(و) اذكر (إذ ابتلى) اختبر (إبراهيمَ) وفي قراءة إبراهام (ربُّه بكلمات) بأوامر ونواه كلفه بها ، قيل هي مناسك الحج ، وقيل المضمضة والاستنشاق والسواك وقص الشارب وفرق الشعر وقلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان والاستنجاء (فأتمهن) أداهن تامات (قال) تعالى له (إني جاعلك للناس إماما) قدوة في الدين (قال ومن ذريتي) أولادي اجعل أئمة (قال لا ينال عهديْ) بالإمامة (الظالمين) الكافرين منهم دل على أنه ينال غير الظالم
قال أبو جعفر: وهذه الآية ترهيب من الله جل ثناؤه للذين سلفت عظته إياهم بما وعظهم به في الآية قبلها. يقول الله لهم: واتقوا يا معشر بني إسرائيل، المبدلين كتابي وتنزيلي، المحرفين تأويله عن وجهه، المكذبين برسولي محمد صلى الله عليه وسلم عذاب يوم لا تقضي فيه نفس عن نفس شيئًا، ولا تغني عنها غناء أن تهلكوا على ما أنتم عليه من كفركم بي، وتكذيبكم رسولي، فتموتوا عليه، فإنه يوم لا يقبل من نفس فيما لزمها فدية، ولا يشفع فيما وجب عليها من حق لها شافع، ولا هم ينصرها ناصر من الله إذا انتقم منها بمعصيتها إياه.
وقد مضى البيان عن كل معاني هذه الآية في نظيرتها قبل، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع.
فيه عشرون مسألة :
الأولى : لما جرى ذكر الكعبة والقبلة اتصل ذلك بذكر إبراهيم عليه السلام ، وأنه الذي بنى البيت ، فكان من حق اليهود ـ وهم من نسل إبراهيم ـ ألا يرغبوا عن دينه . والابتلاء : الامتحان والاختبار ، ومعناه أمر بعيد . وإبراهيم تفسيره بالسريانية فيما ذكر الماوردي ، وبالعربية فيما ذكر ابن عطية : أب رحيم . قال السهيلي : وكثيراً ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي أو يقاربه في اللفظ ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب راحم ، لرحمته بالأطفال ، ولذك لجعل هو وساره زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذين يموتون صغاراً إلى يوم القيامة .
قلت : ومما يدل على هذا ما خرجه البخاري من حديث الرؤيا الطويل عن سمرة ، وفيه :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس" وقد اتينا عليه في كتاب التذكرة ، والحمد لله .
وإبراهيم هذا هو ابن تارخ بن ناخور في قول بعض المؤرخين . وفي التنزيل : "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر" وكذلك في صحيح البخاري ، ولا تناقض في ذلك ، على ما يأتي في الأنعام إن شاء الله تعالى . وكان له اربع بنين : إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن ، على ما ذكره السهيلي . وقدم على الفاعل للاهتمام ، إذ كون الرب تبارك وتعالى مبتلياً معلوم ، وكون الضمير المفعول في العربية متصلاً بالفاعل موجب تقديم المفعول ، فإنما بني الكلام على هذا الاهتمام ، فاعلمه . وقراءة العامة إبراهيم بالنصب ، ربه بالرفع على ما ذكرنا . وروي عن جابر بن زيد أنه قرأ على العكس ، وزعم أن ابن عباس اقرأه كذلك . والمعنى دعا إبراهيم ربه وسأل ، وفيه بعد ، لأجل الباء في قوله بكلمات .
الثانية : قوله تعالى : "بكلمات" الكلمات جمع كلمة ،ويرجع تحقيقها إلى كلام الباري تعالى ، لكنه عبر عنها عن الوظائف التي كلفها إبراهيم عليه السلام ، ولما كان تكليفها بالكلام سميت به ، كما سمي عيسى كلمة ، لأنه صدر عن كلمة وهي كن وتسمية الشيء بمقدمته أحد قسمي المجاز ، قاله ابن العربي .
الثالثة : واختلف العلماء في المراد بالكلمات على أقوال : أحدها ـ شرائع الإسلام ، وهي ثلاثون سهماً ، عشرة منها في سورة براءة : "التائبون العابدون" إلى آخرها ، وعشرة في الأحزاب : "إن المسلمين والمسلمات" إلى آخرها ، وعشرة في المؤمنون : "قد أفلح المؤمنون" إلى قوله : "على صلواتهم يحافظون" وقوله في "سأل سائل" "إلا المصلين" إلى قوله "والذين هم على صلواتهم يحافظون" . قال ابن عباس رضي الله عنهما : ما ابتلى الله أحداً بهن فقام بها كلها إلا إبراهيم عليه السلام ، ابتلي بالإسلام فأتمه فكتب الله له البراءة فقال : "وإبراهيم الذي وفى" وقال بعضهم : بالأمر والنهي ، وقال بعضهم بذبح ابنه ، وقال بعضهم : بأداء الرسالة ، والمعنى متقارب . وقال مجاهد : هي قوله تعالى : إني مبتليك بأمر ، قال : تجعلني للناس إماماً ؟ قال نعم . قال ومن ذريتي ؟ قال : لا ينال عهدي الظالمين ، قال : تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال نعم . قال : وأمناً ؟ قال نعم . قال : وترينا مناسكنا وتتوب علينا ؟ قال نعم . قال : وترزق أهله من الثمرات ؟ قال نعم . وعلى هذا القول فالله تعالى هو الذي أتم . وأصح من هذا ما ذكره عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن ابن عباس في قوله : "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال : ابتلاه الله بالطهارة ، خمس في الرأس وخمس في الجسد : قص الشارب ، والمضمضمة ، والاستنشاق ، والسواك ، وفرق الشعر . وفي الجسد : تقليم الأظفار ، وحلق العانة ، والاختتان ، ونتف الإبط ، وغسل مكان الغائط والبول بالماء ، وعلى هذا القول فالذي أتم هو إبراهيم ، وهو ظاهر القرآن . وروى مطر عن ابي الجلد أنها عشر أيضاً ، إلا أنه جعل موضع الفرق غسل البراجم ، وموضع الاستنجاء الاستحداد . وقال قتادة : هي مناسك الحج خاصة . الحسن : هي الخلال الست : الكوكب ، والقمر ، والشمس ، والنار ، والهجرة ، والختان . قال أبو إسحاق الزجاج : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ، لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم عليه السلام .
قلت : وفي الموطأ وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول :
إبراهيم عليه السلام أول من اختتن ، وأول من أضاف الضيف ، وأول من استحد وأول من قلم الأظفار ، وأول من قص الشارب ، وأول من شاب ، فلما رأى الشيب قال : ما هذا ؟ قال : وقار ، قال : يا رب زدني وقاراً . وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن ابيه قال : أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله . قال غيره : وأول من ثرد الثريد ، وأول من ضرب بالسيف ، وأول من استاك ، وأول من استنجى بالماء ، وأول من لبس السراويل . وروى معاذ بن جبل قال " قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن اتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم وإن اتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم " .
