126 - (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم) عن الانتقام (لهو) أي الصبر (خير للصابرين) فكف صلى الله عليه وسلم وكفر عن يمينه رواه البزار
قوله تعالى وإن عاقبتم أخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل والبزار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حين استشهد وقد مثل به فقال لأمثلن بسبعين منهم مكانك فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل وإن عاقبتم فعاقوا بمثل ما عوقبتم به إلى آخر السورة فكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمسك عما أراد
وأخرج الترمذي وحسنه والحاكم عن أبي بن كعب قال لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم فقالت الأنصار لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين عليهم فلما كان يوم فتح مكة انزل الله وإن عاقبتم فعاقبوا الآية وظاهر هذا تأخر نزولها إلى الفتح وفي الحديث الذي قبله نزولها بأحد وجمع ابن الحصار بأنها نزلت أولا بمكة ثم ثانيا بأحد ثم ثالثا يوم الفتح تذكيرا من الله لعباده
يقول تعالى ذكره للمؤمنين : وإن عاقبتم أيها المؤمنون من ظلمكم واعتدى عليكم ، فعاقبوه بمثل الذي نالكم به ظالمكم من العقوبة ، ولئن صبرتم عن عقوبته ، واحتسبتم عند الله ما نالكم به من الظلم ، ووكلتم أمره إليه ، حتى يكون هو المتولي عقوبته "لهو خير للصابرين" يقول : للصبر عن عقوبته بذلك خير لأهل الصبر احتساباً ، وابتغاء ثواب الله ، لأن الله يعوضه من الذي أراد أن يناله بانتقامه من ظالمه على ظلمه إياه من لذة الانتصار ، وهو من قوله "لهو" كناية عن الصبر ، وحسن ذلك ، وإن لم يكن ذكر قبل ذلك الصبر لدلالة قوله "ولئن صبرتم" عليه .
وقد اختلف اهل التأويل في السبب الذي من أجله نزلت هذه الاية . وقيل : هي منسوخة أو محكمة ، فقال بعضهم : نزلت من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أقسموا حين فعل المشركون يوم أحد ما فعلوا بقتلى المسلمين من التمثيل بهم أن يجاوزوا فعلهم في المثلة بهم إن رزقوا الظفر عليهم يوماً، فنهاهم الله عن ذلك بهذه الآية ، وأمرهم أن يقتصروا في التمثيل بهم ، إن هم ظفروا على مثل الذي كان منهم ، ثم أمرهم بعد ذلك بترك التمثيل ، وإيثار الصبر عنه بقوله "واصبر وما صبرك إلا بالله" فنسخ بذلك عندهم ما كان أذن لهم فيه من المثلة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر ، قال : سمعت داود ، عن عامر أن المسلمين قالوا ، لما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد : لئن ظهرنا عليهم لنفعلن ، فأنزل الله تعالى "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" قالوا : بل نصبر .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، قال : لما رأى المسلمون ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد ، من تبقير البطون ، وقطع المذاكير ، والمثلة السيئة ، قالوا : لئن أظفرنا الله بهم ، لنفعلن ولنفعلن ، فأنزل الله فيهم "ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله" .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار ، قال : نزلت سورة النحل كلها بمكة ، وهي مكية ، إلا ثلاث آيات في آخرها نزلت في المدينة بعد أحد ، حيث قتل حمزة ومثل به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بثلاثين رجلا منهم" فلما سمع المسلمون بذلك ، قالوا : والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط ، فأنزل الله "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" ... إلى آخر السورة .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" قال المسلمون يوم أحد فقال :"وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" إلى قوله "لهو خير للصابرين" ثم قال بعد "واصبر وما صبرك إلا بالله" .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : لما أصيب في اهل أحد المثل ، فال المسلمون : لئن أصبناهم لنمثلن بهم ، فقال الله "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" ثم عزم وأخبر فلا يمثل ، فنهى عن المثل ، قال مثل الكفار بقتلى أحد ، إلا حنظلة بن الراهب ، كان الراهب أبو عامر مع أبي سفيان ، فتركوا حنظلة لذلك .
وقال آخرون : نسخ ذلك بقوله في براءة ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) قالوا : وإنما قال "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" خبراً من الله للمؤمنين أن لا يبدءوهم بقتال حتى يبدءوهم به ، فقال ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثني عمي ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" قال : هذا خبر من الله نبيه أن يقاتل من قاتله . قال : ثم نزلت براءة ، وانسلاخ الأشهر الحرم ، قال : فهذا من المنسوخ .
