(وإذ جعلنا البيت) الكعبة (مثابة للناس) مرجعا يثوبون إليه من كل جانب (وأمنا) مأمنا لهم من الظلم والإغارات الواقعة في غيره ، كان الرجل يلقى قاتل أبيه فيه فلا يهيجه (واتخِذوا) أيها الناس (من مقام إبراهيم) هو الحجر الذي قام عليه عند بناء البيت (مصلَّى) مكان صلاة بأن تصلوا خلفه ركعتي الطواف ، وفي قراءة بفتح الخاء خبر (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) أمرناهما (أن) أي بأن (طهرا بيتي) من الأوثان (للطائفين والعاكفين) المقيمين فيه (والركع السجود) جمع راكع وساجد المصلين
قوله تعالى واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى روى البخاري وغيره عن عمر قال وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو أخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وقلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن فنزلت كذلك له طرق كثيرة منها ما أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جابر قال لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر هذا مقام أبينا إبراهيم قال نعم قال أفلا نتخذه مصلى فأنزل الله واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى
واخرج ابن مردويه من طريق عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب
أنه مر من مقام إبراهيم فقال يا رسول الله أليس نقوم مقام خليل ربنا قال بلى قال أفلا نتخذه فلم نلبث إلا يسيرا حتى نزلت واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى وظاهر هذا وما قبله أن الآية نزلت في حجة الوداع
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذ ابتلى"، وإذ اختبر.
يقال منه:ابتليت فلانًا أبتليه ابتلاء، ومنه قول الله عز وجل: "وابتلوا اليتامى" (النساء: 6)، يعني به: اختبروهم.
وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم، اختبارًا بفرائض فرضها عليه، وأمر أمره به. وذلك هو الكلمات التي أوحاهن إليه، وكلفه العمل بهن، امتحانًا منه له واختبارًا.
ثم اختلف أهل التأويل في صفة الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم نبيه وخليله صلوات الله عليه.
فقال بعضهم: هى شرائع الإسلام، وهى ثلاثون سهمًا.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: قال ابن عباس: لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا إبراهيم، ابتلاه الله بكلمات، فأتمهن. قال: فكتب الله له البراءة فقال:"وإبراهيم الذي وفى" (النجم: 37). قال: عشر منها في الأحزاب، وعشر منها في براءة، وعشر منها في المؤمنين و سأل سائل، وقال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهمًا.
حدثنا إسحق بن شاهين قال، حدثنا خالد الطحان، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله غير إبراهيم، ابتلي بالإسلام فأتمه، فكتب الله له البراءة فقال:"وإبراهيم الذي وفى" (النجم: 37)، فذكر عشرًا في براءة (112)، فقال:"التائبون العابدون الحامدون" إلى آخر الآية، وعشرًا في الأحزاب (35): "إن المسلمين والمسلمات"، وعشرًا في سورة المؤمنين (1- 9) إلى قوله:"والذين هم على صلواتهم يحافظون"، وعشرًا في سأل سائل (221- 34): "والذين هم على صلاتهم يحافظون".
حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا خارجة بن مصعب، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:الإسلام ثلاثون سهمًا، وما ابتلي بهذا الدين أحد فأقامه إلا إبراهيم، قال الله: "وإبراهيم الذي وفى"، فكتب الله له براءة من النار.
وقال آخرون: هي خصال عشر من سنن الإسلام.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: ابتلاه الله بالطهارة، خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس: قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وفرق الرأس. وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط والبول بالماء.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الحكم بن أبان، عن القاسم بن أبي بزة، عن ابن عباس، بمثله ولم يذكر أثر البول.
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: ابتلاه بالختان، وحلق العانة، وغسل القبل والدبر، والسواك، وقص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط. قال أبو هلال: ونسيت خصلة.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن مطر، عن أبي الجلد قال: ابتلي إبراهيم بعشرة أشياء، هن في الإنسان، سنة: الاستنشاق، وقص الشارب، والسواك، ونتف الإبط، وقلم الأظفار، وغسل البراجم، والختان، وحلق العانة، وغسل الدبر والفرج.
وقال بعضهم: بل الكلمات التي ابتلي بهن عشر خلال، بعضهن في تطهير الجسد، وبعضهن في مناسك الحج.
ذكر من قال ذلد:
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن حنش، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، قال: ستة في الإنسان، وأربعة في المشاعر. فالتي في الإنسان: حلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يوم الجمعة. وأربعة في المشاعر: الطواف، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة.
وقال آخرون: بل ذلك:"إني جاعلك للناس إماما"، في مناسك الحج.
ذكر من قالى ذلك:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسمعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، فمنهن: "إني جاعلك للناس إماما"، وآيات النسك.
حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسمعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح مولى أم هانىء في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: منهن "إني جاعلك للناس إماما"، ومنهن آيات النسك "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" (البقرة: 127- 128).
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، قال الله لإبراهيم: إني مبتليك بأمر فما هو؟ قال: تجعلني للناس إمامًا قال: نعم. قال: ومن ذريتي. قال: لا ينال عهدي الظالمين. قال: تجعل البيت للناس. قال: نعم. قال: وأمنًا. قال: نعم. قال: وتجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك. قال: نعم. قال: وترينا مناسكنا وتتوب علينا. قال: نعم. قال: وتجعل هذا البلد آمنًا. قال: نعم. قال: وترزق أهله في الثمرات من آمن منهم. قال: نعم.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، أخبره به عن عكرمة، فعرضته على مجاهد فلم ينكره.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه. قال ابن جريج: فاجتمع على هذا القول مجاهد وعكرمة جميعًا.
حدثنا سفيان قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، قال: ابتلي بالآيات التي بعدها:"إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين".
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، فالكلمات:"إني جاعلك للناس إماما"، وقوله:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس"، وقوله:"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وقوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" الآية، وقوله:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" الآية. قال: فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن"، فمنهن:"إني جاعلك للناس إماما"، ومنهن:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت"، ومنهن الآيات في شأن النسك والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكنو البيت، ومحمد صلى الله عليه وسلم في ذريتهما عليهما السلام.
وقال آخرون: بل ذلك مناسك الحج خاصة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا عمر بن نبهان، عن قتادة، عن ابن عباس في قوله: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: مناسك الحج.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان ابن عباس يقول في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: المناسك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال، قال ابن عباس: ابتلاه بالمناسك.
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال: بلغنا عن ابن عباس أنه قال: إن الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم، المناسك.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحق، عن التميمي، عن ابن عباس قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: مناسك الحج.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحق، عن التميمي، عن ابن عباس في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: منهن مناسك الحج. وقال آخرون: هي أمور، منهن الختان.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة، عن يونس بن أبي إسحق، عن الشعبي:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: منهن الختان.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس بن أبي إسحق، قال: سمعت الشعبي يقول، فذكر مثله.
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
يونس بن أبي إسحق قال، سمعت الشعبي وسأله أبو إسحق عن قول الله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: منهن الختان، يا أبا إسحق.
وقال آخرون: بل ذلك الخلال الست: الكوكب، والقمر، والشمس، والنار، والهجرة، والختان، التي ابتلي بهن فصبر عليهن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: قلت للحسن:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن". ابتلاه بالكوكب، فرضي عنه وابتلاه بالقمر، فرضي عنه وابتلاه بالشمس، فرضي عنه وابتلاه بالنار، فرضي عنه وابتلاه بالهجرة، وابتلاه بالختان.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول: إي والله، ابتلاه بأمر فصبر عليه: ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر، فأحسن في ذلك، وعرف أن ربه دائم لا يزول، فوجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا وما كان من المشركين ثم ابتلاه بالهجرة، فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجرًا إلى الله ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة، فصبر على ذلك، فابتلاه الله بذبح ابنه وبالختان، فصبر على ذلك.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عمن سمع الحسن يقول في قوله:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات"، قال: ابتلاه الله بذبح ولده، وبالنار، وبالكوكب، والشمس، والقمر.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا أبو هلال، عن الحسن:"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات "، قال: ابتلاه بالكوكب، وبالشمس والقمر، فوجده صابرًا.
وقال آخرون بما:
حدثنا به موسى بن هرون قال، حدثنا عمروبن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: الكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم ربه:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم* ربنا وابعث فيهم رسولا منهم" (البقرة: 127- 129).