قلت وهذه أحكام يجب بيانها والوقوف عليها والكلام فيها ، فأول ذلك الختان وما جاء فيه ، وهي المسألة :
الرابعة : أجمع العلماء على أن إبراهيم عليه السلام أول من اختتن . واختلف في السن التي اختتن فيها ، ففي الموطأ عن ابي هريرة موقوفاً : وهو ابن مائة وعشرين سنة وعاش بعد ذلك ثمانين سنة . ومثل هذا لا يكون رأياً ، وقد رواه الأوزاعي مرفوعاً عن يحيى بن سعيد بن المسيب عن ابي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن مائة وعشرين سنة ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة " . ذكره أبو عمر . وروي مسنداً مرفوعاً من غير رواية يحيى من وجوه :
"أنه اختتن حين بلغ ثمانين سنة واختتن بالقدوم" . كذا في صحيح مسلم وغيره "ابن ثمانين سنة" ، وهو المحفوظ في حديث ابن عجلان وحديث الأعرج عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال عكرمة : اختتن إبراهيم وهو ابن ثمانين سنة . قال : ولم يطف بالبيت بعد على ملة إبراهيم إلا مختون ، هكذا قال عكرمة وقاله المسيب بن رافع ، ذكره المروزي . و القدوم يروى مشددا ومخففاً . قال أبو الزناد : القدوم : ( مشددا ) : موضع .
الخامسة : واختلف العلماء في الختان ، فجمهورهم على أن ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها في الرجال . وقالت طائفة : ذلك فرض ، لقوله تعالى :"أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا" . قال قتادة : هو الاختتان ، وإليه مال بعض المالكيين ، وهو قول الشافعي . واستدل ابن سريج على وجوبه بالإجماع على تحرم النظر إلى العورة ، وقال : لولا أن الختان فرض لما لما ابيح النظر إليها من المختون . وأجيب عن هذا بأن مثل هذا يباح لمصلحة الجسم كنظر الطبيب ، والطب ليس بواجب إجماعاً ، على ما يأتي في النحل بيانه إن شاء الله تعالى . وقد احتج بعض أصحابنا بما رواه الحجاج بن أرطاة عن ابي المليح عن ابيه عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"الختان سنة للرجال مكرمة للنساء" . والحجاج ليس ممن يحتج به .
قلت : أعلى ما يحتج به في هذا الباب حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"الفطرة خمس الاختتان " .... الحديث ، وسيأتي . وروى أبو داود " عن ابن عطية أن امرأة كانت تختن النساء بالمدينة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم :لا تنهكي فإن ذلك أخطى للمرأة وأحب للبعل " . قال أبو داود : وهذا الحديث ضعيف رواية مجهول . وفي رواية ذكرها رزين : "ولا تنهكي فإنه أنور للوجه وأحظى عند الرجل" .
السادسة فإن ولد الصبي مختوناً فقد كفى مؤنة الختان . قال الميموني قال لي أحمد : إن ها هنا رجلاً ولد له ولد مختون ، فاغتم لذلك غما شديداً ، فقلت له : إذا كان الله قد كفاك المؤنة فما غمك بهذا .
السابعة : قال أبو الفرج الجوزي حدثت عن كعب الأحبار قال : خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مختونين : آدم وشيث وإدريس ونوح وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى والنبي صلى الله عليه وسلم . وقال محمد بن حبيب الهاشمي : هم أربعة عشر : آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان ( نبي أصحاب الرس ) ومحمد ، صلى الله عليه وعليهم أجمعين .
قلت : اختلفت الروايات في النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر أبو نعيم الحافظ في كتاب الحلية بإسناده .
أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختوناً . وأسند أبو عمر في التمهيد حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد حدثنا محمد بن عيسى حدثنا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف حدثنا محمد بن أبي السري العسقلاني حدثنا الوليد بن مسلم عن شعيب عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن عباس :
أن عبد المطلب ختن النبي صلى الله عليه وسلم يوم سابعه ، وجعل له مأدبة وسماه محمدا . قال أبو عمر : هذا حديث مسند غريب . قال يحيى بن أيوب : طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممن
لقيته إلا عند ابن ابي السري . قال أبو عمر : وقد قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم ولد مختوناً .
الثامنة : واختلفوا متى يختن الصبي ، فثبت في الأخبار عن جماعة من العلماء أنهم قالوا : ختن إبراهيم إسماعيل لثلاث عشرة سنة . وختن ابنه إسحاق لسبعة أيام . وروي عن فاطمة أنها كانت تختن ولدها يوم السابع ، وأنكر ذلك مالك وقال ذلك من عمل اليهود . ذكره عنه ابن وهب . وقال الليث بن سعد : يختن الصبي ما بين سبع سنين إلى عشر . ونحوه روى ابن وهب عن مالك . وقال أحمد : لم أسمع في ذلك شيئاً . وفي البخاري عن سعيد بن حبير قال : سئل ابن عباس : مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أنا يومئذ مختون . قال : وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك أو يقارب الاختلام .
واستحب العلماء في الرجل الكبير يسلم ان يختن ، وكان عطاء يقول : لا يتم إسلامه حتى يختن وإن بلغ ثمانين سنة . وروي عن الحسن أنه كان يرخص للشيخ الذي يسلم ألا يختتن ، ولا يرى به بأساً ولا بشهادته وذبيحته وحجه وصلاته ، قال ابن عبد البر : وعامة أهل العلم على هذا . وحدث بريدة في حج الأغلف لا يثبت . وروي عن ابن عباس وجابر بن زيد و عكرمة : أن الأغلف لا تؤكل ذبيحته ولا تجوز شهادته .
التاسعة : قوله : "وأول من استحد" فالاستحداد استعمال الحديد في حلق العانة . وروت ام سلمة .
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اطلى ولي عانته بيده" . وروى ابن عباس :
"أن رجلاً طلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا بلغ إلى عانته قال له : اخرج عني ، ثم طلي عانته بيده" . وروى أنس :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتنور ، وكان إذا كثر الشعر على عانته حلقه" . قال ابن خويز منداد : وهذا يدل على أن الأكثر من فعله كان الحلق وإنما تنور نادراً ، ليصح الجمع بين الحديثين .
