(ود كثير من أهل الكتاب لو) مصدرية (يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا) مفعول له كائناً (من عند أنفسهم) أي حملتهم عليه أنفسهم الخبيثة (من بعد ما تبين لهم) في التوراة (الحق) في شأن النبي (فاعفوا) عنهم أي اتركوهم (واصفحوا) أعرضوا فلا تجازوهم (حتى يأتي الله بأمره) فيهم من القتال (إن الله على كل شيء قدير)
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية. فقال بعضهم حدثنا به أبو كريب قال، حدثني يونس بن بكير وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قالا، حدثنا ابن إسحق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيدبن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارًا، نتبعك ونصدقك! فأنزل الله في ذلك من قولهما: "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل "، الآية.
وقال آخرون بما: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل "، وكان موسى يسأل، فقيل له: "أرنا الله جهرة".
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل "، أن يريهم الله جهرة. فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة.
وقال آخرون بما:حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل "، أن يريهم الله جهرة. فسألت قريش محمدًا صلى الله عليه وسلم و أن يجعل الله لهم الصفا ذهبًا، قال: نعم! وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: سألت قريش محمدًا أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فقال: نعم! وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا، فأنزل الله: "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل "، أن يريهم الله جهرة.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون بما:حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية قال:" قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا نبغيها! ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزيًا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيًا في الآخرة، وقد أعطاكم الله خيرًا مما أعطى بني إسرائيل، قال: "ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما" ( النساء: 110) . قال: وقال: الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن ".
وقال: "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك " .
فأنزل الله: "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ".
واختلف أهل العربية في معنى "أم " التي في قوله: "أم تريدون ". فقال بعض البصريين: هي بمعنى الاستفهام. وتأويل الكلام: أتريدون أن تسألوا رسولكم؟
وقال آخرون منهم: هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام، كأنك تميل بها إلى أوله، كقول العرب: إنها لإبل يا قوم أم شاء و لقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي؟ قال: وليس قوله: "أم تريدون " على الشك، ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم. واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل:
كذبتك عينك، أم رأيت بواسط غلس الظلام من الرباب خيالا
وقال بعض نحوي الكوفيين: إن شئت جعلت قوله: "أم تريدون "استفهامًا على كلام قد سبقه، كما قال جل ثناؤه " الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه" (السجدة: 1- 3)، فجاءت "أم " وليس قبلها استفهام، فكان ذلك عنده دليلاً على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه. وقال قائل هذه المقالة: "أم " في المعنى تكون ردًا على الإستفهام على جهتين: إحداهما أن تفرق معنى أي ، والأخرى: أن يستفهم بها فتكون على جهة النسق، و الذي ينوى بها الابتداء، إلا أنه ابتداء متصل بكلام. فلو ابتدأت كلامًصا ليس قبله كلام ثم استفهمت، لم يكن إلاب الألف أو بـ هل .
قال: وإن شئت قلت في قوله: "أم تريدون "، قبله استفهام فرد عليه. وهو في قوله: "ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير" ( البقرة: 106).
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، على ما جاءت به الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل: أنه استفهام مبتدأ، بمعنى: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟ وإنما جاز، أن يستفهم القوم بـ (أم)، وإن كانت (أم) أحد شروطها أن تكون نسقاً في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام، لأنها تكون استفهامًا مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام. ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام. ونظيره قوله جل ثناؤه: "الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين * أم يقولون افتراه" ( السجدة: 1،3).
وقد تكون أم بمعنى بل ، إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه أي ، فيقولون: هل لك قبلنا حق، أم أنت رجل معروف بالظلم؟ وقال الشاعر:
فوالله ما أدري! أسلمى تغولت، أم النوم، أم كل إلي حبيب؟
يعني: بل كل إلي حبيب.