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عباده أنه اختبر إبراهيم خليله بكلمات أوحاهن إليه، وأمره أن يعمل بهن فأتمهن، كما أخبر الله جل ثناؤه عنه أنه فعل. وجائز أن تكون تلك الكلمات جميع ما ذكره من ذكرنا قوله في تأويل الكلمات، وجائز أن تكون بعضه. لأن إبراهيم صلوات الله عليه قد كان امتحن فيما بلغنا بكل ذلك، فعمل به، وقام فيه بطاعة الله وأمره الواجب عليه فيه. وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لأحد أن يقول: عنى الله بالكلمات التي ابتلى بهن إبراهيم شيئًا من ذلك بعينه دون شيء، ولا عنى به كل ذلك، إلا بحجة يجب التسليم لها: من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من الحجة. ولم يصح في شيء من ذلك خبر عن الرسول بنقل الواحد، ولا بنقل الجماعة التي يجب التسليم لما نقلته.
غير أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في نظير معنى ذلك خبران، لو ثبتا، أو أحدهما، كان القول به في تأويل ذلك هو الصواب، أحدهما، ما:
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا رشدين بن سعد قال، حدثني زبان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله:"الذي وفى"؟ (النجم: 37) لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى:"فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون" (الروم: 17- 18) حتى يختم الآية.
والآخر منهما ما:
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وإبراهيم الذي وفى" (النجم: 37)، قال: أتدرون ما وفى؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: وفى عمل يومه، أربع ركعات في النهار".
قال أبو جعفر: فلو كان خبر سهل بن معاذ عن أبيه صحيحًا سنده، كان بينًا أن الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فقام بهن، هو قوله كلما أصبح وأمسى:"فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون* وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون" (الروم: 17- 18) أو كان خبر أبي أمامة عدولاً نقلته، كان معلومًا أن الكلمات التي أوحين إلى إبراهيم فابتلي بالعمل بهن: أن يصلي كل يوم أربع ركعات. غير أنهما خبران في أسانيدهما نظر.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في معنى الكلمات التي أخبر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم، ما بينا آنفًا. ولو قال قائل في ذلك: إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح والربيع بن أنس، أولى بالصواب من القول الذي قاله غيرهم، كان مذهبًا. لأن قوله:"إني جاعلك للناس إماما"، وقوله:"وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين" وسائر الآيات التي هي نظير ذلك، كالبيان عن الكلمات التي ذكر الله أنه ابتلى بهن إبراهيم.
القول في تأويل قوله تعالى:"فأتمهن".
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فأتمهن"، فأتم إبراهيم الكلمات. وإتمامه إياهن، إكماله إياهن، بالقيام لله بما أوجب عليه فيهن، وهو الوفاء الذي قال الله جل ثناؤه:"وإبراهيم الذي وفى" (النجم: 37)، يعني وفى بما عهد إليه، بالكلمات، بما أمره به من فرائضه ومحنته فيها، كما:
حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس:"فأتمهن"، أي فأداهن.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فأتمهن"، أي عمل بهن فأتمهن.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فأتمهن"، أي عمل بهن فأتمهن.
القول في تأويل قوله تعالى:"قال إني جاعلك للناس إماما".
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إني جاعلك للناس إماما"، فقال الله: يا إبراهيم، إني مصيرك للناس إماما، يؤتم به ويقتدى به، كما:
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إني جاعلك للناس إماما"، ليؤتم به ويقتدى به.
يقال منه:أممت القوم فأنا أؤمهم أما وإمامة، إذا كنت إمامهم.
وإنما أراد جل ثناؤه بقوله لإبراهيم:"إني جاعلك للناس إماما"، إني مصيرك تؤم من بعدك من أهل الإيمان بي وبرسلي، تتقدمهم أنت، ويتبعون هديك، ويستنون بسنتك التي تعمل بها، بأمري إياك ووحيي إليك.
القول في تأويل قوله تعالى:" قال ومن ذريتي".
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: قال إبراهيم لما رفع الله منزلته وكرمه، فأعلمه ما هو صانع به، من تصييره إماما في الخيرات لمن في عصره، ولمن جاء بعده من ذريته وسائر الناس غيرهم، يهتدى بهديه، ويقتدى بأفعاله وأخلاقه: يا رب، ومن ذريتي فاجعل أئمة يقتدى بهم، كالذي جعلتني إمامًا يؤتم بي ويقتدى بي. مسألة من إبراهيم ربه سأله إياها، كما:
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: قال إبراهيم:"ومن ذريتي"، يقول: فاجعل من ذريتي من يؤتم به، ويقتدى به.
وقد زعم بعض الناس أن قول إبراهيم:"ومن ذريتي"، مسألة منه ربه لعقبه أن يكونوا على عهده ودينه، كما قال: "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" (إبراهيم: 35)، فأخبر الله جل ثناؤه أن في عقبه الظالم المخالف له في دينه، بقوله:"لا ينال عهدي الظالمين".
والظاهر من التنزيل يدل على غير الذي قاله صاحب هذه المقالة. لأن قول إبراهيم صلوات الله عليه:"ومن ذريتي"، في إثر قول الله جل ثناؤه:"إني جاعلك للناس إماما". فمعلوم أن الذي سأله إبراهيم لذريته، لو كان غير الذي أخبر ربه أنه أعطاه إياه، لكان مبينًا. ولكن المسألة لما كانت مما جرى ذكره، اكتفى بالذكر الذى قد مضى، من تكريره وإعادته، فقال:"ومن ذريتي"، بمعنى: ومن ذريتي فاجعل مثل الذي جعلتني به، من الإمامة للناس.
القول في تأويل قوله تعالى:"قال لا ينال عهدي الظالمين".
قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه عن أن الظالم لا يكون إمامًا يقتدي به أهل الخير. وهو من الله جل ثناؤه جواب لما يتوهم في مسألته إياه: أن يجعل من ذريته أئمة مثله. فأخبر أنه فاعل ذلك، إلا بمن كان من أهل الظلم منهم، فإنه غير مصيره كذلك، ولا جاعله في محل أوليائه عنده، بالتكرمة بالإمامة. لأن الإمامة إنما هي لأوليائه وأهل طاعته، دون أعدائه والكافرين به.
واختلف أهل التأويل في العهد الذي حرم الله جل ثناؤه الظالمين أن ينالوه.
فقال بعضهم: ذلك العهد، هو النبوة.
ذكر من قال ذلك:
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قال لا ينال عهدي الظالمين"، يقول: عهدي، نبوتي.
فمعنى قائل هذا القول في تاويل الآية: لا ينال النبوة أهل الظلم والشرك.
وقال آخرون: معنى العهد: عهد الإمامة.
فتأويل الآية على قولهم: لا أجعل من كان من ذريتك بأسرهم ظالمًا، إمامًا لعبادي يقتدى به.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قال لا ينال عهدي الظالمين"، قال: لا يكون إمام ظالمًا.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: قال الله:"لا ينال عهدي الظالمين"، قال: لا يكون إمام ظالمًا.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة بمثله.
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"قال لا ينال عهدي الظالمين"، قال: لا يكون إمام ظالم يقتدى به.
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد مثله.
حدثنا مشرف بن أبان الحطاب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد في قوله:"لا ينال عهدي الظالمين"، قال: لا أجعل إمامًا ظالمًا يقتدى به.
حدثنا محمد بن عبيد المحاربى قال، حدثنا مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "لا ينال عهدي الظالمين"، قال: لا أجعل إمامًا ظالمًا يقتدى به.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج، عن مجاهد: "لا ينال عهدي الظالمين ": قال: لا يكون إمامًا ظالم. قال ابن جريج: وأما عطاء فإنه قال: "إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي "، فأبى أن يجعل من ذريته ظالمًا إمامًا. قلت لعطاء: ما عهده؟ قال: أمره.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه لا عهد عليك لظالم أن تطيعه في ظلمه.
ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "لا ينال عهدي الظالمين "، يعني: لا عهد لظالم عليك في ظلمه، أن تطيعه فيه.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن إسرائيل، عن مسلم الأعور، عن مجاهد، عن ابن عباس: "قال لا ينال عهدي الظالمين "، قال: ليس للظالمين عهد، وإن عاهدته فانقضه.
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن سفيان، عن هرون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس قال: ليس لظالم عهد.
وقال آخرون: معنى "العهد" في هذا الموضع: الأمان.
فتأويل الكلام على معنى قولهم: قال الله لا ينال أماني أعدائي، وأهل الظلم لعبادي. أي: لا أؤمنهم من عذابي فى الآخرة.
ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "قال لا ينال عهدي الظالمين "، ذلكم عند الله يوم القيامة، لا ينال عهده ظالم، فأما في الدنيا، فقد نالوا عهد الله، فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم به. فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "لا ينال عهدي الظالمين "، قال: لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم، وأكل به وعاش.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرحمن، عن إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم: "قال لا ينال عهدي الظالمين "، قال: لا ينال عهد الله في الآخرة الظالمون. فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به، وأكل وأبصر وعاش.
وقال آخرون: بل العهد الذي ذكره الله في هذا الموضع: دين الله.
ذكر من قال ذلك:
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: قال الله لإبراهيم: "لا ينال عهدي الظالمين "، فقال: فعهد الله الذي عهد إلى عباده، دينه. يقول: لا ينال دينه الظالمين. ألا ترى أنه قال: "وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين" (الصافات: 113)، يقول: ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق.
حدثني يحيى بن جعفر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: "لا ينال عهدي الظالمين "، قال: لا ينال عهدي عدو لي يعصيني، ولا أنحلها إلا وليًا لي يطيعني.
قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر خبر عن أنه لا ينال من ولد إبراهيم صلوات الله عليه عهد الله الذي هو النبوة والإمامة لأهل الخير، بمعنى الاقتداء به في الدنيا، والعهد الذي بالوفاء به ينجو في الآخرة من وفى لله به في الدنيا من كان منهم ظالمًا متعديًا جائرًا عن قصد سبيل الحق فهو إعلام من الله تعالى ذكره لإبراهيم: أن من ولده من يشرك به، ويجور عن قصد السبيل، ويظلم نفسه وعباده، كالذي: حدثني إسحق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن مجاهد في قوله: "لا ينال عهدي الظالمين "، قال: إنه سيكون في ذريتك ظالمون. وأما نصب "الظالمين "، فلأن العهد هو الذي لا ينال الظالمين.
وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: لا ينال عهدي الظالمون ، بمعنى: أن الظالمين هم الذين لا ينالون عهد الله.
وإنما جاز الرفع في الظالمين والنصب، وكذلك في العهد، لأن كل ما نال المرء فقد ناله المرء، كما يقال: نالني خير فلان، ونلت خيره ، فيوجه الفعل مرة إلى الخير، ومرة إلى نفسه. وقد بينا معنى الظلم فيما مضى، فكرهنا إعادته.
قوله تعالى : "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا" فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : :"جعلنا" بمعنى صيرنا لتعديه إلى مفعولين ، وقد تقدم .
"البيت" يعني الكعبة "مثابة" أي مرجعاً ، يقال : ثاب يثوب مثاباً ومثابة وثوؤبا وثوباناً . فالمثابة مصدر وصف به ويراد به الموضع الذي يثاب إليه ، أي يرجع إليه . قال ورقة بن نوفل في الكعبة :
مثابا لأفناء القبائل كلها تخب إليها اليعملات الذوامل
وقرأ الأعمش مثابات أ على الجمع . ويحتمل أن يكون من الثواب ، أي يثابون هناك . وقال مجاهد : لا يقضي أحد منه وطراً ، قال الشاعر :
جعل البيت مثابا لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر
والأصل مثوبة ، قلبت حركة الواو على الثاء فقلبت الواو ألفاً اتباعاً لثاب يثوب ، وانتصب على المفعول الثاني ، ودخلت الهاء للمبالغة من يثوب أي يرجع ، لأنه قل ما يفارق أحد البيت إلا وهو يرى أنه لم يقض منه وطراً ، فهي كنسابة وعلامة ، قاله الأخفش . وقال غيره : هي هاء تأنيث الصدر وليست للمبالغة .
فإن قيل : ليس كل من جاءه يعود إليه ، قيل : ليس يختص بمن ورد عليه ، وإنما المعنى أنه لا يخلو من الجملة ، ولا يعدم قاصداً من الناس ، والله تعالى أعلم .
الثانية : قوله تعالى : "وأمنا" استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحد في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه ، وعضدوا ذلك بقوله تعالى : "ومن دخله كان آمنا" كأنه قال : آمنوا من دخل البيت . والصحيح إقامة الحدود في الحرم ، وأن ذلك من المنسوخ ، لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت ، ويقتل خارج البيت . وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا ؟ والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة . وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به ، ولو أتى حداً أقيد منه فيه ، ولو حارب فيه حورب وقتل مكانه . وقال أبو حنيفة : من لجأ إلى الحرام لا يقتل فيه ولا يتابع ، ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج . فنحن نقتله بالسيف ، وهو يقتله بالجوع والصد ، فأي قتل أشد من هذا وفي قوله : "آمنا" تأكيداً للأمر باستقبال الكعبة ، أي ليس في بيت المقدس هذه الفضيلة ، ولا يحتج إليه الناس ، ومن استعاذ بالحرم أمن من أن يغار عليه . وسيأتي بيان هذا في المائدة إن شاء الله تعالى .
قوله تعالى : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى "واتخذوا" قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على جهة الخبر عمن اتخذه من متبعي إبراهيم ، وهو معطوف على "جعلنا" أي جعلنا البيت مثابة واتخذوه مصلى . وقيل هو معطوف على تقدير إذ ، كأنه قال : وإذ جعلنا البيت مثابة وإذ اتخذوا ، فعلى الأول الكلام جملة واحدة ، وعلى الثاني جملتان . وقرأ جمهور القراء واتخذوا بكسر الخاء على جهة الأمر ، قطعوه من الأول وجعلوه معطوفاً جملة على جملة . قال المهدوي : يجوز أن يكون معطوفاً على "اذكروا نعمتي" كأنه قال ذلك لليهود ، أو على معنى إذ جعلنا البيت ، لأن معناه اذكروا إذ جعلنا . أو على معنى قوله : "مثابة" لأن معناه ثوبواً .
الثانية : روى ابن عمر قال :
قال عمر : وافقت ربي في ثلاث : في مقام إبراهيم ، وفي الحجاب ، وفي أسارى بدر . خرجه مسلم وغيره . وخرجه البخاري عن انس قال قال عمر :
وافقت الله في ثلاث ، أو وافقني ربي في ثلاث .... الحديث ، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده فقال : حدثنا حماد بن سلمة حدثنا علي بن زيد عن أنس بن مالك .
قال قال عمر : وافقت ربي في أربع ، قلت يا رسول الله : :لو صليت خلف المقام ؟ فنزلت هذه الآية : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت : يا رسول الله ، لو ضربت على نسائك الحجاب فإنه يدخل عليهن البر والفاجر ؟ فأنزل الله : "وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب" ، ونزلت هذه الآية : "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" ، فلما نزلت قلت أنا : تبارك الله احسن الخالقين ، فنزلت : "فتبارك الله أحسن الخالقين" ، ودخلت على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : لتنتهن أو ليبدلنه الله بأزواج خير منكن ، فنزلت الآية : "عسى ربه إن طلقكن" .
قلت : ليس في هذه الرواية ذكر للأسارى ، فتكون موافقة عمر في خمس .
الثالثة : قوله تعالى : "من مقام" المقام في اللغة : موضع القدمين . قال النحاس : مقام من قام يقوم ، يكون مصدراً واسماً للموضع . ومقام من أقام ، فأما قول زهير :
وفيهم مقامات حسان وجوههم وأندية ينتابها القول والفعل
فمعناه : فيهم أهل مقامات . واختلف في تعيين المقام على أقوال ، أصحها ـ أن هالحجر الذي تعرفه الناس اليوم الذي يصلون عنده ركعتي طواف القدوم . وهذا قول جابر بن عبد الله وابن عباس و قتادة وغيرهم . وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى البيت استلم الركن فرمل ثلاثا ، ومشى أربعا ، ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ : "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فصلى ركعتين قرأ فيهما بـ "قل هو الله أحد" و "قل يا أيها الكافرون" " . وهذا يدل على ان ركعتي الطواف وغيرهما من الصلوات لأهل مكة أفضل ويدل من وجه على أن الطواف للغرباء أفضل ، على ما يأتي . وفي البخاري أنه الحجر الذي ارتفع عليه إبراهيم حين ضعف عن رفع الحجارة التي كان إسماعيل ينالوها إياه في بناء البيت ، وغرقت قدماه فيه . قال انس : رأيت في المقام أثر اصابعه وعقبه وأخمص قدميه ، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم ، حكاه القشيري . وقال السدي : المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عليه السلام حيت غسلت رأسه . وعن ابن عباس أيضاً و مجاهد و عكرمة و عطاء : الحج كله . وعن عطاء : عرفة ومزدلفة والجمار ، وقال الشعبي . النخعي : الحرم كله مقام إبراهيم ، وقاله مجاهد .
