(ربنا واجعلنا مسلمين) منقادين (لك و) اجعل (من ذريتنا) أولادنا (أمة) جماعة (مسلمة لك) ومن للتبعيض ، وأتى به لتقدم قوله لا ينال عهدي الظالمين (وأرنا) علمنا (مناسكنا) شرائع عبادتنا أو حجنا (وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم) سألاه التوبة مع عصمتهما تواضعاً وتعليماً لذريتهما
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت "، واذكروا إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت.
و "القواعد" جمع قاعدة، يقال للواحدة من قواعد البيت قاعدة، وللواحدة من قواعد النساء وعجائزهن قاعد، فتلغى هاء التأنيث، لأنها فاعل من قول القائل: قعدت عن الحيض ، ولا حظ فيه للذكورة، كما يقال: امرأة طاهر وطامث ، لأنه لا حظ في ذلك للذكور، ولو عني به القعود الذي هو خلاف القيام، لقيل: قاعدة، ولم يجز حينئذ إسقاط هاء التأنيث. وقواعد البيت إساسه .
ثم اختلف أهل التأويل في "القواعد" التي رفعها إبراهيم وإسمعيل من البيت. أهما أحدثا ذلك، أم هي قواعد كانت له قبلهما؟
فقال قوم: هي قواعد بيت كان بناه آدم أبو البشر بأمر الله إياه بذلك، ثم درس مكانه وتعفى أثره بعده، حتى بوأه الله إبراهيم عليه السلام، فبناه.
ذكر من قال ذلك: حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: قال آدم: يا رب، إني لا أسمع أصوات الملائكة! قال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض، وابن لي بيتاً، ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء. فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء و طورزيتا، و طورسينا، و جبل لبنان و الجودي ، وكان ربضه من حراء. فكان هذا بناء آدم، حتى بناه إبراهيم بعد.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت "، قال: القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك.
وقال آخرون: بل هي قواعد بيت كان الله أهبطه لآدم من السماء إلى الأرض، يطوف به كما كان يطوف بعرشه في السماء، ثم رفعه إلى السماء أيام الطوفان، فرفع إبراهيم قواعد ذلك البيت. ذكر من قال ذلك:حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عن عبدالله بن عمرو قال: لما أهبط الله آدم من الجنة قال: إني مهبط معك أو منزل معك بيتاً يطاف حوله كما يطاف حول عرشي، ويصفى عنده كما يصفى عند عرشي. فلما كان زمن الطوفان، رفع، فكانت الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه، حتى بوأه الله إبراهيم، وأعلمه مكانه، فبناه من خمسة أجبل: من حراء وثبير ولبنان وجبل الطور وجبل الخمر.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا إسمعيل بن علية قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: لما أهبط آدم، ثم ذكر نحوه.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشام بن حسان، عن سوار ختن عطاء، عن عطاء بن أبي رباح قال: لما أهبط الله آدم من الجنة، كان رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم، يأنس إليهم. فهابته الملائكة، حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها، فخفضه إلى الأرض. فلما فقد ما كان يسمع منهم، استوحش حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته. فوجه إلى مكة، فكان موضع قدمه قرية، وخطوه مفازة، حتى انتهى إلى مكة. وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الآن. فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث الله إبراهيم فبناه. فذلك قول الله: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" ( الحج: 26).
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنامعمر، عن قتادة قال: وضع الله البيت مع آدم ، حين أهبط الله آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند. وكان رأسه في السماء، ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعاً: فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله تعالى، فقال الله: يا آدم، إني قد أهبطت إليك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي. فانطلق إليه آدم. فخرج، ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة. فلم تزل تلك المفاوز بعد ذلك. فأتى آدم البيت وطاف به، ومن بعده من الأنبياء.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبان: أن البيت أهبط ياقوتة واحدة أو دزة واحدة حتى إذا أغرق الله قوم نوح رفعه، وبقي أساسه فبوأه الله لإبراهيم، فبناه بعد ذلك.
وقال آخرون: بل كان موضع البيت ربوة حمراء كهيئة القبة. وذلك أن الله لما أراد خلق الأرض علا الماء زبدة حمراء أو بيضاء، وذلك في موضع البيت الحرام. ثم دحا الأرض من تحتها، فلم يزل ذلك كذلك حتى بوأه الله إبراهيم، فبناه على أساسه. وقالوا: أساسه على أركان أربعة في الأرض السابعة.
ذكر من قال ذلك:حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال جريربن حازم، حدثني حميد بن قيس، عن مجاهد قال: كان موضع البيت على الماء، قبل أن يخلق الله السموات والأرض، مثل الزبدة البيضاء، ومن تحته دحيت الأرض.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء وعمروبن دينار : بعث الله رياحًا فصفقت الماء، فأبرزت في موضع البيت عن حشفة كأنها القبة، فهذا البيت منها. فلذلك هي أم القرى. قال ابن جريج، قال عطاء: ثم وتدها بالجبال كي لا تكفأ بميد، فكان أول جبل أبو قيس .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: وضع البيت على أركان الماء، على أربعة أركان، قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن هرون بن عنترة، عن عطاء بن أبي رباح قال: وجدوا بمكة حجرًا مكتوبًا عليه: إني أنا الله ذو بكة، بنيته يوم صنعت الشمس والقمر، وحففته بسبعة أملاك حنفاء.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال، حدثني عبدالله بن أبي نجيح، عن مجاهد وغيره من أهل العلم: أن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، وخرج معه بإسمعيل وأمه هاجر، وإسمعيل طفل صغير يرضع. وحملوا فيما حدثني على البراق، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم. فخرج وخرج معه جبريل، فقال: كان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أمرت يا جبريل؟ فيقول جبريل: امضه! حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عضاه سلم وسفر، وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة. فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما؟ قال: نعم. فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسمعيل أن تتخذ فيه عريشاً، فقال: "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" إلى قوله: "لعلهم يشكرون" (إبراهيم: 37).
قال ابن حميد: قال سلمة، قال ابن إسحق: ويزعمون والله أعلم أن ملكاً من الملائكة أتى هاجر أم إسمعيل حين أنزلهما إبراهيم مكة، قبل أن يرفع إبراهيم وإسمعيل القواعد من البيت فأشار لها إلى البيت، وهو ربوة حمراء مدرة، فقال لها: هذا أول بيت وضع في الأرض، وهو بيت الله العتيق، واعلمي أن إبراهيم وإسمعيل هما يرفعانه للناس.
حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشام بن حسان قال، أخبرني حميد، عن مجاهد قال: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئًا من الأرض بألفي سنة، وأركانه في الأرض السابعة.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة قال، أخبرني بشربن عاصم، عن ابن المسيب قال، حدثنا كعب: إن البيت كان غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين سنة، ومنه دحيت الأرض. قال سعيد: وحدثنا عن علي بن أبي طالب: إن إبراهيم أقبل من أرمينية معه السكينة تدله على تبوىء البيت، كما تتبوأ العنكبوت بيتها، قال: فرفعت عن أحجار تطيقه أو لا تطيقه ثلاثون رجلاً، قال: قلت: يا أبا محمد فإن الله يقول: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت "، قال: كان ذاك بعد.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن إبراهيم خليله أنه وابنه إسمعيل، رفعا القواعد من البيت الحرام. وجائز أن يكون ذلك قواعد بيت كان أهبطه مع آدم، فجعله مكان البيت الحرام الذي بمكة. وجائز أن يكون ذلك كان القبة التي ذكرها عطاء، مما أنشأه الله من زبد الماء. وجائز أن يكون كان ياقوته أو دره أهبطا من السماء. وجائز أن يكون كان آدم بناه ثم انهدم، حتى رفع قواعده إبراهيم وإسمعيل. ولا علم عندنا بأفي ذلك كان من أي، لأن حقيقة ذلك لا تدرك إلا بخبر عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، بالنقل المستفيض. ولا خبر بذلك تقوم به الحجة فيجب التسليم لها، ولا هو إذ لم يكن به خبر، على ما وصفنا مما يدل عليه بالاستدلال والمقاييس، فيمثل بغيره، ويستنبط علمه من جهة الاجتهاد. فلا قول في ذلك هو أولى بالصواب مما قلنا. والله تعالى أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: "ربنا تقبل منا".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل يقولان ربنا تقبل منا. وذكر أن ذلك كذلك في قراءة ابن مسعود. وهو قول جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: يبنيان وهما يدعوان، الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم ربه قال: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا ".
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال، أخبرني ابن كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل "، قال: هما يرفعان القواعد من البيت ويقولان: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم "، قال: وإسمعيل يحمل الحجارة على رقبته، والشيخ يبني.
فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل قائلين: ربنا تقبل منا.
وقال آخرون: بل قائل ذلك كان إسمعيل. فتأويل الآية على هذا القول: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت، وإذ يقول ربنا تقبل منا، فيصير حينئذ إسمعيل مرفوعاً بالجملة التي بعده. ويقول حينئذ، خبر له دون إبراهيم.
ثم اختلف أهل التأويل في الذي رفع القواعد، بعد إجماعهم على أن إبراهيم كان ممن رفعها.
فقال بعضهم: رفعها إبراهيم وإسمعيل جميعًا.
ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين ". قال: فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة، فقام هو وإسمعيل وأخذا المعاول، لا يدريان أين البيت. فبعث الله ريحًا يقال لها ريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكنست لهما ما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران، حتى وضعا الأساس. فذلك حين يقول: "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" (الحج: 26). فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن، قال إبراهيم لإسمعيل: يا بني، اطلب لي حجرًا حسنا أضعه ههنا. قال: يا أبت، إني كسلان تعب. قال: علي بذلك. فانطلق فطلب حجراً، فجاءه بحجر فلم يرضه، فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا. فانطلق يطلب له حجرًا، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض، ياقوة بيضاء مثل الثغامة. وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس. فجاءه إسمعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت، من جاءك بهذا؟ فقال: من هوأنشط منك! فبنياه.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن عمربن عبدالله بن عروة، عن عبيد بن عمير الليثي قال: بلغني أن إبراهيم وإسمعيل هما رفعا قواعد البيت.
وقال آخرون: بل رفع قواعد البيت إبراهيم، وكان إسمعيل يناوله الحجارة.
ذكر من قال ذلك:حدثنا أحمد بن ثابت الرازي قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب وكثيربن كثيربن المطلب بن أبي وداعة يزيد أحدهما على الآخر عن سعيدبن جبير عن ابن عباس قال: جاء إبراهيم، وإسمعيل يبرى نبلاً قريًبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال:
يا إسمعيل، إن الله أمرني بأمر. قال: فاصنع ما أمرك ربك. قال: وتعينني؟ قال: وأعينك. قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً! وأشار إلى الكعبة، والكعبة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت. قال: فجعل إسمعيل يأتي بالحجارة، وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني، وإسمعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، حتى دور حول البيت.
حدثنا ابن سنان القزاز قال، حدثنا عبيدالله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثيربن كثير يحدث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء يعني إبراهيم فوجد إسمعيل يصلح نبلاً من وراء زمزم. قال إبراهيم: يا إسمعيل، إن الله ربك قد أمرني أن أبني له بيتاً. فقال له إسمعيل: فأطع ربك فيما أمرك. فقال له إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه. قال: إذاً أفعل. قال: فقام معه، فجعل إبراهيم يبنيه، وإسمعيل يناوله الحجارة ويقولان: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم "، فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر، فهو مقام إبراهيم، فجعل يناوله ويقولان: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم".
وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده، وإسمعيل يومئذ طفل صغير.
ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحق، عن حارثة بن مضرب، عن علي قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت، خرج معه إسمعيل وهاجر. قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة، فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم، ابن على ظلي أو على قدري ولا تزد ولا تنقص. فلما بنى أخرج، وخفف إسمعيل وهاجر، فقالت هاجر: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق، فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسمعيل عطشًا شديدًا، قال: فصعدت هاجر الصفا، فنظرت فلم تر شيئًا. ثم أتت المروة، فنظرت فلم تر شيئاً. ثم رجعت إلى الصفا، فنظرت فلم تر شيئًا. حتى فعلت ذلك سبع مرات. فقالت: يا إسمعيل، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش. فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا هاجر، أم ولد إبراهيم. قال: إلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال: وكلكما إلى كاف! قال: ففحص الغلام، الأرض بإصبعه، فنبعت زمزم، فجعلت تحبس الماء، فقال: دعيه، فإنها رواء.
حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: أن رجلاً قام إلى علي فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا، ولكن هو أول بيت وضع فيه البركة، مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً، وإن شئت أنبأتك كيف بني: إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتاً في الأرض. قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعاً، فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج، ولها رأسان فأتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة، فتطوت على موضع البيت كتطوي الحجفة، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة. فبنى إبراهيم وبقي حجر، فذهب الغلام يبغي شيئًا، فقال إبراهيم: لا! ابغني حجرًا كما امرك. قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرًا، فأتاه فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه، فقال: يا أبت، من أتاك بهذا الحجر؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء. فأتماه.
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا سعيد، عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة يحدث، عن علي بنحوه.
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم، عن سماك، عن خالدبن عرعرة، عن علي، بنحوه.
قال أبو جعفر: فمن قال: رفع القواعد إبراهيم وإسمعيل، أو قال: رفعها إبراهيم وكان إسمعيل يناوله الحجارة، فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسمعيل. ويكون الكلام حينئذ: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " يقولان ربنا تقبل منا. وقد كان يحتمل، على هذا التأويل، أن يكون المضمر من القول لاسمعيل خاصة دون إبراهيم، ولإبراهيم خاصة دون إسمعيل، لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول لإبراهيم وإسمعيل جميعًا.
وأما على التأويل الذي روي عن علي: أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون إسمعيل فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا لإسمعيل خاصة.
والصواب من القول عندنا في ذلك: أن المضمر من القول لإبراهيم وإسمعيل، وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسمعيل جميعًا. وذلك أن إبراهيم وإسمعيل، إن كانا هما بنياها ورفعاها، فهو ما قلنا. وإن كان إبراهيم تفرد ببنائها، وكان إسمعيل يناوله، فهما أيضاً رفعاها، لأن رفعها كان بهما: من أحدهما البناء، ومن الآخر نقل الحجارة إليها، ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته.
وإنما قلنا ما قلنا من ذلك، لإجماع جميع أهل التأويل على أن إسمعيل معني بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه، أنهما كانا يقولانه، وذلك قولهما: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ". فمعلوم أن إسمعيل لم يكن ليقول ذلك، إلا وهو: إما رجل كامل، وإما غلام قد فهم مواضع الضر من النفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه. وإذا كان في حال بناء أبيه ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله كذلك، فمعلوم أنه لم يكن تاركاً معونة أبيه: إما على البناء، وإما على نقل الحجارة. وأي ذلك كان منه، فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت، وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام.
فتأويل الكلام: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسمعيل يقولان: ربنا تقبل منا عملنا، وطاعتنا إياك، وعبادتنا لك، في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به، في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه، إنك أنت السميع العليم.
وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكناً يسكنانه، ولا منزلاً ينزلانه، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله، تقربا منهما إلى الله بذلك. ولذلك قالا: ربنا تقبل منا. ولو كانا بنياه مسكناً لأنفسهم، لم يكن لقولهما: تقبل منا وجة مفهوم. لأنه كانا يكونان لو كان الأمر كذلك سائلين أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه. وليس موضعهما مسألة الله قبول ما لا قربة إليه فيه.
القول في تأويل قوله: " إنك أنت السميع العليم".
قال أبو جعفر: وتأويل قوله: "إنك أنت السميع العليم "، إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا، من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة، والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة، وما نبدي ونخفي من أعمالنا، كما:حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني أبو كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "تقبل منا إنك أنت السميع العليم "، يقول: تقبل منا إنك سميع الدعاء.
قوله تعالى : "ربنا واجعلنا مسلمين لك" أي صيرنا ، ومسلمين مفعول ثان ، سألا التثبيت والدوام .والإسلام في هذا الموضع : الإيمان والأعمال جميعاً ، ومنه قوله تعالى : "إن الدين عند الله الإسلام" ففي هذا دليل لمن قال : إن الإيمان والإسلام شيء واحد ، وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" . وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي مسلمين على الجمع .
قوله تعالى : "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" أي من ذريتنا فاجعل ، فيقال : إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الأمة . ومن في قوله : "ومن ذريتنا" للتبعيض ، لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين . وحكى الطبري : أنه أراد بقوله : "من ذريتنا" العرب خاصة . قال السهيلي : وذريتهما العرب ، لأنهم بنو نبت بن إسماعيل ، أو بنو تيمن بن إسماعيل . ويقال : قيدر بن نبت بن إسماعيل . أما العدنانبة فمن نبت ، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل ، أو تيمن على أحد القولين . قال ابن عطية : وهذا ضعيف ، لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم . والأمة : الجماعة هنا ، وتكون واحداً إذا كان يقتدى به في الخير ، ومنه قوله تعالى : "إن إبراهيم كان أمة قانتا لله" ، وقال صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل :
"يبعث أمة وحده" لأنه لم يشرك في دينه غيره ، والله أعلم . وقد يطلق لفظ الأمة على غير هذا المعنى ، ومنه قوله تعالى : "إنا وجدنا آباءنا على أمة" . أي على دين وملة ، ومنه قوله تعالى : "إن هذه أمتكم أمة واحدة" . وقد تكون بمعنى الحين والزمان ، ومنه قوله تعالى : "وادكر بعد أمة" . أي بعد حين وزمان : هذه أمة زيد ، أي أم زيد . والأمة أيضاً : القامة ، يقال : فلان حسن الأمة ، أي حسن القامة ، قال :
وإن معاوية الأكرميـ ن حسان الوجوه طوال الأمم
وقيل :الأمة الشجة التي تبلغ أم الدماغ ،يقال : رجل مأموم وأميم .
