11 - اذكر (إذ يغشيكم النعاس أمنةً) أمناً مما حصل لكم من الخوف (منه) تعالى (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) من الأحداث والجنابات (ويذهب عنكم رجز الشيطان) وسوسته إليكم بأنكم لو كنتم على الحق ما كنتم ظمأى محدثين والمشركون على الماء (وليربط) يحبس (على قلوبكم) باليقين والصبر (ويثبت به الأقدام) أن تسوخ في الرمل
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: " ولتطمئن به قلوبكم "، " إذ يغشيكم النعاس "، ويعني بقوله: " يغشيكم النعاس "، يلقي عليكم النعاس، " أمنة " يقول: أماناً من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عز وجل.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله قال: النعاس في القتال، أمنة من الله عز وجل، وفي الصلاة من الشيطان.
حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري في قوله: ((يغشاكم النعاس أمنة منه))، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله بنحوه، قال: قال عبد الله، فذكر مثله.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله، بنحوه.
و((الأمنة)) مصدر من قول القائل: ((أمنت من كذا أمنة، وأماناً، وأمناً)) وكل ذلك بمعنى واحد.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " أمنة منه "، أماناً من الله عز وجل.
... قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " أمنة "، قال: أمناً من الله.
حدثني يونس قال، حدثنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قوله: " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه "، قال: أنزل الله عز وجل النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أحد. فقرأ: " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا " [آل عمران: 154].
واختلفت القرأة في قراءة قوله: " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ".
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة: ((يغشيكم النعاس))، بضم الياء وتخفيف الشين، ونصب ((النعاس))، من: ((أغشاهم الله النعاس فهو يغشيهم)).
وقرأته عامة قرأة الكوفيين: " يغشيكم "، بضم الياء وتشديد الشين، من: ((غشاهم الله النعاس فهو يغشيهم)).
وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: ((يغشاكم النعاس))، بفتح الياء ورفع ((النعاس))، بمعنى: ((غشيهم النعاس فهو يغشاهم)).
واستشهد هؤلاء لصحة قراءتهم كذلك بقوله في ((آل عمران)): " يغشى طائفة " [آل عمران: 154].
قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب: " إذ يغشيكم "، على ما ذكرت من قراءة الكوفيين، لإجماع جميع القرأة على قراءة قوله: " وينزل عليكم من السماء ماء "، بتوجيه ذلك إلى أنه من فعل الله عز وجل، فكذلك الواجب أن يكون كذلك " يغشيكم "، إذ كان قوله: " وينزل "، عطفاً على ((يغشى))، ليكون الكلام متسقاً على نحو واحد.
وأما قوله عز وجل: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به "، فإن ذلك مطر أنزله الله من السماء يوم بدر ليطهر به المؤمنين لصلاتهم، لأنهم كانوا أصبحوا يومئذ مجنبين على غير ماء. فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا، وكان الشيطان قد وسوس إليهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر. فذلك ربطه على قلوبهم، وتقويته أسبابهم، وتثبيته بذلك المطر أقدامهم، لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملة ميثاء، فلبدها المطر، حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها، توطئةً من الله عز وجل لنبيه عليه السلام وأوليائه، أسباب التمكن من عدوهم والظفر بهم.
وبمثل الذي قلنا تتابعت الأخبار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم من أهل العلم.
ذكر الأخبار الواردة بذلك:
حدثنا هرون بن إسحق قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحق ، عن حارثة،"عن علي رضي الله عنه قال: أصابنا من الليل طش من المطر - يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر - فانطلقنا تحت الشجرة والحجف نستظل تحتها من المطر، وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه: اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض!، فلما أن طلع الفجر، نادى: الصلاة، عباد الله!، فجاء الناس من تحت الشجر والحدف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرض على القتال ".
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، وأبو خالد، عن داود، عن سعيد بن المسيب: " ماء ليطهركم به "، قال: طش يوم بدر.
حدثني الحسن بن يزيد قال، حدثنا حفص، عن داود، عن سعيد، بنحوه.
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، وعبد الأعلى، عن داود، عن الشعبي ، وسعيد بن المسيب، قالا: طش يوم بدر.