العاشرة : في تقليم الأظفار . وتقليم الأظفار : قصها ، والقلامة ما يزال منها . وقال مالك : أحب للنساء من قص الأظفار وحلق العانة مثل ما هو على الرجال .ذكره الحارث بن مسكين وسحنون عن ابن القاسم . وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول له ( الأصل التاسع والعشرون ) : حدثنا عمر ابن أبي عمر قال حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي عن عمر بن بلال الفزاري قال سمعت عبد الله بن بشر المازني يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"قصوا أظافيركم وادفنوا قلاماتكم ونقوا براجمكم ونفظوا لثاتكم من الطعام وتسننوا ولا تدخلوا علي قخرا بخرا" ثم تكلم عليه فأحسن . قال الترمذي : فأما قص الأظفار فمن أجل أنه يخدش ويخمش ويضر ، وهو مجتمع الوسخ ، فربما أجنب ولا يصل الماء إلى البشرة من أجل الوسخ فلا يزال جنباً . ومن اجنب فبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جنب على حاله حتى يعم الغسل جسده كله ، فلذلك ندبهم إلى قص الأظفار . والأظافير جمع الأظفور ، والأظفار جمع الظفر . وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث سها في صلاته فقال :
"ومالي لا أوهم ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته ويسألني أحدكم عن خبر السماء وفي أظافيره الجنابة والتفث" . وذكر هذا الخبر أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروق بالكيا في أحكام القرآن له ، عن سليمان بن فرج أبي واصل قال : أتيت ابا أيوب رضي الله عنه فصافحته ، فرأى في أظفاري طولاً فقال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن خبر السماء فقال :
"يجيء أحدكم يسأل عن خبر السماء وأظفاره كأظفار الطير حتى يجتمع فيها الوسخ والتفث" .
وأما قوله :
"ادفنوا قلاماتكم" فإن جسد المؤمن ذو حرمة ، فما سقط منه وزال عنه فحفظه من الحرمة قائم ، فيحق عليه أن يدفنه ، كما أنه لو مات دفن ، فإذا مات بعضه فكذلك ايضاً تقام حرمته بدفنه ، كي لا يتفرق ولا يقع في النار أو في مزابل قذرة . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفن دمه حيث احتجم كي لا تبحث عنه الكلاب . حدثنا بذلك ابي رحمه الله تعالى قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا الهنيد بن القاسم بن عبد الرحن بن ماعز قال " سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير يقول إن أباه حدثه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحتجم ، فلما فرغ قال : يا عبد الله اذهب بهذا الدم فأهرقه حيث لا يراك أحد . فلما برز عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عمد إلى الدم فشربه ، فلما رجع قال : يا عبد الله ما صنعت به ؟ . قال جعلته في أخفى مكان ظننت أنه خافياً عن الناس . قال : لعلك شربته ؟ قال نعم . قال : لم شربت الدم ويل للناس منك وويل لك من الناس " . حدثني أبي قال حدثنا مالك بن سليمان الهروي قال حدثنا داود بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن ابيه عن عائشة قالت .
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بدفن سبعة اشياء من الإنسان : الشعر ، والظفر ، والدم ، والحيضة ، والسن ، والقلفة ، والبشيمة" .
وأما قوله :
" نقوا براجمكم" فالبراجم تلك الغضون من المفاصل ، وهي مجتمع الدرن ( واحدها برجمة ) وهو ظهر عقدة كل مفصل ، فظهر العقدة يسمى برجمة ، وما بين العقدين تسمى راجبة ، وجمعها رواجب ، وذلك مما يلي ظهرها ، وهي قصبة الأصبع ، فلكل أصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن لها برجمة وراجبتين ، فأمر يتنقيته لئلا يدرن فتبقى فيه الجناية ، ويحول الدرن بين الماء والبشرة .
وأما قوله :
"نظفوا لثاتكم" فاللثة واحدة ، واللثات جماعة ، وهي اللحمة فوق الأسنان ودون الأسنان ، وهي منابتها . والعمور :اللحمة القليلة بين السنين ، واحدها عمر . فأمر بتنظيفها لئلا يبقى فيها وضر الطعام فتتغير عليه النكهة وتتنكر الرائحة ، ويتأذى الملكان ، لأنه طريق القرآن ، ومقعد الملكين عند نابيه . وروي في الخبر في قوله تعالى : "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد" قال : عند نابيه . حدثنا بذلك محمد بن علي الشقيقي قال سمعت أبي يذكر ذلك عن سفيان بن عيينة ، وجاد ما قال ، وذلك أن اللفظ هو عمل الشفتين يلفظ الكلام عن لسانه إلى البراز . وقوله لديه أي عنده ، واللدى والعند في لغتهم السائرة بمعنى واحد ، وكذلك قولهم لدن فالنون زائدة . فكأن الآية تنبىء أن الرقيب عتيد عند مغلظ الكلام وهو الناب .
وأما قوله تسننوا وهو السواك مأخوذ من السن ، أي نظفوا السن .
وقوله :
"لا تدخلوا علي قخرا بخرا" فالمحفوظ عندي قحلا وقلحا . وسمعت الجارود يذكر عن النضر قال : الأقلح الذي قد اصفرت أسنانه حتى بخرت من باطنها ولا أعرف القخر . والبخر : الذي تجد له رائحة منكرة لبشرته ، يقال : رجل أبخر ، ورجال بخر . حدثنا الجارود قال حدثنا جرير عن منصور عن ابي علي عن ابي جعفر بن تمام بن العباس عن ابيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"استاكوا ، ما لكم تدخلون علي قلحا ؟ " .
الحادية عشرة : في قص الشارب . وهو الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة وهو الإطار ، ولا يجزه فيمثل نفسه ، قاله مالك. وذكر ابن عبد الحكم عنه قال : وأرى أن يؤدب من حلق شاربه . وذكر اشهب عنه أنه قال في حلق الشارب : هذه بدع ، وأرى أن يوجع ضرباً من فعله . وقال ابن خويز منداد قال مالك : أرى أن يوجع من حلقه ضرباً . كأنه يراه ممثلاً بنفسه ، وكذلك بنتفه الشعر ، وتقصيره عنده أولى من حلقه . وكذلك :
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان ذا لمة ، وكان أصحابه من بين وافر الشعر أو مقصر ، وإنما حلق وحلقوا في النسك . وروي :
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقص أظافره وشاربه قبل أن يخرج إلى الجمعة . وقال الطحاوي : لم نجد عن الشافعي في هذا شيئاً منصوصاً ، وأصحابه الذين رأيناهم : المزني والربيع كانا يحفيان شواربهما ، ويدل ذلك أنهما أخذا ذلك عن الشافعي رحمه الله تعالى . قال : واما أبو حنيفة و زفر و أبو يوسف و محمد فكان مذهبهم في شعر الرأس والشارب أن الإحفاء أفضل من التقصير . وذكر ابن خويز منداد عن الشافعي أن مذهبه في حلق الشارب كمذهب ابي حنيفة سواء . وقال أبو بكر الأثرم : رأيت أحمد بن حنبل يحفي شاربه شديداً ، وسمعته سئل عن السنة في إحفاء الشارب فقال :يحفى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"احفوا الشوارب" . قال أبو عمر : إنما في هذا الباب أصلان : أحدهما : احفوا ، وهو لفظ محتمل التأويل . والثاني : قص الشارب ، وهو مفسر ، والمفسر يقضي على المجمل ، وهو عمل أهل المدينة ، وهو أولى ما قيل به في هذا الباب . روى الترمذي عن ابن عباس قال :
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من شاربه ويقول : إن إبراهيم خليل الرحمن كان يفعله" . قال : حديث حسن غريب . وخرج مسلم عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"الفطرة خمس الاختتان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط" . وفيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"خالفوا المشركين احفوا الشوارب وأوفوا اللحى" . والأعاجم يقصون لحاهم ،ويوفرون شواربهم معاً ، وذلك عكس الجمال والنظافة . ذكر رزين عن نافع ان ابن عمر كان يحفي شاربه حتى ينظر إلى الجلد ، ويأخذ هذين ، يعني ما بين الشارب واللحية . وفي البخاري : وكان ابن عمر يأخذ من طول لحيته ما زاد على القبضة إذا اجح أو اعتمر . روى الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص :
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها" . قال : هذا حديث غريب .