قلت : والصحيح في المقام القول الأول ، حسب ما ثبت في الصحيح . وخرج أبو نعيم من حديث محمد بن سوقة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال :
"نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجل بين الركن والمقام ، أو الباب والمقام وهو يدعو ويقول : اللهم اغفر لفلان ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما هذا؟ فقال : رجل استودعني أن أدعو له في هذا المقام ، فقال : ارجع فقد غفر لصاحبك" . فال أبو نعيم : حدثناه أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم القاضي قال حدثنا محمد بن عاصم بن يحيى الكاتب قال حدثنا عبد الرحمن بن القاسم القطان الكوفي قال حدثنا الحارث بن عمران الجعفري عن محمد بن سوقة ، فذكره . قال أبو نعيم : كذا رواه عبد الرحمن عن الحارث عن محمد عن جابر ، وإنما يعرف من حديث الحارث عن محمد عن عكرمة عن ابن عباس . ومعنى مصلى : مدعى يدعى فيه ، قاله مجاهد . وقيل : موضع صلاة يصلى عنده ، قاله قتادة . وقيل : قبلة يقف الإمام عندها ، قال الحسن .
قوله تعالى : "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" فيه ست مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "وعهدنا" قيل معناه أمرنا . وقيل : أوحينا ."أن طهرا" أن في موضع نصب على تقدير حذف الخافض . وقال سيبويه : إنها بمعنى أي مفسرة ، فلا موضع لها من الإعراب . وقال الكوفيون : تكون بمعنى القول . و طهرا قيل معناه : من الأوثان ، عن مجاهد و الزهري . وقال عبيد بن عمير وسعيد بن جبير من الآفات والريب . وقيل : من الكفار . وقال السدى ابنياه وأسساه على طهارة ونية طهارة ، فيجيء مثل قوله : "أسس على التقوى" . وقال يمان : بخراه وخلقاه ."بيتي" أضاف البيت إلى نفسه إضافة تشريف وتكريم ، وهي إضافة مخلوق إلى خالق ، ومملوك إلى مالك . وقرأ الحسن وابن إبي إسحق وأهل المدينة وهشام وحفص : بيتي بفتح الياء ، والآخرون بإسكانها .
الثانية : قوله تعالى : "للطائفين" ظاهره الذين يطوفون به ، وهو قول عطاء . وقال سعيد بن جبير : معناه للغرباء الطارئين على مكة ، وفيه بعد . "والعاكفين" المقيمين من بلدي وغريب ، عن عطاء . وكذلك قوله : "للطائفين" . والعكوف في اللغة : اللزوم والإقبال على الشيء ، كما قال الشاعر :
عكف النبيط يلعبون الفنزجا
وقال مجاهد : العاكفون المجاورون . ابن عباس المصلون . وقيل : الجالسون بغير طواف ، والمعنى متقارب . "والركع السجود" أي المصلون عند الكعبة . وخص الركوع والسجود بالذكر ، لأنهما أقرب أحوال المصلى إلى الله تعالى . وقد تقدم معنى الركوع والسجود لغة والحمد لله .
الثالثة : لما قال الله تعالى : "أن طهرا بيتي" دخل فيه بالمعنى جميع بيوته تعالى ، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة . وإنما خص الكعبة بالذكر لأنه لم يكن هناك غيرها ، أو لكونها أعظم حرمه ، والأول أظهر ، والله أعلم . وفي التنزيل "في بيوت أذن الله أن ترفع" وهناك يأتي حكم المساجد إن شاء الله تعالى . وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجل في المسجد فقال : ما هذا ! أتدري أين أنت !؟ وقال حذيفة قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"إن الله أوحى إلى يا أخا المنذرين يا أخا المرسلين أنذر قومك ألا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلا بقلوب سليمة وألسنة صادقة وأيد نقية وفروج طاهرة وألا يدخلوا بيتاً من بيوتي ما دام لأحد عندهم مظلمة فإني ألعنه ما دام قائماً بين يدي حتى يرد تلك الظلامة إلى أهلها فأكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويكون من أوليائي وأصفيائي ويكون جاري مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين" .
الرابعة : استدل الشافعي و أبو حنيفةو الثوري وجماعة من السلف بهذه الآية على جواز الصلاة الفرض والنفل داخل البيت . قال الشافعي رحمه الله : إن صلى في جوفها مستقبلاً حائطاً من حيطانها فصلاته جائزة ، وإن صلى نحو الباب والباب مفتوح فصلاته باطلة ، وكذلك من صلى على ظهرها ، لأنه لم يستقبل منها شيئاً . وقال مالك : لا يصلي فيه الفرض ولا السنن ، ويصلي فيه التطوع ، غير أنه إن صلى فيه الفرض أعاد في الوقت . وقال أصبغ : يعيد أبداً .
قلت : وهو الصحيح ، لما رواه مسلم عن ابن عباس قال : أخبرني أسامة بن زيد :
"ان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل فيه حتى خرج منه ، فلما خرج ركع في قبل الكعبة ركعتين وقال : هذه القبلة" وهذا نص . فإن قيل : روى البخاري عن ابن عمر قال :
"دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة الحجبي البيت فأغلقوا عليهم الباب . فلما فتحوا كنت أول من ولج فلقيت بلالاً فسألته : هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم بين العمودين اليمانيين" . وأخرجه مسلم ، وفيه قال : جعل عمودين عن يساره وعموداً عن يمينه وثلاثة أعمدة وراءه ، وكان البيت يومئذ على ستة أعمدة . قلنا : هذا يحتمل لأن يكون صلى بمعنى دعا ، كما قال أسامة ، ويحتمل أن يكون صلى الصلاة العرفية ، وإذا احتمل هذا وهذا سقط الاحتجاج به .
فإن قيل : فقد روى ابن المنذر وغيره عن أسامة قال :
"رأى النبي صلى الله عيه وسلم صوراً في الكعبة فكنت آتية بماء في الدلو يضرب به تلك الصور" . وخرجه أبو داود الطيالسي قال : حدثنا ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران قال حدثنا عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال : "دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكعبة ورأى صوراً قال : فدعا بدلو من ماء فأتيته به فجعل يمحوها ويقول : قاتل الله قوماً يصورون ما لا يخلقون" . فيحتمل أن يكون للنبي في حالة مضي أسامة في طلب الماء فشاهد بلال ما لم يشاهده أسامة ، فكان من أثبت أولى ممن نفى ، وقد قال أسامة نفسه : فأخذ الناس بقول بلال وتركوا قولي . وقد روى مجاهد عن عبد الله بن صفوان قال : قلت لعمر بن الخطاب : كيف صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة ؟ قال : صلى ركعتين .
قلنا : هذا محمول على النافلة ، ولا نعلم خلافاً بين العلماء في صحة النافلة في الكعبة ، وأما الفرض فلا ، لأن الله تعالى عين الجهة بقوله تعالى : "فولوا وجوهكم شطره" على ما يأتي بيانه ، وقوله صلى الله عليه وسلم لما خرج :
"هذه القبلة" فعينها كما عينها الله تعالى . ولو كان الفرض يصح داخلها لما قال :"هذه القبلة" . وبهذا صح الجمع بين الأحاديث ، وهو أولى من إسقاط بعضها ، فلا تعارض ، والحمد لله .
الخامسة : واختلفوا أيضاً في الصلاة على ظهرها ، فقال الشافعي ما ذكرناه . وقال مالك : من صلى على ظهر الكعبة أعاد في الوقت . وقد روي عن بعض أصحاب مالك : يعيد أبداً . وقال أبو حنيفة : من صلى على ظهر الكعبة فلا شيء عليه .
السادسة : واختلفوا ايضاً أيما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به ؟ فقال مالك : الطواف لأهل الأمصار أفضل ، والصلاة لأهل مكة أفضل . وذكر عن ابن عباس و عطاء و مجاهد .والجمهور على أن الصلاة أفضل . وفي الخبر :
لولا رجال خشع وشيوخ ركع وأطفال رضع وبهائهم رتع لصببنا عليكم العذاب صبا . ذكر أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في كتاب السابق واللاحق عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لولا فيكم رجال خشع وبهائهم رتع وصبيان رضع لصب العذاب على المذنبين صبا" . لم يذكر فيه وشيوخ ركع . وفي حديث أبي ذر :
"الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل" . خرجه الآجري . والأخبار في فضل الصلاة والسجود كثيرة تشهد لقول الجمهور ، والله تعالى أعلم .
