(ومن يعمل) شيئا (من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون) بالبناء للمفعول والفاعل (الجنة ولا يظلمون نقيرا) قدر نقرة النواة
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : الذين قال لهم : "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، يقول الله لهم : إنما يدخل الجنة وينعم فيها في الآخرة، من يعمل من الصالحات من ذكوركم وإناثكم ، وذكور عبادي وإناثهم ، وهو مؤمن بي وبرسولي محمد، مصدق بوحدانيتي وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عندي ، لا أنتم أيها المشركون بي ، المكذبون رسولي ، فلا تطمعوا أن تحلوا، وأنتم كفار، محل المؤمنين بي ، وتدخلوا مداخلهم في القيامة، وأنتم مكذبون برسولي ، كما :
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قوله : "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن"، قال : أبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح ، وأبى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان.
وأما قوله : "ولا يظلمون نقيرا"، فإنه يعني : ولا يظلم الله هؤلاء الذين يعملون الصالحات من ثواب عملهم ، مقدار النقرة التي تكون في ظهر النواة في القلة، فكيف بما هو أعظم من ذلك وأكثر؟ وإنما يخبر بذلك جل ثناؤه عباده أنه لا يبخسهم من جزاء أعمالهم قليلاً ولا كثيراً، ولكن يوفيهم ذلك كما وعدهم .
وبالذي قلنا في معنى النقير، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد. "ولا يظلمون نقيرا"، قال : النقير، الذي يكون في ظهر النواة .
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا أبو عامر قال ، حدثنا قرة، عن عطية قال : النقير، الذي في وسط النواة .
فإن قال لنا قائل : ما وجه دخول : "من" في قوله : "ومن يعمل من الصالحات"، ولم يقل : ومن يعمل الصالحات ؟ .
قيل : لدخولها وجهان :
أحدهما: أن يكون الله قد علم أن عباده المؤمنين لن يطيقوا أن يعملوا جميع الأعمال -الصالحات، فأوجب وعده لمن عمل ما أطاق منها، ولم يحرمه من فضله بسبب ما عجزت من عمله منها قوته .
والآخر منهما : أن يكون تعالى ذكره أوجب وعده لمن اجتنب الكبائر وأدى الفرائض ، لأن قصر في بعض الواجب له عليه ، تفضلاً منه على عباده المؤمنين ، إذ كان الفضل به أولى، والصفح عن أهل الإيمان به أحرى.
وقد تقول قوم من أهل العربية، أنها أدخلت في هذا الموضع بمعنى الحذف ، ويتأوله : ومن يعمل الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن .
وذلك عندي غير جائز، لأن دخولها لمعنى، فغير جائز أن يكون معناها الحذف.
شرط الإيمان لأن المشركين أدلوا بخدمة الكعبة وإطعام الحجيج وقرى الأضياف وأهل الكتاب بسبقهم، وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه فبين تعالى أن الأعمال الحسنة لا تقبل من غير إيمان وقرأ يدخلون الجنة الشيخان أبو عمرو وابن كثير ( بضم الياء وفتح الخاء ) على ما لم يسم فاعله ، الباقون بفتح الياء وضم الخاء، يعني يدخلون الجنة بأعمالهم وقد مضى ذكر النقير وهي النكتة في ظهر النواة.
قال قتادة: ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا, فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم, وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين, وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله, فأنزل الله "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" "ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن" الاية, ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الاديان, وكذا روي عن السدي ومسروق والضحاك وأبي صالح وغيرهم, وكذا روى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في هذه الاية: تخاصم أهل الأديان, فقال أهل التوارة: كتابنا خير الكتب, ونبينا خير الأنبياء, وقال أهل الإنجيل مثل ذلك, وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام, وكتابنا نسخ كل كتاب, ونبينا خاتم النبيين, وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا فقضى الله بينهم, وقال: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" الاية.
