ونزل لما هزموا تذكيراً لهم بنعمة الله: (ولقد نصركم الله ببدر) موضع بين مكة والمدينة (وأنتم أذلة) بقلة العدد والسلاح (فاتقوا الله لعلكم تشكرون) نعمه
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً، وينصركم ربكم، "ولقد نصركم الله ببدر"، على أعدائكم وأنتم يومئذ "أذلة" يعني: قليلون ، في غير منعة من الناس ، حتى أظهركم الله على عدوكم، مع كثرة عددهم وقلة عددكم ، وأنتم اليوم أكثر عدداً منكم حينئذ، فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم ذلك اليوم، "فاتقوا الله"، يقول تعالى ذكره : فاتقوا ربكم بطاعته واجتناب محارمه ، "لعلكم تشكرون"، يقول : لتشكروه على ما من به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق الذي ضل عنه مخالفوكم، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة"، يقول : وأنتم أقل عدداً وأضعف قوة، "فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، أي : فاتقون، فإنه شكر نعمتي.
واختلف في المعنى الذي من أجله سمي بدر بدراً.
فقال بعضهم: سمي بذلك ، لأنه كان ماء لرجل يسمى بدراً، فسمي باسم صاحبه.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن زكريا، عن الشعبي قال : كانت بدر لرجل يقال له بدر، فسميت به.
حدثني يعقوب قال ، حدثنا هشيم قال ، أخبرنا زكريا، عن الشعبي أنه قال: "ولقد نصركم الله ببدر"، قال: كانت بدر بئراً لرجل يقال له بدر، فسميت به.
وأنكر ذلك آخرون وقالوا: ذلك اسم سميت به البقعة، كما سمي سائر البلدان بأسمائها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحارث بن محمد قال ، حدثنا ابن سعد قال ، حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال، حدثنا منصور، عن أبي الأسود، عن زكريا، عن الشعبي قال: إنما سمي بدراً، لأنه كان ماءً لرجل من جهينة يقال له بدر. وقال الحارث، قال ابن سعد، قال الواقدي: فذكرت ذلك لـعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا: فلأي شيء سميت الصفراء؟ ولأي شيء سميت الحمراء؟ ولأي شيء سمي رابغ؟ هذا ليس بشيء، إنما هو اسم الموضع. قال: وذكرت ذلك لـيحيى بن النعمان الغفاري فقال: سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون: هو ماؤنا ومنزلنا، وما ملكه أحد قط يقال له بدر، وما هو من بلاد جهينة، إنما هي بلاد غفار. قال الواقدي: فهذا المعروف عندنا.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول: بدر، ماء عن يمين طريق مكة، بين مكة والمدينة.
وأما قوله: "أذلة"، فإنه جمع ذليل، كما الأعزة جمع عزيز والألبة جمع لبيب.
قال أبو جعفر: وإنما سماهم الله عز وجل "أذلة"، لقلة عددهم ، لأنهم كانوا ثلثمئة نفس وبضة عشر، وعدوهم ما بين التسعمئة إلى الألف -على ما قد بينا فيما مضى- فجعلهم لقلة عددهم "أذلة".
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، وبدر ماء بين مكة والمدينة، التقى عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم والمشركون، وكان أول قتال قاتله نبي الله صلى الله عليه وسلم، وذكر لنا أنه قال لأصحابه يومئذ: أنتم اليوم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت. فكانوا ثلثمئة وبضعة عشر رجلاً، والمشركون يومئذ ألف، أو راهقوا ذلك.
حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر، عن عباد ، عن الحسن في قوله: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، قال يقول : "وأنتم أذلة"، قليل ، وهم يومئذ بضعة عشر وثلثمئة.
حدثت عن عمار قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع، نحو قول قتادة.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة"، أقل عدداً وأضعف قوة.
قال أبو جعفر: وأما قوله : "فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، فإن تأويله، كالذي قد بينت، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، أي: فاتقوني ، فإنه شكر نعمتي.
