(الذين آتيناهم الكتاب) مبتدأ (يتلونه حق تلاوته) أي يقرؤونه كما أنزل ، والجملة حال وحقَّ نصبٌ على المصدر والخبر (أولئك يؤمنون به) نزلت في جماعة قدموا من الحبشة وأسلموا (ومن يكفر به) أي بالكتاب المؤتى بأن يحرفه (فأولئك هم الخاسرون) لمصيرهم إلى النار المؤبدة عليهم
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم"، وليست اليهود، يا محمد، ولا النصارى براضية عنك أبدًا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، فإن الذي تدعوهم إليه من ذلك لهو السبيل إلى الاجتماع فيه معك على الألفة والدين القيم، ولا سبيل لك إلى إرضائهم باتباع ملتهم لأن اليهودية ضد النصرانية، والنصرانية ضد اليهودية، ولا تجتمع النصرانية واليهودية في شخص واحد، في حال واحدة. واليهود والنصارى لا تجتمع على الرضا بك، إلا أن تكون يهوديًا نصرانيًا، وذلك مما لا يكون منك أبدًا، لأنك شخص واحد، ولن يجتمع فيك دينان متضادان في حال واحدة. وإذا لم يكن إلى اجتماعهما فيك في وقت واحد سبيل، لم يكن لك إلى إرضاء الفريقين سبيل. وإذا لم يكن لك إلى ذلك سبيل، فالزم هدى الله الذي لجميع الخلق إلى الألفة عليه سبيل.
وأما الملة فإنها الدين، وجمعها الملل.
ثم قال جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهؤلاء النصارى واليهود الذين قالوا:"لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى": "إن هدى الله هو الهدى". يعني: إن بيان الله هو البيان المقنع، والقضاء الفاصل بيننا، فهلموا إلى كتاب الله وبيانه الذي بين فيه لعباده ما اختلفوا فيه، وهو التوراة التي تقرون جميعًا بأنها من عند الله يتضح لكم فيها المحق منا من المبطل، وأينا أهل الجنة وأينا أهل النار، وأينا على الصواب وأينا على الخطأ.
وإنما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى هدى الله وبيانه، لأن فيه تكذيب اليهود والنصارى فيما قالوا: من أن الجنة لن يدخلها إلا من كان هودًا أو نصارى، وبيان أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وأن المكذب به من أهل النار دون المصدق به.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولئن اتبعت"، يا محمد، هوى هؤلاء اليهود والنصارى فيما يرضيهم عنك من تهود وتنصر، فصرت من ذلك إلى إرضائهم، ووافقت فيه محبتهم من بعد الذي جاءك من العلم بضلالتهم وكفرهم بربهم، ومن بعد الذي اقتصصت عليك من نبئهم في هذه السورة "ما لك من الله من ولي"، يعني بذلك: ليس لك يا محمد من ولي يلي أمرك، وقيم يقوم به،"ولا نصير"، ينصرك من الله فيدفع عنك ما ينزل بك من عقوبته، ويمنعك من ذلك، إن أحل بك ذلك ربك. وقد بينا معنى الولي والنصير فيما مضى قبل.
وقد قيل: إن الله تعالى ذكره أنزل هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، لأن اليهود والنصارى دعته إلى أديانها، وقال كل حزب منهم: إن الهدى هو ما نحن عليه، دون ما عليه غيرنا من سائر الملل. فوعظه الله أن يفعل ذلك، وعلمه الحجة الفاصلة بينهم فيما ادعى كل فريق منهم.
قوله تعالى : "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون" .
قال ابن جرير: يعني بقوله جل ثناؤه: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم" وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبداً، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق، وقوله تعالى: "قل إن هدى الله هو الهدى" أي: قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل، قال قتادة في قوله: "قل إن هدى الله هو الهدى" قال: خصومة علمها الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة، قال قتادة: وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق، ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله"، (قلت): هذا الحديث مخرج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو ، "ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير" فيه تهديد ووعيد شديد للأمة، عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعد ما علموا من القرآن والسنة، عياذاً بالله من ذلك فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته، وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله: "حتى تتبع ملتهم" حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة، كقوله تعالى: "لكم دينكم ولي دين" فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفار، وكل منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا، لأنهم كلهم ملة واحدة وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه، وقال في الرواية الأخرى كقول مالك، إنه لا يتوارث أهل ملتين شتى، كما جاء في الحديث، والله أعلم. وقوله: "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته" قال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: هم اليهود والنصارى، وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير ، وقال سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا إبراهيم بن موسى وعبد الله بن عمران الأصبهاني، قال: أخبرنا يحيى بن يمان حدثنا أسامة بن زيد، عن أبيه عن عمر بن الخطاب "يتلونه حق تلاوته" قال: إذا مر بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار ، وقال أبو العالية: قال ابن مسعود: والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله، ويحرم حرامه، ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله، وكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة ومنصور بن المعتمر عن ابن مسعود، قال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الاية قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه، قال ابن أبي حاتم: وروي عن ابن مسعود نحو ذلك، وقال الحسن البصري: يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو زرعة أخبرنا إبراهيم بن موسى أخبرنا ابن أبي زائدة أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: "يتلونه حق تلاوته" قال: يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأ: "والقمر إذا تلاها" يقول: اتبعها قال: وروي عن عكرمة وعطاء ومجاهد وأبي رزين وإبراهيم النخعي نحو ذلك. وقال سفيان الثوري: أخبرنا زبيد عن مرة عن عبد الله بن مسعود، في قوله: "يتلونه حق تلاوته" قال: يتبعونه حق اتباعه، قال القرطبي: وروى نصر بن عيسى عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "يتلونه حق تلاوته" قال: "يتبعونه حق اتباعه" ثم قال في إسناده غير واحد من المجهولين فيما ذكره الخطيب إلا أن معناه صحيح. وقال أبو موسى الأشعري: من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة. وعن عمر بن الخطاب: هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها، قال: وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب تعوذ، وقوله: "أولئك يؤمنون به" خبر عن "الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته" أي: من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك به يا محمد، كما قال تعالى: "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم" الاية، "قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم" أي: إذا أقمتموها حق الإقامة وآمنتم بها حق الإيمان وصدقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته والأمر باتباعه ونصره وموازرته، قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والاخرة كما قال تعالى: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل" الاية، وقال تعالى: " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا * ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا " أي: إن كان ما وعدنا به من شأن محمد صلى الله عليه وسلم لواقعاً، وقال تعالى: " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون * وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين * أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون " وقال تعالى: " وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد " ولهذا قال تعالى: "ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون" كما قال تعالى: "ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده" وفي الصحيح: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار ".