قوله تعالى : "وأرنا مناسكنا" أرنا من رؤية البصر ، فتتعدى إلى مفعولين ، وقيل :من رؤية القلب ، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل . قال ابن عطية :وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين كغير المعدى ، قال حطائط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر :
أريني جواداً مات هزلاً لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
وقرأ عمر بن عبد العزيز و قتادة و ابن كثير وابن محيصن و السدي وروح عن يعقوب ورويس والسوسي : ارنا : بسكون الراء في القرآن ، واختاره أبو حاتم . وقرأ أبو عمرو باختلاس كسرة الراء ، والباقون بكسرها ، واختاره أبو عبيد . وأصله ارئنا بالهمز ، فمن قرأ بالسكون قال : ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها ، واستدل بقول الشاعر :
أرنا إداوة عبد الله نملؤها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
ومن كسر فإنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء ، وأبو عمرو طلب الخفة . وعن شجاع بن ابي نصر وكان أميناً صادقاً أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فذاكره أشياء من حروف أبي عمرو فلم يرد عليه إلا حرفين : هذا ، والآخر ما ننسخ من آية أو ننسأها مهموزاً .
قوله تعالى : "مناسكنا" يقال : إن أصل النسك في اللغة الغسل ، يقال منه : نسك ثوبه إذا غسله . وهو في الشرع اسم للعبادة ، يقال: رجل ناسك إذا كان عابداً .
واختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا ، فقيل : مناسك الحج ومعالمه ، قاله قتادة و السدي . وقال مجاهد وعطاء و ابن جريج : المناسك المذابح ، أي مواضع الذبح . وقيل : جميع المتعبدات . وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منسك ومنسك . والناسك : كالعابد . قال النحاس : يقال نسك ينسك ، فكان يجب أن يقال على هذا :منسك ، إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل . وعن زهير بن محمد قال :لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام قال : أي رب ، قد فرغت فأرنا مناسكنا ، فبعث الله تعالى إليه جبريل فحج به ، حتى إذا رجع من عرفة وجاء يوم النحر عرض له إبليس ، فقال له : أحصبه ، فحصبه بسبع حصيات ، ثم الغد ثم اليوم الثالث ، ثم علا ثبيراً فقال : يا عباد الله ، أجيبوا ، فسمع دعوته من بين الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، فقال : لبيك ، اللهم لبيك ، قال : ولم يزل على وجه الأرض سبعة مسلمون فصاعداً ، لولا ذلك لأهلكت الأرض ومن عليها . وأول من أجابه أهل اليمن . وعن ابي مجلز قال : لما فرغ إبراهيم من البيت جاءه جبريل عليه السلام فأراه الطواف بالبيت ـ قال : وأحسبه قال : والصفا والمروة ـ ثم انطلقا إلى العقبة فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات ، فرمى وكبر ، وقال لإبراهيم : ارم وكبر ، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أقل الشيطان . ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى ، فعرض لهما الشيطان ، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات ، وقال : ارم وكبر ،فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان . ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان ، أخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات وقال : ارم وكبر ، فرميا مع كل رمية حتى أفل الشيطان . ثم أتى به جمعاً فقال : ها هنا يجمع الناس الصلوات . ثم أتى به عرفات فقال عرفت ؟ نعم ، فمن ثم سمي عرفات . وروي أنه قال له : عرفت ، عرفت ، عرفت ؟ أي منىً والجمع وهذا ، فقال نعم ، فسمي ذلك المكان عرفات . وعن خصيف بن عبد الرحمن أن مجاهداً حدثه قال : لما قال إبراهيم عليه السلام : "وأرنا مناسكنا" أي الصفا والمروة ، وهما من شعائر الله بنص القرآن ، ثم خرج به جبريل ، فلما مر بجمرة العقبة إذا إبليس عليها ، فقال له جبريل : كبر وارمه ، فارتفع إبليس إلى الوسطى ، فقال جبريل : كبر وارمه ، ثم في الجمرة القصوى ذلك . ثم انطلق به إلى المشعر الحرام ، ثم أتى به عرفة فقال له : هل عرفت ما أريتك ؟ قال نعم ، فسميت عرفات لذلك فيما قيل ، قال : فأذن في الناس بالحج ، قال : كيف أقول ؟ قال قل : يا ايها الناس ، أجيبوا ربكم ، ثلاث مرار ، ففعل ، فقالوا : لبيك اللهم لبيك . قال : فمن أجاب يومئذ فهو حاج . وفي رواية أخرى : أنه حين نادي استدار فدعا في كل وجه ، فلبى الناس من كل مشرق ومغرب ، وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته . وقال محمد بن إسحاق : لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه من بناء البيت الحرام جاءه جبريل عليه السلام فقال له : طف به سبعاً ، فطاف به سبعاً هو وإسماعيل عليهما السلام ، يستلمان الأركان كلها في كل طواف ، فلما أكملا سبعاً صليا خلف المقام ركعتين . قال : فقام جبريل فأراه المناسك كلها : الصفا والمروة ومنى والمزدلفة . قال : فلما دخل منىً وهبط من العقبة تمثل له إبليس ... ، فذكر نحو ما تقدم . قال ابن إسحاق : وبلغني أن آدم عليه السلام كان يستلم الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام . وقال : حج إسحاق وسارة من الشام ، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سنة على البراق ، وحجته بعد ذلك الأنبياء والأمم . وروى محمد بن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو ومن آمن معه حتى يموتوا فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر" . وذكر ابن وهب أن شعيباً مات بمكة هو ومن معه من المؤمنين ، فقبورهم في غربي مكة بين دار الندوة وبين بني سهم . وقال ابن عباس : في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما ، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام ، فقبر إسماعيل في الحجر ، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود . وقال عبد الله بن ضمرة السلولي : ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبياً جاؤوا حجاجاً فقبروا هنالك ، صلوات الله عليهم أجمعين .
قوله تعالى : "وتب علينا" اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وتب علينا وهم أنبياء معصومون ، فقالت طائفة : طلبا التثبيت والدوام ، لا أنهما كان لهما ذنب .
قلت : وهذا حسن ، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة . وقيل المعنى وتب على الظلمة منا . وقد مضى الكلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام في قصة آدم عليه السلام ، وتقدم القول في معنى قوله : "إنك أنت التواب الرحيم" فأغنى عن إعادته .
وقوله تعالى: " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر " قال الإمام أبو جعفر بن جرير: أخبرنا ابن بشار قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، أخبرنا سفيان عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم بيت الله وأمنه، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها" وهكذا رواه النسائي عن محمد بن بشار ، عن بندار به، وأخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو بن الناقد كلاهما عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان الثوري، وقال ابن جرير أيضاً: أخبرنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: حدثنا ابن إدريس، وأخبرنا أبو كريب، أخبرنا عبد الرحيم الرازي، قالا جميعاً: سمعنا أشعث عن نافع، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم كان عبد الله وخليله، وإني عبد الله ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها: عضاهها وصيدها، لا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يقطع منها شجرة إلا لعلف بعير " وهذه الطريق غريبة ليست في شيء من الكتب الستة، وأصل الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمر، جاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اللهم بارك لنا في ثمرنا، وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك، وإنه دعاك لمكة، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة، ومثله معه" ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر وفي لفظ "بركة مع بركة" ثم يعطيه أصغر من يحضره من الولدان ـ لفظ مسلم، ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب، حدثنا قتيبة بن سعيد، أخبرنا بكر بن مضر عن ابن الهاد، عن أبي بكر بن محمد، عن عبد الله بن عمرو بن عثمان، عن رافع بن خديجن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم ما بين لابتيها" إنفرد بإخراجه مسلم، فرواه عن قتيبة عن بكر بن مضر به، ولفظه كلفظه سواء، وفي الصحيحين "عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل، وقال في الحديث: ثم أقبل حتى إذا بدا له أحد قال: هذا جبل يحبنا ونحبه فلما أشرف على المدينة قال: اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثلما حرم به إبراهيم مكة، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم" وفي لفظ لهما "اللهم بارك لهم في مكيالهم، وبارك لهم في صاعهم، وبارك لهم في مدهم" زاد البخاري يعني أهل المدينة ولهما أيضاً عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة" وعن عبد الله بن زيد بن عاصم رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لها، وحرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، ودعوت لها في مدها وصاعها مثل ما دعا إبراهيم لمكة" رواه البخاري وهذا لفظه، ولمسلم ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة، وإني دعوت لها في صاعها ومدها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكة" وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها، أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف، اللهم بارك لنا في مدينتنا، اللهم بارك لنا في صاعنا، اللهم بارك لنا في مدنا، اللهم اجعل مع البركة بركتين" الحديث، رواه مسلم، والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة، وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة، لما في ذلك من مطابقة الاية الكريمة. وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل، وقيل: إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض، وهذا أظهر وأقوى، والله يعلم.