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي ، وسعيد بن المسيب في هذه الآية: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان "، قالا: طش كان يوم بدر، فثبت الله به الأقدام.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ((إذ يغشاكم النعاس أمنة منه)) الآية، ذكر لنا أنهم مطروا يومئذ حتى سال الوادي ماءً، واقتتلوا على كثيب أعفر، فلبده الله بالماء، وشرب المسلمون وتوضأوا وسقوا، وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان.
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم - يعني: حين سار إلى بدر - والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة، فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين! فأمطر الله عليهم مطراً شديداً، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم، وأمد الله نبيه بألف من الملائكة، فكان جبريل عليه السلام في خمسمئة من الملائكة مجنبةً، وميكائيل في خمسمئة مجنبةً.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: ((إذ يغشاكم النعاس أمنة منه)) إلى قوله: " ويثبت به الأقدام "، وذلك أن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عنها، نزلوا على الماء يوم بدر، فغلبوا المؤمنين عليه، فأصاب المؤمنين الظمأ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين، حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي، فشر المسلمون، وملأوا الأسقية وسقوا الركاب، واغتسلوا من الجنابة، فجعل الله في ذلك طهوراً، وثبت الأقدام. وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة، فبعث الله عليها المطر، فضربها حتى اشتدت، وثبتت عليها الأقدام.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، فسبقهم المشركون إلى ماء بدر فنزلوا عليه، وانصرف أبو سفيان وأصحابه تلقاء البحر، فانطلقوا. قال: فنزلوا على أعلى الوادي، ونزل محمد صلى الله عليه وسلم في أسفله، فكان الرجل من أصحاب محمد عليه السلام يجنب فلا يقدر على الماء، فيصلي جنباً، فألقى الشيطان في قلوبهم فقال: كيف ترجون أن تظهروا عليهم، وأحدكم يقوم إلى الصلاة جنباً على غير وضوء! قال: فأرسل الله عليهم المطر، فاغتسلوا وتوضأوا وشربوا، واشتدت لهم الأرض، وكانت بطحاء تدخل فيها أرجلهم، فاشتدت لهم من المطر، واشتدوا عليها " .
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: غلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء، فظمىء المسلمون وصلوا مجنبين محدثين، وكانت بينهم رمال، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن، فقال: تزعمون أن فيكم نبياً، وأنكم أولياء الله، وقد غلبتم على الماء، وتصلون مجنبين محدثين! قال: فأنزل الله عز وجل ماء من السماء، فسال كل واد، فشرب المسلمون وتطهروا، وثبتت أقدامهم، وذهبت وسوسة الشيطان.
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: " ماء ليطهركم به "، قال: المطر، أنزله عليهم قبل النعاس، " رجز الشيطان "، قال: وسوسته. قال: فأطفأ بالمطر الغبار، والتبدت به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " ماء ليطهركم به "، أنزله عليهم قبل النعاس، طبق بالمطر الغبار، ولبد به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به الأقدام.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " ماء ليطهركم به "، قال: القطر، " ويذهب عنكم رجز الشيطان "، وساوسه. أطفأ بالمطر الغبار، ولبد به الأرض، وطابت به أنفسهم وثبتت به أقدامهم.
حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " رجز الشيطان "، وسوسته.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به "، قال: هذا يوم بدر، أنزل عليهم القطر، " ويذهب عنكم رجز الشيطان "، الذي ألقى في قلوبكم: ليس لكم بهؤلاء طاقة!، " وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ".
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه "، إلى قوله: " ويثبت به الأقدام "، إن المشركين نزلوا بالماء يوم بدر، وغلبوا المسلمين عليه، فأصاب المسلمين الظمأ، وصلوا محدثين مجنبين، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن، ووسوس فيها: إنكم تزعمون أنكم أولياء الله، وأن محمداً نبي الله، وقد غلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين! فأمطر الله السماء حتى سال كل واد، فشرب المسلمون وملأوا أسقيتهم، وسقوا دوابهم، واغتسلوا من الجنابة، وثبت الله به الأقدام. وذلك أنهم كان بينهم وبين عدوهم رملة لا تجوزها الدواب، ولا يمشي فيها الماشي إلا بجهد. فضربها الله بالمطر حتى اشتدت، وثبتت فيها الأقدام.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق : ((إذ يغشاكم النعاس أمنة منه))، أي: أنزلت عليكم الأمنة حتى نمتم لا تخافون، " وينزل عليكم من السماء ماء "، للمطر الذي أصابهم تلك الليلة، فحبس المشركون أن يسبقوا إلى الماء، وخلى سبيل المؤمنين إليه، " ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام "، ليذهب عنهم شك الشيطان، بتخويفه إياهم عدوهم، واستجلاد الأرض لهم، حتى انتهوا إلى منزلهم الذي سبقوا إليه عدوهم.
حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة، وقيامهم يصلون بغير وضوء، فقال: " إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام "، حين تشتدون على الرمل، وهو كهيئة الأرض.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب - وقال مرة: قرأ - " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به "، فقال سعيد: إنما هي: " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ". قال: وقال الشعبي : كان ذلك طشاً يوم بدر.
وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة، أن مجاز قوله: " ويثبت به الأقدام "، ويفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم، فيثبتون لعدوهم.
وذلك قول خلاف لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين، وحسب قول خطاً أن يكون خلافاً لقول من ذكرنا، وقد بينا أقوالهم فيه، وأن معناه: ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابهم.
قوله تعالى: "إذ يغشيكم النعاس" مفعولان. وهي قراءة أهل المدينة، وهي حسنة لإضافة الفعل إلى الله عز وجل لتقدم ذكره في قوله: "وما النصر إلا من عند الله" ولأن بعده وينزل عليكم فأضاف الفعل إلى الله عز وجل. فكذلك الإغشاء يضاف إلى الله عز وجل ليتشاكل الكلام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو يغشاكم النعاس بإضافة الفعل إلى النعاس. دليله "أمنة نعاسا يغشى" [آل عمران: 154] في قراءة من قرأ بالياء أو بالتاء، فأضاف الفعل إلى النعاس أو إلى الأمنة. والأمنة هي النعاس، فأخبر أن النعاس هو الذي يغشى القوم. وقرأ الباقون يغشيكم بفتح الغين وشد الشين. النعاس بالنصب على معنى قراءة نافع، لغتان بمعنى غشى وأغشى، قال الله تعالى: "فأغشيناهم" [يس: 9] وقال: "فغشاها ما غشى" [النجم: 54]. وقال: "كأنما أغشيت وجوههم" [يونس: 27]. قال مكي: والاختيار ضم الياء والتشديد ونصب النعاس، لأن بعده أمنةً منه والهاء في منه لله، فهو الذي يغشيهم النعاس، ولأن الأكثر عليه. وقيل: أمنة من العدو. و "أمنة" مفعول من أجله أو مصدر، يقال: أمن أمنة وأمنا وأمانا، كلها سواء. والنعاس حالة الآمن الذي لا يخاف. وكان هذا النعاس في الليلة التي كان القتال من غدها، فكان النوم عجيباً مع ما كان بين أيديهم من الأمر المهم، ولكن الله ربط جأشهم. و"عن علي رضي الله عنه قال:
ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح"، ذكره البيهقي. المارودي: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أحدهما أن قواهم بالاستراحة على القتال من الغد. الثاني أن أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما يقال: الأمن منيم، والخوف مسهر. وقيل: غشاهم في حال التقاء الصفين. وقد مضى مثل هذا في يوم أحد في آل عمران.