وقد كان بعضهم يقول منكرًا قول من زعم أن أم في قوله: "أم تريدون " استفهام مستقبل منقطع من الكلام، يميل بها إلى أوله: إن الأول خبر، والثاني استفهام، والإستفهام لا يكون في الخبر، والخبر لا يكون في الاستفهام، ولكن أدركه الشك بزعمه بعد مضي الخبر، فاستفهم. قال أبو جعفر: فإذا كان معنى "أم " ما وصفنا، فتأويل الكلام: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم، فتكفروا إن منعتموه في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه، أو أن تهلكوا إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه، فأعطاكموه، ثم كفرتم من بعد ذلك، كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم، فلما أعطيت كفرت، فعوجلت بالعقوبات لكفرها، بعد إعطاء الله إياها سؤلها.
القول في تأويل قوله تعالى: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان".
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "ومن يتبدل "، ومن يستبدل "الكفر"، وسنن بـ (الكفر) الجحود بالله وبآياته، بالإيمان ، يعني بالتصديق بالله وباياته والإقرار به.
وقد قيل: عنى بـ الكفر في هذا الموضع: الشدة، وبـ الإيمان الرخاء. ولا أعرف الشدة في معاني الكفر، ولا الرخاء في معنى الإيمان، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله (الكفر) بمعنى الشدة في هذا الموضع، وبتأويله الإيمان في معنى الرخاء: ما أعد الله للكفار في الآخرة من الشدائد، وما أعد الله لأهل الإيمان فيها من النعيم، فيكون ذلك وجهًا، وإن كان بعيدًا من المفهوم بظاهر الخطاب. ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن أبي العالية: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان "، يقول: يتبدل الشدة بالرخاء.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية بمثله.
وفي قوله: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل "، دليل واضح على ما قلنا: من أن هذه الآيات من قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا"، خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم، مما سر به اليهود، وكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فكرهه الله لهم، فعاتبهم على ذلك، وأعلمهم أن اليهود أهل غش لهم وحسد وبغي، وأنهم يتمنون لهم المكاره، ويبغونهم الغوائل، ونهاهم أن ينتصحوهم، وأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرًا، فقد أخطأ قصد السبيل.
القول في تأويل قوله تعالى: "فقد ضل سواء السبيل ".
قال أبو جعفر: أما قوله: "فقد ضل "، فإنه يعني به: ذهب وحاد. وأصل الضلال عن الشيء، الذهاب عنه والحيد، ثم يستعمل في الشيء الهالك، والشيء الذي لا يؤبه له، كقولهم للرجل الخامل لا ذكر له ولا نباهة: ضل ابن ضل و قل ابن قل ، وكقول الأخطل، في الشيء الهالك:
كنت القذى في موج أكدر مزبد قذف الأتي به فضل ضلالا
يعني: هلك فذهب.
والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: "فقد ضل سواء السبيل "، فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه.
وأما تأويل قوله: "سواء السبيل "، فإنه يعني بـ السواء، القصد والمنهج. وأصل السواء الوسط. ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي، يعني: وسطي. وقال حسان بن ثابت:
يا ويح أنصار النبي ونسله بعد المغيب في سواء الملحد
يعني بالسواء: الوسط. والعرب تقول: هو في سواء السبيل ، يعني في مستوى السبيل، و سواء الأرض : مستواها، عندهم.
وأما السبيل، فإنها الطريق المسبول، صرف من مسبول إلى سبيل.
فتأويل الكلام إذا: ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر، فيرتد عن دينه، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول.
وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان الكفر عن الطريق، والمعني به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده، وجعله لهم طريقاً يسفكونه إلى رضاه، وسبيلاً يركبونها إلى محبته والفوز بجناته. فجعل جل ثناؤه الطريق الذي إذا ركب محجته السائر فيه، ولزم وسطه المجتاز فيه، نجا وبلغ حاجته، وأدرك طلبته لدينه الذي دعا إليه عباده، مثلاً، لإدراكهم بلزومه واتباعه، طلباتهم في اخرتهم، كالذي يدرك اللازم محجة السبيل، بلزومه إياها، طلبته من النجاة منها، والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده. وجعل مثل الحائد عن دينه، الجائر عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته، في إخطائه ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده، وذهابه عما أمل من ثواب عمله، وبعده به من ربه، مثل الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل، الذي لا يزداد وغولاً في الوجه الذي سلكه، إلا ازداد من موضع حاجته بعدًا، وعن المكان الذي أمه وأراده نأيًا.