وقال آخرون : بل عنى الله تعالى بقوله : "واصبر وما صبرك إلا بالله" نبي الله خاصة دون سائر اصحابه ، فكان الأمر بالصبر له عزيمة من الله دونهم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : اخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" قال : أمرهم الله أن يعفوا عن المشركين ، فأسلم رجال لهم منعة ، فقالوا : يا رسول الله ، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب ، فنزل القرآن "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" واصبر أنت يا محمد ، ولا تكن في ضيق ممن ينتصر ، وما صبرك إلا بالله . ثم نسخ هذا وأمره بجهادهم ، فهذا كله منسوخ .
وقال آخرون : لم يعن بهاتين الآيتين شيء مما ذكر هؤلاء ، وإنما عني بهما أن من ظلم بظلامة ، فلا يحل له أن ينال ممن ظلمه أكثر مما نال الظالم منه ، وقالوا : الآية محكمة غير منسوخة .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : اخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن خالد ، عن ابن سيرين : "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" يقول :إن أخذ منك رجل شيئاً ، فخذ منه مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم ، قال : أن أخذ منك شيئاً فخذ منه مثله ، قال الحسن : قال عبد الرزاق : قال سفيان : ويقولون : إن أخذ منك ديناراً فلا تأخذ منه إلا ديناراً ، وإن أخذ منك شيئاً فلا تأخذ منه إلا بمثل ذلك الشيء .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا ابو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعاً ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" لا تعتدوا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن الله تعالى ذكره ، أمر من عوقب من المؤمنين بعقوبة أن يعاقب من عاقبه بمثل الذي عوقب به ، إن اختار عقوبته ،وأعلمه أن الصبر على ترك عقوبته ، على ما كان منه إليه خير وعزم على نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصبر ، وذلك هو ظاهر التنزيل ، والتأويلات التي ذكرناها عمن ذكروها عنه ، محتملتها الآية كلها . فإذا كان ذلك كذلك ، ولم يكن في الآية دلالة على أي ذلك عني بها من خبر ولا عقل كان الواجب علينا الحكم بها إلى ناطق لا دلالة عليه ، وأن يقال : هي آية محكمة أمر الله تعالى ذكره عباده أن لا يتجاوزوا فيما وجب لهم قبل غيرهم من حق من مال أو نفس ، الحق الذي جعله الله لهم إلى غيره ، وأنها غير منسوخة ، إذ كان لا دلالة على نسخها ،وأن للقول بأنها محكمة وجهاً صحيحاً مفهوماً .
فيه أربع مسائل :
الأولى : أطبق جمهور أهل التفسير أن هذه الآية مدنية ، نزلت في شأن التمثيل بحمزة في يوم أحد ، ووقع ذلك في صحيح البخاري وفي كتاب السير وذهب النحاس إلى أنها مكية ، والمعنى متصل لما قبلها من المكي اتصالا حسنا ، لأنها تتدرج الرتب من الذي يدعى ويوعظ إلى الذي يجادل إلى الذي يجازى على فعله . ولكن ما روى الجمهور أثبت . روى الدارقطني "عن ابن عباس قال : لما انصرف المشركون عن قتلى أحد انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى منظرا ساءه رأى حمزة قد شق بطنه واصطلم أنفه وجدعت أذناه ، فقال لولا أن يحزن النساء أو تكون سنة بعدي لتركته حتى يبعثه الله من بطون السباع والطير لأمثلن مكانه بسبعين رجلا ثم دعا ببردة وغطى بها وجهه ، فخرجت رجلاه فغطى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه وجعل على رجليه من الإذخر ثم قدمه فكبر عليه عشرا ، ثم جعل يجاء بالرجل فيوضع وحمزة مكانه حتى صلى عليه سبعين صلاة وكان القتلى سبعين فلما دفنوا وفرغ منهم نزلت هذه الآية "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة "إلى قوله " واصبر وما صبرك إلا بالله " فصبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يمثل بأحد " خرجه إسماعيل بن إسحاق من إسحاق من حديث أبي هريرة وحديث ابن عباس أكمل . وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت : إنما نزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة ألا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لا يتعداه إلى غيره . وحكاه الماوردي عن ابن سيرين ومجاهد
الثانية : واختلف أهل العلم فيمن ظلمه رجل في أخذ مال ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال ، هل يجوز له خيانته في القدر الذي ظلمه فقالت فرقة : له ذلك منهم ابن سيرين وإبراهيم النخعي وسفيان ومجاهد واحتجت بهذه الآية وعموم لفظها . وقال مالك وفرقة معه : لا يجوز له ذلك واحتجوا بـ"قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " رواه الدارقطني وقد تقدم هذا في البقرة مستوفى . ووقع في مسند ابن إسحاق أن هذا الحديث إنما ورد في رجل زنى بامرأة آخر ، ثم تمكن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر فاستشار ذلك الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر فقال له : "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " وعلى هذا يتقوى قول مالك في أمر المال لأن الخيانة لاحقة في ذلك وهي رذيلة لا انفكاك عنها ، فينبغي أن يتجنبها لنفسه ، فإن تمكن من الانتصاف من مال لم يأتمنه عليه فيشبه أن ذلك جائز وكأن الله حكم له ، كما لو تمكن الأخذ بالحكم من الحاكم وقد قيل : إن هذه الآية منسوخة نسختها "واصبر وما صبرك إلا بالله "
الثالثة : في هذه الآية دليل على جواز التماثل في القصاص فمن قتل بحديدة قتل بها ومن قتل بحجر قتل به ولا يتعدى قدر الواجب وقد تقدم هذا المعنى في البقرة مستوفى والحمد لله .
