوجوب متابعته متعين، لأنه جاء بكتاب وهو آخر الكتب عهداً بالله تبارك وتعالى، ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ، رداً على اليهود عليهم لعنة الله، حيث قال تعالى: "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ؟ * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض" الاية، فكما أن له الملك بلا منازع، فكذلك له الحكم بما يشاء، "ألا له الخلق والأمر"وقرئ في سورة آل عمران، التي نزل في صدرها خطاباً مع أهل الكتاب، وقوع النسخ في قوله تعالى: "كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" الاية، كما سيأتي تفسيره والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى، لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وكلهم قال بوقوعه، وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسر : لم يقع شيء من ذلك في القرآن، وقوله ضعيف مردود مرذول، وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول، لم يجب عن ذلك بكلام مقبول، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة. عن بيت المقدس لم يجب بشيء ، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، والله أعلم.
وقوله: 107- "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير" يفيد أن النسخ من مقدوراته، وأن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية، وهكذا قوله: "ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض" أي له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته، فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها وشرعها لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمة والأشخاص وهذا صنع من لا ولي لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص التي تعبدهم بها وشرعها لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص وهذا صنع من لا ولي لهم غيره ولا نصير سواه، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال.
وقد أخرج ابن أبي حاتم والحاكم في الكنى وابن عدي وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار، فأنزل الله: " ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " وفي إسناده الحجاج الجزري ينظر فيه. وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال: "قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقرآن بها، فقاما يقرآن ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنها مما نسخ أو نسي فالهوا عنها" وفي إسناده سليمان ابن الأرقم وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله: " ما ننسخ من آية أو ننسها " يقول: ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها "نأت بخير منها أو مثلها" يقول: خير لكم في المنفعة وأرفق بكم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: " ننسها " نؤخرها. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن مسعود في قوله: "ما ننسخ من آية" قال: نثبت خطها ونبدل حكمها " أو ننسها " قال: نؤخرها. وأخرج عبد بن حميد وأبو
داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في قوله: "نأت بخير منها أو مثلها" يقول: فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن المنذر وابن الأنباري في المصاحف وأبو ذر الهروي في فضائله عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف: "أن رجلاً كانت معه سورة، فقام من الليل فقام بها فلم يقدر عليها، وقام آخر يقرأ بها فلم يقدر عليها، وقام آخر فلم يقدر عليها، فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمعوا عنده فأخبروه، فقال: إنها نسخت البارحة" وقد روي نحوه عنه من وجه آخر. وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة (أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) ثم نسخ، وهكذا ثبت في مسلم وغيره عن أبي موسى قال: كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني حفظت منها ( لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوفه إلا التراب) وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات، أولها: "سبح لله ما في السموات" فأنسيناها، غير أني حفظت منها " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون "فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة، ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر.
107. " ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم " يا معشر الكفار عند نزول العذاب " من دون الله " مما سوى الله " من ولي " قريب وصديق وقيل: من وال وهو القيم بالأمور " ولا نصير " ناصر يمنعكم من العذاب.
107-" ألم تعلم " الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد هو وأمته ، لقوله : " وما لكم " وإنما أفرده لأنه أعلمهم ، ومبدأ علمهم . " أن الله له ملك السموات والأرض " يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ،وهو كالدليل على قوله : " إن الله على كل شيء قدير " أو على جواز النسخ ولذلك ترك العاطف . " وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير " وإنما هو الذي يملك أموركم ويجريها على ما يصلحكم ، والفرق بين الولي والنصير أن الولي قد يضعف عن النصرة ، والنصير قد يكون أجنبياً عن المنصور فيكون بينهما عموم من وجه .
107. Knowest thou not that it is Allah unto Whom belongeth the sovereignty of the heavens and earth; and ye have not, beside Allah, any friend or helper?
107 - Knowest thou not that to God belongeth the dominion of the heavens and besides him ye have neither patron nor helper.