واذكر (إذ قال له ربه أسلم) انقد لله وأخلص له دينك (قال أسلمت لرب العالمين)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم "، وأي الناس يزهد في ملة إبراهيم، ويتركها رغبة عنها إلى غيرها؟
وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى، لاختيارهم ما اختاروا من اليهودية والنصرانية على الإسلام. لأن "ملة إبراهيم " هي الحنيفية المسلمة، كما قال تعالى ذكره: "ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما" (آل عمران: 67)، فقال تعالى ذكره لهم: ومن يزهد عن ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه، كما:حدثنا بشربن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه "، رغب عن ملته اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية النصرانية، بدعة ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم يعني الإسلام- حنيفاً؟ كذلك بعث الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم.
حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه "، قال: رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم: الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى: "إلا من سفه نفسه".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "إلا من سفه نفسه "، إلا من سفهت نفسه. وقد بينا فيما مضى أن معنى السفه ، الجهل.
فمعنى الكلام: وما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية، إلا سفية جاهل بموضع حظ نفسه فيما نفعها، ويضرها في معادها، كما:حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "إلا من سفه نفسه "، قال: إلا من أخطأ حظه.
وإنما نصب النفس على معنى المفسر. وذلك أن السفه في الأصل للنفس، فلما نقل إلى "من "، نصبت النفس ، بمعنى التفسير. كما يقال: هو أوسعكم دارا، فتدخل الدار في لكلام على أن السعة فيها، لا في الرجل. فكذلك النفس أدخلت لأن السفه للنفس، لا لـ "من ". ولذلك لم يجز أن يقال: سفه أخوك. وإنما جاز أن يفسر بالنفس، وهي مضافة إلى معرفة، لأنها في تأويل نكرة.
وقال بعض نحويي البصرة: إن قوله: "سفه نفسه " جرت مجرى سفه إذا كان الفعل غير متعد، وإنما عداه إلى "نفسه " ورأيه وأشباه ذلك مما هو في المعنى نحو سفه ، إذا هو لم يتعد. فأما غبن وخسر فقد يتعدى إلى غيره، يقال: غبن خمسين، وخسر خمسين .
القول في تأويل قوله: " ولقد اصطفيناه في الدنيا".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ولقد اصطفيناه في الدنيا"، ولقد اصطفينا إبراهيم. و الهاء التي في قوله: "اصطفيناه "، من ذكر إبراهيم.
و الاصطفاء الافتعال من الصفوة، وكذلك اصطفيناافتعلنا منه، صيرت تاؤها طاء لقرب مخرجها من مخرج الصاد.
ويعني بقوله: "اصطفيناه ": اخترناه واجتبيناه للخفة، ونصيره في الدنيا لمن بعده إمامًا.
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خالف إبراهيم فيما سن لمن بعده، فهو لله مخالف، وإعلام منه خلقه أن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو لإبراهيم مخالف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه اصطفاه لخلته، وجعله للناس إمامًا، وأخبر أن دينه كان الحنيفية المسلمة. ففي ذلك أوضح البيان من الله تعالى ذكره عن أن من خالفه فهو لله عدو، لمخالفته الإمام الذي نصبه الله لعباده.
القول في تأويل قوله تعالى: " وإنه في الآخرة لمن الصالحين ".
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وإنه في الآخرة لمن الصالحين"، وإن إبراهيم في الدار الآخرة لمن الصالحين.
والصالح من بني آدم: هو المؤدي حقوق الله عليه.
فأخبر تعالى ذكره عن إبراهيم خليله، أنه في الدنيا صفي، وفي الآخرة ولي، وأنه وارد موارد أوليائه الموفين بعهده.
قوله تعالى : "إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين" .
العامل في إذ قوله : أي اصطفيناه إذ قال له ربه أسلم . وكان هذا القول من الله تعالى حين ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس . قال ابن كيسان و الكلبي : أي أخلص دينك لله بالتوحيد . وقيل : اخضع واخشع . قال ابن عباس : إنما قال له ذلك حين خرج من السرب ، على ما يأتي ذكره في الأنعام . والإسلام هنا على أتم وجوهه . والإسلام في كلام العرب : الخضوع والانقياد للمستسلم . وليس كل إسلام إيماناً ، وكل إيمان إسلاماً ، لأن من آمن بالله فقد استسلم وانقاد الله . وليس كل من أسلم آمن بالله ، لأنه قد يتكلم فزعاً من السيف ، ولا يكون ذلك إيماناً ، خلافاً للقدرية والخوارج حيث قالوا : إن الإسلام هو الإيمان ، فكل مؤمن مسلم ، وكل مسلم مؤمن ، لقوله : "إن الدين عند الله الإسلام" فدل على أن الإسلام هو الدين ، وأن من ليس بمسلم فليس بمؤمن . ودليلنا قوله تعالى : "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" الآية . فاخبر الله تعالى أنه ليس كل من اسلم مؤمناً ، فدل على أنه ليس كل مسلم مؤمناً ، و" قال صلى الله عليه وسلم لسعد بن وقاص لما قال له :اعط فلانا فإنه مؤمن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أو مسلم" الحديث خرجه مسلم ، فدل على أن الإيمان ليس بالإسلام ، فإن الإيمان باطن ، والإسلام ظاهر ، وهذا بين . وقد يطلق الإيمان بمعنى الإسلام ، والإسلام ويراد به الإيمان ، للزوم أحدهما الآخر وصدوره عنه ، كالإسلام الذي هو ثمرة الإيمان ودلالة على صحته ، فأعلمه . وبالله التوفيق .
