14 - (ولنسكننكم الأرض) أرضهم (من بعدهم) بعد هلاكهم (ذلك) النصر وإيراث الأرض (لمن خاف مقامي) أي مقامه بين يدي (وخاف وعيد) بالعذاب
قال أبو جعفر : يقول عز ذكره : وقال الذين كفروا بالله لرسلهم الذين أرسلوا إليهم ، حين دعوهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له ، وفراق عبادة الآلهة والأوثان ، "لنخرجنكم من أرضنا" ، يعنون : من بلادنا فنطردكم عنها ، "أو لتعودن في ملتنا" ، يعنون : إلا أن تعودوا في ديننا الذي نحن عليه من عبادة الأصنام .
وأدخلت في قوله :"لتعودن" ، لام ، وهو في معنى شرط ، كأنه جواب لليمين ، وإنما معنى الكلام : لنخرجنكم من أرضنا ، أو تعودون في ملتنا .
ومعنى أو ، ههنا معنى إلا : أو معنى حتى كما يقال في الكلام : لأضربنك أو تقر لي ، فمن العرب من يجعل ما بعد أو في مثل هذا الموضع عطفاً علىما قبله ، إن كان ما قبله جزماً جزموه ، وإن كان نصباً نصبوه ، وإن كان فيه لام جعلوا فيه لاماً ، إذ كانت أو حرف نسق . ومنهم من ينصب ما بعد أو بكل حال ، ليعلم بنصبه أنه عن الأول منقطع عما قبله ، كما قال امرؤ القيس :
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له : لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
فنصب نموت فنعذار ، وقد رفع نحاول ، لأنه أراد معنى : إلا أن نموت ، أو حتى نموت ، ومنه قول الآخر :
لا أستطيع نزوعا عن مودتها أو يصنع الحب بي غير الذي صنعا
وقوله : "فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين" ، الذين ظلموا أنفسهم ، فأوجبوا لها عقاب الله بكفرهم . وقد يجوز أن يكون قيل لهم الظالمون ، لعبادتهم من لا تجوز عبادته من الأوثان والآلهة ، فيكون بوضعهم العبادة في غير موضعها ، إذ كان ظلماً ، سموا بذلك .
وقوله : "ولنسكننكم الأرض من بعدهم" ، هذا وعد من الله من وعد من انبيائه النصر على الكفرة به من قومه . يقول : لما تمادت أمم الرسل في الكفر ، وتوعدوا رسلهم بالوقوع بهم ، أوحى الله إليهم بإهلاك من كفر بهم من أممهم ، ووعدهم النصر . وكل ذلك كان من الله وعيداً وتهدداً لمشركي قوم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على كفرهم به ، وجرأتهم على نبيه ، وتثبيتاً لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأمراً له بالصبر على ما لقي من المكروه فيه من مشركي قومه ، كما صبر من كان قبله من أولي العزم من رسله ، ومعرفه أن عاقبة أمر من كفر به الهلاك ، وعاقبته النصر عليهم ، سنة الله في الذين خلوا من قبل .
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ،عن قتادة : "ولنسكننكم الأرض من بعدهم" ، قال : وعدهم النصر في الدنيا ، والجنة في الآخرة .
وقوله : "ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد" ، يقول جل ثناؤه : هكذا فعلي لمن خاف مقامه بين يدي ، وخاف وعيدي فاتقاني بطاعته ، وتجنب سخطي ، أنصره على ما أراد به سوءاً وبغاه مكروهاً من أعدائي ، أهلك عدوه وأخزيه ، وأورثه أضره ودياره .
وقال : "لمن خاف مقامي" ، ومعناه ما قلت : من أنه لمن خاف مقامه بين يدي ، بحيث أقيمه هنالك للحساب ، كما قال : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) ، معناه : وتجعلون رزقي إياكم أنكم تكذبون . وذلك أن العرب تضيف أفعالها إلى أنفسها ، وإلى ما أوقعت عليه ، فتقول : قد سررت برؤيتك ، وبرؤيتي إياك ، فكذلك ذلك .
" ولنسكننكم الأرض من بعدهم ". قوله تعالى: " ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد " أي مقامه بين يدي يوم القيامة، فأضيف المصدر إلى الفاعل. والمقام مصدر كالقيام، يقال: قام قياماً ومقاماً، وأضاف ذلك إليه لاختصاصه به. والمقام بفتح الميم مكان الإقامة، وبالضم فعل الإقامة، و ( ذلك لمن خاف مقامي) أي قيامي عليه، ومراقبتي له، قال الله تعالى: " أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت " ( الرعد: 33). وقال الأخفش : " ذلك لمن خاف مقامي " أي عذابي، ( وخاف وعيد) أي القرآن وزواجره. وقيل: إنه العذاب. والوعيد الاسم من الوعد.
يخبر تعالى عما توعدت به الأمم الكافرة رسلهم من الإخراج من أرضهم والنفي من بين أظهرهم, كما قال قوم شعيب له ولمن آمن به: "لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا" الاية. وكما قال قوم لوط: "أخرجوا آل لوط من قريتكم" الاية, وقال تعالى إخباراً عن مشركي قريش: "وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً". وقال تعالى: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" وكان من صنعه تعالى أنه أظهر رسوله ونصره, وجعل له بسبب خروجه من مكة أنصاراً وأعواناً وجنداً يقاتلون في سبيل الله تعالى, ولم يزل يرقيه تعالى من شيء إلى شيء حتى فتح له مكة التي أخرجته, ومكن له فيها, وأرغم أنوف أعدائه منهم ومن سائر أهل الأرض حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً, وظهرت كلمة الله ودينه على سائر الأديان في مشارق الأرض ومغاربها في أيسر زمان, ولهذا قال تعالى: " فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم " وكما قال: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ", وقال تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز", وقال تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر" الاية, " قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ", وقال تعالى: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون" وقوله: "ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد" أي وعيدي هذا لمن خاف مقامي بين يدي يوم القيامة وخشي من وعيدي وهو تخويفي وعذابي كما قال تعالى: " فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى " وقال "ولمن خاف مقام ربه جنتان".
