(وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير) طاعة كصلة وصدقة (تجدوه) أي ثوابه (عند الله إن الله بما تعملون بصير) فيجازيكم به
قال أبو جعفر: وقد صرح هذا القول من قول الله جل ثناؤه، بأن خطابه بجميع هذه الآيات من قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا" وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو خطاب منه للمؤمنين من أصحابه، وعتاب منه لهم، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم ودليل على أنهم كانوا استعملوا أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول صلى الله عليه وسلم الجفاء، وما لم يكن له استعماله معه، تأسيًا باليهود في ذلك أو يبعضهم. فقال لهم ربهم ناهيًا لهم عن استعمال ذلك: لا تقولوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول له اليهود: راعنا! تأسيًا منكم بهم، ولكن قولوا: انظرنا واسمعوا، فإن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بي، وجحود لحقي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره، ولمن كفر بي عذاب أليم؟ فإن اليهود والمشركين ما يودون أن ينزل! عليكم من خير من ربكم، ولكن كثيرًا منهم ودوا أنهم يردونكم من بعد إيمانكم كفارًا، حسدًا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، من بعد ما تبين لهم الحق في أمر محمد، وأنه نبي إليهم وإلى خلقي كافة.
وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله:"ود كثير من أهل الكتاب "، كعب بن الأشرف.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: "ود كثير من أهل الكتاب"، هو كعب بن الأشرف.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان المعمري، عن معمر، عن الزهري وقتادة : "ود كثير من أهل الكتاب "، قال: كعب بن الأشرف.
وقال بعضهم بما: حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحق وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحق قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان حي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدًا، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم. وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله فيهما: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم " الآية.
قال أبو جعفر: وليس لقول القائل عنى بقوله: "ود كثير من أهل الكتاب " كعب بن الأشرف، معنى مفهوم. لأن كعب بن الأشرف واحد، وقد أخبر الله جل ثناؤه أن كثيرًا منهم يودون لو يردون المؤمنين كفارًا بعد إيمانهم، والواحد لا يقال له كثير، بمعنى الكثرة في العدد، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية، الكثرة في العز ورفعة المنزلة في قومه وعشيرته، كما يقال: فلان في الناس كثيراً، يراد به كثرة المنزلة والقدر. فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ، لأن الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة فقال: "لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا"، فذلك دليل على أنه عنى الكثرة في العدد. أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة، والمقصود بالخبر عنه الواحد، نظير ما قلنا آنفاً في بيت جميل، فيكون ذلك أيضاً خطأ. وذلك أن الكلام إذا كان بذلك المعنى، فلا بد من دلالة فيه تدل على أن ذلك معناه، ولا دلالة تدل في قوله: "ود كثير من أهل الكتاب " أن المراد به واحد دون جماعة كثيرة، فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك، وإحالة دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال.
القول في تأويل قوله تعالى: "حسدا من عند أنفسهم".
قال أبو جعفر: ويعني بقوله جل ثناؤه: "حسدا من عند أنفسهم "، أن كثيرًا من أهل الكتاب يودون للمؤمنين ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يودونه لهم، من الردة عن إيمانهم إلى الكفر، حسدًا منهم وبغيًا عليهم.
و الحسد إذا منصوب على غير النعت للكفار، ولكن على وجه المصدر الذي يأتي خارجًا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ المصدر، كقول القائل لغيره: تمنيت لك ما تمنيت من السوء حسدًا مني لك ، فيكون الحسد مصدرًا من معنى قوله: تمنيت من السوء. لأن في قوله: تمنيت لك ذلك، معنى: حسدتك على ذلك. فعلى هذا نصب أ الحسد، لأن في قوله: "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا"، معنى: حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله من التوفيق، ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيمان برسوله، وخصكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلاً منكم رؤوفاً بكم رحيمًا، ولم يجعله منهم فتكونوا لهم تبعًا. فكان قوله: "حسدا"، مصدرًا من ذلك المعنى.
وأما قوله: "من عند أنفسهم "، فإنه يعني بذلك: من قبل أنفسهم، كما يقول القائل: لي عندك كذا وكذا، بمعنى: لي قبلك، وكما: حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قوله:"من عند أنفسهم "، قال: من قبل أنفسهم.
وإنما أخبر الله جل ثناؤه عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين، من عند أنفسهم، إعلامًا منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: "من بعد ما تبين لهم الحق ".
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "من بعد ما تبين لهم الحق "، أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب الذين يودون أنهم يردونكم كفارًا من بعد إيمانكم الحق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند ربه، والملة التي دعا إليها فأضاء لهم: أن ذلك الحق الذي لا يمترون فيه، كما: حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "من بعد ما تبين لهم الحق"، من بعد ما تبين لهم أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسلام دين الله.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: "من بعد ما تبين لهم الحق "، يقول: تبين لهم أن محمدًا رسول الله، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله وزاد فيه: فكفروا به حسدًا وبغيًا، إذ كان من غيرهم.
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: "من بعد ما تبين لهم الحق "، قال: الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم، فتبين لهم أنه هو الرسول.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "من بعد ما تبين لهم الحق "، قال: قد تبين لهم أنه رسول الله.