وهذه السبيل التي أخبر الله عنها، أن من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواءها، هي (الصراط المستقيم)، الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله: "اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم" ( الفاتحة: 6-7).
قوله تعالى :"ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق " . فيه مسألتان :
الأولى : "ود" تمنى ، وقد تقدم . "كفارا" مفعول ثان بـ يردونكم . "من عند أنفسكم" قيل هو متعلق . بـ ود . وقيل بـ حسدا ، فالوقف على قوله : كفارا . و حسدا مفعول له ، أي ودوا ذلك للحسد ، أو مصدر دل ما قبله على الفعل .ومعنى "من عند أنفسهم" أي من تلقائهم من غير أن يجدوه في كتاب ولا أمروا به ، ولفظة الحسد تعطي هذا . أي من عند انفسهم تأكيداً وإلزاماً ، كما قال تعالى : "يقولون بأفواههم" ، "يكتبون الكتاب بأيديهم" ، "ولا طائر يطير بجناحيه" . والآية في اليهود .
الثانية :الحسد نوعان : مذموم ومحمود ، فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم ، وسواء تمنيت مع ذلك أن تعود اليك أو لا ، وهذا النوع الذي ذمه الله تعالى في كتابه بقوله "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" وإنما كان مذموماً لأن فيه تسفيه الحق سبحانه ، وأنه أنعم على من لا يستحق . وأما المحمود فهو ما جاء في صحيح الحديث من قوله عليه السلام :
"لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ورجل آتاه الله ما لاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار" . هذا الحسد معناه الغبطة . وكذلك ترجم عليه البخاري باب الاغتباط في العلم والحكمة . وحقيقتها : أن تتمنى أن يكون لك ما لأخيك المسلم من الخير والنعمة ولا يزول عنه خيره ، وقد يجوز ان يسمى هذا منافسة ، ومنه قوله تعالى : "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" . "من بعد ما تبين لهم الحق" أي من بعد ما تبين الحق لهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، والقرآن الذي جاء به .
قوله تعالى :"فاعفوا واصفحوا" فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : "فاعفوا" والأصل اعفووا حذفت الضمة لثقلها ، ثم حذفت الواو لالتقاء الساكنين . والعفو : ترك المؤاخذة بالذنب . والصفح : إزالة أثره من النفس . صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه . وقد ضربت عنه صفحاً إذا أعرضت عنه وتركته ، ومنه قوله تعالى : "أفنضرب عنكم الذكر صفحا" .
الثانية : هذه الآية منسوخة بقوله "قاتلوا الذين لا يؤمنون" إلى قوله "صاغرون" عن ابن عباس . وقيل : الناسخ لها "فاقتلوا المشركين" . قال ابو عبيدة : كل آية فيها ترك للقتال فهي مكية منسوخة بالقتال . قال ابن عطية : وحكمه بأن هذه الآية مكية ضعيف ، لأن معاندات اليهود إنما كانت بالمدينة .