وخير بين الأديان فقال: " ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن " إلى قوله: "واتخذ الله إبراهيم خليلاً". وقال مجاهد: قالت العرب: لن نبعث ولن نعذب, وقالت اليهود والنصارى "لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى", وقالوا: "لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات" والمعنى في هذه الاية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني, ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال, وليس كل من ادعى شيئاً حصل له بمجرد دعواه, ولا كل من قال إنه هو على الحق سمع قوله بمجرد ذلك, حتى يكون له من الله برهان, ولهذا قال تعالى: "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" أي ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني ؟ بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام, ولهذا قال بعده "من يعمل سوءاً يجز به", كقوله: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وقد روي أن هذه الاية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة .
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن نمير, حدثنا إسماعيل عن أبي بكر بن أبي زهير, قال: أخبرت أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الاية "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" فكل سوء عملناه جزينا به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "غفر الله لك يا أبا بكر, ألست تمرض, ألست تنصب, ألست تحزن, ألست تصيبك اللأواء ؟" قال: بلى. قال: "فهو مما تجزون به". ورواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة, عن إسماعيل بن أبي خالد به, ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري عن إسماعيل به. وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن زياد الجصاص, عن علي بن زيد, عن مجاهد, عن ابن عمر, قال: سمعت أبا بكر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءاً يجز به في الدنيا" وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن هشيم بن جهيمة, حدثنا يحيى بن أبي طالب, حدثنا عبد الوهاب بن عطاء, حدثنا زياد الجصاص عن علي بن زيد, عن مجاهد, قال: قال عبد الله بن عمر: انظروا المكان الذي فيه عبد الله بن الزبير مصلوباً فلا تمرن عليه, قال: فسها الغلام فإذا عبد الله بن عمر ينظر إلى ابن الزبير فقال: يغفر الله لك ثلاثاً, أما والله ما علمتك إلا صواماً قواماً وصالاً للرحم, أما والله إني لأرجو مع مساوي ما أصبت أن لا يعذبك الله بعدها, قال: ثم التفت إلي فقال: سمعت أبا بكر الصديق يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءاً في الدنيا يجز به" ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن الفضل بن سهل, عن عبد الوهاب بن عطاء به مختصراً, وقال في مسنده ابن الزبير: حدثنا إبراهيم بن المستمر العروقي, حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حيان, حدثني أبي عن جدي حيان بن بسطام, قال: كنت مع ابن عمر فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب, فقال: رحمة الله عليك أبا خبيب, سمعت أباك يعني الزبير, يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من يعمل سوءاً يجز به في الدنيا والاخرة" ثم قال: لا نعلمه يروى عن الزبير إلا من هذا الوجه.
وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا أحمد بن كامل, حدثنا محمد بن سعد العوفي, حدثنا روح بن عبادة, حدثنا موسى بن عبيدة, حدثني مولى بن سباع, قال: سمعت ابن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية " من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت علي ؟" قلت: بلى يا رسول الله. قال: فاقرأنيها فلا أعلم إلا أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مالك يا أبا بكر ؟" قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, وأينا لم يعمل السوء وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون, فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب, وأما الاخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة", وكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى وعبد بن حميد عن روح بن عبادة به. ثم قال: وموسى بن عبيدة يضعف, ومولى بن سباع مجهول. وقال ابن جرير: حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: أخبرني عطاء بن أبي رباح قال: لما نزلت هذه الاية قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي المصيبات في الدنيا".
(طريق أخرى عن الصديق) قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري, حدثنا محمد بن عامر السعدي, حدثنا يحيى بن يحيى, حدثنا فضيل بن عياض عن سلمان بن مهران, عن مسلم بن صبيح, عن مسروق, قال: قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله, ما أشد هذه الاية "من يعمل سوءاً يجز به ؟" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المصائب والأمراض والأحزان في الدينا جزاء".
(طريق أخرى) قال ابن جرير: حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور, قالا: أنبأنا زيد بن الحباب, حدثنا عبد الملك بن الحسن المحاربي, حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ عن عائشة, عن أبي بكر قال: لما نزلت "من يعمل سوءاً يجز به" قال أبو بكر: يا رسول الله, كل ما نعمل نؤاخذ به ؟ فقال: "يا أبا بكر أليس يصيبك كذا وكذا, فهو كفارة".