وإذ جعلنا البيت مثابةً للناس وأمناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى
قال العوفي: عن ابن عباس قوله تعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" يقول: لا يقضون فيه وطراً، يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: مثابة للناس يقول يثوبون، رواهما ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا إسرائيل عن مسلم عن مجاهد عن ابن عباس، في قوله تعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال: يثوبون إليه ثم يرجعون، قال وروي عن أبي العالية وسعيد بن جبير، في رواية وعطاء ومجاهد والحسن وعطية والربيع ابن أنس والضحاك نحو ذلك، وقال ابن جرير: حدثني عبد الكريم ابن أبي عمير حدثني الوليد بن مسلم، قال: قال أبو عمرو يعني الأوزاعي، حدثني عبدة بن أبي لبابة في قوله تعالى: "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال لا ينصرف عنه منصرف، وهو يرى أنه قد قضى منه وطراً، وحدثني يونس عن ابن وهب قال: قال ابن زيد "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس" قال يثوبون إليه من البلدان كلها ويأتونه، وما أحسن ما قاله الشاعر في هذا المعنى أورده القرطبي:
جعل البيت مثاباً لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر
وقال سعيد ابن جبير في الرواية الأخرى وعكرمة وقتادة وعطاء الخراساني "مثابة للناس" أي مجمعاً "وأمناً" قال الضحاك عن ابن عباس: أي أمناً للناس. وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس عن أبي العالية "وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً" يقول وأمناً من العدو وأن يجعل فيه السلاح، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لايسبون، وروي عن مجاهد وعطاء والسدي وقتادة والربيع بن أنس قالوا: من دخله كان آمناً.
ومضمون ما فسر به هؤلاء الأئمة هذه الاية أن الله تعالى يذكر شرف البيت وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً، من كونه مثابة للناس، أي جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح، وتحن إليه، ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه كل عام استجابة من الله تعالى، لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام، في قوله فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، إلى أن قال: "ربنا وتقبل دعاء" ويصفه تعالى بأنه جعله آمناً من دخله أمن، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمناً، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه، فلا يعرض له، كما وصف في سورة المائدة في قوله تعالى: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس" أي يدفع عنهم بسبب تعظيمها السوء ، كما قال ابن عباس: لو لم يحج الناس هذا البيت، لأطبق الله السماء على الأرض، وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولاً، وهو خليل الرحمن، كما قال تعالى: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً". وقال تعالى: "إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين * فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً" وفي هذه الاية الكريمةن نبه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده. فقال "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو ، فقال ابن أبي حاتم: أخبرنا عمرو بن شيبة النميري، حدثنا أبو خلف، يعني عبد الله بن عيسى، أخبرنا داود بن أبي هند عن مجاهد عن ابن عباس "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال: مقام إبراهيم الحرم كله وروي عن مجاهد وعطاء مثل ذلك، وقال أيضاً أخبرنا الحسن بن محمد بن الصباح، حدثنا حجاج عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فقال سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكر ههنا، فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد، ثم قال: ومقام إبراهيم يعد كثير مقام إبراهيم الحج كله، ثم فسره لي عطاء فقال: التعريف وصلاتان بعرفة، والمشعر، ومنى، ورمي الجمار، والطواف بين الصفا والمروة، فقلت أفسره ابن عباس ؟ قال لا. ولكن قال مقام إبراهيم الحج كله. قلت: أسمعت ذلك لهذا أجمع ؟ قال: نعم سمعته منه. وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال: الحجر مقام إبرهيم نبي الله قد جعله الله رحمة، فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجار ، ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلف رجلاه. وقال السدي: المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه. حكاه القرطبي وضعفه ورجحه غيره، وحكاه الرازي في تفسيره عن الحسن البصري وقتادة والربيع بن أنس. وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا الحسن بن محمد ابن الصباح، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء عن ابن جريج، عن جعفر بن محمد عن أبيه، سمع جابراً يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم، قال له عمر: هذا مقام أبينا ؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى ؟ فأنزل الله عز وجل "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وقال عثمان ابن أبي شيبة: أخبرنا أبو أسامة عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: قال عمر: قلت: يا رسول الله هذا مقام خليل ربنا ؟ قال: نعم، قال: أفلا نتخذه مصلى ؟ فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وقال ابن مردويه: أخبرنا دعلج بن أحمد، أخبرنا غيلان بن عبد الصمد، أخبرنا مسروق بن المرزبان، أخبرنا زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عمر بن الخطاب، أنه مر بمقام إبراهيم فقال: يا رسول الله أليس نقوم بمقام خليل ربنا ؟ قال: بلى، قال: أفلا نتخذه مصلى ؟ فلم يلبث إلا يسيراً حتى نزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وقال ابن مردويه: أخبرنا علي بن أحمد بن محمد القزويني، أخبرنا علي بن الحسين، حدثنا الجنيد، أخبرنا هشام ابن خالد، أخبرنا الوليد عن مالك بن أنس، عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر ، قال: لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عند مقام إبراهيم، قال له عمر: يا رسول الله هذا مقام إبراهيم الذي قال الله "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، قال: نعم، قال الوليد: قلت لمالك: هكذا حدثك واتخذوا ؟ قال: نعم هكذا وقع في هذه الرواية وهو غريب، وقد روى النسائي من حديث الوليد ابن مسلم نحوه، وقال البخاري: باب قوله "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" مثابة يثوبون يرجعون، حدثنا مسدد، أخبرنا يحي عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب: وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وقلت: يا رسول الله، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب. قال: وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه، فدخلت عليهن فقلت: إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن حتى أتت إحدى نسائه، قالت: ياعمر ، أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت، فأنزل الله "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات" الاية، وقال ابن أبي مريم: أخبرنا يحيى بن أيوب، حدثني حميد، قال: سمعت أنساً عن عمر رضي الله عنهما، هكذا ساقه البخاري ههنا، وعلق الطريق الثانية عن شيخه سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم المصري، وقد تفرد عنه بالرواية البخاري من بين أصحاب الكتب الستة، وروى عنه الباقون بواسطة، وغرضه من تعليق هذا الطريق ليبين فيه اتصال إسناد الحديث، وإنما لم يسنده لأن أبي أيوب الغافقي فيه شيء ، كما قال الإمام أحمد فيه هو سيء الحفظ ، والله أعلم. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم، أخبرنا حميد عن أنس، قال: قال عمر رضي الله عنه: وافقت ربي عز وجل في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وقلت: يا رسول الله، إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر ، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب. واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن"، فنزلت كذلك، ثم رواه أحمد عن يحيى وابن أبي عدي كلاهما عن حميد، عن أنس عن عمر ، أنه قال: وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث، فذكره. وقد رواه البخاري عن عمر وابن عون والترمذي عن أحمد بن منيع والنسائي، عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي وابن ماجه، عن محمد بن الصباح، كلهم عن هشيم بن بشير به. ورواه الترمذي أيضاً عن عبد بن حميد، عن حجاج بن منهال، عن حماد بن سلمة والنسائي، عن هناد عن يحيى بن أبي زائدة كلاهما، عن حميد وهو ابن تيرويه الطويل به. وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه الإمام علي بن المديني عن زيد بن زريع، عن حميد به، وقال: هذا من صحيح الحديث وهو بصري، ورواه الإمام مسلم بن حجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر ، فقال: أخبرنا عقبة بن مكرم، أخبرنا سعيد بن عامر عن جويرية بن أسماء عن نافع، عن ابن عمر ، قال: وافقت ربي في ثلاث: في الحجاب، وفي أسارى بدر ، وفي مقام إبراهيم. وقال أبو حاتم الرازي: أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري، أخبرنا حميد الطويل عن أنس بن مالك، قال: قال عمر بن الخطاب: وافقني ربي في ثلاث أو وافقت ربي في ثلاث، قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"، وقلت: يا رسول الله لو حجبت النساء، فنزلت آية الحجاب، والثالثة: لما مات عبد الله بن أبي، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه، قلت: يا رسول الله تصلي على هذا الكافر المنافق ؟ فقال: إيهاً عنك ياابن الخطاب، فنزلت "ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره" وهذا إسناد صحيح أيضاً، ولا تعارض بين هذا ولا هذا بل الكل صحيح ومفهوم العدد إذا عارضه منطوق قدم عليه، والله أعلم، وقال ابن جريج: أخبرني جعفر عن محمد عن أبيه، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقال ابن جرير : حدثنا يوسف بن سلمان، أخبرنا حاتم بن إسماعيل، أخبرنا جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر، قال: استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين، وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث حاتم بن إسماعيل، وروى البخاري بسنده عن عمرو بن دينار، قال: سمعت ابن عمر يقول: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين، فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار ، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم بناء جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري، وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفاً تعرفه العرب في جاهليتها، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافياً غير ناعل
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه كما قال عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب: أن أنس ابن مالك حدثهم، قال: رأيت المقام فيه أصابعه عليه السلام وأخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم، وقال ابن جرير : بشر بن معاذ أخبرنا يزيد بن زريع، أخبرنا سعيد عن قتادة "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه. وقد تكلفت هذه الأمة شيئاً ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى، (قلت) وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ولهذا، والله أعلم، أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " وهو الذي نزل القرآن بوفاته في الصلاة عنده، ولهذا لم ينكر ذلك أحد من أصحابه رضي الله عنهم أجمعين، قال عبد الرزاق عن ابن جريج: حدثني عطاء وغيره من أصحابنا، قال: أول ما نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال عبد الرزاق أيضاً عن معمر ، عن حميد الأعرج، عن مجاهد، قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن الحسين البيهقي: أخبرنا أبو الحسين بن الفضيل القطان، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا أبو ثابت، حدثنا الدراوردي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمان أبي بكر رضي الله عنه، ملتصقاً بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي أخبرنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان، يعني ابن عيينة وهو إمام المكيين في زمانه: كان المقام من سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا، فرده عمر إليه، وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله، وقال سفيان لا أدري أكان لاصقاً بها أم لا ؟ فهذه الاثار متعاضدة على ما ذكرناه، والله أعلم، وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا ابن عمر وهو أحمد بن محمد بن حكيم، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام، أخبرنا آدم هو ابن أبي إياس في تفسيره، أخبرنا شريك عن إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد، قال: قال عمر بن الخطاب: يا رسول الله لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" فكان المقام عند البيت، فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم على موضعه هذا. قال مجاهد: وكان عمر يرى الرأي فينزل به القرآن، هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق عن معمر ، عن حميد الأعرج، عن مجاهد: أن أول من أخر المقام إلى موضعه الان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم.
