(و) اذكر (إذ يرفع إبراهيم القواعد) الأسس أو الجدر (من البيت) يبنيه ، متعلق بيرفع (وإسماعيل) عطف على إبراهيم ، يقولان (ربنا تقبل منا) بناءنا (إنك أنت السميع) للقول (العليم) بالفعل
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا"، واذكروا إذ قال إبراهيم: رب اجعل هذا البلد بلدًا آمناً.
قال أبو جعفر: يعني بقوله "آمنا"، آمناً من الجبابرة وغيرهم، أن يسلطوا عليه، ومن عقوبة الله أن تناله كما تنال سائر البلدان، من خسف وائتفاك وغرق، وغير ذلك من سخط الله ومثلاته التي تصيب سائر البلاد غيره، كما: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن الحرم حرم بحياله إلى العرش. وذكر لنا أن البيت هبط مع آدم حين هبط. قال الله له: اهبط معك بيتي يطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمان الطوفان حين أغرق الله قوم نوح رفعه وطهره، ولم تصبه عقوبة أهل الأرض. فتتبع منه إبراهيم أثرًا، فبناه على أساس قديم كان قبله.
فإن قال لنا قائل: أوما كان الحرم آمناً إلا بعد أن سأل إبراهيم ربه له الأمان؟
قيل له: لقد اختلف في ذلك. فقال بعضهم: لم يزل الحرم آمناً من عقوبة الله وعقوبة جبابرة خلقه، منذ خلقت السموات والأرض. واعتلوا في ذلك بما: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحق قال، حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، قال " سمعت أبا شريح الخزاعي يقول: لما افتتحت مكة قتلت خزاعة رجلاً من هذيل، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا فقال: يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا أو يعضد بها شجرًا. ألا وإنها لا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة، غضبًا على أهلها. ألا فهي قد رجعت على حالها بالأمس. ألا ليبلغ الشاهد الغائب. فمن قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل بها! فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لك ".
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان وحدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا، حدثنا جرير جميعًا، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لمكة حين افتتحها: هذه حرم، حرمها الله يوم خلق السموات والأرض، وخلق الشمس والقمر، ووضع هذين الأخشبين، لم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، أحلت لي ساعة من نهار". قالوا: فمكة، منذ خلقت، حرم آمن من عقوبة الله وعقوبة الجبابرة. قالوا: وقد أخبرت عن صحة ما قلنا من ذلك الرواية الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها. قالوا: ولم يسأل إبراهيم ربه أن يؤمنه من عقوبته وعقوبة الجبابرة، ولكنه سأله أن يؤمن أهله من الجدوب والقحوط، وأن يرزق ساكنه من الثمرات، كما أخبر ربه عنه أنه سأله بقوله: "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدًا آمناً وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر". قالوا: وإنما سأل ربه ذلك لأنه أسكن فيه ذريته، وهو غير ذي زرع ولا ضرع، فاستعاذ ربه من أن يهلكهم بها جوعًا وعطشاً، فسأله أن يؤمنهم مما حذر عليهم منه.
قالوا: وكيف يجوز أن يكون إبراهيم سأل ربه تحريم الحرم، وأن يؤمنه من عقوبته وعقوبة جبابرة خلقه، وهو القائل، حين حله ونزله بأهله وولده: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" ( إبراهيم: 37)؟ قالوا: فلو كان إبراهيم هو الذي حرم الحرم، أو سأل ربه تحريمه، لما قال: "عند بيتك المحرم" عند نزوله به، ولكنه حرم قبله، وحرم بعده.
وقال آخرون: كان الحرم حلالاً قبل دعوة إبراهيم كسائر البلاد غيره. وإنما صار حرامًا بتحريم إبراهيم إياه، كما كانت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالاً قبل تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها. قالوا: والدليل على ما قلنا من ذلك، ما: حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه، واني حرمت المدينة ما بين لابتيها، لا يصاد صيدها، ولا تقطع عضاهها".
حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا، حدثنا ابن إدريس وأخبرنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم الرازى، قالا جميعًا،: سمعنا أشعث، عن نافم، عن أبى هريرة قال: " قال رسول صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم كان عبدالله وخليله، وإني عبدالله ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، عضاهها وصيدها، ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجر إلا لعلف بعير".
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قتيبة بن سعيد قال، حدثنا بكربن مضر، عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبدالله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديج قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة ما بين لابتيها".
وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب.
قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره في كتابه أن إبراهيم قال: " رب اجعل هذا بلدا آمنا"، ولم يخبر عنه أنه سأل أن يجعله آمنا من بعض الأشياء دون بعض. فليس لأحد أن يدعي أن الذي سأله من ذلك، الأمان له من بعض الأشياء دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها. قالوا: وأما خبر أبي شريح وابن عباس، فخبران لا تثبت بهما حجة، لما في أسانيدهما من الأسباب التي لا يجب التسليم فيها من أجلها.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله تعالى ذكره جعل مكة حرمًا حين خلقها وأنشأها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أنه حرمها يوم خلق السموات والأرض ، بغير تحريم منه لها على لسان أحد من أنبيائه ورسله، ولكن بمنعه من أرادها بسوء، وبدفعه عنها من الآفات والعقوبات وعن ساكنيها، ما أحل بغيرها وغير ساكنيها من النقمات. فلم يزل ذلك أمرها حتى بوأها الله إبراهيم خليله، وأسكن بها أهله هاجر وولده إسمعيل. فسأل حينئذ إبراهيم ربه إيجاب فرض تحريمها على عباده على لسانه، ليكون ذلك سنة لمن بعده من خلقه يستنون به فيها، إذ كان تعالى ذكره قد اتخذه خليلاً، وأخبره أنه جاعله للناس إمامًا يقتدى به. فأجابه ربه إلى ما سأله، وألزم عباده حينئذ فرض تحريمه على لسانه.
فصارت مكة بعد أن كانت ممنوعة بمنع الله إياها، بغير إيجاب الله فرض الامتناع منها على عباده، ومحرمة بدفع الله عنها، بغير تحريمه إياها على لسان أحد من رسله فرض تحريمها على خلقه على لسان خليله إبراهيم عليه السلام، وواجب على عباده الامتناع من استحلالها، واستحلال صيدها وعضاهها لها بإيجابه الامتناع من ذلك، ببلاغ إبراهيم رسالة الله إليه لذلك إليهم.
فلذلك أضيف تحريمها إلى إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله حرم مكة". لأن فرض تحريمها الذي ألزم الله عباده على وجه العبادة له به دون التحريم الذي لم يزل متعبدًا لها به على وجه الكلاءة والحفظ لها قبل ذلك كان عن مسألة إبراهيم ربه إيجاب فرض ذلك على لسانه، أوهو الذي، لزم العباد فرضه دون غيره.
فقد تبين إذا بما قلنا صحة معنى الخبرين أعني خبر أبي شريح وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" إن الله حرم مكة يوم خلق الشمس والقمر" وخبر جابر وأبي هريرة ورافع بن خديج وغيرهم: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم إن إبراهيم حرم مكة"؟ وأن ليس أحدهما دافعًا صحة معنىالآخر، كما ظنه بعض الجهال.