قال أبو جعفر: فدل بقوله ذلك: أن كفر الذين قص قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله، عناد، وعلى علم منهم ومعرفة بأنهم على الله مفترون، كماحدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشربن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: "من بعد ما تبين لهم الحق "، يقول الله تعالى ذكره: من بعد ما أضاء لهم الحق، لم يجهلوا منه شيئًا، ولكن الحسد حملهم على الجحد. فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشد الملامة.
القول في تأويل قوله تعالى: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره".
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "فاعفوا"، فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم، إرادة صدكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم: "اسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين" (النساء: 46)، واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء، ويقضي فيهم ما يريد. فقضى فيهم تعالى ذكره وأتى بأمره، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين به: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون" (التوبة: 29). فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح، بفرض قتالهم على المؤمنين، حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة، أو يؤدوا الجزية عن يد صغارًا، كما:حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير"، ونسخ ذلك قوله: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" (التوبة: 5).
حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره "؟ فأتى الله بأمره فقال: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" (التوبة: 29)، حتى بلغ "وهم صاغرون" ( التوبة: 29) أي: صغارًا ونقمة لهم. فنسخت هذه الآية ما كان قبلها: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ".
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره "، قال: اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرًا. فأحدث الله بعد فقال: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" إلى "وهم صاغرون"(التوبة: 29).
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " قال: نسختها: "اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" (التوبة: 5).
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط ، عن السدي: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " قال: هذا منسوخ، نسخه: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر" إلى قوله "وهم صاغرون" (التوبة: 29).
القول في تأويل قوله تعالى: "إن الله على كل شيء قدير".
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى القدير، وأنه القوي.
فمعنى الآية ههنا: إن الله على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم قدير، إن شاء انتقم منهم بعنادهم ربهم، وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان، لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يتعذر عليه أمر شاء قضاءه، لأن له الخلق والأمر.
قوله تعالى : "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله" جاء في الحديث
"إن العبد إذا مات قال الناس ما خلف وقالت الملائكة ما قدم" . وخرج البخاري و النسائي عن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله . قالوا : يا رسول الله ، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منكم من أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله . مالك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت" ، لفظ النسائي . ولفظ البخاري : قال عبد الله قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله ، قالوا : يا رسول الله ، ما منا إلا ماله أحب إليه ، قال : فإن ماله ما قدم ومال وارثه ما أخر" . وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه مر ببقيع الغرقد فقال : السلام عليكم أهل القبور ، أخبار ما عندنا أن نساءكم قد تزوجن ، ودوركم قد سكنت ، وأموالكم قد قسمت . فأجابه هاتف : يا ابن الخطاب : أخبار ما عندنا أن ما قدمناه وجدناه ، وما أنفقنا فقد ربحناه ، وما خلفناه فقد خسرناه . ولقد أحسن القائل :
قدم لنفس قبل موتك صالحاً واعمل فليس إلى الخلود سبيل
وقال آخر :
قد لنفسك توبة مرجوة قبل الممات وقبل حبس الألسن
وقال آخر :
ولدتك إذ ولدتك أمك باكياً والقوم حولك يضحكون سرورا
فاعمل ليوم تكون فيه إذا بكوا على الذي موتك ضاحكاً مسرورا
وقال آخر :
سابق إلى الخير وبادر به فإنما خلفك ما تعلم
وقدم الخير فكل امرىء على الذي قدمه يقدم
وأحسن من هذا كله قول ابي العتاهية :
أسعد بمالك في حياتك إنما يبقى وراءك مصلح أو مفسد
وإذا تركت لمفسد لم يبقه وأخو الصلاح قليله يتزيد
وإن استطعت فكن لنفسك وارثاً إن الموت نفسه لمسدد
"إن الله بما تعملون بصير" تقدم .