(حديث آخر) قال سعيد بن منصور: أنبأنا عبد الله بن وهب, أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه أن يزيد بن أبي يزيد حدثه عن عبيد بن عمير, عن عائشة أن رجلاً تلا هذه الاية "من يعمل سوءاً يجز به" فقال: إنا لنجزى بكل ما علمناه, هلكنا إذاً, فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه في جسده فيما يؤذيه".
(طريق أخرى) قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا سلمة بن بشير, حدثنا هشيم عن أبي عامر, عن ابن أبي مليكة, عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله, إني لأعلم أشد آية في القرآن, فقال: "ما هي يا عائشة ؟" قلت: من يعمل سوءاً يجز به, فقال: "هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها" ورواه ابن جرير من حديث هشيم به. ورواه أبو داود من حديث أبي عامر صالح بن رستم الخزاز به.
(طريق أخرى) قال أبو داود الطيالسي: حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد, عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الاية "من يعمل سوءاً يجز به", فقالت: ما سألني أحد عن هذه الاية منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: "يا عائشة هذه مبايعة الله للعبد مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة يضعها في كمه, فيفزع لها, فيجدها في جيبه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه, كما أن الذهب يخرج من الكير".
(طريق أخرى) قال ابن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا أبو القاسم, حدثنا سريج بن يونس, حدثنا أبو معاوية عن محمد بن إسماعيل, عن محمد بن زيد بن المهاجر, عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الاية "من يعمل سوءاً يجز به", قال: "إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في القبض عند الموت" وقال الإمام أحمد: حدثنا حسين عن زائدة, عن ليث, عن مجاهد, عن عائشة قالت: قال: رسول الله: إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها, ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه.
(حديث آخر) قال سعيد بن منصور, عن سفيان بن عيينة, عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن, سمع محمد بن قيس بن مخرمة يخبر أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت "من يعمل سوءاً يجز به" شق ذلك على المسلمين, فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سددوا وقاربوا, فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها", هكذا رواه أحمد عن سفيان بن عيينة, ومسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به, ورواه ابن مردويه من حديث روح ومعتمر, كلاهما عن إبراهيم بن يزيد, عن عبد الله بن إبراهيم, سمعت أبا هريرة يقول: لما نزلت هذه الاية "ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" بكينا وحزنا, وقلنا: يارسول الله ما أبقت هذه الاية من شيء, قال: "أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت, ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا, فإنه لا يصيب أحداً منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله بها من خطيئته حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه" وقال عطاء بن يسار, عن أبي سعيد وأبي هريرة: أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر الله من سيئاته" أخرجاه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى عن سعد بن إسحاق, حدثتني زينب بنت كعب بن عجرة عن أبي سعيد الخدري, قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا, ما لنا بها ؟ قال: كفارات. قال أبي: وإن قلت قال: حتى الشوكة فما فوقها, قال: فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الوعك حتى يموت في أن لا يشغله عن حج ولا عمرة ولا جهاد في سبيل الله ولا صلاة مكتوبة في جماعة, فما مسه إنسان إلا وجد حره حتى مات رضي الله عنه, تفرد به أحمد.
(حديث أخر) روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد عن الكلبي, عن أبي صالح, عن ابن عباس, قال: قيل: يا رسول الله "من يعمل سوءاً يجز به", قال: "نعم ومن يعمل حسنة يجز بها عشراً" فهلك من غلب واحدته عشراته. وقال ابن جرير: حدثنا ابن وكيع, حدثنا يزيد بن هارون, حدثنا حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن "من يعمل سوءاً يجز به" قال: الكافر, ثم قرأ "وهل نجازي إلا الكفور", وهكذا روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أنهما فسرا السوء ههنا بالشرك أيضاً. وقوله: "ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً" قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: إلا أن يتوب فيتوب الله عليه, رواه ابن أبي حاتم, والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال لما تقدم من الأحاديث, وهذا اختيار ابن جرير, والله أعلم.