وقد وردت أحاديث أخر تدل على أن الله تعالى حرم مكة قبل خلق السموات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يعضد شوكه، ولا ينفر صيده، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ولا يختلى خلاها" فقال العباس: يا رسول الله: إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: "إلا الإذخر" وهذا لفظ مسلم، ولهما عن أبي هريرة نحو من ذلك، ثم قال البخاري بعد ذلك: وقال أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم، عن صفية بنت شيبة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وهذا الذي علقه البخاري رواه الإمام أبو عبد الله بن ماجه عن محمد بن عبد الله بن نمير، عن يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن الحسن بن مسلم بن يناق، عن صفية بنت شيبة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب عام الفتح، فقال: "يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يأخذ لقطتها إلا منشد" فقال العباس: إلا الإذخر ، فإنه للبيوت والقبور ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر" وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة: إئذن لي أيها الأمير أن أحادثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح، سمعته أذناي، ووعاه قلبي، وأبصرته عيناي حين تكلم به ـ إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الاخر أن يسفك بها دماً، ولا يعضد بها شجرة، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم. وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد الغائب" فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو ؟ قال: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة، رواه البخاري ومسلم وهذا لفظه.
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، وبين الأحاديث الدالة على أن إبراهيم عليه السلام حرمها، لأن إبراهيم بلغ عن الله حكمه فيها وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلداً حراماً عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوباً عند الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام "ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم" الاية، وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره. ولهذا جاء في الحديث أنهم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن بدء أمرك. فقال: "دعوة أبي إبراهيم عليه السلام، وبشرى عيسى بن مريم، ورأت أمي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" أي أخبرنا عن بدء ظهور أمرك، كما سيأتي قريباً إن شاء الله.
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور ، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه، فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة. وقوله تعالى إخباراً عن الخليل أنه قال: "رب اجعل هذا بلداً آمناً" أي من الخوف أي لا يرعب أهله، وقد فعل الله ذلك شرعاً وقدراً، كقوله تعالى: "ومن دخله كان آمناً" وقوله: " أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم " إلى غير ذلك من الايات، وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه. وفي صحيح مسلم عن جابر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح" وقال في هذه السورة "رب اجعل هذا بلداً آمناً" أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً وناسب هذا لأنه قبل بناء الكعبة وقال تعالى في سورة إبراهيم "وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً" وناسب هذا هناك لأنه والله أعلم كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سنا من إسماعيل بثلاث عشرة سنة ولهذا قال في آخر الدعاء "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق، إن ربي لسميع الدعاء" وقوله تعالى " وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير " قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب "قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال هو قول الله تعالى وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه الله قال وقرأ آخرون "قال ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم كما رواه أبو جعفر عن الربيع عن أبي العالية قال كان ابن عباس يقول ذلك قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلا وقال أبو جعفر عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد "ومن كفر فأمتعه قليلاً" يقول ومن كفر فأرزقه قليلا أيضا "ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" قال محمد بن إسحاق لما عزل لإبراهيم الدعوة على من أبى الله أن يجعل له الولاية انقطاعا إلى الله ومحبته وفراقا لمن خالف أمره وإن كانوا من ذريته حين عرف أنه كائن منهم ظالم لا يناله عهده بخبر الله له بذلك قال الله ومن كفر فإني أرزق البر والفاجر وأمتعه قليلا وقال حاتم بن إسماعيل عن حميد الخراط عن عمار الدهني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى " رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر " قال ابن عباس كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس فأنزل الله ومن كفر أيضا أرزقهم كما أرزق المؤمنين أأخلق خلقا لا أرزقهم أمتعهم قليلا ثم أضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير ثم قرأ ابن عباس "كلاً نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً" رواه ابن مردويه وروي عن عكرمة ومجاهد نحو ذلك أيضا وهذا كقوله تعالى "إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون " وقوله تعالى: "ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور * نمتعهم قليلاً ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ " وقوله: " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون * ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون * وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين " وقوله: "ثم أضطره إلى عذاب النار وبئس المصير" أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا وبسطنا عليه من ظلها إلى عذاب النار وبئس المصير ، ومعناه أن الله تعالى ينظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى: "وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير" وفي الصحيحين "لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم" وفي الصحيح أيضاً "إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ثم قرأ قوله تعالى: "وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد" وقرأ بعضهم "قال ومن كفر فأمتعه قليلاً" الاية، جعله من تمام دعاء إبراهيم وهي قراءة شاذة مخالفة للقراء السبعة، وتركيب السياق يأبى معناها، والله أعلم، فإن الضمير في قال: راجع إلى الله تعالى في قراءة الجمهور ، والسياق يقتضيه، وعلى هذه القراءة الشاذة يكون الضمير في قال عائداً على إبراهيم، وهذا خلاف نظم الكلام، والله سبحانه هو العلام.
وأما قوله تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم" فالقواعد جمع قاعدة وهي السارية والأساس، يقول تعالى: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت ورفعهما القواعد منه، وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" وحكى القرطبي وغيره عن أبي وابن مسعود أنهما كانا يقرآن " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم "، (قلت) ويدل على هذا قولهما بعده "ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" الاية، فهما في عمل صالح، وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما، كما روى ابن أبي حاتم من حديث محمد بن يزيد بن خنيس المكي عن وهيب بن الورد أنه قرأ "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا" ثم يبكي ويقول: يا خليل الرحمن ترفع قوائم بيت الرحمن وأنت مشفق أن لا يتقبل منك. وهذا كما حكى الله تعالى عن حال المؤمنين الخلص في قوله "والذين يؤتون ما آتوا" أي يعطون ما أعطوا من الصدقات والنفقات والقربات "وقلوبهم وجلة" أي خائفة أن ألا يتقبل منهم، كما جاء به الحديث الصحيح عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في موضعه. وقال بعض المفسرين: الذي كان يرفع القواعد هو إبراهيم والداعي إسماعيل، والصحيح أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه. وقد روى البخاري ههنا حديثا سنورده ثم نتبعه بآثار متعلقة بذلك، قال البخاري رحمه الله حدثنا عبد الله بن محمد، أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن أيوب السختياني وكثير بن كثير بن عبد المطلب بن أبي وداعة ـ يزيد أحدهما على الاخر ـ عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل اتخذت منطقاً ليعفى أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل وهي ترضعه، حتى وضعها عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك ووضع عندهما جراباً فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفا إبراهيم منطلقاً فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي ليس فيه أنيس ؟ ولا شيء ؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بذا ؟ قال: نعم: قالت: إذاً لا يضيعنا. ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه، فقال "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" حتى بلغ "يشكرون" وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظر إليه يتلوى ـ أو قال: يتلبط ـ فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي: رفعت طرف درعها ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً، فلم تر أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فلذلك سعى الناس بينهما" فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت صه ـ تريد نفسها ـ ثم تسمعت فسمعت أيضاً، فقالت: قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالملك عند موضع زمزم فبحث بعقبه، أو قال: بجناحه، حتى ظهر الماء، فجعلت تحوطه وتقول بيدها هكذا، وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم ـ أو قال: لو لم تغرف من الماء ـ لكانت زمزم عيناً معيناً" قال: فشربت وأرضعت ولدها، فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة، فإن ههنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه وإن الله لا يضيع أهله، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائراً عائفاً، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جرياً أو جريين، فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبرهم بالماء ، فأقبلوا، قال: وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء عندنا، قالوا: نعم، قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس" فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم، وأنفسهم وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم، وماتت أم إسماعيل فجاء إبراهيم بعدما تزوج إسماعيل ليطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشر ، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام، وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل، كأنه أنس شيئاً، فقال: هل جاءكم من أحد ؟ قالت: نعم، جاءنا شيخ كذا وكذا، فسألنا عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة، قال: فهل أوصاك بشيء ؟ قالت: نعم، أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غير عتبة بابك، قال: ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقكن فالحقي بأهلكن وطلقها وتزوج منهم بأخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد، فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا، قال: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بخير وسعة، وأثنت على الله عز وجل، قال: ما طعامكم ؟ قالت: اللحم، قال: فما شرابكم ؟ قالت: الماء. قال: اللهم بارك لهم في اللحم والماء ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم لدعا لهم فيه" قال: فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من أحد ؟ قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عليه، فسألني عنك فأخبرته، فسألني كيف عيشنا ؟ فأخبرته أنا بخير ، قال: فأوصاك بشيء ؟ قالت: نعم، وهو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي وأنت العتبة، أمرني أن أمسكك، ثم لبث عنهم ما شاء الله، ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة قريباً من زمزم، فلما رآه قام إليه، وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر ، قال: فاصنع ما أمرك ربك، قال: وتعينني ؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني ههنا بيتاً، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال: فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، ورواه عبد بن حميد عن عبد الرزاق به مطولاً، ورواه ابن أبي حاتم عن أبي عبد الله بن حماد الطبراني، وابن جرير عن أحمد بن ثابت الرازي، كلاهما عن عبد الرزاق به مختصراً.
وقال أبو بكر بن مردويه: أخبرنا إسماعيل بن علي، أخبرنا بشر بن موسى، أخبرنا أحمد بن محمد الأزرقي، أخبرنا مسلم بن خالد الزنجي عن عبد الملك بن جريج، عن كثير بن كثير ، قال: كنت أنا وعثمان بن أبي سليمان وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين في ناس مع سعيد بن جبير في أعلى المسجد ليلاً، فقال سعيد بن جبير : سلوني قبل أن لا تروني، فسألوه عن المقام، فأنشأ يحدثهم عن ابن عباس، فذكر الحديث بطوله.
