(ومن) أي لا (يرغب عن ملة إبراهيم) فيتركها (إلا من سفه نفسه) جهل أنها مخلوقة لله يجب عليها عبادته أو استخف بها وامتهنها (ولقد اصطفيناه) اخترناه (في الدنيا) بالرسالة والخلة (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) الذين لهم الدرجات العلى
قوله تعالى ومن يرغب عن ملة ابراهيم الآية قال ابن عيينة روى أن عبدالله بن سلام دعا ابني أخي سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما قد علمتما أن الله تعالى قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فأسلم سلمة وأبي مهاجر فنزلت فيه الآية
قال أبو جعفر: وهذه دعوة إبراهيم وإسمعيل لنبينا محمدصلى الله عليه وسلم خاصة، وهي الدعوة التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول:" أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى ": حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق، عن ثوربن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي:" أن نفراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى صلى الله عليهم وسلم ".
حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا أبو اليمان قال، حدثنا أبو كريب، عن ابن أبي مريم، عن سعيد بن سويد، عن العرباض بن سارية السلمي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إني عند الله في أم الكتاب، خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته. وسوف أنبئكم بتأويل ذلك: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي ".
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية-، وحدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال، حدثني أبي قال، حدثنا الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح قالا جميعًصا، عن سعيد بن سويد ، عن عبد الله بن هلال السلمي، عن عرباض بن سارية السلمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن عرباض بن سارية: أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكر نحوه.
وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم" ، ففعل الله ذلك، فبعث فيهم رسولاً من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد.
حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، هو محمد صلى الله عليه وسلم.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم "، هو محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل له: قد استجيب ذلك، وهو في آخر الزمان.
قال أبو جعفر: ويعني تعالى ذكره بقوله: "يتلو عليهم آياتك": يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه.
القول في تأويل قوله تعالى: " ويعلمهم الكتاب والحكمة".
قال أبو جعفر: ويعنى بـ الكتاب : القرآن.
وقد بينت فيما مضى لم سمي القرآن كتاباً، وما تأويله. وهو قول جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "ويعلمهم الكتاب"، القرآن.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الحكمة التي ذكرها الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم: هي السنة.
ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "والحكمة"، أي السنة.
وقال بعضهم: "الحكمة "، هي المعرفة بالدين والفقه فيه.
ذكر من قال ذلك:حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه في الدين، والاتباع له.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "والحكمة"، قال: الحكمة الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم، يعلمهم إياها. قال: و لم الحكمة، العقل في الدين وقرأ: "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" ( البقرة: 269)، وقال لعيسى: "ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل" ( آل عمران: 48)، قال: وقرأ ابن زيد: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها" (الأعراف: 175)، قال: لم ينتفع بالآيات، حيث لم تكن معها حكمة. قال: أوالحكمة، شيء يجعله الله في القلب، ينور له به.
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في الحكمة أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعرفة بها، وما دل عليه ذلك من نظائره. وهو عندي مأخوذ من الحكم الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل، بمنزلة الجلسة والقعدة من الجلوس والقعود، يقال منه: إن فلاناً لحكيم بين الحكمة، يعني به: إنه لبين الإصابة في القول والفعل.
وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك "، ويعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل قضائك وأحكامك التي تعلمه إياها.
القول في تأويل قوله تعالى: " ويزكيهم".
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى التزكية: التطهير، وأن معنى الزكاة: النماء والزيادة.
فمعنى قوله: "ويزكيهم " في هذا الموضع: ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان، وينميهم ويكثرهم بطاعة الله، كما: حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب "، قال: يعني بالزكاة، طاعة الله والإخلاص.
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج قوله: "ويزكيهم "، قال: يطهرهم من الشرك، ويخلصهم منه.
القول في تأويل قوله تعالى: "إنك أنت العزيز الحكيم ".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إنك يا رب أنت "العزيز" القوي الذي لا يعجزه شيء أراده، فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك؟ و "الحكيم " الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا، ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك.
قوله تعالى : "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه" من استفهام في موضع رفع بالابتداء ، و "يرغب" صلة من . "إلا من سفه نفسه" في موضع الخبر . وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي ، أي وما يرغب ، قالهالنحاس . والمعنى : يزهد فيها وينأى نفسه عنها ، أي عن الملة وهي الدين والشرع . "إلا من سفه نفسه" قال قتادة : هم اليهود والنصارى ، رغبوا عن ملة إبراهيم واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى . قال الزجاج : "سفه" بمعنى جهل ، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها . وقال أبو عبيدة : المعنى أهلك نفسه . وحكى ثعلب والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها . وحكي عن ابي الخطاب ويونس أنها لغة . وقال الأخفش : "سفه نفسه" أي فعل بها من السفه ما صار به سفيهاً . وعنه أيضاً هي لغة بمعنى سفه ، حكاه المهدوي ، والأول ذكره المارودي . فأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى ، قاله المبرد وثعلب . وحكى الكسائي عن الأخفش أن المعنى جهل في نفسه ، فحذفت في فانتصب . قال الأخفش : ومثله "عقدة النكاح" ، أي على عقدة النكاح . وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم : ضرب فلان الظهر والبطن ، أي في الظهر والبطن . الفراء : هو تمييز . قال ابن بحر : معناه جهل نفسه وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعاً ليس كمثله شيء ، فيعلم به توحيد الله وقدرته .