قلت : وهو الصحيح ، روى البخاري و مسلم " عن أسامة بن زيد : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية وأسامة وراءه ، يعود سعد بن عبادة في بني الحارث ابن الخزرج قبل وقعة بدر ، فسارا حتى مرا بمجلس فيه عبد الله بن أبي ابن سلول ـ وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ـ فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود ، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة ، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر ابن أبي أنفه بردائه وقال : لا تغبروا علينا ! فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل ، فدعاهم إلى الله تعالى وقرأ عليهم القرآن ، فقال له عبد الله بن أبي ابن سلول : أيها المرء ، لا أحسن ما تقول إن كان حقاً ! فلا تؤذنا به في مجالسنا ، ارجع إلى رجلك فمن جاء فاقصص عليه . قال عبد الله بن رواحة : بلى يا رسول الله ، فاغشنا في مجالسنا ، فإنا نحب ذلك . فاستب المشركون والمسلمون واليهود حتى كادوا يتثاورون ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا ، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب ـ ، يريد عبد الله بن ابي ـ قال كذا وكذا ، فقال : أي رسول الله ، بأبي أنت وأمي !اعف عنه واصفح ، فوالذي أنزل عليك الكتاب بالحق لقد جاء الله بالحق الذي أنزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه ويعصبوه بالعصابة ، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاك شرق بذلك ، فذلك فعل ما رأيت ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى ، ويصبرون على الأذى ، قال الله عز وجل : "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا" وقال : "ود كثير من أهل الكتاب" . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو عنهم ما أمره الله به حتى أذن له فيهم ، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً فقتل الله به من قتل من صناديد الكفار وسادات قريش ، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه غانمين منصورين ، معهم أسارى من صناديد الكفار وسادات قريش، قال عبد الله بن ابي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد توجه ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، فأسلموا .
قوله تعالى : "حتى يأتي الله بأمره" يعني بني قريظة وجلاء بني النضير . "إن الله على كل شيء قدير * وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" تقدم . والحمد لله تعالى . .
يحذر تعالى: عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر ، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه، كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب، من أشد يهود للعرب حسداً، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم" الاية. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، في قوله تعالى: "ود كثير من أهل الكتاب" قال: هو كعب بن الأشرف، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنزل الله "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم" إلى قوله "فاعفوا واصفحوا"، وقال الضحاك: عن ابن عباس، أن رسولاً أمياً يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والايات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفراً وحسداً وبغياً، وكذلك قال الله تعالى: "كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق" يقول من بعد ما أضاء لهم الحق، لم يجهلوا منه شيئاً، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم، وما أنزل من قبلهم، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم وقال الربيع بن أنس "من عند أنفسهم" من قبل أنفسهم، وقال أبو العالية "من بعد ما تبين لهم الحق"، من بعد ما تبين أن محمداً رسول الله، يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسداً وبغياً، إذ كان من غيرهم، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس، وقوله: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره"، مثل قوله تعالى: " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " الاية، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله، "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره"، نسخ ذلك قوله: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، وقوله: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر "، إلى قوله "وهم صاغرون"، فنسخ هذا عفوه عن المشركين، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي، إنها منسوخة بآية السيفن ويرشد إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: "حتى يأتي الله بأمره"، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى. قال الله تعالى: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتأول من العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بالقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش، وهذا إسناده صحيح ولم أره في شيء من الكتب الستة، ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد. وقوله تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله"، يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم، وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، "يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار"، ولهذا قال تعالى: "إن الله بما تعملون بصير"، يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه سواء كان خيراً أو شراً، فإنه سيجازي كل عامل بعمله. وقال أبو جعفر بن جرير : في قوله تعالى: "إن الله بما تعملون بصير"، هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الايات من المؤمنين، إنهم مهما فعلوا من خير أو شر ، سراً وعلانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان خيراً، وبالإساءة مثلها، وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعداً ووعيداً وأمراً وزجراً، وذلك أنه أعلم القوم، أنه بصير بجميع أعمالهم، ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخوراً لهم عنده، حتى يثيبهم عليه، كما قال تعالى: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله"، وليحذروا معصيته، قال: وأما قوله "بصير" فإنه مبصر ، صرف إلى بصير ، كما صرف مبدع إلى بديع، ومؤلم إلى أليم، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو زرعة، أخبرنا ابن بكير ، حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الاية: "سميع بصير "، يقول "بكل شيء بصير".