وغير جائز في أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بعضها دافعًا بعضاً، إذا ثبت صحتها. وقد جاء الخبران اللذان رويا في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مجيئًا ظاهرًا مستفيضاً يقطع عذر من بلغه.
وأما قول إبراهيم عليه السلام: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" (إبراهيم: 37)، فإنه، إن يكن قاله قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه، فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلاءته، من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد لهم بذلك وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على لسانه على خلقه على وجه التعبد، فلا مسألة لأحد علينا في ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: " وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر".
قال أبو جعفر: وهذه مسألة من إبراهيم ربه: أن يرزق مؤمني أهل مكة من الثمرات، دون كافريهم. وخص بمسألة ذلك للمؤمنين دون الكافرين، لما أعلمه الله عند مسألته إياه أن يجعل من ذريته أئمة يقتدى بهم أن منهم الكافر الذي لا ينال عهده، والظالم الذي لا يدرك ولايته. فلما أن علم أن من ذريته الظالم والكافر، خص بمسألته ربه أن يرزق من الثمرات من سكان مكة، المؤمن منهم دون الكافر. وقال الله له: إني قد أجبت دعاءك، وسأرزق مع مؤمني أهل هذا البلد كافرهم، فأمتعه به قليلاً.
وأما "من " من قوله: " من آمن منهم بالله واليوم الآخر"، فإنه نصب على الترجمة والبيان عن الأهل ، كما قال تعالى: "يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه" ( البقرة: 217)، بمعنى: يسئلونك عن قتال في الشهر الحرام، وكما قال تعالى ذكره: "ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" ( آل عمران: 97): بمعنى: ولله حج البيت على من استطاع إليه سبيلاً.
وإنما سأل إبراهيم ربه ما سأل من ذلك، لأنه حل بواد غير ذي زرع ولا ماء ولا أهل، فسأل أن يرزق أهله ثمرًا، وأن يجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم. فذكر أن إبراهيم لما سأل ذلك ربه، نقل الله الطائف من فلسطين.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق بن الحجاج قاك، حدثنا هشام قال، قرأت على محمد بن مسلم: أن إبراهيم لما دعا للحرم: "وارزق أهله من الثمرات "، نقل الله الطائف من فلسطين.
القول في تأويل قوله تعالى: " قال ومن كفر فأمتعه قليلا".
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في قائل هذا القول، وفي وجه قراءته. فقال بعضهم: قائل هذا القول ربنا تعالى ذكره. وتأويله على قولهم: قال: ومن كفر فأمتعه قليلاً برزقي من الثمرات في الدنيا، إلى أن يأتيه أجله. وقرأ قائل هذه المقالة ذلك: "فأمتعه قليلا"، بتشديد التاء ورفع العين .
ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع، قال، حدثني أبو العالية، عن أبي بن كعب في قوله: "ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار"، قال هو قول الرب تعالى ذكره.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحق: لما قال إبراهيم: "رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر"، وعدل الدعوة عمن أبى الله أن يجعل له الولاية، انقطاعاً إلى الله ومحبة، وفراقاً لمن خالف أمره، وإن كانوا من ذريته، حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا ينال عهده، بخبره عن ذلك حين أخبره قال الله: "ومن كفر" فإني أرزق البر والفاجر "فأمتعه قليلا".
وقال آخرون: بل قال ذلك إبراهيم خليل الرحمن، على وجه المسألة منه ربه أن يرزق الكافر أيضاً من الثمرات بالبلد الحرام، مثل الذي يرزق به المؤمن ويمتعه بذلك قليلاً، "ثم أضطره إلى عذاب النار" بتخفيف التاء وجزم العين ، وفتح الراء من "أضطره "، وفصل "ثم أضطره " بغير قطع ألفها على وجه الدعاء من إبراهيم ربه لهم والمسألة.
ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع قال، قال أبو العالية: كان ابن عباس يقول: ذلك قول إبراهيم، يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلاً.
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ليث، عن مجاهد: "ومن كفر فأمتعه قليلا"، يقول: ومن كفر فأرزقه أيضاً، ثم أضطره إلى عذاب النار .
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا والتأويل، ما قاله أبي بن كعب وقراءته، لقيام الحجة بالنقل المستفيض دراية بتصويب ذلك، وشذوذ ما خالفه من القراءة. وغير جائز الاعتراض بمن كان جائزاً عليه في نقله الخطأ والسهو، على من كان ذلك غير جائز عليه في نقله، وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: قال الله: يا إبراهيم، قد أجبت دعوتك، ورزقت مؤمني أهل هذا البلد من الثمرات وكفارهم، متاعاً لهم إلى بلوغ آجالهم، ثم أضطر كفارهم بعد ذلك إلى النار.
وأما قوله: "فأمتعه قليلا" يعني: فأجعل ما أرزقه من ذلك في حياته متاعاً يتمتع به إلى وقت مماته.
وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لأن الله تعالى ذكره إنما قال ذلك لإبراهيم، جواباً لمسألته ما سأل من رزق الثمرات لمؤمني أهل مكة. فكان معلوماً بذلك أن الجواب إنما هو فيما سأله إبراهيم لا في غيره. وبالذي قلنا في ذلك قال مجاهد، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه.
وقال بعضهم: تأويله: فأمتعه بالبقاء في الدنيا.
وقال غيره: فأمتعه قليلاً في كفره ما أقام بمكة، حتى أبعث محمدًا صلى الله عليه وسلم فيقتله، إن أقام على كفره، أو يجليه عنها. وذلك وإن كان وجهًا يحتمله الكلام، فإن دليل ظاهر الكلام على خلافه، لما وصفنا.
القول في تأويل قوله تعالى: " ثم أضطره إلى عذاب النار".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ثم أضطره إلى عذاب النار"، ثم أدفعه إلى عذاب النار وأسوقه إليها، كما قال تعالى ذكره: "يوم يدعون إلى نار جهنم دعا" ( الطور: 13).
ومعنى الاضطرار، الإكراه. يقال: اضطررت فلاناً إلى هذا الأمر، إذا ألجأته إليه وحملته عليه.
فذلك معنى قوله: "ثم أضطره إلى عذاب النار"، أدفعه إليها وأسوقه، سحبًا وجرًا على وجهه.
القول في تأويل قوله تعالى: " وبئس المصير".
قال أبو جعفر: قد دللنا على أن بئس أصله بئس من البؤس سكن ثانيه، ونقلت حركة ثانيه إلى أوله، كما قيل للكبد كبد، وما أشبه ذلك.
ومعنى الكلام: وساء المصير عذاب النار، بعد الذي كانوا فيه من متاع الدنيا الذي متعتهم وأما "المصير"، فإنه مفعل من قول القائل:صرت مصيرًا صالحًا، وهو الموضع الذي يصير إليه الكافر بالله من عذاب النار.
قوله تعالى : "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" .