الثانية عشرة : وأما الإبط فسنته النتف ،كما أن سنة العانة الحلق ، فلو عكس جاز لحصول النظافة ، والأول اولى ، لأنه المتيسر المعتاد .
الثالثة عشرة : وفرق الشعر : تفريقه في المفرق ، وفي صفته صلى الله عليه وسلم : إن انفرقت عقيصته فرق ، يقال :فرقت الشعر أفرقه فرقاً ، يقول : إن انفرق شعر رأسه فرقه في مفرقه ، فإن لم ينفرق تركه وفرةً واحدةً . خرج النسائي عن ابن عباس :
"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسدل شعره ، وكان المشركون يفرقون شعورهم ، وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ، ثم فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك" . أخرجه البخاري و مسلم عن انس . قال القاضي عياض : سدل الشعر إرساله ، والمراد به ها هنا عند العلماء إرساله على الجبين ، واتخاذه كالقصة ، والفرق في الشعر سنة ،لأنه الذي رجح اليه النبي صلى الله عليه وسلم . وقد روي أن عمر بن عبد العزيز كان إذا انصرف من الجمعة أقام على باب المسجد حرساً يجزون ناصية كل من لم يفرق شعره . وقد قيل : إن الفرق كان من سنة إبراهيم عليه السلام ، فالله أعلم .
الرابعة عشرة : وأما الشيب فنور ويكره نتفه ، ففي النسائي و أبي داود من حديث عمرو بن شعيب عن ابيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا تنتفوا الشيب ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كانت له نوراً يوم القيامة وكتب الله له حسنة وحط عنه خطيئة" .
قلت : وكما يكره نتفه كذلك يكره تغييره بالسواد فأما تغييره بغير السواد فجائز ، لقوله صلى الله عليه وسل مفي حق أبي قحافة ـ وقد جيء به ولحيته كالنعامة بياضاً : ـ
"غيروا هذا بشيء واجتنبوا السواد" . ولقد أحسن من قال :
يسود أعلاها ويبيض أصلها ولا خير في الأعلى إذا فسد الأصل
وقال آخر :
يا خاضب الشيب بالحناء تستره سل المليك له ستراً من النار
الخامسة عشرة : وأما الثريد فهو أزكى الكعام وأكثره بركة ، وهو طعام العرب ، وقد شهد له النبي صلى الله عليه وسل بالفضل على سائر الطعام فقال :
فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام . وفي صحيح البستي " عن أسماء بنت أبي بكر أنها : كانت إذا ثردت غطته شيئاً حتى يذهب فوره وتقول : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إنه أعظم للبركة" .
السادسة عشرة : قلت : وهذا له في معنى مما ذكره عبد الرزاق عن ابن عباس ، وما قاله سعيد بن المسيب
وغيره . ويأتي ذكر المضمضة والاستنشاق والسواك في سورة النساء وحكم الاستنجاء في براءة وحكم الضيافة في هود إن شاء الله تعالى . وخرج مسلم عن انس قال :
وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة . قال علماؤنا : هذا تحديد في أكثرالمدة ، والمستحب تفقد ذلك من الجمعة إلى الجمعة ، وهذا الحديث يرويه جعفر بن سليمان . قال العقيلي : في حديثه نظر . وقال ابو عمر فيه : ليس حجة ، لسوء حفظه وكثرة غلطه . وهذا الحديث ليس بالقوي من جهة النقل ، ولكنه قد قال به قوم ، وأكثرهم على ألا توقيت في ذلك ، وبالله التوفيق .
السابعة عشرة : قوله تعالى : "إني جاعلك للناس إماما" الإمام . القدوة ، ومنه قبل لخيط البناء : إمام ، وللطريق : إمام ، لأنه يؤم فيه للمسالك ، أي يقصد . فالمعنى : جعلناك للناس إماماً يأتمون بك في هذه الخصال ، ويقتدي بك الصالحون . فجعله الله تعالى إماماً لأهل طاعته ، فلذلك اجتمعت الأمم على الدعوى فيه ـ والله أعلم ـ أنه كان حنيفاً .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : "ومن ذريتي" دعاء على جهة الرغباء إلى الله تعالى ، أي من ذريتي يا رب فاجعل . وقيل : هذا منه على جهة الاستفهام عنهم ، أي ومن ذريتي يا رب ماذا يكون ؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عاصياً لا يستحق الإمامة . قال ابن عباس :سأل إبراهيم عليه السلام أن يجعل من ذريته إمام ، فاعلمه الله أن في ذريته من يعصي فقال : "لا ينال عهدي الظالمين" .
التاسعة عشرة : قوله تعالى : "ومن ذريتي" أصل ذرية ، فعلية من الذر ، لأن الله تعالى أخرج الخلق من صلب آدم عليه السلام كالذر حين أشهدهم على أنفسهم . وقيل : هو مأخوذ من ذرأ الله لخلق يذرؤهم ذرءاً خلقهم ، ومنه الذرية وهي نسل الثقلين ، إلا أن العرب تركت همزها ، والجمع الذراري . وقرأ زيد بن ثابت ذرية بكسر الذال و ذرية بفتحها . قال ابن جني أبو الفتح عثمان : يحتمل أصل هذا الحرف أربعة ألفاظ : أحدها : ذرأ ، والثاني : ذرر ، والثالث : ذرو ، والرابع : ذرى ، فأما الهمزة فمن ذرأ الله الخلق ، وأما ذرر فمن لفظ الذر ومعناه ، وذلك لما ورد في الخبر :
أن الخلق كان كالذر وأما الوالو والياء ، فمن ذروت الحب وذريته يقالان جميعاً ، وذلك قوله تعالى : "فأصبح هشيما تذروه الرياح" وهذا للطفه وخفته ، وتلك حال الذر أيضاً . قال الجوهري : ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذوراً وذرياً أي نسفته ، ومنه قولهم : ذرى الناس الحنطة ، وأرذيت الشيء إذا ألقيته ، كإلقائك الحب للزرع . وطعنه فأذراه على ظهر دابته ، أي ألقاه . وقال الخليل : إنا سموا ذرية ، لأن الله تعالى ذرأها على الأرض ما ذرأ الزار البذر . وقيل : أصل ذرية ، ذرورة ، لكن لما كثر التضعيف أبدل من إحدى الراءات ياء ، فصارت ذروية ، ثم أدغمت الواو في الياء فصارت ذرية . والمراد بالذرية هنا الأبناء خاصة ، وقد تطلق على الاباء والأبناء ، ومنه قوله تعالى "وآية لهم أنا حملنا ذريتهم" يعني آباءهم .