الرابعة : سمى الله تعالى الإذايات في هذه الآية عقوبة ، والعقوبة حقيقة إنما هي الثانية ، وإنما فعل ذلك ليستوي اللفظان وتتناسب دباجة القول ، وهذا بعكس قوله :" ومكروا ومكر الله " وقوله " الله يستهزئ بهم " فإن الثاني هنا هو المجاز والأول هو الحقيقة قاله ابن عطية
يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق, كما قال عبد الرزاق عن الثوري عن خالد, عن ابن سيرين أنه قال في قوله تعالى: "فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" إن أخذ منكم رجل شيئاً فخذوا مثله, وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير. وقال ابن زيد: كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذوو منعة فقالوا: يارسول الله لو أذن الله لنا لا نتصرنا من هؤلاء الكلاب. فنزلت هذه الاية, ثم نسخ ذلك بالجهاد.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة, وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثل به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم" فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط, فأنزل الله "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" إلى آخر السورة, وهذا مرسل وفيه رجل مبهم لم يسم.
وقد روي هذا من وجه آخر متصل, فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسن بن يحيى, حدثنا عمرو بن عاصم, حدثنا صالح المري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استشهد, فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه, أو قال لقلبه, فنظر إليه وقد مثل به, فقال: "رحمة الله عليك إن كنت ما علمتك إلا وصولاً للرحم, فعولاً للخيرات, والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع ـ أو كلمة نحوها ـ أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك" فنزل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة وقرأ " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " إلى آخر الاية, فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن يمينه وأمسك عن ذلك, وهذا إسناد فيه ضعف, لأن صالحاً هو ابن بشير المري ضعيف عند الأئمة, وقال البخاري: هو منكر الحديث, وقال الشعبي وابن جريج: نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم لنمثلن بهم فأنزل الله فيهم ذلك.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا هدية بن عبد الوهاب المروزي, حدثنا الفضل بن موسى, حدثنا عيسى بن عبيد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية, عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلاً, ومن المهاجرين ستة, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربين عليهم, فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم, فنادى مناد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن الأسود والأبيض إلا فلاناً وفلاناً ـ ناساً سماهم ـ فأنزل الله تبارك وتعالى " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " إلى آخر السورة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصبر ولا نعاقب" وهذه الاية الكريمة لها أمثال في القرآن, فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل كما في قوله: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" ثم قال: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" الاية. وقال: "والجروح قصاص" ثم قال "فمن تصدق به فهو كفارة له" وقال في هذه الاية: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" ثم قال "ولئن صبرتم لهو خير للصابرين".
وقوله تعالى: "واصبر وما صبرك إلا بالله" تأكيد للأمر بالصبر وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته, وحوله وقوته, ثم قال تعالى: "ولا تحزن عليهم" أي على من خالفك فإن الله قدر ذلك "ولا تك في ضيق" أي غم "مما يمكرون" أي مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك, فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم. وقوله: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معية خاصة كقوله: "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا" وقوله لموسى وهارون: " لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى" وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق وهما في الغار: " لا تحزن إن الله معنا" وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم, كقوله تعالى: " وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير " وكقوله تعالى: " ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا " وكما قال تعالى: " وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا " الاية, ومعنى "الذين اتقوا" أي تركوا المحرمات, "والذين هم محسنون" أي فعلوا الطاعات, فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن بشار, حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا مسعر عن عون عن محمد بن حاطب: كان عثمان رضي الله عنه من الذين اتقوا والذين هم محسنون.
آخر تفسير سورة النحل ، ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .
ثم لما كانت الدعوة تتضمن تكليف المدعوين بالرجوع إلى الحق فإن أبوا قوتلوا، أمر الداعي بأن يعدل في العقوبة فقال: 126- "وإن عاقبتم" أي أردتم المعاقبة "فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" أي بمثل ما فعل بكم لا تجاوزوا ذلك. قال ابن جرير: أنزلت هذه الآية فيمن أصيب بظلامة أن لا ينال من ظالمه إذا تمكن إلا مثل ظلامته لايتعداها إلى غيرها، وهذا صواب، لأن الآية وإن قيل إن لها سبباً خاصاً كما سيأتي، فالاعتبار بعموم اللفظ، وعمومه يؤدي هذا المعنى الذي ذكره، وسمى سبحانه الفعل الأول الذي هو فعل البادئ بالشر عقوبة، مع أن العقوبة ليست إلا فعل الثاني وهو المجازي للمشاكلة، وهي باب معروف وقع في كثير من الكتاب العزيز. ثم حث سبحانه على العفو فقال: "ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" أي لئن صبرتم عن المعاقبة بالمثل فالصبر خير لكم من الانتصاف، ووضع الصابرين موضع الضمير، ثناء من الله عليهم بأنهم صابرون على الشدائد. وقد ذهب الجمهور إلى أن هذه الآية محكمة لأنها واردة في الصبر عن المعاقبة والثناء على الصابرين على العموم، وقيل هي منسوخة بآيات القتال، ولا وجه لذلك.
126 - " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " ، هذه الآيات نزلت بالمدينة في شهداء أحد ، وذلك أن المسلمين لما رأوا ما فعل المشركون بقتلاهم يوم أحد ، من تبقير البطون ، والمثلة السيئة - حتى لم يبق أحد من قتلى المسلمين إلا مثل به غير حنظله بن الراهب ، فإن أباه أبا عامر الراهب كان مع أبي سفيان ، فتركوا حنظله لذلك - فقال المسلمون حين رأوا ذلك : لئن أظهرنا الله عليهم لنزيدن على صنيعهم ، ولنمثلن بهم مثلة لم يفعلها أحد من العرب بأحد ، فوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه حمزة بن عبد المطلب ، وقد جدعوا أنفه وأذنه ، وقطعوا مذاكيره ، وبقروا بطنه ،وأخذت هند بنت عتبة قطعة من كبده فمضغتها ثم استرطبتها لتأكلها فلم تلبث في بطنها حتى رمت بها فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أما إنها لو أكلته لم تدخل النار أبداً ، حمزة أكرم على الله تعالى من أن يدخل شيئا من جسده النار ، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمه حمزة،ونظر إلى شيء لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : رحمة الله عليك فإنك ما علمت ما كنت إلا فاعلاً للخيرات ،وصولاً للرحم ، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أدعك
حتى تحشر من أفواج شتى ، أما والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين منهم مكانك ،فأنزل الله تعالى : " وإن عاقبتم فعاقبوا " الآية . " ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " ،أي : ولئن عفوتم لهو خير للعافين فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل نصبر ، وأمسك عما أراد وكفر عن يمينه.
قال ابن عباس و الضحاك : كان هذا قبل نزول براءة حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله ومنع الابتداء بالقتال ، فلما أعز الله الإسلام وأهله نزلت براءة ،وأمروا بالجهاد نسخت هذه الآية .
وقال النخعي ، و الثوري ، و مجاهد ، و ابن سيرين : الآية محكمة نزلت في من ظلم بظلامة ، فلا يحل له أن ينال من ظالمه أكثر مما نال الظالم منه ، أمر بالجزاء والعفو ، ومنع من الاعتداء . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم :
126."وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به"لما أمره بالدعوة وبين له طرقها أشار إليه وإلى من يتابعه بترك المخالفة ، ومراعاة العدل مع من يناصبهم ، فإن الدعوة لا تنفك عنه من حيث إنها تتضمن رفض العادات ، وترك الشهوات والقدح في دين الأسلاف والحكم عليهم بالكفر والضلال، وقيل إنه عليه الصلاة والسلام "لما رأى حمزة وقد مثل به فقال : (والله لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك) فنزلت" فكفر عن يمينه، وفيه دليل على أن للمقتص أن يماثل الجاني وليس له أن يجاوزه، وحث على العفو تعريضاً بقوله:"وإن عاقبتم " وتصريحاً على الوجه الآكد بقوله:"ولئن صبرتم لهو"أي الصبر."خير للصابرين "من الانتقام للمنتقمين ، ثم صرح بالأمر به لرسوله لأنه أولى الناس به لزيادة لعلمه بالله ووثوقه عليه فقال:
126. If ye punish, then punish with the like of that wherewith ye were afflicted. But if ye endure patiently, verily it is better for the patient.
126 - And if ye do catch them out, catch them out no worse than they catch you put: but if ye show patience, that is indeed the best (course) for those who are patient.