يقول تبارك وتعالى رداً على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله، المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء، فإنه جرد توحيد ربه تبارك وتعالى فلم يدعو معه غيره ولا أشرك به طرفة عين، وتبرأ من كل معبود سواه خالف في ذلك سائر قومه حتى تبرأ من أبيه، فقال "يا قوم إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين" وقال تعالى: "وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين" وقال تعالى: " وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم " وقال تعالى: " إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين * شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم * وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين " ولهذا وأمثاله قال تعالى: "ومن يرغب عن ملة إبراهيم" عن طريقته ومنهجه فيخالفها ويرغب عنها "إلا من سفه نفسه" ؟ أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره بتركه الحق إلى الضلال حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلاً، وهو في الاخرة من الصالحين السعداء، فمن ترك طريقه هذا ومسلكه وملته، واتبع طريق الضلالة والغي، فأي سفه أعظم من هذا ؟ أم أي ظلم أكبر من هذا؟ كما قال تعالى: "إن الشرك لظلم عظيم" قال أبو العالية وقتادة: نزلت هذه الاية في اليهود، أحدثوا طريقاً ليست من عند الله، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى: " ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ".
وقوله تعالى " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " أي أمره الله بالإخلاص والاستسلام والانقياد ، فأجاب إلى ذلك شرعاً وقدراً، وقوله "ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب" أي وصى بهذه الملة، وهي الاسلام لله، أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله "أسلمت لرب العالمين" لحرصهم عليها ومحبتهم لها، حافظوا عليها إلى حين الوفاة، ووصوا أبناءهم بها من بعدهم كقوله تعالى: "وجعلها كلمة باقية في عقبه" وقد قرأ بعض السلف ويعقوب بالنصب عطفاً على بنيه، كأن إبراهيم وصى بنيه وابن ابنه يعقوب بن إسحاق وكان حاضراً ذلك، وقد ادعى القشيري فيما حكاه القرطبي عنه أن يعقوب إنما ولد بعد وفاة إبراهيمن ويحتاج مثل هذا إلى دليل صحيح، والظاهر، والله أعلم، أن إسحاق ولد له يعقوب في حياة الخليل وسارة، لأن البشارة وقعت بهما في قوله "فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب" وقد قرئ بنصب يعقوب ههنا على نزع الخافض، فلو لم يوجد يعقوب في حياتهما لما كان لذكره من بين ذرية إسحاق كبير فائدة، وأيضاً فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت: "ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب" الاية، وقال في الاية الأخرى "ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة" وهذا يقضي أنه وجد في حياته، وأيضاً فإنه باني بيت المقدس، كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع أول ؟ قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي ؟ قال بيت المقدس، قلت: كم بينهما ؟ قال أربعون سنة الحديث، فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد أنه باني بيت المقدس ـ وإنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه ـ وبين إبراهيم أربعين سنة، وهذا مما أنكر على ابن حبان، فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين، والله أعلم، وأيضاً فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريباً، وهذا يدل على أنه ههنا من جملة الموصين. وقوله "يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون" أي أحسنوا في حال الحياة، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه، فإن المرء يموت غالباً على ما كان عليه، ويبعث على ما مات عليه، وقد أجرى الله الكريم عادته بأنه من قصد الخير وفق له ويسر عليه، ومن نوى صالحاً ثبت عليه. وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" لأنه قد جاء في بعض روايات هذا الحديث ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وبعمل أهل النار فيما يبدو للناس، وقد قال الله تعالى: " فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى ".
131- "إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين".
131. " إذ قال له ربه أسلم " أي استقم على الإسلام، واثبت عليه لأنه كان مسلماً.
قال ابن عباس: قال له حين خرج من السرب، وقال الكلبي : أخلص دينك وعبادتك لله، وقال عطاء أسلم إلى الله عز وجل وفوض أمورك إليه.
" قال أسلمت لرب العالمين " أي فوضت، قال ابن عباس: وقد حقق ذلك حيث لم يستعن بأحد من الملائكة حين ألقي في النار.
131-" إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين " ظرف لـ " اصطفيناه " ، أو تعليل له ، أو منصوب بإضمار اذكر . كأنه قيل : اذكر ذلك الوقت لتعلم أنه المصطفى الصالح المستحق للإمامة والتقدم ، وأنه نال ما نال بالمبادرة إلى الإذعان وإخلاص السر حين ، دعاه ربه وأخطر بباله دلائله المؤدية إلى المعرفة الداعية إلى الإسلام . روي أنها نزلت لما دعا عبد الله بن سلام ابني أخيه : سلمة ومهاجراً إلى الإسلام ، فأسلم سلمة وأبي مهاجر .
131. When his Lord said unto him: Surrender! he said: I have surrendered to the Lord of the Worlds.
131 - Behold! his Lord said to him: bow (thy will to me): he said: i bow (my will) to the Lord and cherisher of the universe.