قوله تعالى: "وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام" ظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر. وقال ابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس. وحكى الزجاج: أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه، وبقي المؤمنون لا ماء لهم، فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك، فقال بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسوله وحالنا هذه والمشركون على الماء. فأنزل الله المطر ليلة بدر السابعة عشرة من رمضان حتى سالت الأودية، فشربوا وتطهروا وسقوا الظهر وتلبدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين حتى ثبتت فيها أقدام المسلمين وقت القتال. وقد قيل: إن هذه الأحوال كانت قبل وصولهم إلى بدر، وهو أصح، وهو الذي ذكره ابن إسحاق في سيرته وغيره. وهذا اختصاره: قال ابن عباس: "لما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان أنه مقبل من الشأم ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش فيها الأموال فاخرجوا إليهم لعل الله أن ينفلكموها قال: فانبعث معه من خف، وثقل قوم وكرهوا الخروج، وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلوي على من تعذر، ولا ينتظر من غاب ظهره، فسار في ثلثمائة وثلاث عشر من أصحابه من مهاجري وأنصاري". وفي البخاري عن البراء بن عازب قال:
كان المهاجرون يوم بدر نيفاً وثمانين، وكان الأنصار نيفاً وأربعين ومائتين. وخرج أيضاً عنه قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا ثلثمائة وبضعة عشر، على عدد أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر، وما جاوز معه إلا مؤمن. وذكر البيهقي "عن أبي أيوب الأنصاري قال:
فخرجنا -يعني إلى بدر- فلما سرنا يوماً أو يومين أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتعاد، ففعلنا فإذا نحن ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً، فأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم بعدتنا، فسر بذلك وحمد الله وقال: عدة أصحاب طالوت". قال ابن إسحاق: وقد ظن الناس بأجمعهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلقى حرباً فلم يكثر استعدادهم. وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفاً على أموال الناس، حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استنفر لكم الناس، فحذر عند ذلك واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشاً يستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد عرض لها في أصحابه، ففعل ضمضم. فخرج أهل مكة في ألف رجل أو نحو ذلك، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وأتاه الخبر عن قريش بخروجهم ليمنعوا عيرهم، فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس، فقام أبو بكر فقال فأحسن، وقام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، امض لما أمرك الله، فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل "فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون" [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد -يعني مدينة الحبشة- لجالدنا معك من دونه، فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير. ثم قال: أشيروا علي أيها الناس يريد الأنصار. وذلك أنهم عدد الناس، وكانوا حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذممنا، نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى أن عليها نصرته إلا بالمدينة، وأنه ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو بغير بلادهم. فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه سعد بن معاذ -وقيل سعد بن عبادة، ويمكن أنهما تكلما جميعاً في ذلك اليوم- فقال: يا رسول الله، كأنك تريدنا معشر الأنصار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجل فقال: إنا قد آمنا بك واتبعناك، فامض لما أمرك الله، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امضوا على بركة الله فكأني أنظر إلى مصارع القوم. فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبق قريشاً إلى ماء بدر. ومنع قريشاً من السبق إليه مطر عظيم أنزله الله عليهم، ولم يصب منه المسلمين إلا ما شد لهم دهس الوادي وأعانهم على المسير. والدهس: الرمل اللين الذي تسوخ فيه الأرجل. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أدنى ماء من مياه بدر إلى المدينة، فأشار عليه الحباب بن المنذر بن عمرو بن الجموح بغير ذلك وقال له: يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً أنزلكه الله فليس لنا أن نتقدمه أو نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال عليه السلام: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس لك بمنزل، فانهض بنا إلى أدنى ماء من القوم فننزله ونعور ما وراءه من القلب، ثم نبني عليه حوضاً فنملأه فنشرب ولا يشربون. فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من رأيه، وفعله. ثم التقوا فنصر الله نبيه والمسلمين، فقتل من المشركين سبعين وأسر منهم سبعين، وانتقم منهم للمؤمنين، وشفى الله صدر رسوله عليه السلام وصدور أصحابه من غيظهم. وفي ذلك يقول حسان:
عرفت ديار زينب بالكثيب كخط الوحي في الورق القشيب
تداولها الرياح وكل جون من الوسمي منهمر سكوب
فأمسى ربعها خلقاً وأمست يبابا بعد ساكنها الحبيب
فدع عنك التذكر كل يوم ورد حرارة الصدر الكئيب
وخبر بالذي لا عيب فيه بصدق غير إخبار الكذوب
بما صنع الإله غداة بدر لنا في المشركين من النصيب
غداة كأن جمعهم حراء بدت أركانه جنح الغروب
فلاقيناهم منا بجمع كأسد الغاب مردان وشيب
أمام محمد قد وازروه على الأعداء في لفح الحروب
بأيديهم صوارم مرهفات وكل مجرب خاظي الكعوب
بنو الأوس الغطارف وازرتها بنو النجار في الدين الصليب
فغادرنا أبو جهل صريعا وعتبة قد تركنا بالجبوب
وشيبة قد تركنا في رجال ذوي نسب إذا نسبوا حسيب
يناديهم رسول الله لما قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا كلامي كان حقا وأمر الله يأخذ بالقلوب
فما نطقوا، ولو نطقوا لقالوا أصبت وكنت ذا رأي مصيب
وهنا ثلاث مسائل:
الأولى- قال مالك: بلغني "أن جبريل عليه السلام قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف أهل بدر فيكم؟ قال: خيارنا فقال: إنكم كذلك فينا". فدل هذا على أن شرف المخلوقات ليس بالذوات، وإنما هو بالأفعال. فللملائكة أفعالها الشريفة من المواظبة على التسبيح الدائم. ولنا أفعالنا بالإخلاص بالطاعة. وتتفاضل الطاعات بتفضيل الشرع لها، وأفضلها الجهاد، وأفضل الجهاد يوم بدر، لأن بناء الإسلام كان عليه.
