11 - (إلا) لكن (من ظلم) نفسه (ثم بدل حسنا) أتاه (بعد سوء) أي تاب (فإني غفور رحيم) أقبل التوبة وأغفر له
القول في تأويل قوله تعالى : " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم " .
قوله تعالى : " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء " فإنه يخاف وإن كنت قد غفرت له . الضحاك : يعني آدم وداود عليهما السلام . الزمخشري : كالذي فرط من آدم ويونس وداود وسليمان وإخوة يوسف ، ومن موسى عليه السلام بوكزة القبطي . فإن قال 4قائل : فما معنى الخوف بعد التوبة والمغفرة ؟ قيلله : هده سبيل العلماء بالله عز وجل أن يكونوا خائفين من معاصيهم وحجلين ، وهم أيضاً لا يأمنون أن يكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به ، فهم يخافونه من المطالبة به . وقال الحسن و ابن جريج : قال الله لموسى إني أخفتك لقتلك النفس . قال الحسن : وكانت الأنبياء تذنب فتعاقب . قال الثعلبي و القشيري و الموردي وغيرهم : فالاستثناء على هذا صحيح ، أي إلا من ظلم نفسه من النبيين والمرسلين فيما فعل من تصغيرة قبل النبوة. وكان موسى خاف من تقتل القبطي وتاب منه . وقد قيل : إنهم بعد النبوة معصومون من الصغائر والكبائر . قد مضى هذا في ( البقرة ) .
قلت : والأول أصح لتنصلهم من ذلك في القيامة كما في حديث الشفاعة ، وإذا أحدث المقرب حدثاً فهو وإن غفر له ذلك الحدث فأثر ذلك الحدث باق ، وما دام الأثر والتهمة قائمة فالخوف كائن لا خوف العقوبة ولكن خوف العظمة ، والمتهم عند السلطان يجد للتهمة حزازة تؤديه إلى أن يكدر عليه صفاء الثقة . وموسى عليه السلام قد كان منه الحدث في ذلك الفرعوني ، ثم استغفر وأقر بالظلم على نفسه ، ثم غفر له ، ثم قال بعد المغفرة : " رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين " [ القصص : 17] ثم ابتلي من الغد بالفرعوني الآخر وأراد أن يبطش به ، فضار حدثاً آخر بهذه الإرادة . وإنما ابتلي من الغذ لقوله : " فلن أكون ظهيرا للمجرمين " وتلك كلمة اقتدار من قوله لن أفعل ، فعوقب بالإرادة حين أراد أن يبطش ولم يفعل ، فسلط عليه الإسرائيلي حتى أفشى سره ، لأن الإسرائيلي لما رآه تشمر للبطش ظن أنه يريده ، فأفشى عليه فـ" قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن " فهرب الفرعوني وأخبر فرعون بما أفشى الإسرائيلي على موسى ، وكان القتيل بالأمس مكتوماً أمره لا يدرى من قتله ، فلما علم فرعون بذلك ، وجه في طلب موسى ليقتله ، واشتد الطلب وأخذوا مجامع الطرق ، جاء رجل يسعى فـ" قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج " الآية . فخرج كما أخبر الله . فخوف موسى إنما كان من أجل هذا الحدث ، فهو وإن قربه ربه وأكرمه واصطفاه بالكلام فالتهمة الباقية ولت به ولم يعقب . قوله تعالى : " وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء " تقدم في ( طه ) القول فيه . " في تسع آيات " قال النحاس أحسن ما قيل فيه أن المعنى : هذه الآية داخلة في تسع آيات . المهدوي : المعنى : " ألق عصاك " و" أدخل يدك في جيبك " فهما آيتان من تسع آيات . وقال القشيري معناه : كما تقول خرجت في عشرة نفر وأنت أحدهم . أي خرجت عاشر عشرة . فـ( في ) بمعنى (من ) لقربها منها كما تقول خذ لي عشراً من الإبل فيها فحلان أي منها . وقال الأصمعي في قول امرئ القيس :
وهل ينعمن من كان آخر عهده ثلاثين شهراً في ثلاثه أحوال
في بمعنى من . وقيل : في بمعنى مع ، فالآيات عشرة منها اليد ، والتسع : الفلق والعصا والجراد والقمل والطوفان والدم والضفادع والسنن والطمس . وقد تقدم بيان جميعه . " إلى فرعون وقومه " قال الفراء : في الكلام إضمار لدلالة الكلام عليه ، أي إنك مبعوث أو مرسل إلى فرعون وقومه .