قوله تعالى : "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" القواعد : أساسه ، في قول أبي عبيدة و الفراء . وقال الكسائي : هي الجدر . والمعروف أنها الأساس . وفي الحديث :
"إن البيت لما هدم أخرجت منه حجارة عظام" فقال ابن الزبير : هذه القواعد التي رفعها ابراهيم عليه السلام . وقيل : إن القواعد كانت قد اندرست فأطلع الله ابراهيم عليها . ابن عباس : وضع البيت على أركان رآها قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام ثم دحيت لأرض من تحته . والقواعد واحدتها قاعدة . والقواعد من النساء واحدها قاعد .
واختلف الناس فيمن بنى البيت أولاً وأسسه ، فقيل : الملائكة . روي عن جعفر بن محمد قال : سئل أبي وأنا حاضر عن بدء خلق البيت فقال : إن الله عز وجل لما قال : "إني جاعل في الأرض خليفة" قالت الملائكة : "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" فغضب عليهم ، فعاذوا بعرشه وطافوا حوله سبعة أشواط يسترضون ربهم حتى رضي الله عنهم ، وقال لهم : ابنوا لي بيتاً في الأرض يتعوذ به من سخطت عليه من بني آدم ، ويطوف حوله كما طفتم حول عرشي ، فأرضى عنه كما رضيت عنكم ، فبنوا هذا البيت .
وذكر عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء و ابن المسيب وغيرهما :
أن الله عز وجل أوحى إلى آدم : إذا هبطت ابن لي بيتاً ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء . قال عطاء : فزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل : من حراء ،ومن طور سينا ، ومن لبنان ، ومن الجودي ، ومن طورزيتا ، وكان ربضه من حراء . قال الخليل : والربض ها هنا الأساس المستدير بالبيت من الصخر ، ومنه يقال لما حول المدينة : ربض . وذكر الماوردي عن عطاء عن ابن عباس قال : لما أهبط آدم من الجنة إلى الأرض قال له : يا آدم ، اذهب فابن لي بيتاً وطف به ، واذكرني عنده كما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي ، فأقبل آدم يتخطى وطويت له الأرض ، وقبضت له المفازة ، فلا يقع قدمه على شيء من الأرض إلا صار عمراناً حتى انتهى إلى موضع البيت الحرام ، وأن جبريل عليه السلام ضرب بجناحيه الأرض فأبرز عن اس ثابت على الأرض السابعة السفلى ، وقذفت إليه الملائكة بالصخر ، فما يطيق الصخرة منها ثلاثون رجلاً ، وأنه بناه من خمسة أجبل كما ذكرنا . وقد روي في بعض الأخبار :أنه أهبط لآدم عليه السلام خيمة من خيام الجنة ، فضربت في موضع الكعبة ليسكن اليها ويطوف حولها ، فلم تزل باقية حتى قبض الله عز وجل آدم ثم رفعت . وهذا من طريق وهب بن منبه . وفي رواية : أنه أهبط معه بيت فكان يطوف به المؤمنون من ولده كذلك إلى زمان الغرق ، ثم رفعه الله فصار في السماء ، وهو الذي يدعى البيت المعمور . روي هذا عن قتادة ذره الحليمي في كتاب منهاج الدين له ، وقال يجوز أن يكون معنى ما قال قتادة من أنه أهبط مع آدم بيت ، أي أهبط معه مقدار البيت المعمور طولاً وعرضاً وسمكاً ، ثم الخيمة فقد يجوز أن تكون أنزلت وضربت في موضع الكعبة ، فلما أمر ببنائها فبناها كانت حول الكعبة طمأنينة لقلب آدم صلى الله عليه وسلم ما عاش ثم رفعت ، فتتفق هذه الأخبار . فهذا بناء آدم عليه السلام ، ثم بناه إبراهيم عليه السلام . قال ابن جريج وقال ناس : أرسل الله سبحانه فيها راس ، فقال الرأس : يا إبراهيم ، إن ربك يأمرك أن تأخذ بقدر هذه السحابة ، فجعل ينظر إليها ويخط قدرها ، ثم قال الراس : إنه قد فعلت ، فحفر قأبرز عن أساس ثابت في الأرض . وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أن الله تعالى لما أمر إبراهيم بعمارة البيت خرج من الشام ومعه ابنه إسماعيل وأمه هاجر ، وبعث معه السكينة لها لسان تتكلم به يغدو معها إبراهيم إذا غدت ، ويروح مها إذا راحت ، حتى انتهت به إلى مكة ، فقالت لإبراهيم : ابن على موضعي الأساس ، فرفع البيت هو وإسماعيل حتى انتهى إلى موضع الركن ، فقال لابنه : يا بني ، ابغني حجراً اجعله علماً للناس ،فجاءه بحجر فلم يرضه ، وقال : بغني غيره ، فذهب يلتمس ، فجاءه وقد أتى بالركن فوضعه موضعه ، فقال : يا ابة ، من جاءك بهذا الحجر ؟ فقال : من لم يكلني إليك . ابن عباس : صاح ابو قبيس : يا إبراهيم ، يا خليل الرحمن ، إن لك عندك وديعة فخذها ، فإذا هو بحجر بيض من ياقوت الجنة كان آدم قد نزل به من الجنة ، فلما رفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت جاءت سحابة مربعة فيها رأس فنادت : أن ارفعا على تربيعي . فهذا بناء إبراهيم عليه السلام . وروي أن إبراهيم وإسماعيل لما فرغا من بناء البيت أعطاهما الله الخيل جزاء عن رفع قواعد البيت . روى الترمذي الحكيم حدثنا عمر بن أبي عمر حدثني نعيم بن حماد حدثنا عبد الوهاب بن همام أخو عبد الرزاق عن ابن جريج عن ابن بي مليكة عن ابن عباس قال : كانت الخيل وحشاً كسائر الوحش ، فلما أذن الله لإبراهيم و إسماعيل برفع القواعد قال الله تبارك اسمه إني معطيكما كنزاً ادخرته لكما ثم أوحى لي إسماعيل أن اخرج إلى أجياد فادع يأتك الكنز . فخرج إلى أجياد ـ وكانت وطناً ـ ولا يدري ما الدعاء ولا الكنز ، فألهمه ، فلم يبق على وجه الأرض فرس بأرض العرب إلا جاءته فأمكنته من نواصيها وذللها له ، فاركبوها واعلفوها فإنها ميامين ، وهي ميراث أبيكم إسماعيل ، فإنما سمي الفرس عربياً لأن إسماعيل أمر بالدعاء وإياه أتى . وروى عبد المنعم بن إدريس عن وهب بن منبه ، قال : أول من بنى البيت بالطين والحجارة شيث عليه السلام . وأما بنيان قريش له فمشهور ، وخبر الحية في ذلك مذكور ، وكانت تمنعهم من هدمه إلى أن اجتمعت قريش عند المقام فعجوا إلى الله تعالى وقالوا : ربنا ، لم ترع ! أردنا تشريف بيتك وتزيينه ، فإن كنت ترضى بذلك وإلا فما بدا لك فافعل ، فسمعوا خواتاً أمن السماء ـ والخوات : حفيف جناح الطير الضخم ـ فإذا هو بطائر أعظم من النسر ، أسود الظهر أبيض البطن والرجلين ، فغرز مخاليبه في قفا الحية ، ثم انطلق بها تجر ذنبها أعظم من كذا وكذا حتى انطلق بها نحو أجياد ، فهدمتها قريش وجعلوا يبنونها بحجارة الوادي تحملها قريش على رقابها ، فرفعوها في السماء عشرين ذراعاً ،
فبينا النبي صلى الله عليه وسلم يحمل حجارة من أجياد وعليه نمرة فضاقت عليه النمرة فذهب يرفع النمرة على عاتقه ، فترى عورته من صغر النمر ، فنودي : يا محمد ، خمر عورتك ، فلم ير عرياناً بعد . وكان بين بنيان الكعبة وبين ما أنزل عليه خمس سنين ، وبين مخرجه وبنائها خمس عشرة سنة . ذكره عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن عثمان عن ابي الطفيل . وذكر عن معمر عن الزهري :
حتى إذا بنوها وبلغوا موضع الركن اختصمت قريش في الركن ، أي القبائل تلي رفعه ؟ حتى شجر بينهم ، فقالوا : تعالوا نحكم أول من يطلع علينا من هذه السكة ، فاصطلحوا على ذلك ، فاطلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غلام عليه وشاح نمرة ، فحكموه فأمر الركن فوضع في ثوب ، ثم أمر سيد كل قبيلة فأعطاه ناحية من الثوب ، ثم ارتقى هو فرفعوا إليه الركن ، فكان هو يضعه صلى الله عليه وسلم .