وعهدنآ إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود
قال الحسن البصري: قوله "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل" قال: أمرهما الله أن يطهراه من الأذى والنجس، ولا يصيبه من ذلك شيء، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: ما عهده ؟ قال: أمره. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم "وعهدنا إلى إبراهيم" أي أمرناه كذا، قال: والظاهر أن هذا الحرف إنما عدي بإلى لأنه في معنى تقدمنا وأوحينا، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله "أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين" قال: من الأوثان، وقال مجاهد وسعيد بن جبير "طهرا بيتي للطائفين" أن ذلك من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس. قال ابن أبي حاتم، وروي عن عبيد بن عمير وأبي العالية وسعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وقتادة "أن طهرا بيتي" أي بلا إله إلا الله من الشرك، وأما قوله تعالى: "للطائفين" فالطواف بالبيت معروف وعن سعيد بن جبير أنه قال في قوله تعالى "للطائفين" يعني من أتاه من غرابة "والعاكفين" المقيمين فيه، وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنس، أنهما فسرا العاكفين بأهله المقيمين فيه، كما قال سعيد بن جبير، وقال يحيى القطان عن عبد الملك هو ابن أبي سليمان، عن عطاء في قوله "والعاكفين" قال: من انتابه من الأمصار فأقام عنده وقال لنا ونحن مجاورون أنتم من العاكفين، وقال وكيع عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء، عن ابن عباس، قال: إذا كان جالساً فهو من العاكفين، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا حماد بن سلمة، أخبرنا ثابت، قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أراني إلا مكلم الأمير أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام، فإنهم يجنبون ويحدثون. قال: لا تفعل، فإن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون. ورواه عبد بن حميد عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة به، (قلت) وقد ثبت في الصحيح أن الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب، وأما قوله تعالى: "والركع السجود" فقال وكيع عن أبي بكر الهذلي، عن عطاء عن ابن عباس: والركع السجود، قال: إذا كان مصلياً فهو من الركع السجود، وكذا قال عطاء وقتادة. قال ابن جرير رحمه الله: فمعنى الاية، وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين، والتطهير الذي أمرنا به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك، ثم أورد سؤالاً فقال: فإن قيل: فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه وأجاب بوجهين: (أحدهما) أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما، إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماماً يقتدى به، كما قال عبد الرحمن بن زيد "أن طهرا بيتي" قال: من الأصنام التي يعبدون، التي كان المشركون يعظمونها (قلت) وهذا الجواب مفرع على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم. (الجواب الثاني) أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له، فيبنياه مطهراً من الشرك والريب، كما قال جل ثناؤه: "أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار" قال: فكذلك قوله: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي" أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب, كما قال السدي "أن طهرا بيتي" ابنيا بيتي للطائفين، وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له للطائفين به، والعاكفين عنده، والمصلين إليه من الركع السجود ، كما قال تعالى: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود" الايات.
وقد اختلف الفقهاء أيهما أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به ؟ فقال مالك رحمه الله، الطواف به لأهل الأمصار أفضل. وقال الجمهور: الصلاة أفضل مطلقاً، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام، والمراد من ذلك الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه، كما قال تعالى: "إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له إما بطواف أو صلاة، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة: قيامها وركوعها وسجودها، ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم "سواء العاكف فيه والباد" وفي هذه الاية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين، واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام، لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام، وفي ذلك أيضاً رد على من لا يحجه من أهل الكتابين اليهود والنصارى، لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل، ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وغير ذلك وللاعتكاف والصلاة عنده، وهم لا يفعلون شيئاً من ذلك، فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع الله له ؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى "إن هو إلا وحي يوحى".
وتقدير الكلام إذا "وعهدنا إلى إبراهيم" أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل "أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود" أي طهراه من الشرك والريب، وابنياه خالصاً لله معقلاً للطائفين والعاكفين والركع السجود، وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الاية الكريمة، ومن قوله تعالى: " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال " ومن السنة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك. ولهذا قال عليه السلام "إنما بنيت المساجد لما بنيت له" وقد جمعت في ذلك جزءاً على حدة، ولله الحمد والمنة، وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة، فقيل: الملائكة قبل آدم، روي هذا عن أبي جعفر الباقر محمد بن علي بن الحسين، ذكره القرطبي وحكى لفظه، وفيه غربة، وقيل: آدم عليه السلام، رواه عبد الرزاق عن ابن جريج، عن عطاء وسعيد بن المسيب وغيرهم: أن آدم بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور سيناء وطور زيتا وجبل لبنان والجودي، وهذا غريب أيضاً. وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار وقتادة وعن وهب بن منبه: أن أول من بناه شيث عليه السلام، وغالب من يذكر هذه إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب، وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها، وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين.