ثم قال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو، أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان، خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء، فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها، حتى قدم مكة، فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء، نادته من ورائه: يا إبراهيم، إلى من تتركنا ؟ قال: إلى الله، قال: فرجعت فجعلت تشرب من الشنة ويدر لبنها على صبيها، حتى لما فني الماء قالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فصعدت الصفا، فنظرت هل تحس أحداً، فلم تحس أحداً فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت، فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت هل تحس أحداً فلم تحس أحداً فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة فجعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت، فلم تقرها نفسها، فقالت: لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً، فذهبت فصعدت الصفا، فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً حتى أتمت سبعاً، ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل، فإذا هي بصوت فقالت: أغث إن كان عندك خير ، فإذا جبريل عليه السلام، قال: فقال بعقبه: هكذا، وغمز عقبه على الأرض، فانبثق الماء، فدهشت أم إسماعيل، فجعلت تحفر ، قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: "لو تركته لكان الماء ظاهراً" قال: فجعلت تشرب من الماء ويدر لبنها على صبيها، قال فمر ناس من جرهم ببطن الوادي، فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك، وقالوا: ما يكون الطير إلا على ماء فبعثوا رسولهم، فنظر فإذا هو بالماء ، فأتاهم فأخبرهم، فأتوا إليها، فقالوا: يا أم إسماعيل، أتأذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك ؟ فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إني مطلع تركتي، قال: فجاء فسلم، فقال: أين إسماعيل ؟ قالت امرأته: ذهب يصيد، قال: قولي له إذا جاء: غير عتبة بابك، فلما أخبرته، قال: أنت ذاك فاذهبي إلى أهلك، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم فقال: إني مطلع تركتي، قال: فجاء فقال: أين إسماعيل ؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد، فقالت: ألا تنزل فتطعم وتشرب ؟ فقال، ما طعامكم، وما شرابكم ؟ فقالت: طعامنا اللحم، وشرابنا الماء، قال: اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم، قال: فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم بركة بدعوة إبراهيم، قال: ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله: إني مطلع تركتي، فجاء فوافق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له، فقال: يا إسماعيل، إن ربك عز وجل أمرني أن أبني له بيتاً: فقال: أطع ربك عز وجل، قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه، فقال: إذن أفعل ـ أو كما قال ـ قال: فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، ويقولان " ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم " قال: حتى ارتفع البناء وضعف الشيخ عن نقل الحجارة، فقام على حجر المقام فجعل يناوله الحجارة ويقولان "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" هكذا رواه من هذين الوجهين في كتاب الأنبياء.
والعجب أن الحافظ أبا عبد الله الحاكم رواه في كتابه المستدرك عن أبي العباس الأصم عن محمد بن سنان القزاز عن أبي علي عبيد الله بن عبد المجيد الحنفي عن إبراهيم بن نافع به، وقال، صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه كذا قال، وقد رواه البخاري كما ترى من حديث إبراهيم بن نافع، وكأن فيه اختصاراً فإنه لم يذكر فيه شأن الذبح، وقال جاء في الصحيح أن قرني الكبش كانا معلقين بالكعبة، وقد جاء أن إبراهيم عليه السلام كان يزور أهله بمكة على البراق سريعاً ثم يعود إلى أهله بالبلاد المقدسة، والله أعلم، إنما فيه مرفوع أماكن صرح بها ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في هذا السياق ما يخالف بعض هذا، كما قال ابن جرير : حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا: أخبرنا مؤمل، أخبرنا سفيان عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي بن أبي طالب، قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت خرج معه إسماعيل وهاجر ، قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس فكلمه قال: يا إبراهيم، ابن على ظلي، أو قال: على قدري، ولا تزد ولا تنقص، فلما بنى خرج وخلف إسماعيل وهاجر ، فقالت هاجر: يا إبراهيم، إلى من تكلنا ؟ قال: إلى الله، قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا، قال: فعطش إسماعيل عطشاً شديداً، قال فصعدت هاجر إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئاً، حتى أتت المروة فلم تر شيئاً، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت فلم تر شيئاً، ففعلت ذلك سبع مرات، فقالت: يا إسماعيل مت حيث لاأراكن فأتته وهو يفحص برجله من العطشن فناداها جبريل فقال لها: من أنت ؟ قالت: أنا هاجر أم ولد إبراهيم، قال: فإلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله، قال: وكلكما إلى كاف، قال: ففحص الغلام الأرض بأصبعه، فنبعت زمزم فجعلت تحبس الماء، فقال: دعيه فإنها رواء ، ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقها، وقد يحتمل أنه كان محفوظاً أن يكون أولا وضع له حوطاً وتحجيراً لا أنه بناه إلى أعلاه، حتى كبر إسماعيل فبنياه معاً كما قال الله تعالى.
ثم قال ابن جرير: أخبرنا هناد بن السري، حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن خالد بن عرعرة: أن رجلاً قام إلى علي رضي الله عنه، فقال: ألا تخبرني عن البيت، أهو أول بيت وضع في الأرض ؟ فقال: لا، ولكنه أول بيت وضع في البركة مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً، وإن شئت أنبأتك كيف بني: إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتاً في الأرض، فضاق إبراهيم بذلك ذرعاً فأرسل الله السكينة وهي ريح خجوج ولها رأسان، فاتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة فتطورت على موضع البيت كطي الحجفة، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة، فبنى إبراهيم وبقي الحجر فذهب الغلام يبغي شيئاً، فقال إبراهيم: أبغني حجراً كما آمرك، قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجراً فأتاه به فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه، قال: يا أبت من أتاك بهذا الحجر ؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك، جاء به جبريل عليه السلام من السماء فأتماه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري، أخبرنا سفيان عن بشر بن عاصم، عن سعيد بن المسيب عن كعب الأحبار ، قال: كان البيت غثاءة على الماء قبل أن يخلق الله الأرض بأربعين عاماً، ومنه دحيت الأرض. قال سعيد: وحدثنا علي بن أبي طالب: أن إبراهيم أقبل من أرض أرمينية ومعه السكينة تدله على تبوء البيت كما تتبوأ العنكبوت بيتاً، قال: فكشفت عن أحجار لا يطيق الحجر إلا ثلاثون رجلاً، فقلت: يا أبا محمد فإن الله يقول "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال: كان ذلك بعد، وقال السدي: إن الله عز وجل أمر إبراهيم أن يبني البيت هو وإسماعيل، ابنيا بيتي للطائفين والعاكفين والركع والسجود. فانطلق إبراهيم حتى أتى مكة فقام هو وإسماعيل وأخذا المعاول لا يدريان أين البيت، فبعث الله ريحاً يقال لها الريح الخجوج، لها جناحان ورأس في صورة حية، فكشفت لهما حول الكعبة عن أساس البيت الأول، واتبعاها بالمعاول يحفران حت وضعا الأساس، فذلك حين يقول تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت"، "وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت" فلما بنيا القواعد فبلغا مكان الركن، قال إبراهيم لإسماعيل: يابني، اطلب لي حجراً حسناً أضعه ههنا. قال: يا أبت إني كسلان لغب، قال: على بذلك، فانطلق يطلب له حجراً فجاءه بحجر فلم يرضه فقال: ائتني بحجر أحسن من هذا فانطلق يطلب له حجراً، وجاءه جبريل بالحجر الأسود من الهند، وكان أبيض ياقوتة بيضاء مثل الثغامة، وكان آدم هبط به من الجنة فاسود من خطايا الناس، فجاءه إسماعيل بحجر فوجده عند الركن، فقال: يا أبت من جاءك بهذا ؟ قال: جاء به من هو أنشط منك، فبنيا وهما يدعوان الكلمات التي ابتلى إبراهيم ربه، فقال "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" وفي هذا السياق ما يدل على أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم، وإنما هدي إبراهيم إليها وبوئ لها، وقد ذهب إلى هذا ذاهبون، كما قال الإمام عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت" قال، القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك، وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا هشام بن حسان عن سوار ختن عطاء، عن عطاء بن أبي رباح، قال: لما أهبط الله آدم من الجنة كانت رجلاه في الأرض ورأسه في السماء، يسمع كلام أهل السماء ودعاءهم يأنس إليهم، فهابت الملائكة حتى شكت إلى الله في دعائها وفي صلاتها، فخفضه الله تعالى إلى الأرض، فلما فقد ما كان يسمع منهم استوحش، حتى شكا ذلك إلى الله في دعائه وفي صلاته، فوجه إلى مكة فكان موضع قدميه قرية، وخطوه مفازة، حتى انتهى إلى مكة وأنزل الله ياقوتة من ياقوت الجنة، فكانت على موضع البيت الان، فلم يزل يطوف به حتى أنزل الله الطوفان، فرفعت تلك الياقوتة، حتى بعث الله إبراهيم عليه السلام فبناه، ذلك قول الله تعالى: " وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت " وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عطاء ، قال: قال آدم: إني لا أسمع أصوات الملائكة، فقال: بخطيئتك، ولكن اهبط إلى الأرض فابن لي بيتاً ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف ببيتي الذي في السماء فيزعم الناس أنه بناه من خمسة أجبل: من حراء وطور زيتا وطور سيناء والجودي، وكان ربضه من حراء ، فكان هذا بناء آدم حتى بناه إبراهيم عليه السلام بعد، وهذا صحيح إلى عطاء ولكن في بعضه نكارة، والله أعلم.
وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا معمر عن قتادة، قال: وضع الله البيت مع آدم حين أهبط الله آدم إلى الأرض، وكان مهبطه بأرض الهند، وكان رأسه في السماء ورجلاه في الأرض، فكانت الملائكة تهابه، فنقص إلى ستين ذراعاً، فحزن آدم إذ فقد أصوات الملائكة وتسبيحهم، فشكا ذلك إلى الله عز وجل، فقال الله: يا آدم إني أهبطت لك بيتاً تطوف به كما يطاف حول عرشي، وتصلي عنده كما يصلى عند عرشي، فانطلق إليه آدم، فخرج ومد له في خطوه، فكان بين كل خطوتين مفازة، فلم تزل تلك المفازة بعد ذلك، فأتى آدم البيت فطاف به ومن بعده من الأنبياء.
وقال ابن جرير: أخبرنا ابن حميد، أخبرنا يعقوب القمى، عن حفص بن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال، وضع الله البيت على أركان الماء على أربعة أركان قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. وقال محمد بن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد وغيره من أهل العلم: إن الله لما بوأ إبراهيم مكان البيت خرج إليه من الشام، وخرج معه إسماعيل وأمه هاجر وإسماعيل طفل صغير يرضع، وحملوا فيما حدثني على البراق، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم، خرج معه جبريل، فكان لا يمر بقرية إلا قال: أبهذه أمرت يا جبريل ؟ فيقول جبريل: امضه، حتى قدم به مكة، وهي إذ ذاك عضاه وسلم وسمر ، وبها أناس يقال لهم: العماليق خارج مكة وما حولها، والبيت يومئذ ربوة حمراء مدرة، فقال إبراهيم لجبريل: أههنا أمرت أن أضعهما ؟ قال: نعم، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشاً، فقال "ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم" إلى قوله: "لعلهم يشكرون" وقال عبد الرزاق: أخبرنا هشام بن حسان، أخبرني حميد، عن مجاهد، قال: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً بألفي سنة، وأركانه في الأرض السابعة، وكذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد: القواعد في الأرض السابعة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، أخبرنا عمرو بن رافع أخبرنا عبد الوهاب بن معاوية عن عبد المؤمن بن خالد، عن علياء بن أحمر: إن ذا القرنين قدم مكة، فوجد إبراهيم وإسماعيل يبنيان قواعد البيت من خمسة أجبل. فقال: ما لكما ولأرضي ؟ فقال: نحن عبدان مأموران، أمرنا ببناء هذه الكعبة. قال: فهاتا البينة على ما تدعيان. فقامت خمسة أكبش فقلن: نحن نشهد أن إبراهيم وإسماعيل عبدان مأموران أمرا ببناء هذه الكعبة. فقال: قد رضيت وسلمت، ثم مضى، وذكر الأزرقي في تاريخ مكة أن ذا القرنين طاف مع إبراهيم عليه السلام بالبيت، وهذا يدل على تقدم زمانه، والله أعلم.
وقال البخاري رحمه الله: قوله تعالى: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" الاية، القواعد: أساسه، واحدها قاعدة، والقواعد من النساء واحدتها قاعدة. حدثنا إسماعيل: حدثني مالك عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألم تري أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا على قواعد إبراهيم ؟" فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم ؟ قال "لولا حدثان قومك بالكفر " فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين يليان الحجر ، إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم عليه السلام. وقد رواه في الحج عن القعنبي، وفي أحاديث الأنبياء عن عبد الله بن يوسف ومسلم، عن يحيى بن يحيى، ومن حديث ابن وهب والنسائي من حديث عبد الرحمن بن القاسم كلهم عن مالك به. ورواه مسلم أيضاً من حديث نافع قال: سمعت عبد الله بن أبي بكر بن أبي قحافة، يحدث عبد الله بن عمر عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية أو قال: بكفر ـ لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله، ولجعلت بابها بالأرض ولأدخلت فيها الحجر " وقال البخاري: أخبرنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن أبي اسحاق، عن الأسود، قال: قال لي ابن الزبير: كانت عائشة تسر إليك حديثاً كثيراً، فما حدثتك في الكعبة ؟ قال: قلت: قالت لي: قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا قومك حديث عهدهم ـ فقال ابن الزبير ـ بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين: باباً يدخل منه الناس، وباباً يخرجون منه" ففعله ابن الزبير، انفرد بإخراجه البخاري فرواه هكذا في كتاب العلم من صحيحه، وقال مسلم في صحيحه: حدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا أبو معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولولا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم، فإن قريشاً حين بنت البيت استقصرت، ولجعلت لها خلفاً" قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وأبو كريب، قالا: أخبرنا ابن نمير عن هشام بهذا الإسناد انفرد به مسلم، قال: وحدثني محمد بن حاتم، حدثني ابن مهدي، أخبرنا سليم بن حيان عن سعيد يعني ابن ميناء، قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول: حدثتني خالتي، يعني عائشة رضي الله عنها، قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا قومك حديثو عهد بشرك، لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض، ولجعلت لها باباً شرقياً، وباباً غربياً، وزدت فيها ستة أذرع من الحجر فإن قريشاً اقتصرتها حيث بنت الكعبة" انفرد به أيضاً.
وقد نقل معهم في الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين. قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثون سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمون بذلك ليسقفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة فأرادوا رفعها وتسقيفها وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة، وإنما كان يكون في بئر في جوف الكعبة، وكان الذي وجد عنده الكنز دويك مولى بني مليح بن عمرو من خزاعة، فقطعت قريش يده، ويزعم الناس أن الذين سرقوه وضعوه عند دويك، وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الرومن فتحطمتن فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها، وكان بمكة رجل قبطي نجار، فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي كانت تطرح فيها ما يهدي لها كل يوم تتشدق على جدار الكعبة وكانت مما يهابون، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزألت وكشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينا هي يوماً تتشدق على جدار الكعبة كما كانت تصنع، بعث الله إليها طائراً فاختطفها فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا، عندنا عامل رفيق، وعندنا خشب، وقد كفانا الله الحية، فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها، قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عبد بن عمران بن مخزوم، فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش، لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس، قال ابن إسحاق: والناس ينتحلون هذا الكلام للوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، قال: ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة، فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم، ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه، فقال الوليد بن المغيرة، أنا أبدؤكم في هدمها، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول: اللهم لم ترع، اللهم إنا لا نريد إلا الخير ، ثم هدم من ناحية الركنين فتربص الناس تلك الليلة، وقالوا: ننظر ، فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً، ورددناها كما كانت، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا، فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله، فهدم وهدم الناس معه، حتى إذا انتهى الهدم بهم إلى الأساس، أساس إبراهيم عليه السلام، أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضاً، قال: فحدثني بعض من يروي الحديث: أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها، أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضاً أحدهما، فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس.