قال إبن إسحاق : وحدثت أن قريشاً وجدوا في الركن كتاباً بالسريانية فلم يدر ما هو ، حتى قرأه لهم رجل من يهود ، فإذا فيه : أنا الله ذو بكة خلقتها يوم خلقت السموات والأرض وصورت الشمس والقمر ، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء لا تزول حتى يزول أخشباها ، مبارك لأهلها في الماء واللبن . وعن ابي جعفر محمد بن علي قال : كان باب الكعبة على عهد العماليق وجرهم وإبراهيم عليه السلام بالأرض حتى بنته قريش .
خرج مسلم " عن عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدر أمن البيت هو ؟ قال : نعم ، قلت : فلم لم يدخلوه في البيت؟ قال : إن قومك قصرت بهم النفقة . قلت : فما شأن بابه مرتفعاً ؟ قال : فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض" . وخرج " عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال : حدثتني خالتي ( يعني عائشة ) رضي الله عنها قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عائشة لولا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين باباً شرقياً وباباً غربياً وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة" . و" عن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : لولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشاً حين بنت الكعبة استقصرت ولجعلت لها خلفا" . وفي البخاري قال هشام بن عروة : يعني باباً . وفي البخاري أيضاً : "لجعلت لها خلفين" يعني بابين ، فهذا بناء قريش .
ثم لما غزا أهل الشام عبد الله بن الزبير ووهت الكعبة من حريقهم ، هدمها ابن الزبير وبناها على ما أخبرته عائشة ، وزاد فيه خمسة أذرع من الحجر ، حتى ابدى اسا نظر الناس اليه ، فبنى عليه البناء ، وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعاً ، فلما زاد فيه استقصره ، فزاد في طوله عشرة أذرع ، وجعل لها بابين أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه ، كذا في صحيح مسلم ، وألفاظ الحديث تختلف . وذكر سفيان عن داود بن شابور عن مجاهد قال : لما أراد ابن الزبير أن يهدم الكعبة ويبنيه قال للناس : اهدموا ، قال : فأبوا أن يهدموا وخافوا ان ينزل عليهم العذاب . قال مجاهد : فخرجنا إلى منى فاقمنا بها ثلاثاً ننتظر العذاب . قال : وارتقى ابن الزبير على جدار الكعبة هو بنفسه ، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترؤوا على ذلك ، قال : فهدموا . فلما بناها جعل لها بابين : باباً يدخلون منه ، وباباً يخرجون منه ، وزاد فيه مما يلي الحجر ستة أذرع ،وزاد في طولها تسعة أذرع . قال مسلم في حديثه : فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك ابن مروان يخبره بذلك ، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر اليه العدول من أهل مكة ، فكتب اليه عبد الملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاد في طوله فأقره ، وأما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه ، وسد الباب الذي فتحه ، فنقضه وأعاده إلى بنائه . في رواية : قال عبد الملك :
ما كنت أظن أبا خبيب ( يعني ابن الزبير ) سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها ، قال الحارث بن عبد الله : بلى ، أنا سمعته منها ،قال : سمعتها تقول ماذا ؟ قال : قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريباً من سبعة أذرع" . في أخرى : قال عبد الملك : لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير . فهذا ما جاء في بناء الكعبة من الآثار .
وروي أن الرشيد ذكر لـ مالك بن أنس أنه يريد هدم ما بنى الحجاج من الكعبة ،وأن يرده على بناء ابن الزبير لما جاء عن النبي صلىا الله عليه وسلم وامتثله ابن الزبير ، فقال له مالك :ناشدتك الله يا أمير المؤمنين ، ألا تجعل هذا البيت ملعبة للملوك ، لا يشاء أحد منهم إلا نقض البيت وبناه ، فتذهب هيبته من صدور الناس . وذكر الواقدي : حدثنا معمر عن همام بن منبه سمع أبا هريرة يقول :
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب أسعد الحميري ، وهو تبع ، وهو أول من كسا البيت ، وهو تبع الآخر . قال ابن إسحاق : كانت تكسى القباطي ثم كسيت البرد ، وأول من كساها الديباج الحجاج .
قال العلماء : ولا ينبغي أن يؤخذ من كسوة الكعبة شيء ،فإنه مهدى اليها ، ولا ينقص منها شيء . روي عن سعيد بن جبير أنه كان يكره أن يؤخذ من طيب الكعبة يستشفى به ، وكان إذا رأى الخادم يأخذ منه قفدها قفدة لا يألو أن يوجعها . وقال عطاء : كان أحدنا إذا أرد أن يستشفي به جاء بطيب من عنده فمسح به الحجر ثم أخذه .
قوله تعالى : "ربنا تقبل منا" المعنى : ويقولان ربنا ، فحذف . وكذلك هي في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا .
وتفسير إسماعيل : اسمع يا الله ، لأن إيل بالسريانية هو الله ، وقد تقدم . فقيل : إن إبراهيم لما دعا ربه قال : اسمع يا إيل ، فلما أجابه ربه ورزقه الولد سماه بما دعاه . ذكره الماوردي .
قوله تعالى :"إنك أنت السميع العليم" اسمان من أسماء الله تعالى قد أتينا عليهما في الكتاب الأسنى في شرح اسماء الله الحسنى .