قوله: 125- "وإذ جعلنا البيت" هو الكعبة المشرفة غلب عليه كما غلب النجم على الثريا، و"مثابة" مصدر من ثاب يثوب مثاباً ومثابة، أي مرجعاً يرجع الحجاج إليه بعد تفرقهم عنه، ومنه قول ورقة بن نوفل في الكعبة:
مثاب لأقفاء القبائل كلها تخب إليها اليعملات الذوابل
وقرأ الأعمش مثابات وقيل المثابة من الثواب: أي يثابون هنالك. وقال مجاهد: المراد أنهم لا يقضون منه أوطارهم، قال الشاعر:
جعل البيت مثابات لهم ليس منه الدهر يقضون الوطر
قال الأخفش: ودخلت الهاء لكثرة من يثوب إليه فهي كعلامة ونسابة. وقال غيره: هي للتأنيث وليست للمبالغة. وقوله: "وأمنا" هو اسم مكان: أي موضع أمن. وقد استدل بذلك جماعة من أهل العلم على أنه لا يقام الحد على من لجأ إليه، ويؤيد ذلك قوله تعالى: "ومن دخله كان آمناً" وقيل: إن ذلك منسوخ. وقوله: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على أنه فعل ماض: أي جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً واتخذوه مصلى. وقرأ الباقون على صيغة الأمر عطفاً على اذكروا المذكور أول الآيات، أو على اذكروا المقدر عاملاً في قوله: "وإذ" ويجوز أن يكون على تقدير القول: أي وقلنا اتخذوا. والمقام في اللغة: موضع القيام. قال النحاس: هو من قام يقوم، يكون مصدراً واسماً للموضع، ومقام من أقام، وليس من هذا قول الشاعر:
وفيهم مقامات حسان وجوهها وأندية ينتابها القول والفعل
لأن معناه أهل مقامات. واختلف في تعيين المقام على أقوال أصحها أنه الحجر الذي يعرفه الناس ويصلون عنده ركعتي الطواف، وقيل: المقام الحج كله، روي ذلك عن عطاء ومجاهد، وقيل: عرفة والمزدلفة، روي عن عطاء أيضاً. وقال الشعبي: الحرم كله مقام إبراهيم. وروي عن مجاهد.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه" قال: ابتلاه الله بالطهارة: خمس في الرأس، وخمس في الجسد. في الرأس قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق والسواك، وفرق الرأس، وفي الجسد: تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل مكان الغائط والبول بالماء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن المنذر عنه نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وابن مردويه وابن عساكر عنه قال: ما ابتلي أحد بهذا الدين فقام به كله إلا إبراهيم. وقرأ هذه الآية فقيل له: ما الكلمات؟ قال: سهام الإسلام ثلاثون سهماً: عشرة في براءة "التائبون العابدون" إلى آخر الآية، وعشرة في أول سورة قد أفلح و"سأل سائل" "والذين يصدقون بيوم الدين" الآيات، وعشرة في الأحزاب "إن المسلمين" إلى آخر الآية، "فأتمهن" كلهن فكتب له براءة قال تعالى: "وإبراهيم الذي وفى". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم عنه قال: منهن مناسك الحج. وأخرج ابن جرير عنه قال: الكلمات "إني جاعلك للناس إماماً" "وإذ يرفع إبراهيم القواعد" والآيات في شأن المناسك، والمقام الذي جعل لإبراهيم، والرزق الذي رزق ساكنو البيت وبعث محمد في ذريتهما. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن مجاهد في قوله: "وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات" قال: ابتلى بالآيات التي بعدها. وأخرجا أيضاً عن الشعبي مثله. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم فأتمهن: فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم، ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافهم، وصبره على قذفهم إياه في النار ليحرقوه في الله، والهجرة بعد ذلك من وطنه وبلاده حين أمره بالخروج عنهم، وما أمره به من الضيافة والصبر عليها، وما ابتلي به من ذبح ولده، فلما مضى على ذلك كله "قال" الله " له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن قال: ابتلاه بالكوكب فرضي عنه، وابتلاه بابنه فرضي عنه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فأتمهن" قال: فأداهن. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فطرة إبراهيم السواك" قلت: وهذا على تقدير أن إسناده إلى عطاء صحيح فهو مرسل لا تقوم به الحجة، ولا يحل الاعتماد على مثله في تفسيره كلام الله سبحانه، وهكذا لا يحل الاعتماد على مثل ما أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: من فطرة إبراهيم غسل الذكر والبراجم، ومثل ما أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه عنه قال: ست من فطرة إبراهيم: قص الشارب، والسواك، والفرق، وقص الأظفار، والاستنجاء، وحلق العانة، قال: ثلاثة في الرأس- وثلاثة في الجسد. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح وغيره من طريق جماعة من الصحابة مشروعية تلك العشر لهذه الأمة، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم، وأحسن ما روي عنه ما أخرجه الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقص أو يأخذ من شاربه. قال: كان خليل الرحمن إبراهيم يفعله. ولا يخفاك أن فعل الخليل له لا يستلزم أنه من الكلمات التي ابتلي بها، وإذا لم يصح شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا جاءنا من طريق تقوم بها الحجة تعيين تلك الكلمات لم يبق لنا إلا أن نقول: إنها ما ذكرها الله سبحانه في كتابه بقوله: "قال إني جاعلك" إلى آخر الآيات، ويكون ذلك بياناً للكلمات أو السكوت وإحالة العلم في ذلك على الله سبحانه. وأما ما روي عن ابن عباس ونحوه من الصحابة من بعدهم في تعيينها، فهو أولاً أقوال صحابة لا يقوم بها الحجة فضلاً عن أقوال من بعدهم، وعلى تقدير أنه لا مجال للاجتهاد في ذلك، وأن له حكم الرفع فقد اختلفوا في التعيين اختلافاً يمتنع معه العمل ببعض ما روي عنهم دون البعض الآخر بل اختلفت الروايات عن الواحد منهم كما قدمنا عن ابن عباس، فكيف يجوز العمل بذلك- وبهذا تعرف ضعف قول من قال: إنه يصار إلى العموم ويقال: تلك الكلمات هي جميع ما ذكرنا هنا، فإن هذا يستلزم تفسير كلام الله بالضعيف والمتناقض وما لا تقوم به الحجة. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس: "قال إني جاعلك للناس إماماً" يقتدى بدينك وهديك وسنتك "قال: ومن ذريتي" إماماً لغير ذريتي "قال: لا ينال عهدي الظالمين" أن يقتدى بدينهم وهديهم وسنتهم. وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عنه قال: قال الله لإبراهيم: "إني جاعلك للناس إماماً قال: ومن ذريتي" فأبى أن يفعل، ثم قال: "لا ينال عهدي الظالمين". وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: هذا عند الله يوم القيامة لا ينال عهده ظالماً، فأما في الدنيا فقد نالوا عهده فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم، فلما كان يوم القيامة قصر الله عهده وكرامته على أوليائه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية أنه قال: لا أجعل إماماً ظالماً يقتدى به. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: يخبره أنه إن كان في ذريته ظالم لا ينال عهده ولا ينبغي له أن يوليه شيئاً من أمره. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال: ليس لظالم عليك عهد في معصية الله. وقد أخرج وكيع ابن مردويه من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لا ينال عهدي الظالمين" قال: لا طاعة إلا في المعروف، بإسناده عند ابن مردويه هكذا: قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد، حدثنا أحمد بن عبد الله بن سعد الأسدي، حدثنا سليم بن سعيد الدامغاني، حدثنا وكيع عن الأعمش عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره. وأخرج عبد بن حميد من حديث عمران بن حصين سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا طاعة لمخلوق في معصية الله". وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: ليس للظالم عهد وإن عاهدته فانقضه. قال ابن كثير: وروي عن مجاهد وعطاء ومقاتل وابن حبان نحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "مثابة للناس وأمناً" قال: يثوبون إليه ثم يرجعون. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال: لا يقضون منه وطراً يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير والبيهقي عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وأمنا" قال: أمناً للناس. وأخرج البخاري وغيره من حديث أنس عن عمر بن الخطاب قال: وافقت ربي في ثلاث ووافقني ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وقلت: يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن، فنزلت آية الحجاب- واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة، فقلت لهن: "عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن" فنزلت كذلك. وأخرجه مسلم وغيره مختصراً من حديث ابن عمر عنه. وأخرج مسلم وغيره من حديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً، حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، ثم قرأ: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى"" وفي مقام إبراهيم عليه السلام أحاديث كثيرة مستوفاة في الأمهات وغيرها، والأحاديث الصحيحة تدل على أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي كان إبراهيم يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار، أتاه إسماعيل به ليقوم فوقه، كما في البخاري من حديث ابن عباس، وهو الذي كان ملصقاً بجدار الكعبة. وأول من نقله عمر بن الخطاب كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي بإسناد صحيح وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة. وأخرج ابن أبي حاتم من حديث جابر في وصف حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر: هذا مقام إبراهيم؟ قال: نعم. وأخرج نحوه ابن مردويه.
قوله: "عهدنا" معناه هنا: أمرنا وأوجبنا. وقوله: "أن طهرا" في موضع نصب ينزع الخافض: أي بأن طهرا قاله الكوفيون، وقال سيبويه: هو بتقدير أي المفسرة: أي أن طهرا فلا موضع لها من الإعراب، والمراد بالتطهير قيل: من الأوثان، وقيل: من الآفات والريب، وقيل: من الكفار، وقيل: من النجاسات وطواف الجنب والحائض وكل خبيث. والظاهر أنه لا يختص بنوع من هذه الأنواع، وأن كل ما يصدق عليه مسمى التطهير فهو يتناوله إما تناولاً شمولياً أو بدلياً، والإضافة في قوله: "بيتي" للتشريف والتكريم، وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وأهل المدينة وهشام وحفص بيتي بفتح الياء، وقرأ الآخرون بإسكانها. والطائف: الذي يطوف به، وقيل: الغريب الطارئ على مكة. والعاكف: المقيم: وأصل المعكوف في اللغة: اللزوم والإقبال على الشيء، وقيل: هو المجاور دون المقيم من أهلها. والمراد بقوله: "الركع السجود" المصلون، وخص هذين الركنين بالذكر لأنهما أشرف أركان الصلاة.