وقوله: "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن" الاية, لما ذكر الجزاء على السيئات وأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا وهو الأجود له, وإما في الاخرة والعياذ با لله من ذلك, ونسأله العافية في الدنيا والاخرة, والصفح والعفو والمسامحة, شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده, ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان, وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير, وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة وقد تقدم الكلام على الفتيل وهو الخيط في شق النواة, وهذا النقير وهما في نواة التمرة, وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة, والثلاثة في القرآن,
ثم قال تعالى: "ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله" أخلص العمل لربه عز وجل فعمل إيماناً واحتساباً, "وهو محسن" أي اتبع في عمله ما شرعه الله له, وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق,, وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما, أي يكون خالصاً صواباً والخالص أن يكون لله, والصواب أن يكون متابعاً للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة, وباطنه بالإخلاص, فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد, فمتى فقد الإخلاص كان منافقاً وهم الذين يراءون الناس, ومن فقد المتابعة كان ضالاً جاهلاً, ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم, الاية, ولهذا قال تعالى: "واتبع ملة إبراهيم حنيفاً" وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة. كما قال تعالى: "إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي" الاية, وقال تعالى: "ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين" والحنيف هو المائل عن الشرك قصداً, أي تاركاً له عن بصيرة, ومقبل على الحق بكليته لا يصده عنه صاد, ولا يرده عنه راد.
وقوله: "واتخذ الله إبراهيم خليلاً" وهذا من باب الترغيب في اتباعه, لأنه إمام يقتدى به حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له, فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة, وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه, كما وصفه به في قوله: "وإبراهيم الذي وفى", قال كثير من علماء السلف: أي قام بجميع ما أمر به في كل مقام من مقامات العبادة, فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير, ولا كبير عن صغير وقال تعالى: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن" الاية. وقال تعالى: "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين" الاية, والاية بعدها, وقال البخاري: حدثنا سليمان بن حرب, حدثنا شعبة عن حبيب بن أبي ثابت, عن سعيد بن جبير, عن عمرو بن ميمون, قال: إن معاذاً لما قدم اليمن صلى بهم الصبح, فقرأ "واتخذ الله إبراهيم خليلا" فقال رجل: من القوم: لقد قرت عين أم إبراهيم, وقد ذكر ابن جرير في تفسيره عن بعضهم: أنه إنما سماه الله خليلاً من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جدب, فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل, وقال بعضهم من أهل مصر: ليمتار طعاماً لأهله من قبله فلم يصب عنده حاجته, فلما قرب من أهله قر بمفازة ذات رمل, فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل لئلا يغتم أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة, وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون, ففعل ذلك فتحول ما في الغرائر من الرمل دقيقاً, فلما صار إلى منزله نام, و قام أهله ففتحوا الغرائر فوجدوا دقيقاً فعجنوا منه وخبزوا, فاستيقظ فسألهم عن الدقيق الذي خبزوا, فقالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك, فقال: نعم هو من عند خليلي الله, فسماه الله خليلاً, وفي صحة هذا ووقوعه نظر, وغايته أن يكون خبراً إسرائيلياً لا يصدق ولا يكذب, وإنما سمي خليل الله لشدة محبة ربه عز وجل, له لما قام به من الطاعة التي يحبها ويرضاها, ولهذا ثبت في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها, قال: "أما بعد, أيها الناس فلو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً, لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً, ولكن صاحبكم خليل الله" وجاء من طريق جندب بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن مسعود عن النبي قال: "إن الله اتخذني خليلاً, كما اتخذ إبراهيم خليلاً" وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم, حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد, حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني بمكة, حدثنا عبد الله الحنفي, حدثنا زمعة أبو صالح عن سلمة بن وهران, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله ينتظرونه, فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم, وإذا بعضهم يقول: عجب, إن الله اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله, وقال