الموفية عشرين : قوله تعالى : "لا ينال عهدي الظالمين" اختلف في المراد بالعهد ، فروى أبو صالح عن ابن عباس أنه النبوة ، وقاله السدي و مجاهد : الإمامة . قتادة :الإيمان . عطاء : الرحمة . الضحاك : دين الله تعالى . وقيل : عهده أمره : ويطلق العهد على الأمر ، قال الله تعالى : "إن الله عهد إلينا" أي أمرنا . وقال : "ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن" يعني ألم أقدم إليكم الأمر به ، وإذا كان عهد الله هو أوامره فقوله : "لا ينال عهدي الظالمين" أي لا يجوز أن يكونوا بمحل من يقبل منهم أوامر الله ولا يقيمون عليها ، على ما يأتي بيانه بعد هذا آنفاً إن شاء الله تعالى . وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى : "لا ينال عهدي الظالمين" قال :لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمين ، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به ، وأكل وعاش وأبصر . قال الزجاج : وهذا قول حسن ، أي لا ينال أماني الظالمين ، أي لا أؤمنهم من عذابي . وقال سعيد بن جبير : الظالم هنا المشرك . وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرف لا ينال عهدي الظالمون برفع الظالمون . الباقون بالنصب . وأسكن حمزة وحفص وابن محيصن الياء في عهدي ، وفتحها الباقون .
الحادية والعشرون :استدل جماعة من العلماء بهذه الآية على أن الإما يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع القوة على القيام بذلك ، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر أهله ، على ما تقدم من القول فيه . فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل ، لقوله تعالى :"لا ينال عهدي الظالمين" ولهذا خرج ابن الزبير والحسن بن علي رضي الله عنهم . وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج ، وأخرج أهل المدينة بني أمية وقاموا عليهم ، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة .
الثانية والعشرون : قال ابن خويز منداد : وكل من كان ظالماً لم يكن نبياً ولا خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً ، ولا إمام صلاة ، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب الشريعة ، ولا تقبل شهادته في الأحكام ، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد . وما تقدم من أحكامه موافقاً للصواب ماض غير منقوض . وقد نص مالك على هذا في الخوارج والبغاة أن أحكامهم لا تنقض إذا أصابوا بها وجها من الاجتهاد ، ولم يخرقوا الإجماع ، أو يخالفوا النصوص .وإنما قلنا ذلك لإجماع الصحابة ، وذلك أن الخوارج قد خرجوا في أيامهم ولم ينقل أن الأئمة تتبعوا أحكامهم ، ولا نقضوا شيئاً منها ، ولا أعادوا أخذ الزكاة ولا إقامة الحدود التي أخذوا وأقاموا ، فدل على أنهم إذا أصابوا وجه الاجتهاد لم يتعرض لأحكامهم .
الثالثة والعشرون : قال ابن خويز منداد : وأما اخذ الأرزاق من الأئمة الظلمة فلذلك ثلاثة أحوال : إن كان جميع ما في أيديهم مأخوذاً على موجب الشريعة فجائز أخذه ، وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحجاج وغيره . وإن كان مختلطاً حلالاً وظلماً كما في أيدي الأمراء اليوم فالورع تركه ، ويجوز للحجاج أخذه ، وهو كلص في يده مال مسروق ، ومال جيد حلال قد وكله فيه رجل فجاء اللص يتصدق به على إنسان فيجوز أن تؤخذ منه الصدقة ، وإن ان قد يجوز أن يكون اللص يتصدق ببعض ما سرق ، إذا لم يكن شيء معروف بنهب ، وكذلك لو باع او اشترى كان العقد صحيحاً لازماً ـ وإن كان الورع التنزه عنه ـ وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها وإنما تحرم لجهاتها . وإن كان ما في أيديهم ظلماً صراحاً فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم . ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوباً غير أنه لا يعرف له صاحب ولا مطالب ، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطاع الطريق ، ويجعل في بيت المال وينتظر طالبه بقدر الاجتهاد ، فإذا لم يعرف صرفه الإمام في مصالح المسلمين .
يقول تعالى منبهاً على شرف إبراهيم خليله عليه السلام وأن الله تعالى جعله إماماً للناس يقتدى به في التوحيد حين قام بما كلفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي، ولهذا قال: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" أي: واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذين ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها وإنما الذي هو عليها مستقيم فأنت والذين معك من المؤمنين، اذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي: اختباره له بما كلفه به من الأوامر والنواهي (فأتمهن) أي: قام بهن كلهن كما قال تعالى: "وإبراهيم الذي وفى" أي: وفي جميع ما شرع له فعمل به صلوات الله عليه وقال تعالى: " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين * ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين " وقال تعالى: " قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين "، وقال تعالى: "ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين"، وقوله تعالى: "بكلمات" أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق، ويراد بها الكلمات القدرية كقوله تعالى عن مريم عليها السلام: "وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين" وتطلق، ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: "وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً" أي: كلماته الشرعية، وهي إما خبر صدق، وإما طلب عدل إن كان أمراً أو نهياً، ومن ذلك هذه الاية الكريمة: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، أي: قام بهن قال: "إني جاعلك للناس إماماً" أي: جزاء على ما فعل، كما قام بالأوامر وترك الزواجر جعله الله للناس قدوة، وإماماً يقتدى به ويحتذى حذوه.
وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام، فروي عن ابن عباس في ذلك روايات، فقال عبد الرزاق، عن معمر عن قتادة قال ابن عباس: ابتلاه الله بالمناسك، وكذا رواه أبو إسحاق السبيعي عن التميمي عن ابن عباس. وقال عبد الرزاق أيضاً، أخبرنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: ابتلاه بالطهارة خمس في الرأس وخمس في الجسد، في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وفي الجسد تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء، قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن المسيب ومجاهد والشعبي والنخعي، وأبي صالح وأبي الجلد نحو ذلك، (قلت): وقريب من هذا ما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء ، ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة". قال وكيع: انتقاص الماء يعني الاستنجاء ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الفطرة خمس: الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط ", ولفظه لمسلم. وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن لهيعة عن ابن هبيرة عن حنش بن عبد الله الصنعاني عن ابن عباس أنه كان يقول في تفسير هذه الاية: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال: عشر ست في الإنسان وأربع في المشاعر ، فأما التي في الإنسان حلق العانة، ونتف الإبط والختان، وكان ابن هبيرة يقول: هؤلاء الثلاثة واحدة، وتقليم الأظفار وقص الشارب والسواك وغسل يوم الجمعة، والأربعة التي في المشاعر: الطواف والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار والإفاضة. وقال داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم، قال الله تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قلت له: وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن ؟ قال: الإسلام ثلاثون سهماً منها عشر آيات في براءة "التائبون العابدون" إلى آخر الاية، وعشر آيات في أول سورة: "قد أفلح المؤمنون"، و "سأل سائل بعذاب واقع" وعشر آيات في الأحزاب: "إن المسلمين والمسلمات" إلى آخر الاية فأتمهن كلهن فكتبت له براءة، قال الله: "وإبراهيم الذي وفى" هكذا رواه الحاكم وأبو جعفر بن جرير وأبو محمد بن أبي حاتم بأسانيدهم إلى داود بن أبي هند وهذا لفظ ابن أبي حاتم، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن، فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه، وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم وما أمره به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء، قال الله له: "أسلم قال أسلمت لرب العالمين" على ما كان من خلاف الناس وفراقهم. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو سعيد الأشج أخبرنا إسماعيل بن علية عن أبي رجاء عن الحسن، يعني البصري "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بالقمر فرضي عنه، وابتلاه بالشمس فرضي عنه، وابتلاه بالهجرة فرضي عنه، وابتلاه بالختان فرضي عنه، وابتلاه بابنه فرضي عنه، وقال ابن جرير: أخبرنا بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع، أخبرنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: أي والله لقد ابتلاه بأمر فصبر عليه، ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر ، فأحسن في ذلك وعرف أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السموات والأرض حنيفاً، وما كان من المشركين، ثم ابتلاه بالهجرة، فخرج من بلاده وقومه، حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله، ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة، فصبر على ذلك، وابتلاه بذبح ابنه والختان، فصبر على ذلك، وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عمن سمع الحسن يقول في قوله: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال: ابتلاه الله بذبح ولده وبالنار وبالكوكب والشمس والقمر ، وقال أبو جعفر بن جرير : أخبرنا ابن بشار أخبرنا سلم بن قتيبة، أخبرنا أبو هلال عن الحسن "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: ابتلاه بالكوكب وبالشمس والقمر ، فوجده صابراً، وقال العوفي في تفسيره عن ابن عباس: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" فمنهن "قال إني جاعلك للناس إماماً" ومنهن "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" ومنهن الايات في شأن المنسك والمقام الذي جعل لإبراهيم والرزق الذي رزق ساكنوا البيت، ومحمد بعث في دينهما، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح، أخبرنا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، في قوله تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو ؟ قال: تجعلني للناس إماماً ؟ قال: نعم، قال: ومن ذريتي ؟ قال: "لا ينال عهدي الظالمين"، قال: تجعل البيت مثابة للناس ؟ قال: نعم، قال: وأمناً ؟ قال: نعم، قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ؟ قال: نعم، قال: وترزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله ؟ قال: نعم، قال ابن نجيح: سمعته عن عكرمة فعرضته على مجاهد فلم ينكره، وهكذا رواه ابن جرير من غير وجه عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وقال سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" قال: ابتلي بالايات التي بعدها "إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال: الكلمات "إني جاعلك للناس إماماً" وقوله: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً" وقوله: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقوله: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" الاية، وقوله: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" الاية، قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم، وقال السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" "ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم" وقال القرطبي: وفي الموطأ وغيره، عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن وأول من ضاف الضيف، وأول من قلم أظفاره، وأول من قص الشارب، وأول من شاب فلما رأى الشيب، قال: ما هذا ؟ قال: وقار ، قال: يا رب زدني وقاراً. وذكر ابن أبي شيبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم عليه السلام، قال غيره: وأول من برد البريد وأول من ضرب بالسيف، وأول من استاك، وأول من استنجى بالماء ، وأول من لبس السراويل، وروي عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أتخذ المنبر فقد اتخذه أبي إبراهيم، وإن أتخذ العصا فقد اتخذها أبي إبراهيم" (قلت): هذا حديث لا يثبت، والله أعلم. ثم شرع القرطبي يتكلم على ما يتعلق بهذه الأشياء من الأحكام الشرعية.
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله: أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر وجائز أن يكون بعض ذلك ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع، قال: ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له. قال: غير أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران أحدهما ما حدثنا به أبو كريب، أخبرنا شدين بن سعد، حدثني زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله، الذي وفى ؟ لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى: "سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون" إلى آخر الاية" قال: والاخر: ما حدثنا به أبو كريب، أخبرنا الحسن عن عطية، أخبرنا إسرائيل عن جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإبراهيم الذي وفى" قال: "أتدرون ما وفى ؟ قالوا: الله ورسوله أعلمن قال: وفى عمل يومه أربع ركعات في النهار" ورواه آدم في تفسيره عن حماد بن سلمة وعبد بن حميد عن يونس بن محمد عن حماد بن سلمة عن جعفر بن الزبير به، ثم شرع ابن جرير يضعف هذين الحديثين، وهو كما قال: فإنه لا يجوز روايتهما إلا ببيان ضعفهما، وضعفهما من وجوه عديدة، فإن كلاً من السندين مشتمل على غير واحد من الضعفاء مع ما في متن الحديث مما يدل على ضعفه، والله أعلم. ثم قال ابن جرير : ولو قال قائل: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم كان مذهباً لأن قوله: "إني جاعلك للناس إماماً" وقوله: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين" الاية، وسائر الايات التي هي نظير ذلك كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم، (قلت): والذي قاله أولاً من أن الكلمات تشمل جميع ما ذكر أقوى من هذا الذي جوزه من قول مجاهد ومن قال مثله لأن السياق يعطي غير ما قالوه، والله أعلم.