قوله تعالى:" ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون"
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: " ولقد نصركم الله ببدر" كانت بدر يوم سبعة عشر من رمضان، يوم جمعة لثمانية عشر شهراً من الهجرة، وبدر ماء هنالك وبه سمي الموضع. وقال الشعبي: كان ذلك الماء لرجل من جهينة يسمى بدراً، وبه سمي الموضع. والأول أكثر. وقال الواقدي وغيره: بدر اسم لموضع غير منقول. وسيأتي في قصة بدر في الأنفال. إن شاء الله تعالى.
"أذلة" معناها قليلون، وذلك أنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر او أربعة عشر رجلاً. وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الألف. و(أذلة) جمع ذليل. واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا أعزة، ولكن نسبتهم إلى عدوهم و إلى جميع الكفار في أقطار الأرض تقتضي عند التأمل ذلتهم وأنهم يغلبون. والنصر العون، فنصرهم الله يوم بدر، وقتل فيه صناديد المشركين، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام، وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم . وفي صحيح مسلم عن بريدة قال:
غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، قاتل في ثمان منهن. وفيه: عن أبي إسحاق قال: لقيت زيد بن أرقم فقلت له: كم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال تسع عشرة غزوة. فقلت: فكم غزةت أنت معه؟ فقال: سبع عشرة غزوة. قال فقلت: فما أول غزوة غزاها؟ قال : ذات العسير أو العشير. وهذا كله مخالف لما عليه أهل التواريخ والسير. قال محمد بن سعد في كتاب الطبقات له: إن غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع وعشرون غزوة، وسراياه ست وخمسون، وفي رواية ست وأربعون، والتي قاتل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدر وأحد والمريسيع والخندق وخيبر وقريظة والفتح وحنين والطائف. قال ابن سعد: هذا الذي اجتمع لنا عليه. وفي بعض الروايات أنه قاتل في بني النضير وفي وادي القرى منصرفه من خيبر وفي الغابة. وإذا تقرر هذا فنقول: زيد وبريدة إنما أخبر كل واحد منهما بما في علمه أو شاهده. وقول زيد:(إن أول غزاة غزاها ذات العسيرة) مخالف أيضاً لما قال اهل التواريخ والسير. قال محمد بن سعد: كان قبل غزوة العشيرة ثلاث غزوات، يعني غزاها بنفسه. وقال ابن عبد البر في كتاب الدرر في المغازي والسير: أول عزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة ودان غزاها بنفسه في صفر، وذلك أنه وصل إلى المدينة لأثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، أقام بها بقية ربيع الأول، وباقي العام كله إلى صفر من سنة اثنتين من الهجرة: ثم خرج في صفر المذكور واستعمل على المدينة سعد بن عبادة حتى بلغ ودان فوادع بني ضمرة، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حرباً، وهي المسماة بغزوة الأبواء. ثم أقام بالمدينة إلى شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، ثم خرج فيها واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن نظعون حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حرباً، ثم أقام بها بقية ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى، ثم خرج غازياً واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وأخذ على طريق ملك إلى العسيرة.