قال ابن إسحاق: ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها، كل قبيلة تجمع على حدة، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن، يعني الحجر الأسود ، فاختصموا فيه كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأخرى، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً، ثم تعاقدوا هم وبنو عدي بن كعب بن لؤي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا لعقة الدم فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وكان عامئذ أسن قريش كلهم، قال: يا معشر قريش، اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد يقضي بينكم فيه، ففعلوا، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلمن فلما رأوه قالوا: هذا الأمين رضينا، هذا محمد. فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم: هلم إلي ثوباً، فأتي به فأخذ الركن، يعني الحجر الأسود، فوضعه فيه بيده، ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ثم بني عليه، وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل الوحي الأمين فلما فرغوا من البنيان وبنوها على ما أرادوا، قال الزبير بن عبد المطلب، فيما كان من أمر الحية التي كانت قريش تهاب بنيان الكعبة لها:
عجبت لما تصوبت العقاب إلى الثعبان وهي لها اضطراب
وقد كانت يكون لها كشيش وأحياناً يكون لها وثاب
إذا قمنا إلى التأسيس شدت تهيبنا البناء وقد تهاب
فلما إن خشينا الرجز جاءت عقاب تتلئب لها انصباب
فضمتها إليها ثم خلت لنا البنيان ليس له حجاب
فقمنا حاشدين إلى بناء لنا منه القواعد والتراب
غداة نرفع التأسيس منه وليس على مساوينا ثياب
أعز به المليك بني لؤي فليس لأصله منهم ذهاب
وقد حشدت هناك بنو عدي ومرة قد تقدمها كلاب
فبوأنا المليك بذاك عزاً وعند الله يلتمس الثواب
قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشر ذراعاً، وكانت تكسى القباطي، ثم كسيت بعد البرود، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف، (قلت) ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية، لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام، وأدخل فيها الحجر، وجعل لها باباً شرقياً وباباً غربياً ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه: أخبرنا هناد بن السري، أخبرنا ابن أبي زائدة، أخبرنا ابن أبي سليمان عن عطاء، قال: لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام، فكان من أمره ما كان، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم، يريد أن يحزبهم أو يجيرهم على أهل الشام, فلما صدر الناس قال: يأيها الناس، أشيروا علي في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها، أو أصلح ما وهي منها ؟ قال ابن عباس: فإني قد خرق لي رأي فيها، أرى أن تصلح ما وهي منها، وتدع بيتاً أسلم الناس عليه، وأحجاراً أسلم الناس عليها، وبعث عليها صلى الله عليه وسلم، فقال ابن الزبير: لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده، فكيف بيت ربكم عز وجل ؟ إني مستخير ربي ثلاثاً، ثم عازم على أمري، فلما مضت ثلاث، أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء، حتى صعده رجل فألقى منه حجارة، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض، فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه، وقال ابن الزبير: إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع، ولجعلت له باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه" قال: فأنا أجد ما أنفق، ولست أخاف الناس، قال: فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر حتى أبدي له أساً، فنظر الناس إليه، فبنى عليه البناء، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعاً فلما زاد فيه اسقصره فزاد في أوله عشرة أذرع وجعل له بابين: أحدهما يدخل منه، والاخر يخرج منه. فلما قتل ابن الزبير ، كتب الحجاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة: فكتب إليه عبد الملك: إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاده في طوله فأقره، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد الباب الذي فتحه، فنقضه وأعاده إلى بنائه، وقد رواه النسائي في سننه عن هناد، عن يحيى بن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن ابن الزبير عن عائشة بالمرفوع منه، ولم يذكر القصة وقد كانت السنة إقراراً ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، لأنه هو الذي وده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر ، ولكن خفيت هذه السنة على عبد الملك بن مروان، ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: وددنا أنا تركناه وما تولى، كما قال مسلم: حدثني محمد بن حاتم، حدثنا محمد بن بكر ، أخبرنا ابن جريج: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير والوليد بن عطاء يحدثان عن الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، قال عبد الله بن عبيد: وفد الحارث بن عبد الله على عبد الملك بن مروان في خلافته، فقال عبد الملك: ما أظن أبا حبيب، يعني ابن الزبير، سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث: بلى، أنا سمعته منها. قال: سمعتها تقول ماذا ؟ قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن قومك استقصروا من بنيان البيت، ولولا حداثة عهدهم بالشرك أعدت ما تركوا منه، فإن بدا لقومك من بعدي أن يبنوه، فهلمي لأريك ما تركوه منه" فأراها قريباً من سبعة أذرع، هذا حديث عبد الله بن عبيد بن عمير ، وزاد عليه الوليد بن عطاء قال النبي صلى الله عليه وسلم ولجعلت لها بابين موضوعين في الأرض: شرقياً وغربياً، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها قالت: لا. قال تعززاً أن لا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه حتى يرتقي، حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط قال عبد الملك: فقلت للحارث: أنت سمعتها تقول هذا ؟ قال: نعم، قال فنكت ساعة بعصاه، ثم قال: وددت أني تركته وما تحمل. قال مسلم: وحدثنا محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا أبو عاصم(ح)، وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق كلاهما عن ابن جريج بهذا الإسناد مثل حديث أبي بكر ، قال: وحدثنا محمد بن حاتم، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حاتم بن أبي صغيرة عن أبي قزعة: أن عبد الملك بن مروان بينما هو يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين، يقول سمعتها تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عائشة لولا حدثان قومك بالكفر لنقضت الكعبة حتى أزيد فيها من الحجر . فإن قومك قصروا في البناء" فقال الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين، فإني سمعت أم المؤمنين تحدث هذا. قال: لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على ما بنى ابن الزبير ، فهذا الحديث كالمقطوع به إلى عائشة، لأنه قد روي عنها من طرق صحيحة متعددة عن الأسود بن يزيد والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن محمد بن أبي بكر وعروة بن الزبير ، فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير ، فلو ترك لكان جيداً.
ولكن بعدما رجع الأمر إلى هذا الحال، فقد كره بعض العلماء أن يغير عن حاله كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي أنه سأل الإمام مالكاً عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير. فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها، فترك ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي ولا تزال ـ والله أعلم ـ هكذا إلى آخر الزمانن إلى أن يخربها ذو السويقتين من الحبشة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" أخرجاه، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم "كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً" رواه البخاري، وقال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده: أخبرنا أحمد بن عبد الملك الحرانين أخبرنا محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح، عن مجاهدن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حليتها، ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله" ـ الفدع: زيغ بين القدم وعظم الساق ـ وهذا، والله أعلم، إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج، لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج".
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام "ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم" قال ابن جرير: يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، ولا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك، ولا في العبادة غيرك، وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبي، أخبرنا إسماعيل عن رجاء ابن حبان الحصني القرشي، أخبرنا معقل بن عبيد الله عن عبد الكريم "واجعلنا مسلمين لك" قال: مخلصين لك، "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" قال: مخلصة، وقال أيضاً: أخبرنا علي بن الحسين، أخبرنا المقدمي، أخبرنا سعيد بن عامر عن سلام بن أبي مطيع في هذه الاية "واجعلنا مسلمين" قال: كانا مسلمين، ولكنهما سألاه الثبات. وقال عكرمة "ربنا واجعلنا مسلمين لك" قال الله: قد فعلت، "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" قال الله: قد فعلت. وقال السدي "ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" يعنيان العرب. قال ابن جرير : والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيلن وقد قال الله تعالى: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"، (قلت) وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي، فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم، والسياق إنما هو العرب، ولهذا قال بعده "ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" الاية. والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم كما قال تعالى: "هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم" ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" وغير ذلك من الأدلة القاطعة، وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما " وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً، فإن من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده لا شريك له. ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام "إني جاعلك للناس إماماً" قال "ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين" وهو قوله " واجنبني وبني أن نعبد الأصنام " وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" "وأرنا مناسكنا" قال ابن جرير عن عطاء "وأرنا مناسكنا" أخرجها لنا علمناها، وقال مجاهد "أرنا مناسكنا" مذابحنا. وروي عن عطاء أيضاً وقتادة نحو ذلك. وقال سعيد بن منصور : أخبرنا عتاب بن بشير عن خصيف، عن مجاهد ، قال: قال إبراهيم "أرنا مناسكنا" فأراه جبرائيل فأتى به البيت، فقال: ارفع القواعد، فرفع القواعد وأتم البنيان ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به إلى الصفا، قال: هذا من شعائر الله، ثم انطلق به إلى المروة، فقال: وهذا من شعائر الله، ثم انطلق به نحو منى، فلما كان من العقبة إذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كبر وارمه، فكبر ورماه، ثم انطلق إبليس فقام عند الجمرة الوسطى، فلما جاز به جبريل وإبراهيم قال له: كبر وارمه، فكبر ورماه، فذهب الخبيث إبليس وكان الخبيث أراد أن يدخل في الحج شيئاً، فلم يستطع، فأخذ بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام، فقال: هذا المشعر الحرام، فأخذ بيد إبراهيم أتى به عرفات، قال: قد عرفت ما أريتك ؟ قالها ثلاث مرات، قال: نعم. وروي عن أبي مجلز وقتادة نحو ذلك، وقال أبو داود الطيالسي: أخبرنا حماد بن سلمة عن أبي العاصم الغنوي، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس، قال: إن إبراهيم لما أري أوامر المناسك، عرض له الشيطان عند المسعى، فسابقه إبراهيم ثم انطلق به جبريل حتى أتى به منى، قال: هذا مناخ الناس، فلما انتهى إلى جمرة العقبة تعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أتى به إلى الجمرة القصوى فعرض له الشيطان، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب فأتى به جميعاً، فقال: هذا المشعر ، ثم أتى به عرفة، فقال: هذه عرفة، فقال له جبريل: أعرفت ؟.
وقوله: 128- "واجعلنا مسلمين لك" أي اجعلنغا ثابتين عليه أو زدنا منه- قيل: المراد بالإسلامه هنا مجموع الإيمان والأعمال. وقوله: "ومن ذريتنا" أي واجعل من ذريتنا، ومن للتبعيض أو للتبيين. وقال ابن جرير: إنه أراد بالذرية العرب خاصة، وكذا قال السهلي. قال ابن عطية: وهذا ضعيف لأن دعوته ظهرت في العرب وغيرهم من الذين آمنوا به. والأمة: الجماعة في هذا الموضع، وقد تطلق على الواحد، ومنه قوله تعالى: "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله" وتطلق على الدين ومنه "إنا وجدنا آباءنا على أمة" وتطلق على الزمان، ومنه: "وادكر بعد أمة". وقوله: "وأرنا مناسكنا" هي من الرؤية البصرية. وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن وغيرهم أرنا بسكون الراء، ومنه قول الشاعر:
أرنا إداوة عبد الله يملؤها من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا
والمناسك جمع نسك، وأصله في اللغة: الغسل، يقال: نسك ثوبه: إذا غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة، والمراد هنا مناسك الحج، وقيل: مواضع الذبح، وقيل: جميع المتعبدات. وقوله: "وتب علينا" قيل: المراد بطلبهما للتوبة التثبيت، لأنهما معصومان لا ذنب لهما، وقيل: المراد تب على الظلمة منا.