وقوله قال: "ومن ذريتي" قال: "لا ينال عهدي الظالمين" لما جعل الله إبراهيم إماماً سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون وأنه لا ينالهم عهد الله ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قوله تعالى في سورة العنكبوت: "وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزله الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه، وأما قوله تعالى: "قال لا ينال عهدي الظالمين" فقد اختلفوا في ذلك. فقال خصيف عن مجاهد في قوله: "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال: لا يكون لي إمام ظالم، وفي رواية: لا أجعل إماماً ظالماً يقتدى به. وقال سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: "قال لا ينال عهدي الظالمين" قال: لا يكون إمام ظالم يقتدى به. وقال ابن أبي حاتم أخبرنا أبي أخبرنا مالك بن إسماعيل أخبرنا شريك عن منصور عن مجاهد في قوله: "ومن ذريتي" قال أما من كان منهم صالحاً فأجعله إماماً يقتدى به، وأما من كان ظالماً فلا ولا نعمة عين. وقال سعيد بن جبير " لا ينال عهدي الظالمين " المراد به المشرك لا يكون إمام ظالم، يقول لا يكون إمام مشرك، وقال ابن جريج عن عطاء قال: "إني جاعلك للناس إماماً" قال ومن ذريتي فأبى أن يجعل من ذريته إماماً ظالماً، قلت لعطاء ما عهده ؟ قال أمره، وقال ابن أبي حاتم أخبرنا عمرو بن ثور القيساري فيما كتب إلي أخبرنا الفريابي حدثنا إسماعيل حدثنا سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس، قال: قال الله لإبراهيم إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي فأبى أن يفعل ثم قال "لا ينال عهدي الظالمين" وقال محمد ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد أو عكرمة عن ابن عباس "قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" يخبره أنه كائن في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي أن يوليه شيئاً من أمره وإن كان من ذرية خليله، ومحسن ستنفذ فيه دعوته وتبلغ له ما أراد من مسألته. وقال العوفي عن ابن عباس "لا ينال عهدي الظالمين" قال يعني: لا عهد لظالم عليك في ظلمه أن تطيعه فيه، وقال ابن جرير حدثنا إسحاق أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله عن إسرائيل عن مسلم الأعور عن مجاهد عن ابن عباس قال "لا ينال عهدي الظالمين" قال ليس للظالمين عهد وإن عاهدته أنقضه وروي عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حيان نحو ذلك، وقال الثوري عن هارون بن عنترة عن أبيه قال ليس لظالم عهد، وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: "لا ينال عهدي الظالمين" قال لا ينال عهد الله في الاخرة الظالمين فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فآمن به وأكل وعاش، وكذا قال إبراهيم النخعي وعطاء وعكرمة، وقال الربيع بن أنس عهد الله الذي عهد إلى عباده دينه يقول لا ينال دينه الظالمين، ألا ترى أنه قال: "وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين" يقول ليس كل ذريتك ياإبراهيم على الحق، وكذا روي عن أبي العالية وعطاء ومقاتل بن حيان وقال جويبر عن الضحاك لا ينال طاعتي عدو لي يعصيني ولا أنحلها إلا ولياً يطيعني. وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد أخبرنا أحمد بن عبد الله بن سعيد الأسدي، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني، أخبرنا وكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينال عهدي الظالمين" قال لا طاعة إلا في المعروف، وقال السدي: "لا ينال عهدي الظالمين" يقول عهدي نبوتي ـ فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الاية، على ما نقله ابن جرير وابن أبي حاتم رحمهما الله تعالى واختار ابن جرير أن هذه الاية وإن كانت ظاهرة في الخبر ، أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالماً، ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل عليه السلام، أنه سيوجد من ذريتك من هو ظالم لنفسه كما تقدم عن مجاهد وغيره. والله أعلم. وقال ابن خويز منداد المالكي: الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً ولا شاهداً ولا راوياً.
قوله: 124- "وإذ ابتلى" الابتلاء: الامتحان والاختار: أي ابتلاه بما أمره به، و"إبراهيم" معناه في السريانية أب رحيم، كذا قال الماوردي. قال ابن عطية: ومعناه في العربية ذلك. قال السهيلي: وكثيراً ما يقع الإتفاق بين السرياني والعربي. وقد أورد صاحب الكشاف هنا سؤالاً في رجوع الضمير إلى إبراهيم مع كون رتبته التأخير، وأجاب عنه بأنه قد تقدم لفظاً فرجع إليه، والأمر في هذا أوضح من أن يشتغل بذكره، أو ترد في مثله الأسئلة أو يسود وجه القرطاس بإيضاحه. وقوله: "بكلمات" قد اختلف العلماء في تعيينها، فقيل: هي شرائع الإسلام، وقيل: ذبح ابنه، وقيل: أداء الرسالة، وقيل: هي خصال الفطرة، وقيل: هي قوله: "إني جاعلك للناس إماماً" وقيل: بالطهارة كما سيأتي بيانه. قال الزجاج: وهذه الأقوال ليست بمتناقضة، لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم انتهى. وظاهر النظم القرآني أن الكلمات هي قوله: "قال إني جاعلك" وما بعده، ويكون ذلك بياناً للكلمات، وسيأتي عن بعض السلف ما يوافق ذلك، وعن آخرين ما يخالفه. وعلى هذا فيكون قوله: "قال إني جاعلك" مستأنفاً كأنه ماذا قال له. وقال ابن جرير ما حاصله إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ذلك، وجائز أن يكون بعض ذلك، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع، ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له، ثم قال: فلو قال قائل: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس أولى بالصواب: يعني أن الكلمات هي قوله: "إني جاعلك للناس إماماً" وقوله: "وعهدنا إلى إبراهيم" وما بعده. ورجح ابن كثير أنها تشمل جميع ما ذكر، وسيأتي التصريح بما هو الحق بعد إيراد ما ورد عن السلف الصالح. وقوله: "فأتمهن" أي قام بهن أتم قيام، وامتثل أكمل امتثال. والإمام: هو ما يؤتم به، ومنه قيل للطريق إمام وللبناء إمام، لأنه يؤتم بذلك: أي يهتدي به السالك، والإمام لما كان هو القدوة للناس لكونهم يأتمون به ويهتدون بهديه أطلق عليه هذا اللفظ. وقوله: "ومن ذريتي" يحتمل أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم، أي واجعل من ذريتي أئمة، ويحتمل أن يكون هذا من إبراهيم بقصد الاستفهام وإن لم يكن بصيغته: أي ومن ذريتي ماذا يكون يا رب؟ فأخبره أن فيهم عصاة وظلمة، وأنهم لا يصلحون لذلك ولا يقومون به ولا ينالهم عهد الله سبحانه. والذرية مأخوذة من الذر، لأن الله أخرج الخلق من ظهر آدم حين أشهدهم على أنفسهم كالذر، وقيل: مأخوذة من ذرأ الله الخلق يذرؤهم إذا خلقهم. وفي الكتاب العزيز: "فأصبح هشيماً تذروه الرياح" قال في الصحاح: ذرت الريح السحاب وغيره تذروه وتذريه ذرواً وذرياً: أي نسفته، وقال الخليل: إنما سموا ذرية لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزارع البذر. واختلف في المراد بالعهد فقيل: الإمامة، وقيل: النبوة، وقيل: عهد الله أمره، وقيل: الأمان من عذاب الآخرة، ورجحه الزجاج والأول أظهر كما يفيده السياق. وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد، لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالماً. ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد وما تفيده الإضافة من العموم فيشمل جميع ذلك اعتباراً بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل من تعلق بالأمور الدينية. وقد اختار ابن جرير أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهد الله بالإمامة ظالماً، ففيها إعلام من الله لإبراهيم الخليل انه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه. انتهى. ولا يخفاك أنه لا جدوى لكلامه هذا. فالأولى أن يقال: إن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولوا أمور الشرع ظالماً، وإنما قلنا: إنه في معنى الأمر لأن أخباره تعالى لا يجوز أن تتخلف. وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثيراً من الظالمين.