قلت: ذكر ابن إسحاق عن عمار بن ياسر قال:
كنت أنا وعلي بن ابي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهراً فصالح بها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة فوادعهم : فقال لي علي بن أبي طالب: هل لك أبا اليقظان أن تأتي هؤلاء؟ نفر من بني مدلج يعملون في عين لهم ننظر كيف يعملون. فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النوم فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا فيه، فوالله ما أهبنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدمه، فجلسنا وقد تتربنا من تلك الدقعاء فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : ( ما بالك يا أبا تراب). فأخبره بما كان من أمرنا فقال: (أحيمر ثمود الذي عقرالناقة والذي يضربك يا علي على هذه- ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه - حتى يبل منها هذه) ووضع يده على لحيته. فقال أبو عمر: فأقام بها بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة، ووادع فيها بني مدلج ثم رجع ولم يلق حرباً. ثم كانت بعد ذلك غزوة بدر الأولى بايام قلائل، هذا الذي لايشك فيه أهل التواريخ والسير، فزيد بن أرقم إنما أخبر عما عنده. والله أعلم. ويقال: ذات العسر بالسين والشين، ويزاد عليها هاء فيقال: العشيرة. ثم غزوة بدر الكبرى وهي أعظم المشاهد فضلاً لمن شهدها، وفيها أمد الله بملائكته نبيه والمؤمنين في قول جماعة العلماء، وعليه يدل ظاهر الآية، لا في يوم أحد. ومن قال: إن ذلك كان يوم أحد جعل قوله تعالى:" ولقد نصركم الله ببدر" إلى قوله:" تشكرون" اعتراضاً بين الكلامين. هذا قول عامر الشعبي، وخالفه الناس. وتظاهرت الروايات بأن الملائكة حضرت يوم بدر وقاتلت، ومن ذلك قول أبي أسيد مالك بن ربيعة وكان شهد بدر: لو كنت معكم الآن ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أمتري. رواه عقيل عن الزهري عن أبي حازم سلمة بن دينار. قال ابن أبي حاتم: لايعرف للزهري عن أبي حازم غير هذا الحديث الواحد،وأبو أسيد يقال إنه آخر من مات من أهل بدر، ذكره أبو عمر في الاستيعاب وغيره. وفي صحيحمسلم من حديث عمر بن الخطاب قال:
لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاث مائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه:(اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آت ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض). فما زال يهتف بربه ماداً يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه ابو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل:" إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين" [الأنفال:9] فأمده الله تعالى بالملائكة. قال أبو زميل فحدثني ابن عباس قال: بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في أثر رجل من المشركين امامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم فنظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً، فنظر إليه فإذا هو قد خطم انفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع. فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة). فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين. وذكر الحديث. وسيأتي تمامه في آخر (الأنفال) إن شاء الله تعالى. فتظاهرت السنة والقرآن على ما قاله الجمهور، والحمدلله. وعن خارجه بن إبراهيم عن ابيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل:( من القائل يوم بدر من الملائكة أقدم حيزوم)؟ فقال جبريل:( يا محمد ما كل أهل السماء أعرف). وعن علي رضي الله عنه أنه خطب الناس فقال : بينا أنا أمتح من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط، ثم ذهبت، ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي كانت قبلها. قال: وأظنه ذكر: ثم جاءت ريح شديدة، فكانت الريح الأولى جبريل نزل في الف من الملائكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر عن يمينه، وكانت الريح الثالثة إسرافيل نزل في ألف من الملائكة عن ميسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانا في الميسرة، وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: لقد رأيتنا في بدر وغن أحدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه. وعن الربيع بن أنس قال: كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوهم بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به، ذكر جميعه البيهقي رحمه الله، وقال بعضهم: إن الملائكة كانوا يقاتلون وكانت علامة ضربهم في الكفار ظاهرة، لأن كل موضع أصابت ضربتهم اشتعلت النار في ذلك الموضع، حتى إن أبا جهل قال لابن مسعود: أنت قتلتني؟! إنما قتلني الذي لم يصل سناني إلى سنبك فرسه وإن اجتهدت. وإنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة لتسكين قلوب المؤمنين، ولأن الله تعالى جعل أولئك الملائكة مجاهدين إلى يوم القيامة، فكل عسكر صبرواحتسب تأتيهم الملائكة ويقاتلون معهم. وقال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وفيما سوى ذلك يشهدون ولا يقاتلون إنما يكونون عدداً أو مدداً. وقال بعضهم: إنما كانت الفائدة في كثرة الملائكة إنهم كانوا يدعون ويسبحون، ويكثرون الذين يقاتلون يومئذ، فعلى هذا لم تقاتل الملائكة يوم بدر وإنما حضروا للدعاء بالتثبيت، والأول أكثر. قال قتادة: كان هذا يوم بدر، أمدهم الله بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خسمة آلاف، فذلك قوله تعالى:" إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين"[الأنفال:9]
المراد بهذه الوقعة يوم أحد عند الجمهور, قاله ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغير واحد. وعن الحسن البصري : المراد بذلك يوم الأحزاب. رواه ابن جرير , وهو غريب لا يعول عليه. وكانت وقعة أحد يوم السبت من شوال سنة ثلاث من الهجرة. قال قتادة : لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال. وقال عكرمة : يوم السبت للنصف من شوال, فالله أعلم, وكان سببها أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر وسلمت العير بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان فلما رجع قفلهم إلى مكة قال أبناء من قتل, ورؤساء من بقي لأبي سفيان: أرصد هذه الأموال لقتال محمد فأنفقوها في ذلك, فجمعوا الجموع والأحابيش, وأقبلوا في نحو من ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريباً من أحد تلقاء المدينة, فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة, فلما فرغ منها صلى على رجل من بني النجار يقال له مالك بن عمرو , واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس "أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة" فأشار عبد الله بن أبي بالمقام بالمدينة, فإن أقاموا أقاموا بشر محبس, وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم, ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم, وإن رجعوا رجعوا خائبين وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدراً بالخروج إليهم, فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته وخرج عليهم, وقد ندم بعضهم وقالوا: لعلنا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالوا: يا رسول الله إن شئت أن نمكث, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يرجع حتى يحكم الله له" فسار صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه, فلما كانوا بالشوط, رجع عبد الله بن أبي في ثلث الجيش مغضباً لكونه لم يرجع إلى قوله, وقال هو وأصحابه: لو نعلم اليوم قتالاً لاتبعناكم, ولكنا لا نراكم تقاتلون اليوم. واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي. وجعل ظهره وعسكره إلى أحد, وقال "لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال". وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه. وأمر على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف . والرماة يومئذ خمسون رجلاً, فقال لهم "انضحوا الخيل عنا ولا نؤتين من قبلكم والزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أو علينا, وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم" وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين, وأعطى اللواء مصعب بن عمير أخا بني عبد الدار . وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغلمان يومئذ وأرجأ آخرين حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين, وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف, ومعهم مائتا فرس قد جنبوها, فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد , وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل , ودفعوا اللواء إلى بني عبد الدار , ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في مواضعه عند هذه الايات, إن شاء الله تعالى, ولهذا قال تعالى: " وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال " أي تنزلهم منازلهم, وتجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم "والله سميع عليم" أي سميع لما تقولون, عليم بضمائركم.