قلت : وهذا هو معنى قول الزجاج فيفكر في نفسه من يدي يبطش بهما ، ورجلين يمشي عليهما وعين يبصر بها ، وأذن يسمع بها ، ولسان ينطق به ، وأضراس تنبت له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام ، ومعدة أعدت لطبخ الغذاء ، وكبد يصعد إليها صفوة ، وعروق ومعابر ينفذ فيها إلى الأطراف ، وأمعاء يرسب إليها ثقل الغذاء ويبرز من اسفل البدن ، فيستدل بهذا على أن له خالقاً قادراً عليماً حكيماً ، وهذا معنى قوله تعالى : "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" . أشار إلى هذا الخطابي رحمه الله تعالى . وسيأتي له مزيد بيان في سورة الذاريات إن شاء الله تعالى .
وقد استدل بهذه الآية من قال : إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها ، وهذا كقوله : "ملة أبيكم إبراهيم" ، "أن اتبع ملة إبراهيم" . وسيأتي بيانه .
قوله تعالى : "ولقد اصطفيناه في الدنيا" أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافياً من الأدناس . والأصل في "اصطفيناه" اصتفيناه، أبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الإطباق . واللفظ مشتق من الصفوة ، ومعناه تخير الأصفى .
قوله تعالى : "وإنه في الآخرة لمن الصالحين" الصالح في الآخرة هو الفائز . ثم قيل : كيف جاز تقديم في الآخرة وهو داخل في الصلة ، قال النحاس فالجواب أنه ليس التقدير إنه لمن الصالحين في الآخرة ، فتكون الصلة قد تقدمت ، ولأهل العربية فيه أقوال : منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة ، ثم حذف . وقيل : في الآخرة متعلق بمصدر محذوف ، أي صلاحه في الآخرة . والقول الثالث : أن الصالحين ليس بمعنى الذين صلحوا ، ولكنه اسم قائم بنفسه ، كما يقال الرجل والغلام .
قلت : وقول رابع أن المعنى وإنه في عمل الآخرة لمن الصالحين ، فالكلام على حذف مضاف . وقال الحسين بن الفضل : في الكلام تقديم وتأخير ، مجازه ولقد اصطفيناه وهو الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين . وروى حجاج بن حجاج ـ وهو حجاج الأسود ، وهو أيضاً حجاج الأحول المعروف بزق العسل ـ قال : سمعت معاوية بن قرة يقول : اللهم أن الصالحين أنت أصلحتهم ورزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم ، اللهم كما أصلحتهم فأصلحنا ، وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم فارزقنا أن نعمل بطاعتك ، وأرض عنا .
يقول تبارك وتعالى رداً على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله، المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء، فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى فلم يدعو معه غيره ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه خالف في ذلك سائر قومه حتى تبرأ من أبيه، فقال "يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين" وقال تعالى: "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين" وقال تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم " وقال تعالى: " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين " ولهذا وأمثاله قال تعالى: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم" عن طريقته ومنهجه فيخالفها ويرغب عنها "إلا من سفه نفسه" ؟ أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلاً، وهو في الاخرة من الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته، واتبع طريق الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من هذا ؟ أم أي ظلم أكبر من هذا؟ كما قال تعالى: "إن الشرك لظلم عظيم" قال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الاية في اليهود، أحدثوا طريقاً ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى: " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ".
وقوله تعالى " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " أي أمره الله بالإخلاص والاستسلام والانقياد ، فأجاب إلى ذلك شرعاً وقدراً، وقوله "ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب" أي وصى بهذه الملة، وهي الاسلام لله، أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله "أسلمت لرب العالمين" لحرصهم عليها ومحبتهم لها، حافظوا عليها إلى حين الوفاة، ووصوا أبناءهم بها من بعدهم كقوله تعالى: "وجعلها كلمة باقية في عقبه" وقد قرأ بعض السلف ويعقوب بالنصب عطفاً على بنيه، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضراً ذلك، وقد ادعى القشيري فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيمن ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح، والظاهر، والله أعلم، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة، لأن البشارة وقعت بهما في قوله "فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب" وقد قرئ بنصب يعقوب ههنا على نزع الخافض، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضاً فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت: "ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" الاية، وقال في الاية الأخرى "ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة" وهذا يقضي أنه وجد في حياته، وأيضاً فإنه باني بيت المقدس، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول ؟ قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي ؟ قال بيت المقدس، قلت: كم بينهما ؟ قال أربعون سنة الحديث، فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس ـ وإنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه ـ وبين إبراهيم أربعين سنة، وهذا مما أنكر على ابن حبان، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين، والله أعلم، وأيضاً فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريباً، وهذا يدل على أنه ههنا من جملة الموصين. وقوله "يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" أي أحسنوا في حال الحياة، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالباً على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه، وقد أجرى الله الكريم عادته بأنه من قصد الخير وفق له ويسر عليه، ومن نوى صالحاً ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وبعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وقد قال الله تعالى: " فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى ".