وقوله: 121- "الذين آتيناهم الكتاب" قيل: هم المسلمون والكتاب هو القرآن، وقيل: من أسلم من أهل الكتاب، والمراد بقوله: "يتلونه" أنهم يعلمون بما فيه فيحللون حلاله ويحرمون حرامه، فيكون من تلاه يتلوه إذا اتبعه، ومنه قوله تعالى: "والقمر إذا تلاها" أي اتبعها كذا قيل، ويحتمل أن يكون من التلاوة: أي يقرأونه حق قراءته لا يحرفونه ولا يبدلونه. وقوله: "الذين آتيناهم الكتاب" مبتدأ وخبره "يتلونه" أو الخبر قوله: "أولئك" مع ما بعده.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليت شعري ما فعل أبواي" فنزل: "إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً ولا تسأل عن أصحاب الجحيم" فما ذكرها حتى توفاه الله. قال السيوطي: هذا مرسل ضعيف الإسناد. ثم رواه من طريق ابن جرير عن داود بن أبي عاصم مرفوعاً وقال: هو معضل الإسناد ضعيف لا تقوم به ولا بالذي قبله حجة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال: "الجحيم" ما عظم من النار. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال: إن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجحون أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبلتهم فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شق ذلك عليهم وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم. فأنزل الله: "ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى" الآية. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة في قوله: "الذين آتيناهم الكتاب" قال: هم اليهود والنصارى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "يتلونه حق تلاوته" قال: يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه عن مواضعه. وأخرجوا عنه أيضاً قال: يتبعونه حق اتباعه، ثم قرأوا: "والقمر إذا تلاها" يقول: اتبعها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال في قوله: "يتلونه حق تلاوته" إذا ملار بذكر الجنة سأل الله الجنة، وإذا مر بذكر النار تعوذ بالله من النار. وأخرج الخطيب في كتاب الرواة بسند فيه مجاهيل عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "يتلونه حق تلاوته" قال: يتبعونه حق اتباعه، وكذا قال القرطبي في تفسيره أن في إسناده مجاهيل، قال: لكن معناه صحيح. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير من طرق عن ابن مسعود في تفسيره هذه الآية مثل ما سبق عن ابن عباس في قوله: يحلون حلاله إلى آخره. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال: يتكلمون به كما أنزل ولا يكتمونه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في هذه الآية قال: هم أصحاب محمد، ثم حكى نحو ذلك عن عمر بن الخطاب. وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن في قوله: "يتلونه حق تلاوته" قال: يعلمون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.
121. " الذين آتيناهم الكتاب " قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا أربعين رجلاً اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام منهم بحيرا، وقال الضحاك : هم من آمن من اليهود عبد الله بن سلام وسعية بن عمرو وتمام بن يهودا وأسد وأسيد ابنا كعب وابن يامين وعبد الله بن صوريا، وقال قتادة و عكرمة : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: هم المؤمنون عامة " يتلونه حق تلاوته " قال الكلبي : يصفونه في كتبهم حق صفته لمن سألهم من الناس، والهاء راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال الآخرون: هي عائدة إلى الكتاب، واختلفوا في معناه فقال ابن مسعود رضي الله عنه: يقرؤونه كما أنزل ولا يحرفونه، ويحلون حلاله ويحرمون حرامه، وقال الحسن : يعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون علم ما أشكل عليهم إلى عالمه، وقال مجاهد : يتبعونه حق اتباعه.
قوله " أولئك يؤمنون به، ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون ".
121-" الذين آتيناهم الكتاب " يريد به مؤمني أهل الكتاب " يتلونه حق تلاوته " بمراعاة اللفظ عن التحريف والتدبر في معناه والعمل بمقتضاه ، وهو حال مقدرة والخبر ما بعده ، أو خبر على أن المراد بالموصول مؤمنوا أهل الكتاب " أولئك يؤمنون به " بكتابهم دون المحرفين . " ومن يكفر به " بالتحريف والكفر بما يصدقه " فأولئك هم الخاسرون " حيث اشتروا الكفر بالإيمان .
121. Those unto whom We have given the Scripture, who read it with the right reading, those believe in it. And whoso disbelieveth in it, those are they who are the losers.
121 - Those to whom we have sent the book study it as it should be studied: they are the ones that believe therein: those who reject faith therein, the loss is their own.