124. قوله تعالى: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن " قرأ ابن عامر إبراهام بالألف في أكثر المواضع وهو اسم أعجمي ولذلك لا يجر وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور وكان مولده بالسوس من أرض الأهواز وقيل بابل وقيل: كوفي، وقيل: [لشكر]، وقيل حران، وكان أبوه نقله إلى أرض بابل أرض نمرود ابن كنعان، ومعنى الابتلاء الاختبار والامتحان والأمر، وابتلاء الله العباد ليس ليعلم أحوالهم بالابتلاء، لأنه عالم بهم، ولكن ليعلم العباد أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضاً.
واختلفوا في الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم عليه السلام، فقال عكرمة : وابن عباس رضي الله عنهما: هي ثلاثون سماهن شرائع الإسلام، ولم يبتل بها أحد فأقامها كلها إلا إبراهيم فكتب له البراءة، فقال تعال: " وإبراهيم الذي وفى " (37-النجم) عشر في براءة (( التائبون العابدون )) إلى آخرها، وعشر في الأحزاب " إن المسلمين والمسلمات "، وعشر في سورة المؤمنين في قوله: " قد أفلح المؤمنون " الآيات، وقوله " إلا المصلين " في سأل سائل.
وقال طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما: ابتلاه الله بعشرة أشياء وهي: الفطرة خمس في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس، وخمس في الجسد: تقليم الأظافر، ونتف الإبط، وحلق العانة، والختان، والاستنجاء بالماء.
وفي الخبر: (( أن إبراهيم عليه السلام أول من قص الشارب، وأول من اختتن، وأول من قلم الأظافر، وأول من رأى الشيب،ن فلما رآه قال: يا رب ما هذا؟ قال [سمة]: الوقار، قال: يارب زدني وقاراً )) قال مجاهد : هي الآيات التي بعدها في قوله عز وجل " إني جاعلك للناس إماماً " (124-البقرة) إلى آخر القصة، وقال الربيع و قتادة : مناسك الحج، وقال الحسن : ابتلاه الله بسبعة أشياء: بالكواكب والقمر والشمس، فأحسن فيها النظر وعلم أن ربه دائم لا يزول، وبالنار فصبر عليها، وبالهجرة وبذبح ابنه وبالختان فصبر عليها، قال سعيد بن جبير : هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يرفعان البيت " ربنا تقبل منا " (127-البقرة) الآية فرفعاها بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله [والله أكبر]، قال يمان بن رباب : هن محاجة قومه قال الله تعالى: " وحاجه قومه " إلى قوله تعالى - " وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم " (83-الأنعام) وقيل هي قوله: " الذي خلقني فهو يهدين " (78-الشعراء) إلى آخر الآيات.
" فأتمهن " قال قتادة : أداهن، قال الضحاك : قام بهن وقال: [نعمان] عمل بهن.
قال الله تعالى: " قال: إني جاعلك للناس إماماً " يقتدى بك في الخير " قال " إبراهيم " ومن ذريتي " أي ومن أولادي أيضاً فاجعل منهم أئمة يقتدى بهم في الخير " قال " الله تعالى " لا ينال " لا يصيب " عهدي الظالمين " قرأ حمزة و حفص بإسكان الياء والباقون بفتحها أي من كان منهم ظالماً لا يصيبه، قال عطاء بن أبي رباح : عهدي رحمتي، وقال السدي : نبوتي، وقيل: الإمامة، قال مجاهد : ليس لظالم أن يطاع في ظلمه. ومعنى الآية لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالماً من ولدك، وقيل: أراد بالعهد الأمان من النار، وبالظالم المشرك كقوله تعالى: " الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن " (82-الأنعام).
124-" وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات " كلفة بأوامره ونواه ، والابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاق من البلاء ، لكنه لما استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب ظن ترادفهما ، والضمير لإبراهيم ، وحسن لتقدمه لفظاً وإن تأخر رتبة ، لأن الشرط أحد التقدمين ، والكلمات قد تطلق على المعاني فلذلك فسرت بالخصال الثلاثين المحمودة المذكورة في قوله تعالى : " التائبون العابدون " وقوله تعالى : " إن المسلمين والمسلمات " إلى آخر الآية ، وقوله : " قد أفلح المؤمنون" إلى قوله " أولئك هم الوارثون" كما فسرت بها في قوله: " فتلقى آدم من ربه كلمات " وبالعشر التي هي من سننه ، وبمناسك الحج ، وبالكواكب ، والقمرين ، والختان ، وذبح الولد ، والنار ، والهجرة . على أنه تعالى عامله بها معاملة المختبر بهن وبما تضمنته الآيات التي بعدها . وقرئ إبراهيم ربه على أنه دعا ربه بكلمات مثل " أرني كيف تحيي الموتى " . " اجعل هذا بلدا آمنا " ليرى هل يجيبه . وقرأ ابن عامر إبراهام بالألف جميع ما في هذه السورة . " فأتمهن " فأداهن كملاً وقام بهن حق القيام ، لقوله تعالى : " وإبراهيم الذي وفى " وفي القراءة الأخيرة الضمير لربه ، أي أعطاه جميع ما دعاه . " قال إني جاعلك للناس إماماً " استئناف إن أضمرت ناصب إذ كأنه قيل : فماذا قال ربه حين أتمهن ، فأجيب بذلك . أو بيان لقوله ابتلى فتكون الكلمات ما ذكره من الإمامة ،وتطهير البيت ،ورفع قواعده ،والإسلام . وإن نصبته يقال فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها ، أو جاعل من جعل الذي له مفعولان ، والإمام اسم لمن يؤتم به وإمامته عامة مؤبدة ، إذ لم يبعث بعده نبي إلا كان من ذريته مأموراً باتباعه . " قال ومن ذريتي " عطف على الكاف أي وبعض ذريتي ، كما تقول : وزيداً ، في جواب ، سأكرمك ، الذرية نسل الرجل ، فعلية أو فعولة قلبت راؤها الثانية ياء كما في تقضيت . من الذر بمعنى التفريق ، أو فعولة أو فعلية قلبت همزتها من الذرة بمعنى الخلق . وقرئ ذريتي بالكسر وهي لغة . " قال لا ينال عهدي الظالمين " إجابة إلى ملتمسه ، وتنبيه على أنه قد يكون من ذريته ظلمة ،وأنهم لا ينالون الإمامة لأنها أمانة من الله تعالى وعهد ،والظالم لا يصح لها ، وإنما ينالها البررة الأتقياء منهم . وفيه دليل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة ، وأن الفاسق لا يصلح للإمامة . وقرئ الظالمون والمعنى واحد إذ كل ما نالك فقد نلته .
124. And (remember) when his Lord tried Abraham with (His) commands, and he fulfilled them, He said: Lo! I have appointed thee a leader for mankind. (Abraham) said: And of my offspring (will there be leurders)? He said: My covenant includeth not wrongdoers.
124 - And remember that Abraham was tried by his Lord with certain commands, which he fulfilled: he said: i will make thee an Imam to the nations. he pleaded: and also (Imams) from my offspring! he answered: but my promise is not within the reach of evil doers.