وقوله تعالى: " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر " قال الإمام أبو جعفر بن جرير: أخبرنا ابن بشار قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، أخبرنا سفيان عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها" وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار ، عن بندار به، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو بن الناقد كلاهما عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري، وقال ابن جرير أيضاً: أخبرنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، وأخبرنا أبو كريب، أخبرنا عبد الرحيم الرازي، قالا جميعاً: سمعنا أشعث عن نافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم كان عبد الله وخليله، وإني عبد الله ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها: عضاهها وصيدها، لا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير " وهذه الطريق غريبة ليست في شيء من الكتب الستة، وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر، جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة، ومثله معه" ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر وفي لفظ "بركة مع بركة" ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان ـ لفظ مسلم، ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب، حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا بكر بن مضر عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديجن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها" إنفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن قتيبة عن بكر بن مضر به، ولفظه كلفظه سواء، وفي الصحيحين "عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل، وقال في الحديث: ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال: هذا جبل يحبنا ونحبه فلما أشرف على المدينة قال: اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثلما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم" وفي لفظ لهما "اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم" زاد البخاري يعني أهل المدينة ولهما أيضاً عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة" وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة" رواه البخاري وهذا لفظه، ولمسلم ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة" وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين" الحديث، رواه مسلم، والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة، لما في ذلك من مطابقة الاية الكريمة. وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل: إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض، وهذا أظهر وأقوى، والله يعلم.
وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها" فقال العباس: يا رسول الله: إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: "إلا الإذخر" وهذا لفظ مسلم، ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك، ثم قال البخاري بعد ذلك: وقال أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم بن يناق، عن صفية بنت شيبة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح، فقال: "يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يأخذ لقطتها إلا منشد" فقال العباس: إلا الإذخر ، فإنه للبيوت والقبور ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر" وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: إئذن لي أيها الأمير أن أحادثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به ـ إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الاخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب" فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو ؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة، رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه.
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها، لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلداً حراماً عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوباً عند الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام "ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم" الاية، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن بدء أمرك. فقال: "دعوة أبي إبراهيم عليه السلام، وبشرى عيسى بن مريم، ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" أي أخبرنا عن بدء ظهور أمرك، كما سيأتي قريباً إن شاء الله.
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور ، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخباراً عن الخليل أنه قال: "رب اجعل هذا بلداً آمناً" أي من الخوف أي لا يرعب أهله، وقد فعل الله ذلك شرعاً وقدراً، كقوله تعالى: "ومن دخله كان آمناً" وقوله: " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " إلى غير ذلك من الايات، وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه. وفي صحيح مسلم عن جابر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح" وقال في هذه السورة "رب اجعل هذا بلداً آمناً" أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة وقال تعالى في سورة إبراهيم "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً" وناسب هذا هناك لأنه والله أعلم كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة ولهذا قال في آخر الدعاء "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق، إن ربي لسميع الدعاء" وقوله تعالى " وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب "قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال هو قول الله تعالى وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه الله قال وقرأ آخرون "قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال كان ابن عباس يقول ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا وقال أبو جعفر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد "ومن كفر فأمتعه قليلاً" يقول ومن كفر فأرزقه قليلا أيضا "ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال محمد بن إسحاق لما عزل لإبراهيم الدعوة على من أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعا إلى الله ومحبته وفراقا لمن خالف أمره وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك قال الله ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط عن عمار الدهني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى " رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر " قال ابن عباس كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله ومن كفر أيضا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقا لا أرزقهم أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير ثم قرأ ابن عباس "كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً" رواه ابن مردويه وروي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضا وهذا كقوله تعالى "إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " وقوله تعالى: "ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور * نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " وقوله: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون * وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين " وقوله: "ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير ، ومعناه أن الله تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى: "وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير" وفي الصحيحين "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم" وفي الصحيح أيضاً "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ قوله تعالى: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" وقرأ بعضهم "قال ومن كفر فأمتعه قليلاً" الاية، جعله من تمام دعاء إبراهيم وهي قراءة شاذة مخالفة للقراء السبعة، وتركيب السياق يأبى معناها، والله أعلم، فإن الضمير في قال: راجع إلى الله تعالى في قراءة الجمهور ، والسياق يقتضيه، وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في قال عائداً على إبراهيم، وهذا خلاف نظم الكلام، والله سبحانه هو العلام.
وأما قوله تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم" فالقواعد جمع قاعدة وهي السارية والأساس، يقول تعالى: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت ورفعهما القواعد منه، وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" وحكى القرطبي وغيره عن أبي وابن مسعود أنهما كانا يقرآن " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم "، (قلت) ويدل على هذا قولهما بعده "ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" الاية، فهما في عمل صالح، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي عن وهيب بن الورد أنه قرأ "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا" ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين الخلص في قوله "والذين يؤتون ما آتوا" أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات "وقلوبهم وجلة" أي خائفة أن ألا يتقبل منهم، كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه. وقال بعض المفسرين: الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم والداعي إسماعيل، والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه. وقد روى البخاري ههنا حديثا سنورده ثم نتبعه بآثار متعلقة بذلك، قال البخاري رحمه الله حدثنا عبد الله بن محمد، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة ـ يزيد أحدهما على الاخر ـ عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً ليعفى أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفا إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه أنيس ؟ ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بذا ؟ قال: نعم: قالت: إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه، فقال "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" حتى بلغ "يشكرون" وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أو قال: يتلبط ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي: رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما" فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت صه ـ تريد نفسها ـ ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوطه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ـ أو قال: لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عيناً معيناً" قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن ههنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جرياً أو جريين، فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبرهم بالماء ، فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء عندنا، قالوا: نعم، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس" فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل ليطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل، كأنه أنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد ؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء ؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقكن فالحقي بأهلكن وطلقها وتزوج منهم بأخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد، فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عز وجل، قال: ما طعامكم ؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم ؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم لدعا لهم فيه" قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد ؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير ، قال: فأوصاك بشيء ؟ قالت: نعم، وهو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر ، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني ؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولاً، ورواه ابن أبي حاتم عن أبي عبد الله بن حماد الطبراني، وابن جرير عن أحمد بن ثابت الرازي، كلاهما عن عبد الرزاق به مختصراً.