وقد أورد ابن جرير ههنا سؤالاً حاصله: كيف تقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم سار إلى أحد يوم الجمعة بعد الصلاة وقد قال الله تعالى: " وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال " الاية ؟ ثم كان جوابه عنه: أن غدوه ليبوأهم مقاعد إنما كان يوم السبت أول النهار. وقوله تعالى: "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا" الاية, قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله , حدثنا سفيان , قال: قال عمرو : سمعت جابر بن عبد الله يقول: فينا نزلت "إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا" الاية, قال: نحن الطائفتان بنو حارثة وبنو سلمة. وما نحب ـ وقال سفيان مرة ـ وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى: "والله وليهما" وكذا رواه مسلم من حديث سفيان بن عيينة به. وكذا قال غير واحد من السلف: إنهم بنو حارثة وبنو سلمة . وقوله تعالى: "ولقد نصركم الله ببدر" أي يوم بدر, وكان يوم الجمعة وافق السابع عشر من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله, ودمغ فيه الشرك, وخرب محله وحزبه هذا مع قلة عدد المسليمن يومئذ, فإنهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً, فيهم فرسان وسبعون بعيراً, والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه. وكان العدو يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض والعدة الكاملة والخيول المسومة والحلي الزائد, فأعز الله رسوله وأظهر وحيه وتنزيله, وبيض وجه النبي وقبيله, وأخزى الشيطان وجيله, ولهذا قال تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحزبه المتقين "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة" أي قليل عددكم ليعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العدد والعدد, ولهذا قال تعالى في الاية الأخرى " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين * ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين * ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ". وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر , حدثنا شعبة عن سماك , قال: سمعت عياضاً الأشعري قال: شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء: أبو عبيدة, ويزيد بن أبي سفيان , وابن حسنة, وخالد بن الوليد, وعياض وليس عياض هذا الذي حدث سماكاً قال: وقال عمر : إذا كان قتال فعليكم أبو عبيدة , قال فكتبنا إليه إنه قد جاش إلينا الموت, واستمددناه, فكتب إلينا إنه قد جاءني كتابكم تستمدونني, وإني أدلكم على من هو أعز نصراً, وأحصن جنداً: الله عز وجل فاستنصروه, فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد نصر يوم بدر في أقل من عدتكم, فإذا جاءكم كتابي هذا, فقاتلوهم ولا تراجعوني, قال: فقاتلناهم فهزمناهم أربعة فراسخ, قال: وأصبنا أموالاً فتشاورنا, فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل ذي رأس عشرة, قال: وقال أبو عبيدة : من يراهنني ؟ فقال شاب: أنا إن لم تغضب قال: فسبقه فرأيت عقيصتي أبي عبيدة تنفزان وهو خلفه على فرس عري, وهذا إسناد صحيح, وقد أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث بندار عن غندر بنحوه, واختاره الحافظ الضياء المقدسي في كتابه, وبدر: محلة بين مكة والمدينة تعرف ببئرها, منسوبة إلى رجل حفرها, يقال له: بدر بن النارين, قال الشعبي : بدر بئر لرجل يسمى بدراً, وقوله "فاتقوا الله لعلكم تشكرون" أي تقومون بطاعته.
قوله 123- "ولقد نصركم الله ببدر" جملة مستأنفة سيقت لتصبيرهم بتذكير ما يترتب على الصبر من النصر. وبدر اسم لماء كان في موضع الوقعة، وقيل: هو اسم الموضع نفسه، وسيأتي سياق قصة بدر في الأنفال إن شاء الله. وأذلة جمع قلة، ومعناه: أنهم كانوا بسبب قلتهم أذلة، وهو جمع ذليل استعير للقلة، إذ لم يكونوا في أنفسهم أذلة، بل كانوا أعزة. والنصر: العون. وقد شرح أهل التواريخ والسير غزوة بدر وأحد بأتم شرح فلا حاجة لنا في سياق ذلك ها هنا.
123-قوله تعالى: "ولقد نصركم الله ببدر"، وبدر موضع بين مكة والمدينه وهو اسم لموضع، وعليه الأكثرون وقيل: اسم لبئر هناك، وقيل: كانت بدر بئراً لرجل يقال له بدر،قاله الشعبي ، وأنكر الآخرون عليه.
يذكر الله تعالى في هذه الآيه منته عليهم بالنصرة يوم بدر، "وأنتم أذلة"، جمع: ذليل، وأراد به قلة العدد فإنهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، فنصرهم الله مع قلة عددهم ، "فاتقوا الله لعلكم تشكرون ".
123"ولقد نصركم الله ببدر" تذكير ببعض ما أفادهم التوكل. وبدر ماء بين مكة والمدينة كان لرجل يسمى بدراً فسمي به. " وأنتم أذلة " حال من الضمير، وإنما قال أذلة ولم يقل ذلائل تنبيهاً على قلتهم مع ذلتهم لضعف الحال وقلة المراكب والسلاح. "فاتقوا الله" في الثبات. "لعلكم تشكرون" بتقواكم ما أنعم به عليكم من نصره، أو لعلكم بنعم الله عليكم فتشكرون، فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سببه.
123. Allah had already given you the victory at Badr, when ye were contemptible. So observe your duty to Allah in order that ye may be thankful.
123 - God had helped you at Badr, when you were a contemptible little force; then fear God; thus may ye show your gratitude.