آخر: ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليماً, وقال آخر: فعيسى روح الله وكلمته, وقال آخر: آدم اصطفاه الله فخرج عليهم فسلم, وقال: "قد سمعت كلامكم وتعجبكم إن إبراهيم خليل الله, وهو كذلك, وموسى كليمه, وعيسى روحه وكلمته, وآدم اصطفاه الله وهو كذلك, وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم قال: ألا وإني حبيب الله, ولا فخر وأنا أول شافع وأول مشفع, ولا فخر وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله ويدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين, ولا فخر, وأنا أكرم الأولين والاخرين يوم القيامة ولا فخر" وهذا حديث غريب من هذا الوجه ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها,
وقال قتادة عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: أتعجبون من أن تكون الخلة لإبراهيم, والكلام لموسى, والرؤية لمحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, رواه الحاكم في المستدرك, وقال: صحيح على شرط البخاري, ولم يخرجاه, وكذا روي عن أنس بن مالك وغير واحد من الصحابة والتابعين والأئمة من السلف والخلف وقال ابن أبي حاتم: حدثنا يحيى بن عبدك القزويني, حدثنا محمد يعني سعيد بن سابق, حدثنا عمرو يعني ابن أبي قيس عن عاصم عن أبي راشد, عن عبيد بن عمير, قال: كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس, فخرج يوماً يلتمس أحداً يضيفه فلم يجد أحداً يضيفه, فرجع إلى داره فوجد فيها رجلاً قائماً, فقال: يا عبد الله ما أدخلك داري بغير إذني ؟ قال: دخلتها بإذن ربها, قال: ومن أنت ؟ قال: أنا ملك الموت أرسلني ربي إلى عبد من عباده, أبشره بأن الله قد اتخذه خليلاً, قال: من هو ؟ فوالله إن أخبرتني به, ثم كان بأقصى البلاد لاتينه, ثم لا أبرح له جاراً حتى يفرق بيننا الموت, قال: ذلك العبد أنت. قال: أنا ؟ قال: نعم, قال فيم اتخذني ربي خليلاً ؟ قال: إنك تعطي الناس ولا تسألهم وحدثنا أبي, حدثنا محمود بن خالد السلمي, حدثنا الوليد عن إسحاق بن يسار, قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى أن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء.
وقوله: "ولله ما في السموات وما في الأرض" أي الجميع ملكه وعبيده وخلقه وهو المتصرف في جميع ذلك, لا راد لما قضى, ولا مقعب لما حكم, ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته. وقوله: "وكان الله بكل شيء محيطاً" أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية من عباده, ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر, ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى.
124- "ومن يعمل من الصالحات" أي بعضها حال كونه "من ذكر أو أنثى" وحال كونه مؤمناً، والحال الأولى لبيان من يعمل، والحال الأخرى لإفادة اشتراط الإيمان في كل عمل صالح "فأولئك" إشارة إلى العمل المتصف بالإيمان "يدخلون الجنة" قرأ أبو عمرو وابن كثير "يدخلون" بضم حرف المضارعة على البناء للمجهول. وقرأ الباقون بفتحها على البناء للمعلوم "ولا يظلمون نقيراً" أي: لا ينقصون شيئاً حقيراً، وقد تقدم تفسير النقير.
124-قوله تعالى:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً"، أي: مقدار النقير ، وهو النقرة التي تكون في ظهر النواة، قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل البصرة وأبو بكر "يدخلون" بضم الياء وفتح الخاء ها هنا هوفي سورة مريم وحم المؤمن ، زاد أبو عمرو :"يدخلونها" في سورة فاطر، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء.
روى الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال: لما نزلت"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به" قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فنزلت هذه الآية: "ومن يعمل من الصالحات" الآية ، ونزلت أيضاً:
124" ومن يعمل من الصالحات " بعضها أو شيئاً منها فإن كل أحد لا يتمكن من كلها وليس مكلفاً بها. " من ذكر أو أنثى " في موضع الحال من المستكن في يعمل، و " من " للبيان أو من الصالحات أي كائنة من ذكر أو أنثى ومن للابتداء. " وهو مؤمن " حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور وتنبيهاً على أنه لا اعتداد به دونه فيه. " فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا " بنقص شيء من الثواب وإذا لم ينقص ثواب المطيع فبالحري أن لا يزاد عقاب العاصي، لأن المجازي أرحم الراحمين، ولذلك اقتصر على ذكره عقيب الثواب. وقرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر " يدخلون الجنة " هنا وفي غافر و مريم بضم الياء وفتح الخاء، والباقون بفتح الياء وضم الخاء.
124. And whoso doeth good works, whether of male or female, and he (or she) is a believer, such will enter paradise and they will not be wronged the dint in a date stone.
124 - If any do deeds of righteousness, be they male or female and have faith, they will enter heaven, and not the least injustice will be done to them.