وقال أبو بكر بن مردويه: أخبرنا إسماعيل بن علي، أخبرنا بشر بن موسى، أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي، أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن عبد الملك بن جريج، عن كثير بن كثير ، قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير في أعلى المسجد ليلاً، فقال سعيد بن جبير : سلوني قبل أن لا تروني، فسألوه عن المقام، فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس، فذكر الحديث بطوله.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها، حتى قدم مكة، فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء، نادته من ورائه: يا إبراهيم، إلى من تتركنا ؟ قال: إلى الله، قال: فرجعت فجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها، حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فصعدت الصفا، فنظرت هل تحس أحداً، فلم تحس أحداً فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت، فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت هل تحس أحداً فلم تحس أحداً فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة فجعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت، فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت فقالت: أغث إن كان عندك خير ، فإذا جبريل عليه السلام، قال: فقال بعقبه: هكذا، وغمز عقبه على الأرض، فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل، فجعلت تحفر ، قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "لو تركته لكان الماء ظاهراً" قال: فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها، قال فمر ناس من جرهم ببطن الوادي، فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم، فنظر فإذا هو بالماء ، فأتاهم فأخبرهم، فأتوا إليها، فقالوا: يا أم إسماعيل، أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك ؟ فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إني مطلع تركتي، قال: فجاء فسلم، فقال: أين إسماعيل ؟ قالت امرأته: ذهب يصيد، قال: قولي له إذا جاء: غير عتبة بابك، فلما أخبرته، قال: أنت ذاك فاذهبي إلى أهلك، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال: إني مطلع تركتي، قال: فجاء فقال: أين إسماعيل ؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد، فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب ؟ فقال، ما طعامكم، وما شرابكم ؟ فقالت: طعامنا اللحم، وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بركة بدعوة إبراهيم، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إني مطلع تركتي، فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له، فقال: يا إسماعيل، إن ربك عز وجل أمرني أن أبني له بيتاً: فقال: أطع ربك عز وجل، قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه، فقال: إذن أفعل ـ أو كما قال ـ قال: فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " قال: حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" هكذا رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء.
والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك عن أبي العباس الأصم عن محمد بن سنان القزاز عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي عن إبراهيم بن نافع به، وقال، صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا قال، وقد رواه البخاري كما ترى من حديث إبراهيم بن نافع، وكأن فيه اختصاراً فإنه لم يذكر فيه شأن الذبح، وقال جاء في الصحيح أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة، وقد جاء أن إبراهيم عليه السلام كان يزور أهله بمكة على البراق سريعاً ثم يعود إلى أهله بالبلاد المقدسة، والله أعلم، إنما فيه مرفوع أماكن صرح بها ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا، كما قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا: أخبرنا مؤمل، أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي بن أبي طالب، قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر ، قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس فكلمه قال: يا إبراهيم، ابن على ظلي، أو قال: على قدري، ولا تزد ولا تنقص، فلما بنى خرج وخلف إسماعيل وهاجر ، فقالت هاجر: يا إبراهيم، إلى من تكلنا ؟ قال: إلى الله، قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا، قال: فعطش إسماعيل عطشاً شديداً، قال فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئاً، حتى أتت المروة فلم تر شيئاً، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئاً، ففعلت ذلك سبع مرات، فقالت: يا إسماعيل مت حيث لاأراكن فأتته وهو يفحص برجله من العطشن فناداها جبريل فقال لها: من أنت ؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم، قال: فإلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله، قال: وكلكما إلى كاف، قال: ففحص الغلام الأرض بأصبعه، فنبعت زمزم فجعلت تحبس الماء، فقال: دعيه فإنها رواء ، ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقها، وقد يحتمل أنه كان محفوظاً أن يكون أولا وضع له حوطاً وتحجيراً لا أنه بناه إلى أعلاه، حتى كبر إسماعيل فبنياه معاً كما قال الله تعالى.
ثم قال ابن جرير: أخبرنا هناد بن السري، حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة: أن رجلاً قام إلى علي رضي الله عنه، فقال: ألا تخبرني عن البيت، أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ فقال: لا، ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً، وإن شئت أنبأتك كيف بني: إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتاً في الأرض، فضاق إبراهيم بذلك ذرعاً فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج ولها رأسان، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة فتطورت على موضع البيت كطي الحجفة، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة، فبنى إبراهيم وبقي الحجر فذهب الغلام يبغي شيئاً، فقال إبراهيم: أبغني حجراً كما آمرك، قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجراً فأتاه به فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه، قال: يا أبت من أتاك بهذا الحجر ؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك، جاء به جبريل عليه السلام من السماء فأتماه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، أخبرنا سفيان عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار ، قال: كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عاماً، ومنه دحيت الأرض. قال سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب: أن إبراهيم أقبل من أرض أرمينية ومعه السكينة تدله على تبوء البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتاً، قال: فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلاً، فقلت: يا أبا محمد فإن الله يقول "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال: كان ذلك بعد، وقال السدي: إن الله عز وجل أمر إبراهيم أن يبني البيت هو وإسماعيل، ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود. فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحاً يقال لها الريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكشفت لهما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حت وضعا الأساس، فذلك حين يقول تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت"، "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن، قال إبراهيم لإسماعيل: يابني، اطلب لي حجراً حسناً أضعه ههنا. قال: يا أبت إني كسلان لغب، قال: على بذلك، فانطلق يطلب له حجراً فجاءه بحجر فلم يرضه فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا فانطلق يطلب له حجراً، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاءك بهذا ؟ قال: جاء به من هو أنشط منك، فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى إبراهيم ربه، فقال "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم، وإنما هدي إبراهيم إليها وبوئ لها، وقد ذهب إلى هذا ذاهبون، كما قال الإمام عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال، القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك، وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا هشام بن حسان عن سوار ختن عطاء، عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما أهبط الله آدم من الجنة كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم يأنس إليهم، فهابت الملائكة حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها، فخفضه الله تعالى إلى الأرض، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش، حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته، فوجه إلى مكة فكان موضع قدميه قرية، وخطوه مفازة، حتى انتهى إلى مكة وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الان، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث الله إبراهيم عليه السلام فبناه، ذلك قول الله تعالى: " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عطاء ، قال: قال آدم: إني لا أسمع أصوات الملائكة، فقال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض فابن لي بيتاً ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور زيتا وطور سيناء والجودي، وكان ربضه من حراء ، فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم عليه السلام بعد، وهذا صحيح إلى عطاء ولكن في بعضه نكارة، والله أعلم.
وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا معمر عن قتادة، قال: وضع الله البيت مع آدم حين أهبط الله آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعاً، فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله عز وجل، فقال الله: يا آدم إني أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي، فانطلق إليه آدم، فخرج ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفازة بعد ذلك، فأتى آدم البيت فطاف به ومن بعده من الأنبياء.
وقال ابن جرير: أخبرنا ابن حميد، أخبرنا يعقوب القمى، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال، وضع الله البيت على أركان الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم: إن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، وخرج معه إسماعيل وأمه هاجر وإسماعيل طفل صغير يرضع، وحملوا فيما حدثني على البراق، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، خرج معه جبريل، فكان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أمرت يا جبريل ؟ فيقول جبريل: امضه، حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عضاه وسلم وسمر ، وبها أناس يقال لهم: العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما ؟ قال: نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشاً، فقال "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" إلى قوله: "لعلهم يشكرون" وقال عبد الرزاق: أخبرنا هشام بن حسان، أخبرني حميد، عن مجاهد، قال: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً بألفي سنة، وأركانه في الأرض السابعة، وكذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: القواعد في الأرض السابعة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، أخبرنا عمرو بن رافع أخبرنا عبد الوهاب بن معاوية عن عبد المؤمن بن خالد، عن علياء بن أحمر: إن ذا القرنين قدم مكة، فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل. فقال: ما لكما ولأرضي ؟ فقال: نحن عبدان مأموران، أمرنا ببناء هذه الكعبة. قال: فهاتا البينة على ما تدعيان. فقامت خمسة أكبش فقلن: نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران أمرا ببناء هذه الكعبة. فقال: قد رضيت وسلمت، ثم مضى، وذكر الأزرقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم عليه السلام بالبيت، وهذا يدل على تقدم زمانه، والله أعلم.