130- "ومن يرغب" في موضع رفع على الابتداء، والاستفهام للإنكار. وقوله: "إلا من سفه نفسه" في موضع الخبر، وقيل: هو بدل من فاعل يرغب، والتقدير: وما يرغب عن ملة إبراهيم أحد إلا سفه نفسه. قال الزجاج: سفه بمعنى جهل: أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها. وقال أبو عبيدة: المعنى أهلك نفسه. وحكى ثعلب والمبرد أن سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء المشددة. قال الأخفش: "سفه نفسه" أي فعل بها من السفه ما صار به سفيهاً، وقيل: إن نفسه منتصب بنزع الخافض، وقيل: هو تمييز، وهذان ضعيفان جداً، وأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى قاله المبرد وثعلب. والاصطفاء: الاختيار، أي اخترناه في الدنيا وجعلناه في الآخرة من الصالحين، فكيف يرغب عن ملته راغب. وقوله: "إذ قال له" يحتمل أن يكون متعلقاً بقوله: "اصطفيناه" أي اخترناه وقت أمرنا له بالإسلام، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف هو اذكر. قال في الكشاف: كأنه قيل: اذكر ذلك الوقت ليعلم أنه المصطفى الصالح الذي لا يرغب عن ملة مثله.
130. قوله تعالى: " ومن يرغب عن ملة إبراهيم " وذلك أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: قد علمتما أن الله عز وجل قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبياً اسمه أحمد فمن آمن به فقد اهتدى ومن لم يؤمن فهو ملعون، فأسلم سلمة وأبى مهاجر أن يسلم فأنزل الله عز وجل " من يرغب عن ملة إبراهيم " أي يترك دينه وشريعته يقال رغب في الشيء إذا أراده، ورغب عنه إذا تركه.
وقوله " من " لفظه استفهام معناه التقريع والتوبيخ يعني: ما يرغب عن ملة إبراهيم " إلا من سفه نفسه " قال ابن عباس: من خسر نفسه، وقال الكلبي : ضل من قبل نفسه، وقال أبو عبيدة: أهلك نفسه، وقال ابن كيسان و الزجاج : معناه جهل نفسه والسفاهة: الجهل وضعف الرأي: وكل سفيه جاهل، وذلك أن من عبد غيرالله فقد جهل نفسه. لأنه لم يعرف أن الله خلقها، وقد جاء: (( من عرف نفسه عرف ربه ))، وفي الأخبار : (( إن الله تعالى أوحى إلأى داود اعرف نفسك واعرفني، فقال: يارب كيف أعرف نفسي؟ وكيف أعرفك؟ فأوحى الله تعالى اعرف نفسك بالضعف والعجز والفناء، واعرفني بالقوة والقدرة والبقاء )).
وقال الأخفش : معناه سفه في نفسه، ونفسه على هذا القول نصب بنزع حرف الصفة وقال الفراء: نصب على التفسير، وكان الأصل سفهت نفسه فلما أضاف الفعل إلى صاحبها خرجت النفس المفسرة ليعلم موضع السفه، كما يقال: ضقت به ذرعاً، أي ضاق ذرعي به.
" ولقد اصطفيناه في الدنيا " اخترناه في الدنيا " وإنه في الآخرة لمن الصالحين " يعني مع الأنبياء في الجنة، وقال الحسين بن الفضل : فيه تقديم وتأخير، تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين.
130-" ومن يرغب عن ملة إبراهيم " استبعاد وإنكار لأن يكون أحد يرغب عن ملته الواضحة الغراء ، أي لا يرغب أحد من ملته . " إلا من سفه نفسه " إلا من استمهنها وأذلها واستخف بها . قال المبرد و ثعلب سفه بالكسر متعد وبالضم لازم ، ويشهد له ما جاء في الحديث " الكبر أن تسفه الحق ، وتغمص الناس " . وقيل : أصله سفه نفسه على الرفع ، فنصب على التمييز نحو غبن رأيه وألم رأسه ، وقول النابغة الذبياني :
ونأخذ بعده بذناب عيش أجب الظهر ليس له سنام
أو سفه في نفسه ، فنصب بنزع الخافض . والمستثنى في محل الرفع على المختار بدلاً من الضمير في يرغب لأنه في معنى النفي ، " ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين " حجة وبيان لذلك ، فإن من كان صفوة العباد في الدنيا مشهوداً له بالاستقامة والصلاح يوم القيامة ، كان حقيقاً بالاتباع له لا يرغب عنه إلا سفيه ، أو متسفه أذل نفسه بالجهل والإعراض عن النظر .
130. And who forsaketh the religion of Abraham save him who befooleth himself? Verily We chose him in the world, and lo! in the Hereafter he is among the righteous.
130 - And who turns away from the religion of Abraham but such as debase their souls with folly? him we chose and rendered pure in this world: and he will be in the hereafter in the ranks of the righteous.