يحذر تعالى: عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر ، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو والاحتمال، حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه، كما قال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس قال: كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب، من أشد يهود للعرب حسداً، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم" الاية. وقال عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، في قوله تعالى: "ود كثير من أهل الكتاب" قال: هو كعب بن الأشرف، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن أبيه أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه أنزل الله "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم" إلى قوله "فاعفوا واصفحوا"، وقال الضحاك: عن ابن عباس، أن رسولاً أمياً يخبرهم بما في أيديهم من الكتب والرسل والايات، ثم يصدق بذلك كله مثل تصديقهم، ولكنهم جحدوا ذلك كفراً وحسداً وبغياً، وكذلك قال الله تعالى: "كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق" يقول من بعد ما أضاء لهم الحق، لم يجهلوا منه شيئاً، ولكن الحسد حملهم على الجحود، فعيرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة، وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم، وما أنزل من قبلهم، بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم وقال الربيع بن أنس "من عند أنفسهم" من قبل أنفسهم، وقال أبو العالية "من بعد ما تبين لهم الحق"، من بعد ما تبين أن محمداً رسول الله، يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، فكفروا به حسداً وبغياً، إذ كان من غيرهم، وكذا قال قتادة والربيع بن أنس، وقوله: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره"، مثل قوله تعالى: " ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " الاية، قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله، "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره"، نسخ ذلك قوله: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"، وقوله: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر "، إلى قوله "وهم صاغرون"، فنسخ هذا عفوه عن المشركين، وكذا قال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة والسدي، إنها منسوخة بآية السيفن ويرشد إلى ذلك أيضاً قوله تعالى: "حتى يأتي الله بأمره"، وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي: أخبرنا أبو اليمان أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى. قال الله تعالى: "فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتأول من العفو ما أمره الله به، حتى أذن الله فيهم بالقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش، وهذا إسناده صحيح ولم أره في شيء من الكتب الستة، ولكن له أصل في الصحيحين عن أسامة بن زيد. وقوله تعالى: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله"، يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم، وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، حتى يمكن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، "يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار"، ولهذا قال تعالى: "إن الله بما تعملون بصير"، يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل، ولا يضيع لديه سواء كان خيراً أو شراً، فإنه سيجازي كل عامل بعمله. وقال أبو جعفر بن جرير : في قوله تعالى: "إن الله بما تعملون بصير"، هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الايات من المؤمنين، إنهم مهما فعلوا من خير أو شر ، سراً وعلانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان خيراً، وبالإساءة مثلها، وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعداً ووعيداً وأمراً وزجراً، وذلك أنه أعلم القوم، أنه بصير بجميع أعمالهم، ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مذخوراً لهم عنده، حتى يثيبهم عليه، كما قال تعالى: "وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله"، وليحذروا معصيته، قال: وأما قوله "بصير" فإنه مبصر ، صرف إلى بصير ، كما صرف مبدع إلى بديع، ومؤلم إلى أليم، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو زرعة، أخبرنا ابن بكير ، حدثني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ هذه الاية: "سميع بصير "، يقول "بكل شيء بصير".
وقوله: 110- "وأقيموا الصلاة" حث من الله سبحانه لهم على الاشتغال بما ينفعهم ويعود عليهم بالمصلحة، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وتقديم الخير الذي يثابون عليه حتى يمكن الله لهم وينصرهم على المخالفين لهم.
وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بكتاب ينزل علينا من السماء نقرأه أو فجر لنا أنهاراً نتبعك ونصدقك، فأنزل الله في ذلك "أم تريدون أن تسألوا رسولكم" -إلى قوله- "سواء السبيل" وكان حيي بن أخطب من أشد اليهود حسداً للعرب إذ خصهم الله ورسوله، وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا، فأنزل الله فيهما "ود كثير من أهل الكتاب" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي قال: سألت العرب محمداً صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: قال رجل: لو كانت كفارتنا كفارات بني إسرائيل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أعطاكم الله خير، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزايا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزايا في الآخرة. وقد أعطاكم الله خيراً من ذلك قال: "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه" الآية، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن"، فأنزل الله: "أم تريدون أن تسألوا رسولكم" الآية. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال: نعم، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم، فأبوا ورجعوا، فأنزل الله "أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل" أن يريهم الله جهرة. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله: "ومن يتبدل الكفر بالإيمان" قال: يتبدل الشدة بالرخاء. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "فقد ضل سواء السبيل" قال: عدل عن السبيل. وأخرج أبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن كعب بن مالك قال: كان اليهود والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وأنزل الله "ود كثير من أهل الكتاب" وفي الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى، قال الله تعالى: "ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا " وقال : "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم" الآية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم بقتل، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله: "من عند أنفسهم" قال: من قبل أنفسهم "من بعد ما تبين لهم الحق" يقول: إن محمداً رسول الله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: "فاعفوا واصفحوا" وقوله: "وأعرض عن المشركين" نحو هذا في العفو عن المشركين قال: نسخ ذلك كله بقوله: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله" الآية، وقوله: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ". وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: "وما تقدموا لأنفسكم من خير" يعني من الأعمال من الخير في الدنيا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "تجدوه عند الله" قال: تجدوا ثوابه.
110. " وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وما تقدموا " (تسلفوا) " لأنفسكم من خير " طاعة وعمل صالح " تجدوه عند الله " وقيل: أراد بالخير المال كقوله تعالى " إن ترك خيراً " (180-البقرة) وأراد من زكاة وصدقه " تجدوه عند الله " حتى الثمرة واللقمة مثل أحد " إن الله بما تعملون بصير ".
110-" وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " عطف على فاعفوا كأنه أمرهم بالصبر والمخالفة والملجأ إلى الله تعالى بالعبادة والبر " وما تقدموا لأنفسكم من خير " كصلاة وصدقة . وقرئ " تقدموا " من أقدم " تجدوه عند الله " أي ثوابه .
" إن الله بما تعملون بصير " لا يضيع عنده عمل . وقرئ بالياء فيكون وعيداً .
110. Establish worship, and pay the poor due; and whatever of good ye send before (you) for your souls, ye will find it with Allah. Lo! Allah is Seer of what ye do.
110 - And be steadfast in prayer and regular in charity: and whatever good ye send froth for your souls before you, ye shall find it with God: for God sees well all that ye do.