الثانية- ودل خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلقى العير على جواز النفير للغنيمة لأنها كسب حلال. وهو يرد ما كره مالك من ذلك، إذ قال: ذلك قتال على الدنيا، وما جاء أن من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله دون من يقاتل للغنيمة، يراد به إذا كان قصده وحده وليس للدين فيه حظ. وروى عكرمة "عن ابن عباس قال:
قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر: عليك بالعير، ليس دونها شيء. فناداه العباس وهو في الأسرى: لا يصلح هذا. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ولم؟ قال: لأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد أعطاك الله ما وعدك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صدقت. وعلم العباس بحديث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبما كان من شأن بدر"، فسمع ذلك في أثناء الحديث.
الثالثة- روى مسلم عن أنس بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك قتلى بدر ثلاثاً، ثم قام عليهم فناداهم فقال:
يا أبا جهل بن هشام يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقاً فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً. فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يسمعون، وأنى يجيبون وقد جيفوا؟ قال: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا. ثم أمر بهم فسحبوا فألقوا في القليب، قليب بدر". جيفوا بفتح الجيم والياء، ومعناه أنتنوا فصاروا جيفا. وقول عمر: يسمعون استبعاد على ما جرت به حكم العادة. فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يسمعون كسمع الأحياء. وفي هذا ما يدل على أن الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته، وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم" الحديث. أخرجه الصحيح.
قوله تعالى: "ويثبت به الأقدام" الضمير في به عائد على الماء الذي شد دهس الوادي، كما تقدم. وقيل: هو عائد على ربط القلوب، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب.
يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم أماناً أمنهم به من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عدوهم وقلة عددهم, وكذلك فعل تعالى بهم يوم أحد كما قال تعالى: "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم" الاية, قال أبو طلحة: كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد, ولقد سقط السيف من يدي مراراً يسقط وآخذه, ويسقط وآخذه, ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحجف, وقال الحافظ أبو يعلى حدثنا زهير حدثنا ابن مهدي عن شعبة عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن علي رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم, إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح. وقال سفيان الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: النعاس في القتال أمنة من الله, وفي الصلاة من الشيطان, وقال قتادة: النعاس في الرأس, والنوم في القلب, قلت: أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد وأمر ذلك مشهور جداً, وأما الاية الشريفة إنما هي في سياق قصة بدر, وهي دالة على وقوع ذلك أيضاً وكأن ذلك كائن للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله, وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم وكما قال تعالى: " فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا " ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه وهما يدعوان أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ثم استيقظ مبتسماً فقال: "أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع" ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى: "سيهزم الجمع ويولون الدبر". وقوله "وينزل عليكم من السماء ماء" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر والمشركون بينهم وبين الماء رملة دعصة وأصاب المسلمين ضعف شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ يوسوس بينهم تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون مجنبين فأمطر الله عليهم مطراً شديداً فشرب المسلمون وتطهروا وأذهب الله عنهم رجس الشيطان وثبت الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب فساروا إلى القوم, وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة فكان جبريل في خمسمائة مجنبة, وميكائيل في خمسمائة مجنبة. وكذا قال العوفي عن ابن عباس: إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا عنها نزلوا على الماء يوم بدر فغلبوا المؤمنين عليه فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين محدثين حتى تعاطوا ذلك في صدورهم فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي فشرب المؤمنون وملؤوا الأسقية وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت به الأقدام وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله المطر عليها فضربها حتى اشتدت وثبتت عليها الأقدام. ونحو ذلك روي عن قتادة والضحاك والسدي, وقد روي عن سعيد بن المسيب والشعبي والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم أنه عطش أصابهم يوم بدر. والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ؟ فقال " بل منزل نزلته للحرب والمكيدة" فقال يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب, ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل كذلك, وفي مغازي الأموي أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ذلك الملك, يا محمد إن ربك يقرئك السلام ويقول لك إن الرأي ما أشار به الحباب بن المنذر فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جبريل عليه السلام فقال "هل تعرف هذا" ؟ فنظر إليه فقال: ما كل الملائكة أعرفهم وإنه ملك وليس بشيطان. وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي رحمه الله حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهساً فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مالبد لهم الأرض, ولم يمنعهم من المسير وأصاب قريشاً مالم يقدروا على أن يرحلوا معه وقال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار وتلبدت به الأرض وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم, وقال ابن جرير: حدثنا هارون بن إسحاق حدثنا مصعب بن المقدام حدثنا إسرائيل حدثنا أبو إسحاق عن حارثة عن علي رضي الله عنه قال: أصابنا من الليل طش من المطر يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر فانطلقنا تحت الشجر والحجف نستظل تحتها من المطر وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرض على القتال. وقوله "ليطهركم به" أي من حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر "ويذهب عنكم رجز الشيطان" أي من وسوسة أو خاطر سيء وهو تطهير الباطن كما قال تعالى في حق أهل الجنة " عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة " فهذا زينة الظاهر "وسقاهم ربهم شراباً طهوراً" أي مطهراً لما كان من غل أو حسد أو تباغض وهو زينة الباطن وطهارته "وليربط على قلوبكم" أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن "ويثبت به الأقدام" وهو شجاعة الظاهر, والله أعلم.
وقوله "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا" وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها وهو أنه تعالى وتقدس وتبارك وتمجد أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا قال ابن إسحاق: وآزروهم. وقال غيره: قاتلوا معهم وقيل كثروا سوادهم وقيل كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيقول سمعت هؤلاء القوم يعني المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن فيحدث المسلمون بعضهم بعضاً بذلك فتقوى أنفسهم حكاه ابن جرير وهذا لفظه بحروفه, وقوله "سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب" أي ثبتوا أنتم المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم عن أمري لكم بذلك سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري وكذب رسولي "فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان" أي اضربوا الهام ففلقوها, واحتزوا الرقاب فقطعوها, وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم وقد اختلف المفسرون في معنى "فوق الأعناق" فقيل معناه اضربوا الرؤوس, قاله عكرمة وقيل معناه أي على الأعناق وهي الرقاب قاله الضحاك وعطية العوفي ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق " وقال وكيع عن المسعودي عن القاسم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم "إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله, إنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق" واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام, قلت وفي مغازي الأموي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول "يفلق هاماً" فيقول أبو بكر:
من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فيبتدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول البيت ويستطعم أبا بكر رضي الله عنه إنشاد آخره لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر كما قال تعالى: "وما علمناه الشعر وما ينبغي له" وقال الربيع بن أنس: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به, وقوله "واضربوا منهم كل بنان" وقال ابن جرير: معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم, والبنان جمع بنانة كما قال الشاعر:
ألا ليتني قطعت مني بنانة ولاقيته في البيت يقظان حاذرا
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "واضربوا منهم كل بنان" يعني بالبنان الأطراف وكذا قال الضحاك وابن جرير: وقال السدي البنان الأطراف ويقال كل مفصل وقال عكرمة وعطية العوفي والضحاك في رواية أخرى كل مفصل, وقال الأوزاعي في قوله تعالى: "واضربوا منهم كل بنان" قال اضرب منه الوجه والعين وارمه بشهاب من نار فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك وقال العوفي عن ابن عباس: فذكر قصة بدر إلى أن قال: فقال أبو جهل لا تقتلوهم قتلاً ولكن خذوهم أخذاً حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ورغبتهم عن اللات والعزى فأوحى الله إلى الملائكة "أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان" الاية, فقتل أبو جهل لعنه الله في تسعة وستين رجلاً, وأسر عقبة بن أبي معيط فقتل صبراً فوفى ذلك سبعين يعني قتيلاً ولهذا قال تعالى: "ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله" أي خالفوهما فساروا في شق, وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق, ومأخوذ أيضاً من شق العصا وهو جعلها فرقتين "ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب" أي هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه لا يفوته شيء ولا يقوم لغضبه شيء تبارك وتعالى لا إله ولا رب سواه "ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار" هذا خطاب للكفار أي ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا واعلموا أيضاً أن للكافرين عذاب النار في الاخرة .