وقال البخاري رحمه الله: قوله تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" الاية، القواعد: أساسه، واحدها قاعدة، والقواعد من النساء واحدتها قاعدة. حدثنا إسماعيل: حدثني مالك عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تري أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا على قواعد إبراهيم ؟" فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال "لولا حدثان قومك بالكفر " فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين يليان الحجر ، إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم عليه السلام. وقد رواه في الحج عن القعنبي، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف ومسلم، عن يحيى بن يحيى، ومن حديث ابن وهب والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم كلهم عن مالك به. ورواه مسلم أيضاً من حديث نافع قال: سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة، يحدث عبد الله بن عمر عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال: بكفر ـ لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها الحجر " وقال البخاري: أخبرنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن أبي اسحاق، عن الأسود، قال: قال لي ابن الزبير: كانت عائشة تسر إليك حديثاً كثيراً، فما حدثتك في الكعبة ؟ قال: قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم ـ فقال ابن الزبير ـ بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: باباً يدخل منه الناس، وباباً يخرجون منه" ففعله ابن الزبير، انفرد بإخراجه البخاري فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه، وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشاً حين بنت البيت استقصرت، ولجعلت لها خلفاً" قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، قالا: أخبرنا ابن نمير عن هشام بهذا الإسناد انفرد به مسلم، قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثني ابن مهدي، أخبرنا سليم بن حيان عن سعيد يعني ابن ميناء، قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول: حدثتني خالتي، يعني عائشة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، ولجعلت لها باباً شرقياً، وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة" انفرد به أيضاً.
وقد نقل معهم في الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثون سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى بني مليح بن عمرو من خزاعة، فقطعت قريش يده، ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الرومن فتحطمتن فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدي لها كل يوم تتشدق على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يوماً تتشدق على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية، فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، قال ابن إسحاق: والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، قال: ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم، ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة، أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير ، ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساس إبراهيم عليه السلام، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضاً، قال: فحدثني بعض من يروي الحديث: أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضاً أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، يعني الحجر الأسود ، فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلهم، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلمن فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوباً، فأتي به فأخذ الركن، يعني الحجر الأسود، فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ثم بني عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل الوحي الأمين فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لما تصوبت العقاب إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش وأحياناً يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدت تهيبنا البناء وقد تهاب
فلما إن خشينا الرجز جاءت عقاب تتلئب لها انصباب
فضمتها إليها ثم خلت لنا البنيان ليس له حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناء لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه وليس على مساوينا ثياب
أعز به المليك بني لؤي فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عدي ومرة قد تقدمها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزاً وعند الله يلتمس الثواب
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشر ذراعاً، وكانت تكسى القباطي، ثم كسيت بعد البرود، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف، (قلت) ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية، لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها الحجر، وجعل لها باباً شرقياً وباباً غربياً ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: أخبرنا هناد بن السري، أخبرنا ابن أبي زائدة، أخبرنا ابن أبي سليمان عن عطاء، قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، فكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم، يريد أن يحزبهم أو يجيرهم على أهل الشام, فلما صدر الناس قال: يأيها الناس، أشيروا علي في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها، أو أصلح ما وهي منها ؟ قال ابن عباس: فإني قد خرق لي رأي فيها، أرى أن تصلح ما وهي منها، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، وأحجاراً أسلم الناس عليها، وبعث عليها صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف بيت ربكم عز وجل ؟ إني مستخير ربي ثلاثاً، ثم عازم على أمري، فلما مضت ثلاث، أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء، حتى صعده رجل فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه، وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع، ولجعلت له باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه" قال: فأنا أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس، قال: فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر حتى أبدي له أساً، فنظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعاً فلما زاد فيه اسقصره فزاد في أوله عشرة أذرع وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والاخر يخرج منه. فلما قتل ابن الزبير ، كتب الحجاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة: فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه، وقد رواه النسائي في سننه عن هناد، عن يحيى بن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن الزبير عن عائشة بالمرفوع منه، ولم يذكر القصة وقد كانت السنة إقراراً ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، لأنه هو الذي وده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر ، ولكن خفيت هذه السنة على عبد الملك بن مروان، ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: وددنا أنا تركناه وما تولى، كما قال مسلم: حدثني محمد بن حاتم، حدثنا محمد بن بكر ، أخبرنا ابن جريج: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال عبد الله بن عبيد: وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: ما أظن أبا حبيب، يعني ابن الزبير، سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث: بلى، أنا سمعته منها. قال: سمعتها تقول ماذا ؟ قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه، فهلمي لأريك ما تركوه منه" فأراها قريباً من سبعة أذرع، هذا حديث عبد الله بن عبيد بن عمير ، وزاد عليه الوليد بن عطاء قال النبي صلى الله عليه وسلم ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض: شرقياً وغربياً، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها قالت: لا. قال تعززاً أن لا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط قال عبد الملك: فقلت للحارث: أنت سمعتها تقول هذا ؟ قال: نعم، قال فنكت ساعة بعصاه، ثم قال: وددت أني تركته وما تحمل. قال مسلم: وحدثنا محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا أبو عاصم(ح)، وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق كلاهما عن ابن جريج بهذا الإسناد مثل حديث أبي بكر ، قال: وحدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة عن أبي قزعة: أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين، يقول سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة حتى أزيد فيها من الحجر . فإن قومك قصروا في البناء" فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فإني سمعت أم المؤمنين تحدث هذا. قال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير ، فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة، لأنه قد روي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير ، فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير ، فلو ترك لكان جيداً.
ولكن بعدما رجع الأمر إلى هذا الحال، فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي أنه سأل الإمام مالكاً عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير. فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها، فترك ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي ولا تزال ـ والله أعلم ـ هكذا إلى آخر الزمانن إلى أن يخربها ذو السويقتين من الحبشة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" أخرجاه، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم "كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً" رواه البخاري، وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: أخبرنا أحمد بن عبد الملك الحرانين أخبرنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حليتها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله" ـ الفدع: زيغ بين القدم وعظم الساق ـ وهذا، والله أعلم، إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج، لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج".