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مذكراً له ما كان من أمر موسى عليه السلام, كيف اصطفاه الله وكلمه وناجاه أعطاه من الايات العظيمة الباهرة والأدلة القاهرة, وابتعثه إلى فرعون وملئه, فجحدوا بها وكفروا واستكبروا عن اتباعه والانقياد له, فقال تعالى: "إذ قال موسى لأهله" أي اذكر حين سار موسى بأهله فأضل الطريق, وذلك في ليل وظلام, فآنس من جانب الطور ناراً, أي رأى ناراً تتأجج وتضطرم, فقال "لأهله إني آنست ناراً سآتيكم منها بخبر" أي عن الطريق " أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون " أي تستدفئون به وكان كما قال. فإنه رجع منها بخبر عظيم, واقتبس منها نوراً عظيماً, ولهذا قال تعالى: "فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها" أي فلما أتاها ورأى منظراً هائلاً عظيماً حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا توقداً, ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة, ثم رفع رأسه, فإذا نورها متصل بعنان السماء. قال ابن عباس وغيره: لم تكن ناراً, وإنما كانت نوراً يتوهج, وفي رواية عن ابن عباس : نور رب العالمين, فوقف موسى متعجباً مما رأى " نودي أن بورك من في النار ". قال ابن عباس : تقدس "ومن حولها" أي من الملائكة, قاله ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب , حدثنا أبو داود هو الطيالسي , حدثنا شعبة والمسعودي عن عمرو بن مرة , سمع أبا عبيدة يحدث عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل الليل قبل النهار, وعمل النهار قبل الليل", زاد المسعودي "وحجابه النور أو النار, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره". ثم قرأ أبو عبيدة "أن بورك من في النار ومن حولها" وأصل الحديث مخرج في صحيح مسلم من حديث عمرو بن مرة به. وقوله تعالى: "وسبحان الله رب العالمين" الذي يفعل ما يشاء, ولا يشبهه شيء من مخلوقاته, ولا يحيط به شيء من مصنوعاته, وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات, ولا تكتنفه الأرض والسموات, بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات.
وقوله تعالى: "يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم" أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه الله العزيز الذي عز كل شيء وقهره وغلبه, الحكيم في أقواله وأفعاله, ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ليظهر له دليلاً واضحاً على أنه الفاعل المختار القادر على كل شيء, فلما ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة في غاية الكبر وسرعة الحركة مع ذلك, ولهذا قال تعالى: "فلما رآها تهتز كأنها جان" والجان ضرب من الحيات أسرعه حركة وأكثره اضطراباً. وفي الحديث نهي عن قتل جنان البيوت, فلما عاين موسى ذلك "ولى مدبراً ولم يعقب" أي لم يلتفت من شدة فرقه "يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون" أي لا تخف مما ترى, فإني أريد أن أصطفيك رسولاً وأجعلك نبياً وجيهاً.
وقوله تعالى: "إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم" هذا استنثاء منقطع وفيه بشارة عظيمة للبشر, وذلك أن من كان على عمل سيء ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب, فإن الله يتوب عليه, كما قال تعالى: "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى" وقال تعالى: "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الاية, والايات في هذا كثيرة جداً. وقوله تعالى: "وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء" هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار, وصدق من جعل له معجزة, وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه, فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف.
وقوله تعالى: "في تسع آيات" أي هاتان ثنتان من تسع آيات أؤيدك بهن وأجعلهن برهاناً لك إلى فرعون وقومه "إنهم كانوا قوماً فاسقين" وهذه هي الايات التسع التي قال الله تعالى: "ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات" كما تقدم تقرير ذلك هنالك. وقوله تعالى: " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة " أي بينة واضحة ظاهرة "قالوا هذا سحر مبين" وأرادوا معارضته بسحرهم, فغلبوا وانقلبوا صاغرين "وجحدوا بها" في ظاهر أمرهم "واستيقنتها أنفسهم" أي علموا في أنفسهم أنها حق من عند الله, ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها "ظلماً وعلواً" أي ظلماً من أنفسهم سجية ملعونة, وعلواً أي استكباراً من اتباع الحق, ولهذا قال تعالى: "فانظر كيف كان عاقبة المفسدين" أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم في إهلاك الله إياهم, وإغراقهم عن آخرهم في صبيحة واحدة, وفحوى الخطاب يقول: احذروا أيها المكذبون لمحمد, الجاحدون لما جاء به من ربه, أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى, فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أشرف وأعظم من موسى, وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى بما آتاه الله من الدلائل المقترنة بوجوده في نفسه وشمائله, وما سبقه من البشارات من الأنبياء به, وأخذ المواثيق له, عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام.