وقد أخرج ابن جرير عن عطاء قال: "وعهدنا إلى إبراهيم" أي أمرناه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "أن طهرا بيتي" قال: من الأوثان. وأخرج أيضاً عن مجاهد وسعيد بن جبير مثله، وزادوا الريب وقول الزور والرجس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إذا كان قائماً فهو من الطائفين، وإذا كان جالساً فهو من العاكفين، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذين ينامون في المسجد فقال: هم العاكفون. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها" أخرجه أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم من حديث جابر. وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق جماعة من الصحابة، منهم رافع بن خديج عند مسلم وغيره، ومنهم أبو قتادة عند أحمد، ومنهم أنس عند الشيخين، ومنهم أبو هريرة عند مسلم، ومنهم علي بن أبي طالب عند الطبراني في الأوسط ومنهم أسامة بن زيد عند أحمد والبخاري، ومنهم عائشة عند البخاري. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض وهي حرام إلى يوم القيامة". أخرجه البخاري تعليقاً، وابن ماجه من حديث صفية بنت شيبة. وأخرجه الشيخان وغيرهما من حديث ابن عباس. وأخرجه الشيخان وأهل السنن من حديث أبي هريرة، وفي الباب أحاديث غير ما ذكرنا، ولا تعارض بين هذه الأحاديث، فإن إبراهيم عليه السلام لما بلغ الناس أن الله حرمها وأنها لم تزل حرماً آمناً نسب إليه أنه حرمها: أي أظهر للناس حكم الله فيها، وإلى هذا الجمع ذهب ابن عطية وابن كثير. وقال ابن جرير: إنها كانت حراماً ولم يتعبد الله الخلق بذلك حتى سأله إبراهيم فحرمها وتعبدهم بذلك انتهى. وكلا الجمعين حسن. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي قال: بلغني أنه لما دعا إبراهيم للحرم فقال: "وارزق أهله من الثمرات" نقل الله الطائف من فلسطين. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم والأزرقي عن الزهري. وأخرج نحوه أيضاً الأزرقي عن بعض ولد نافع بن جبير بن مطعم. وقد أخرج الأزرقي نحوها مرفوعاً من طريق محمد بن المنكدر. وأخرج أيضاً عن محمد بن كعب القرظي قال: دعا إبراهيم للمؤمنين وترك الكفار ولم يدع لهم بشيء، قال الله: "ومن كفر فأمتعه" الآية. وأخرج نحوه سفيان بن عيينة عن مجاهد. وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "من آمن منهم بالله" قال: كأن إبراهيم احتجزها على المؤمنين دون الناس، فأنزل الله "ومن كفر" أيضاً فأنا أرزقهم كما أرزق المؤمنين، أخلق خلقاً لا أرزقهم أمتعهم قليلاً ثم أضطرهم إلى عذاب النار، ثم قرأ ابن عباس: "كلا نمد هؤلاء وهؤلاء" الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: قال أبي بن كعب في قوله: "ومن كفر" أن هذا من قول الرب. وقال ابن عباس: هذا من قول إبراهيم يسأل ربه أن من كفر فأمتعه قليلاً. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: القواعد أساس البيت. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري وابن جرير وغيرهم عن سعيد بن جبير قصة مطولة وآخرها في بناء البيت، قال: فعند ذلك رفع إبراهيم القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له، فقام عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان: "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "وإذ يرفع إبراهيم القواعد" قال: القواعد التي كانت قواعد البيت قبل ذلك. وقد أكثر المفسرون في تفسير هذه الآية من نقل أقوال السلف في كيفية بناء البيت، ومن أي أحجار الأرض بني، وفي أي زمان عرف، ومن حجه؟ وما ورد فيه من الأدلة الدالة على فضله أو فضل بعضه كالحجر الأسود. وفي الدر المنثور من ذلك ما لم يكن في غيره فليرجع إليه، وفي تفسير ابن كثير بعض من ذلك، ولما لم يكن ما ذكروه متعلقاً بالتفسير لم نذكره. وأخرج ابن أبي حاتم عن سلام بن أبي مطيع في هذه الآية "ربنا واجعلنا مسلمين لك" قال: كانا مسلمين ولكن سألاه الثبات. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم، قال: مخلصين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله: "ومن ذريتنا" قال: يعنيان العرب. وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قال إبراهيم رب أرنا مناسكنا، فأتاه جبريل فأتى به البيت فقال: ارفع القواعد، فرفع القواعد وأتم البنيان، ثم أخذ بيده فأخرجه فانطلق به نحو منى، فلما كان عند العقبة فإذا إبليس قائم عند الشجرة، فقال: كبر وارمه، فكبر ورماه، فذهب إبليس حتى أتى الجمرة الوسطى ففعل به إبراهيم كما فعل في الأولى، ثم كذلك في الجمرة الثالثة، ثم أخذ جبريل بيد إبراهيم حتى أتى به المشعر الحرام فقال: هذا المشعر الحرام، ثم ذهب حتى أتى به عرفات، قال: وقد عرفت ما أريتك؟ قالها ثلاثاً، قال: نعم، قال: فأذن في الناس بالحج، قال: كيف أؤذن؟ قال: قل: يا أيها الناس أجيبوا ربكم ثلاث مرات، فأجاب العبد: لبيك الله لبيك، فمن أجاب إبراهيم يومئذ من الخلق فهو حاج. وأخرج ابن جرير من طريق ابن المسيب عن علي قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال: قد فعلت أي رب فأرنا مناسكنا: أبرزها لنا علمناها، فبعث الله جبريل فحج به، وفي الباب آثار كثيرة عن السلف من الصحابة ومن بعدهم تتضمن أن جبريل أرى إبراهيم المناسك، وفي أكثرها أن الشيطان تعرض له كما تقدم عن مجاهد. وقد أخرج ابن خزيمة والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس نحو ذلك، وكذلك أخرج عنه أحمد وابن أبي حاتم والبيهقي.
128. " ربنا واجعلنا مسلمين لك " موحدين مطيعين مخلصين خاضعين لك.
" ومن ذريتنا " أي أولادنا " أمة " جماعة والأمة أتباع الأنبياء " مسلمة لك " خاضعة لك.
" وأرنا " علمنا وعرفنا، قرأ ابن كثير ساكنة الراء و أبو عمرو بالاختلاس والباقون بكسرها ووافق ابن عامر و أبو بكر في الاسكان في حم السجدة، وأصله أرئنا فحذفت الهمزة طلباً للخفة ونقلت حركتها إلى الراء ومن سكنها قال: ذهبت الهمزة فذهبت حركتها، " مناسكنا " شرائع ديننا وألام حجنا.
وقيل: مواضع حجنا، وقال مجاهد : مذابحنا والنسك الذبيحة، وقيل: متعبداتنا، وأصل النسك العبادة، والناسك العابد فأجاب الله تعالى دعاءهما فبعث جبريل فأراهما المناسك في يوم عرفة فلما بلغ عرفات قال: عرفت يا إبراهيم؟ قال: نعم فسمى الوقت عرفة والموضع عرفات.
" وتب علينا " تجاوز عنا " إنك أنت التواب الرحيم ".
128-" ربنا واجعلنا مسلمين لك " مخلصين لك ، من أسلم وجهه ، أو مستسلمين من أسلم إذا استسلم وانقاد ، والمراد طلب الزيادة في الإخلاص والإذعان ، أو الثبات عليه . وقرئ " مسلمين " على أن المراد أنفسهما وهاجر . أو أن التثنية من مراتب الجمع . " ومن ذريتنا أمة مسلمة لك " أي واجعل بعض ذريتنا ، وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ، ولأنهم إذا صلحوا صلح بهم الأتباع ، وخصا بعضهم لما أعلما أن في ذريتهما ظلمة ، وعلما أن الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص والإقبال الكلي على الله تعالى ، فإنه مما يشوش المعاش ، ولذلك قيل : لولا الحمقى لخربت الدنيا ، وقيل : أراد بالأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ،و يجوز أن تكون من للتبيين كقوله تعالى : " وعد الله الذين آمنوا منكم " قدم على المبين وفصل به بين العاطف والمعطوف كما في قوله تعالى : " خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن " . " وأرنا " من رأى بمعنى أبصر ، أو عرف ، ولذلك لم يتجاوز مفعولين " مناسكنا " متعبداتنا في الحج ، أو مذابحنا . والنسك في الأصل غاية العبادة وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة . وقرأ ابن كثير و والسوسي عن أبي عمرو و يعقوب " أرنا " . قياساً على فخذ في فخذ ، وفيه إجحاف لأن الكسرة منقولة من الهمزة الساقطة دليل عليها . وقرأ الدوري عن أبي عمرو بالاختلاس " وتب علينا " استتابة لذريتهما ، أو عما فرط منهما سهواً . ولعلهما قالا هضما لأنفسهما وإرشادً لذريتهما " إنك أنت التواب الرحيم " لمن تاب .
128. Our Lord! And make us submissive unto Thee and of our seed a nation submissive unto Thee, and show us our ways of worship, and relent toward us. Lo! Thou, only Thou, art the Relenting, the Merciful.
128 - Our Lord! make of us Muslims, bowing to they (will), and of our progeny a people Muslim, bowing to thy (will; and show us our places for the celebration of (due) rites; and turn unto us (in mercy); for thou art the oft returning, most merciful.