وقوله تعالى: 109- "ود كثير من أهل الكتاب" فيه إخبار المسلمين بحرص اليهود على فتنتهم وردهم عن الإسلام والتشكيك عليهم في دينهم. وقوله: "لو يردونكم" في محل نصب على أنه مفعول للفعل المذكور. وقوله: "من عند أنفسهم" يحتمل أن يتعلق بقوله "ود" أي ودوا ذلك من عند أنفسهم، ويحتمل أن يتعلق بقوله: "حسداً" أي حسداً ناشئاً من عند أنفسهم، وهو علة لقوله: "ود". والعفو: ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح: إزالة أثره من النفس، صفحت عن فلان: إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صفحاً: إذا أعرضت عنه، وفيه الترغيب في ذلك والإرشاد إليه- وقد نسخ ذلك بالأمر بالقتال، قاله أبو عبيدة. وقوله: "حتى يأتي الله بأمره" هو غاية ما أمر الله سبحانه به من العفو والصفح: أي افعلوا ذلك إلى أن يأتي إليكم الأمر من الله سبحانه في شأنهم بما يختاره ويشاءه، وما قد قضى به في سابق عمله، وهو قتل من قتل منهم، وإجلاء من أجلي، وضرب الجزية على من ضربت عليه، وإسلام من أسلم.
109. قوله تعالى: " ود كثير من أهل الكتاب " الآية نزلت في نفر من اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر بعد وقعة أحد: لو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعا إلى ديننا فنحن أهدى سبيلا منكم فقال لهم عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد، قال: شديد، قال فإني قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ما عشت. فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ وقال حذيفة: أما أنا فقد رضيت بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخواناً، ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد أصبتما الخير وأفلحتما " فأنزل الله تعالى " ود كثير من أهل الكتاب " أي تمنى وأراد كثير من أهل الكتاب من اليهود " لو يردونكم " يا معشر المؤمنين " من بعد إيمانكم كفاراً حسداً " نصب على المصدر، أي يحسدونكم حسداً " من عند أنفسهم " أي من تلقاء أنفسهم ولم يأمرهم الله بذلك، " من بعد ما تبين لهم الحق " في التوراة أن قول محمد صلى الله عليه وسلم صدق ودينه حق " فاعفوا " فاتركوا " واصفحوا " وتجاوزوا، فالعفو: المحو، والصفح: الاعراض، وكان هذا قبل آية القتال " حتى يأتي الله بأمره " بعذابه: القتل والسبي لبني قريظة، والجلاء والنفي لبني النضير، قاله ابن عباس رضي الله عنهما. وقال قتادة : هو أمره بقتالهم في قوله " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر " إلى قوله "وهم صاغرون " (29-التوبة) وقال ابن كيسان : بعلمه وحكمه فيهم حكم لبعضهم بالإسلام ولبعضهم بالقتل والسبي والجزية " إن الله على كل شيء قدير ".
109-" ود كثير من أهل الكتاب " يعني أحبارهم . " لو يردونكم " أن يردوكم ، فإن لو تنوب عن إن في المعنى دون اللفظ : " من بعد إيمانكم كفاراً " مرتدين ، وهو حال من ضمير المخاطبين " حسداً " علة ود . " من عند أنفسهم " يجوز أن يتعلق بود ،أي تمنوا ذلك من عند أنفسهم وتشهيهم ، لا من قبل التدين والميل مع الحق . أو بحسداً أي حسداً بالغاً منبعثاً من أصل نفوسهم " من بعد ما تبين لهم الحق " بالمعجزات والنعوت المذكورة في التوراة . " فاعفوا واصفحوا " العفو ترك عقوبة المذنب ، والصفح ترك تثريبه . " حتى يأتي الله بأمره " الذي هو الإذن في قتالهم وضرب الجزية عليهم ، أو قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه منسوخ بآية السيف ، وفيه نظر إذ الأمر غير مطلق " إن الله على كل شيء قدير " فيقدر على الانتقام منهم .
109. Many of the People of the Scripture long to make you disbelievers after your belief, through envy on their own account, after the truth hath become manifest unto them. Forgive and be indulgent (toward them) until Allah give command. Lo! Allah is Able to do all things.
109 - Quite a number of the people of the book wish they could turn you (people) back to infidelity after ye have believed, from selfish envy, after the truth hath become manifest unto them: but forgive and overlook, till God accomplish his purpose; for God hath power over all things.