ثم استثنى استثناءً منقطعاً فقال:11- " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم " أي لكن من أذنب في ظلم نفسه بالمعصية ثم بدل حسناً أي توبة وندماً بعد سوء أي بعد عمل سوء فإني غفور رحيم وقيل الاستثناء من مقدر محذوف: أي لا يخاف لدي المرسلون، وإنما يخاف غيرهم ممن ظلم إلا من ظلم ثم بدل إلخ، كذا قال الفراء. قال النحاس: الاستثناء من محذوف محال، لأنه استثناء من شيء لم يذكر. وروي عن الفراء أنه قال: إلا بمعنى الواو. وقيل إن الاستثناء متصل من المذكور لا من المحذوف. والمعنى: إلا من ظلم من المرسلين بإتيان الصغائر التي لا يسلم منها أحد، واختار هذا النحاس، وقال: علم من عصى منهم فاستثناه فقال: إلا من ظلم، وإن كنت قد غفرت له كآدم وداود وإخوة يوسف وموسى بقتله القبطي. ولا مانع من الخوف بعد المغفرة، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر كان يقول: "وددت أني شجرة تعضد".
وقوله: 11- "إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم"، واختلف في هذا الاستثناء، قيل: هذا إشارة إلى أن موسى حين قتل القبطي خاف من ذلك، ثم تاب فقال: رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، فغفر له. قال ابن جريج: قال الله تعالى لموسى: إنما أخفتك لقتلك النفس. وقال: معنى الآية: لا يخيف الله الأنبياء إلا بذنب يصيبه أحدهم، فإن أصابه أخافه حتى يتوب، فعلى هذا التأويل يكون الاستثناء صحيحاً وتناهى الخبر عن الرسل عند قوله: "إلا من ظلم"، ثم ابتدأ الخبر عن حال من ظلم من الناس كافة. وفي الآية متروك استغني عن ذكره بدلالة الكلام عليه، تقديره: فمن ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم.
وقال بعض العلماء: ليس هذا باستثناء من المرسلين لأنه لا يجوز عليهم الظلم، بل هو استثناء من المتروك في الكلام، معناه: لا يخاف لدي المرسلون، إنما الخوف على غيرهم من الظالمين، إلا من ظلم ثم تاب، وهذا من الاستثناء المنقطع، معناه. لكن من ظلم من سائر الناس فإنه يخاف، فإن تاب وبدل حسناً بعد سوء فإن الله غفور رحيم، يعني يغفر الله له ويزيل الخوف عنه.
وقال بعض النحويين: إلا ها هنا بمعنى: ولا، يعني: لا يخاف لدي المرسلون ولا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء، يقول: لا يخاف لدي المرسلون ولا المذنبون التائبون، كقوله تعالى: "لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم" (البقرة-150)، يعني: ولا الذين ظلموا.
11 -" إلا من ظلم ثم بدل حسناً بعد سوء فإني غفور رحيم " استثناء منقطع استدرك به ما يختلج في الصدر من نفي الخوف عن كلهم ، وفيهم من فرطت منه صغيرة فإنهم وإن فعلوها أتبعوا فعلها ما يبطلها ويستحقون به من الله مغفرة ورحمة فإنه لا يخاف أيضاً ، وقصد تعريض موسى بوكزه القبطي . وقيل متصل وثم بدل مستأنف معطوف على محذوف أي عن ظلم ثم بدل ذنبه بالتوبة .
11. Save him who hath done wrong and afterward hath changed evil for good. And lo! I am Forgiving, Merciful.
11 - But if any have done wrong and have thereafter substituted good to take the place of evil, truly, I am Oft Forgiving, Most Merciful.