قوله: 11- " إذ يغشيكم " الظرف منصوب بفعل مقدر كالذي قبله، أو بدل ثان من إذ يعدكم، أو منصوب بالنصر المذكور قبله، وقل غير ذلك مما لا وجه له، و "يغشيكم" هي قراءة نافع وأهل المدينة على أن الفاعل هو الله سبحانه، وهذه القراءة هي المطابقة لما قبلها: أعني قوله: "وما النصر إلا من عند الله" ولما بعدها أعني "وينزل عليكم" فيتشاكل الكلام ويتناسب. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو " يغشيكم " على أن الفاعل النعاس، وقرأ الباقون "يغشيكم" بفتح الغين وتشديد الشين، وهي كقراءة نافع وأهل المدينة في إسناد الفعل إلى الله، ونصب النعاس. قال مكي: والاختيار ضم الياء والتشديد، ونصب النعاس لأن بعده "أمنة منه" والهاء في منه لله فهو الذي يغشيهم النعاس، ولأن الأكثر عليه، وعلى القراءة الأولى والثالثة يكون انتصاب أمنةً على أنها مفعول له، ولا يحتاج في ذلك إلى تأويل وتكلف، لأن فاعل الفعل المعلل والعلة واحد بخلاف انتصابها على العلة، باعتبار القراءة الثانية فإنه يحتاج إلى تكلف، وأما على جعل الأمنة مصدراً فلا إشكال، يقال: أمن أمنة وأمناً وأماناً، وهذه الآية تتضمن ذكر نعمة أنعم الله بها عليهم، وهي أنهم مع خوفهم من لقاء العدو والمهابة لجانبه سكن الله قلوبهم وأمنها حتى ناموا آمنين غير خائفين، وكان هذا النوم في الليلة التي كان القتال في غدها. قيل: وفي امتنان الله عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان: أحدهما: أنه قواهم بالاستراحة على القتال من الغد، الثاني: أنه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم، وقيل: إن النوم غشيهم في حال التقاء الصفين، وقد مضى في يوم أحد نحو من هذا في سورة آل عمران. قوله: "وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به" هذا المطر كان بعد النعاس، وقيل: قبل النعاس. وحكى الزجاج أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر، فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماء لهم، فأنزل الله المطر ليلة بدر، والذي في سيرة ابن إسحاق وغيره أن المؤمنين هم الذين سبقوا إلى ماء بدر وأنه منع قريشاً من السبق إلى الماء مطر عظيم ولم يصب المسلمين منه إلا ما شد لهم دهس الوادي وأعانهم على المسير، ومعنى "ليطهركم به" ليرفع عنكم الأحداث "ويذهب عنكم رجز الشيطان" أي وسوسته لكم بما كان قد سبق إلى قلوبهم من الخواطر التي هي منه من الخوف والفشل حتى كانت حالهم حال من يساق إلى الموت "وليربط على قلوبكم" فيجعلها صابرة قوية ثابتة في مواطن الحرب، والضمير في "به" من قوله: "ويثبت به الأقدام" راجع إلى الماء الذي أنزله الله: أي يثبت بهذا الماء الذي أنزله عليكم عند الحاجة إليه أقدامكم في مواطن القتال، وقيل: الضمير راجع إلى الربط المدلول عليه بالفعل.
11 - " إذ يغشيكم النعاس " ، قرأ ابن كثير و أبو عمرو : ( يغشاكم ) بفتح الياء ،( النعاس ) رفع على أن الفعل له ،كقوله تعالى في سورة آل عمران" أمنةً نعاساً يغشى طائفةً منكم " ( آل عمران - 154 ) ، وقرأ أهل المدينة: ( يغشيكم ) بضم الياء وكسر الشين مخففاً ، ( النعاس ) نصب ،كقوله تعالى : " كأنما أغشيت وجوههم " وقرأ آخرون بضم الياء وكسر الشيد مشدداً ، ( النعاس ) نصب ،على أن الفعل لله عز وجل ،كقوله تعالى :" فغشاها ما غشى " ( النجم - 54 ) ، والنعاس : النوم الخفيف . " أمنةً " أمناً " منه " ، مصدر أمنت أمناً وأمنةً وأماناً . قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة وسوسة من الشيطان .
" وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به " ، وذلك أن المسلمين نزلوا يوم بدر على كثيب أعفر ، تسوخ فيه الأقدام وحوافر الدواب ، وسبقهم المشركون إلى ماء بدر وأصبح المسلمون بعضهم محدثين وبعضهم مجنبين ، وأصابهم الظمأ ، ووسوس إليهم الشيطان ، وقال : تزعمون أنكم على الحق وفيكم نبي الله وأنكم أولياء الله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم تصلون محدثين ومجنبين ، فكيف ترجون أن تظهروا عليهم ؟ فأرسل الله عز وجل عليهم مطراً سال منه الوادي فشرب المؤمنون واغتسلوا ، وتوضؤوا وسقوا الركاب ، وملؤوا الأسقية ، وأطفأ الغبار ، ولبد الأرض حتى ثبتت عليه الأقدام ، وزالت عنهم وسوسة الشيطان ، وطابت أنفسهم ، فذلك قوله تعالى : " وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به " من الأحداث والجنابة .
" ويذهب عنكم رجز الشيطان " وسوسته ، " وليربط على قلوبكم " باليقين والصبر " ويثبت به الأقدام " حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض . وقيل : يثبت به الأقدام بالصبر وقوة القلب .
11. " إذ يغشيكم النعاس " بدل ثان من " إذ يعدكم " لإظهار نعمة ثالثة أو متعلق بالنصر أو بما في عند الله معنى الفعل، أو يجعل أو بإضمار اذكر . وقرأ نافع بالتخفيف من أغشيته الشيء إذا غشيته إياه والفاعل على القراءتين هو الله تعالى وقرأ ابن كثير وأبو عمر ( يغشاكم النعاس ) بالرفع."أمنةً منه"أمناً من الله، وهو مفعول له باعتبار المعنى فأن قوله"يغشيكم النعاس" متضمن معنى تنعسون،و( يغشاكم ) بمعناه ، وال"أمنة"فعل لفاعله ويجوزأن يراد بها الإيمان فيكون فعل المغشي، وأن تجعل على القراءة الأخيرة فعل النعاس على المجاز لأنها لأصحابه،أو لأنه كان من حقه أن لا يغشاكم لشدة الخوف فلما غشيهم فكأنه حصلت له أمنة من الله لولاها لم يغشهم كقوله :
يهاب النوم أن يغشى عيوناً تهابك فهو نفار شرود
وقرئ "أمنة"كرحمة وهي لغة."وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به" من الحدث والجنابة." ويذهب عنكم رجز الشيطان " يعني الجنابة لأنها من تخييله. أو وسوسته وتخويفه إياهم من العطش . روي أنهم نزلوا في كثيب أغفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء وناموا فاحتلم أكثرهم وقد غلب المشركون على الماء، فوسوس إليهم الشيطان وقال: كيف تنصرون وقد غلبتم على الماء وانتم تصلون محدثين مجنبين وتزعمون أنكم أولياء الله، وفيكم رسوله فأشفقوا فأنزل الله المطر، فمطروا ليلاً حتى جرى الوادي واتخذوا الحياض على عدوته وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضؤوا، وتلبد الرمل الذي بينهم وبين العدو حتى ثبتت عليه الأقدام وزالت الوسوسة ."وليربط على قلوبكم"بالوثوق على لطف الله بهم . "ويثبت به الأقدام"أي بالمطر حتى لا تسوخ في الرمل، أو بالربط على القلوب حتى تثبت في المعركة.
11. When he made the slumber fall upon you as a reassurance from Him and sent down water from the sky upon you, that thereby He might purify you, and remove from you the fear of Satan, and make strong your hearts and firm (your) feet thereby.
11 - Remember he covered you with a sort of drowsiness, to give you calm as from himself, and he caused rain to descend on you from heaven, to clean you therewith, to remove from you the stain of Satan, to strengthen your hearts, and to plant your feet firmly therewith.