125. قال الله تعالى " وإذ جعلنا البيت " يعني الكعبة " مثابة للناس " مرجعاً لهم، قال مجاهد و سعيد بن جبير : يأتون إليه من كل جانب ويحجون، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: معاذاً وملجأ وقال قتادة و عكرمة : مجمعاً " وأمنا " أي مأمناً يأمنون فيه من إيذاء المشركين، فإنهم ما كانوا يتعرضون لأهل مكة ويقولون: هم أهل الله ويتعرضون لمن حوله كما قال الله تعال: " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " (67-العنكبوت).
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا علي بن عبد الله أنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها، ولا يختلى خلاه فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا الإذخر ".
قوله تعالى " واتخذوا " قرأ نافع و ابن عامر بفتح الخاء على الخبر، وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر " من مقام إبراهيم مصلى " قال ابن يمان : المسجد كله مقام إبراهيم، وقال إبراهيم النخعي : الحرم كله مقام إبراهيم، وقيل: أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج، مثل عرفة ومزدلفة وسائر المشاهد.
والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي في المسجد يصلي إليه الأئمة، وذلك الحجر الذي قام عليه إبراهيك عليه السلام عند بناء البيت، وقيل: كان أثر أصابع رجليه بيناً فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، قال قتادة و مقاتل و السدي : أمروا بالصلاة عند مقام إبراهيم ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن اسماعيل أنا مسدد عن يحيى بن حميد عن أنس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (( وافقت الله في ثلاث - أو وافقني ربي في ثلاث - قلت يا رسول الله لو اتخذت مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله تعالى " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وقلت يا رسول الله: يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فأنزل الله عز وجل آية الحجاب، قال وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت لهن: إن انتهيتن، أو ليبدلنه الله خيراً منكن، فأنزل الله تعالى: " عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن " (5-التحريم).
ورواه محمد بن اسماعيل أيضاً عن عمرو بن عوف أنا هشيم عن حميد عن أنس رضي الله عنه قال: قال عمر رضي الله عنه: وافقت ربي في ثلاث قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ".
وأما بدء قصة المقام فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما أتى إبراهيم عليه السلام بإسماعيل وهاجر ووضعهما بمكة، وأتت على ذلك مدة، ونزلها الجرهميون وتزوج إسماعيل منهم امرأة وماتت هاجر، واستأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل فقدم إبراهيم مكة، وقد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت ذهب للصيد وكان إسماعيل عليه السلام يخرج من الحرم فيصيد، فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟ قالت ليس عندي ضيافة، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، فذهب إبراهيم فجاء إسماعيل فوجد ريح أبيه فقال [لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخفة بشأنه قال] فما قال لك؟ قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغير عتبة بابه، قال ذلك أبي وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى، فلبث إبراهيم ما شاء الله أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم عليه السلام حتى انتهى إلى باب إسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت ذهب يتصيد وهو يجىء الآن إن شاء الله فانزل يرحمك الله، قال: هل عندك ضيافة؟ قالت: نعم فجاءت باللبن واللحم، وسألها عن عيشهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة، فدعا لهما بالبركةولو جاءت يومئذ بخبز بر أو شعير وتمر لكانت أكثر أرض الله براً أو شعيراً أو تمراً، فقالت له: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل فجاءته بالمقام فوضعته عن شقه الأيمن فوضع قدمه عليه فغسلت شق رأسه الأيمن ثم حولت إلى شقه الأيسر فغسلت شق رأسه الأيسر فبقي أثر قدميه عليه، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له قد استقامت عتبة بابك، فلما جاء إسماعيل، وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟ قالت: نعم شيخ أحسن الناس وجهاً وأطيبهم ريحاً، وقال لي كذا وكذا وقلت له كذا وكذا، وغسلت رأسه وهذا موضع قدميه فقال: ذاك إبراهيم النبي أبي، وأنت العتبة أمرني أن أمسكك.
وروي عن سعيد بن جبير / عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً تحت دومة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه فصنعا كما يصنع الوالد بالولد، والولد بالوالد ثم قال: يا إسماعيل إن الله تعالى أمرني بأمر تعينني عليه؟ قال: أعينك قال: إن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً، فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام إبراهيم على حجر المقام وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان ( ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) وفي الخبر: (( الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة ولولا ماسته أيدي المشركين لأضاء ما بين المشرق والمغرب )).
قوله عز وجل " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل " أي أمرناهما وأوحينا إليهما، قيل: سمي إسماعيل لأن إبراهيم كان يدعو الله أن يرزقه ولداً ويقول: إسمع يا إيل وإيل هو الله فلما رزق سماه الله به " أن طهرا بيتي " يعنى الكعبة أضافه إليه تخصيصاً وتفضيلاً أي ابنياه على الطهارة والتوحيد، وقال سعيد بن جبير و عطاء : طهراه من الأوثان والريب وقول الزور، وقيل: بخراه وخلقاه، قرأ أهل المدينة وحفص (بيتي) بفتح الياء هاهنا وفي سورة الحج، وزاد حفص في سورة نوح " للطائفين " الدائرين حوله " والعاكفين " المقيمين المجاورين " والركع " جمع راكع " السجود " جمع ساجد وهم المصلون قال الكلبي و مقاتل : الطائفين هم الغرباء والعاكفين أهل مكة، قال عطاء و مجاهد و عكرمة : الطواف للغرباء أفضل، والصلاة لأهل مكة أفضل.
125-" وإذ جعلنا البيت " أي الكعبة ، غلب عليها كالنجم على الثريا . " مثابة للناس " مرجعاً يثوب إليه أعيان الزوار أو أمثالهم ، أو موضع ثواب يثابون بحجة واعتماره . وقرئ : مثابات أي لأنه مثابة كل أحد . " وأمناً " وموضع أمن لا يتعرض لأهله كقوله تعالى : " حرماً آمناً " . ويتخطف الناس من حولهم ، أو يأمن حاجة من عذاب الآخرة من حيث إن الحج يجب ما قبله ، أولاً يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه حتى يخرج ، وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه . " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " على إرادة القول ، أو عطف على المقدر عاملاً لإذ ، أو اعتراض معطوف على مضمر تقديره توبوا إليه واتخذوا ، على أن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو أمر استحباب ، ومقام إبراهيم هو الحجر الذي فيه أثر قدمه ، أو الموضع الذي كان فيه الحجر حين قام عليه ودعا الناس إلى الحج ،أو رفع بناء البيت وهو موضعه اليوم . روي أنه" عليه الصلاة والسلام أخذ بيد عمر رضي الله تعالى عنه وقال : هذا مقام إبراهيم ، فقال عمر : أفلا نتخذه مصلى ، فقال : لم أومر بذلك ، فلم تغب الشمس حتى نزلت " وقيل المراد به الأمر بركعتي الطواف ،لما روى جابر أنه عليه الصلاة والسلام : " لما فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين " وقرأ " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " و للشافعي رحمه الله تعالى في وجوبهما قولان . وقيل : مقام إبراهيم الحرم كله . وقيل مواقف الحج واتخاذها مصلى أن يدعى فيها ، ويتقرب إلى الله تعالى . وقرأ نافع و ابن عامر " واتخذوا " بلفظ الماضي عطفاً على " جعلنا " ، أي : واتخذوا الناس مقامه الموسوم به ، يعني الكعبة قبلة يصلون إليها . " وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل " أمرناهما . " أن طهراً بيتي " ويجوز أن تكون أن مفسرة لتضمن العهد معنى القول ، يريد طهراه من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به ، أو أخلصاه . " للطائفين " حوله . " والعاكفين " المقيمين عنده ، أو المعتكفين فيه " والركع السجود " . أي المصلين ، جمع راكع وساجد .
125. And when We made the House (at Mecca) a resort for mankind and a sanctuary, (saying): Take as your place of worship the place where Abraham stood (to pray). And We imposed a duty upon Abraham and Ishmael, (saying): Purify My house for those who go around and those who meditate therein and those who bow down and prostrate themselves (in worship).
125 - Remember we made the house a place of assembly for men and a place of safety; and take ye the station of Abraham as a place of prayer; and we covenanted with Abraham and Ismail, that they should sanctify my house for those who compass it round, or use it as a retreat, or bow, or prostrate themselves (therein in prayer).