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام "ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم" قال ابن جرير: يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، ولا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك، ولا في العبادة غيرك، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا إسماعيل عن رجاء ابن حبان الحصني القرشي، أخبرنا معقل بن عبيد الله عن عبد الكريم "واجعلنا مسلمين لك" قال: مخلصين لك، "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" قال: مخلصة، وقال أيضاً: أخبرنا علي بن الحسين، أخبرنا المقدمي، أخبرنا سعيد بن عامر عن سلام بن أبي مطيع في هذه الاية "واجعلنا مسلمين" قال: كانا مسلمين، ولكنهما سألاه الثبات. وقال عكرمة "ربنا واجعلنا مسلمين لك" قال الله: قد فعلت، "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" قال الله: قد فعلت. وقال السدي "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" يعنيان العرب. قال ابن جرير : والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيلن وقد قال الله تعالى: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"، (قلت) وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي، فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو العرب، ولهذا قال بعده "ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" الاية. والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم كما قال تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم" ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" وغير ذلك من الأدلة القاطعة، وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما " وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له. ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام "إني جاعلك للناس إماماً" قال "ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" وهو قوله " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" "وأرنا مناسكنا" قال ابن جرير عن عطاء "وأرنا مناسكنا" أخرجها لنا علمناها، وقال مجاهد "أرنا مناسكنا" مذابحنا. وروي عن عطاء أيضاً وقتادة نحو ذلك. وقال سعيد بن منصور : أخبرنا عتاب بن بشير عن خصيف، عن مجاهد ، قال: قال إبراهيم "أرنا مناسكنا" فأراه جبرائيل فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد، فرفع القواعد وأتم البنيان ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو منى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كبر وارمه، فكبر ورماه، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه، فكبر ورماه، فذهب الخبيث إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئاً، فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام، فأخذ بيد إبراهيم أتى به عرفات، قال: قد عرفت ما أريتك ؟ قالها ثلاث مرات، قال: نعم. وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك، وقال أبو داود الطيالسي: أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي العاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، قال: إن إبراهيم لما أري أوامر المناسك، عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى، قال: هذا مناخ الناس، فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب فأتى به جميعاً، فقال: هذا المشعر ، ثم أتى به عرفة، فقال: هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت ؟.
قوله: 127- "وإذ يرفع" هو حكاية لحال ماضية استحضاراً لصورتها العجيبة. والقواعد: الأساس، قاله أبو عبيدة والفراء. وقال الكسائي: هي الجدر. والمراد برفعها رفع ما هو مبني فوقها لا رفعها في نفسها فإنها لم ترتفع، لكنها لما كانت متصلة بالبناء المرتفع فوقها صارت كأنها مرتفعة بارتفاعه، كما يقال ارتفع البناء، ولا يقال ارتفع أعالي البناء ولا أسافله. قوله: "ربنا تقبل منا" في محل الحال بتقدير القول: أي قائلين ربنا. وقرأ أبي وابن مسعود وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان: ربنا تقبل منا.
127. قوله عز وجل: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " قال الرواة: إن الله تعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء فدحيت الأرض من تحتها فلما أهبط الله آ دم عليه السلام إلى الأرض استوحش، فشكا إلى الله تعالى فأنزل الله البيت المعمور من ياقوته من يواقيت الجنة له بابان من زمرد أخضر، باب شرقي وباب غربي فوضعه على موضع البيت وقال: يا آدم إني أهبط لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي، تصلي عنده كما يصلي عند عرشي وأنزل الحجر وكان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية فتوجه آدم من أرض الهند إلى مكة ماشياً وقيض الله ملكاً يدله على البيت فحج البيت وأقام المناسك، فلما فرغ تلقته الملائكة وقالوا: بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام، قال ابن عباس رضي الله عنهما: حج آدم أربعين حجة من الهند إلى مكة على رجليه فكان على ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، وبعث جبريل عليه السلام حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس صيانة له من الغرق، فكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم، ثم إن الله تعالى أمر إبراهيم بعدما ولد له إسماعيل وإسحاق ببناء بيت يذكر فيه، فسأل الله عز وجل أن يبين له موضعه، فبعث الله السكينة لتدله على موضع البيت، وهي ريح خجوج لها رأسان شبه الحية فأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة فتبعها إبراهيم حتى أتيا مكة فتطورت السكينة على موضع البيت كتطوي الحجفة هذا قول علي والحسن.
وقال ابن عباس: بعث الله تعالى سحابة على قدر الكعبة فجعلت تسير وإبراهيم يمشي في ظلها إلى أن وافق مكة ووقفت على موضع البيت فنودي منها إبراهيم أن ابن على ظلها لا تزد ولا تنقص، وقيل: أرسل الله جبريل ليدله على موضع البيت كقوله تعالى " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " فبنى إبراهيم وإسماعيل البيت فكان إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجر، فذلك قوله تعالى: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " يعني أسسه واحدتها قاعدة.
وقال الكسائي : جدر البيت، وقال ابن عباس: إنما بني البيت من خمسة أجبل، طور سيناء وطور زيتا ولبنان وهو جبل بالشام، والجودي وهو جبل بالجزيرة وبنيا قواعده من حراء وهو جبل بمكة فلما انتهى إبراهيم إلى موضع الحجر الأسود قال لإسماعيل ائتني بحجر حسن يكون للناس علماً فأتاه بحجر فقال: ائتني بأحسن من هذا فمضى إسماعيل يطلبه فصاح أبو قبيس: يا إبراهيم إن لك عندي وديعة فخذها، فأخذ الحجر الأسود فوضعه مكانه وقيل: إن الله تعالى بنى في السماء بيتاً وهو البيت المعمور ويسمى الضراح وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره ومثاله، وقيل: أول من بنى الكعبة آدم واندرس في زمن الطوفان ثم أظهره الله لإبراهيم حتى بناه.
قوله: " ربنا تقبل منا " فيه إضمار أي ويقولان: ربنا تقبل منا بناءنا " إنك أنت السميع " لدعائنا " العليم " بنياتنا.
127-" وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت " حكاية حال ماضية ، و " القواعد " جمع قاعدة وهي الأساس صفة غالبة من القعود ، بمعنى الثبات ، ولعله مجاز من المقابل للقيام ، ومنه قعدك الله ، ورفعها البناء عليها فإنه ينقلها عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع ، ويحتمل أن يراد بها سافات البناء فإن كل ساف قاعدة ما يوضع فوقه ويرفعها بناؤها . وقيل المراد رفع مكانته وإظهار شرفه بتعظيمه ، ودعاء الناس إلى حجة . وفي إبهام القواعد وتبيينها تفخيم لشأنها . " وإسماعيل " كان يتناوله الحجارة ، ولكنه لما كان له مدخل في البناء عطف عليه . وقيل : يبنيان في طرفين ، أو على التناوب . " ربنا تقبل منا " أي يقولان ربنا تقبل منا ، وقد قرئ به والجملة حال منهما . " إنك أنت السميع " لدعائنا " العليم " بنياتنا .
127. And when Abraham and Ishmael were raising the foundations of the House, (Abraham prayed): Our Lord! Accept from us (this duty). Lo! Thou, only Thou, art the Nearer, the Knower.
127 - and remember Abraham and Ismail raised the foundations of the house (with this prayer): our Lord! Accept (this service) from us: for thou art the all hearing, the all knowing.