وقوله: "واستفتحوا" أي استنصرت الرسل ربها على قومها, قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: استفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" ويحتمل أن يكون هذا مراداً وهذا مراداً, كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر واستفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنصر, وقال الله تعالى للمشركين: "إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم" الاية, والله أعلم, "وخاب كل جبار عنيد" أي متجبر في نفسه عنيد معاند للحق, كقوله تعالى: " ألقيا في جهنم كل كفار عنيد * مناع للخير معتد مريب * الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد " وفي الحديث "إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة, فتنادي الخلائق, فتقول: إني وكلت بكل جبار عنيد" الحديث أي خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر.
وقوله: " من ورائه جهنم " وراء هنا بمعنى أمام, كقوله تعالى: "وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً" وكان ابن عباس يقرؤها: وكان أمامهم ملك, أي من وراء الجبار العنيد جهنم, أي هي له بالمرصاد يسكنها مخلداً يوم المعاد, ويعرض عليها غدواً وعشياً إلى يوم التناد "ويسقى من ماء صديد" أي في النار ليس له شراب إلا من حميم وغساق, فهذا حار في غاية الحرارة, وهذا بارد في غاية البرد والنتن, كما قال: " هذا فليذوقوه حميم وغساق * وآخر من شكله أزواج " وقال مجاهد وعكرمة: الصديد من القيح والدم. وقال قتادة: هو ما يسيل من لحمه وجلده, وفي رواية عنه: الصديد ما يخرج من جوف الكافر قد خالط القيح والدم. وفي حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: قلت يا رسول الله ما طينة الخبال ؟ قال "صديد أهل النار". وفي رواية "عصارة أهل النار".
وقال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إسحاق, أنبأنا عبد الله, أخبرنا صفوان بن عمرو عن عبيد الله بن بسر, عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " ويسقى من ماء صديد * يتجرعه " قال: "يقرب إليه فيكرهه, فإذا أدني منه شوى وجهه, ووقعت فروة رأسه, فإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره" يقول الله تعالى: "وسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم" ويقول: "وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه" الاية, وهكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن المبارك به. ورواه هو وابن أبي حاتم من حديث بقية بن الوليد عن صفوان بن عمرو به.
وقوله: "يتجرعه" أي يتغصصه ويتكرهه, أي يشربه قهراً وقسراً لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد, كما قال تعالى: "ولهم مقامع من حديد" "ولا يكاد يسيغه" أي يزدرده لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته أو برده الذي لا يستطاع "ويأتيه الموت من كل مكان" أي يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه. قال عمرو بن ميمون بن مهران: من كل عظم وعصب وعرق. وقال عكرمة: حتى من أطراف شعره, وقال إبراهيم التيمي: من موضع كل شعرة, أي من جسده حتى من أطراف شعره. وقال ابن جرير: "ويأتيه الموت من كل مكان" أي من أمامه وخلفه, وفي رواية: وعن يمينه وشماله, ومن فوقه ومن تحت أرجله, ومن سائر أعضاء جسده.
وقال الضحاك عن ابن عباس "ويأتيه الموت من كل مكان" قال: أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم, ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت, ولكن لا يموت لأن الله تعالى قال: "لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها" ومعنى كلام ابن عباس رضي الله عنه أنه ما من نوع من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت, ولكنه لا يموت ليخلد في دوام العذاب والنكال, ولهذا قال تعالى: "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت".
وقوله: "ومن ورائه عذاب غليظ" أي وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ, أي مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله, وأدهى وأمر, وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم: " إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين * فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون * ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم * ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم " فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم, وتارة في شرب حميم, وتارة يردون إلى جحيم, عياذاً بالله من ذلك, وهكذا قال تعالى: " هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن ", وقال تعالى: " إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم * خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم * ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم * ذق إنك أنت العزيز الكريم * إن هذا ما كنتم به تمترون ", وقال: " وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم * وظل من يحموم * لا بارد ولا كريم ", وقال تعالى: " هذا وإن للطاغين لشر مآب * جهنم يصلونها فبئس المهاد * هذا فليذوقوه حميم وغساق * وآخر من شكله أزواج " إلى غير ذلك من الايات الدالة على تنوع العذاب عليهم, وتكراره وأنواعه, وأشكاله مما لا يحصيه إلا الله عز وجل جزاءً وفاقاً "وما ربك بظلام للعبيد".
14- "ولنسكننكم الأرض" أي أرض هؤلاء الكفار الذين توعدوكم بما توعدوا من الإخراج أو العود، ومثل هذه الآية قوله سبحانه: "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها"، وقال "وأورثكم أرضهم وديارهم". وقرئ ليهلكن وليسكننكم بالتحتية في الفعلين اعتباراً بقوله فأوحى، والإشارة بقوله: "ذلك" إلى ما تقدم من إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين في مساكنهم "لمن خاف مقامي" أي موقفي، وذلك يوم الحساب، فإنه موقف الله سبحانه، والمقام بفتح الميم مكان الإقامة، وبالضم فعل الإقامة، وقيل: إن المقام هنا مصدر بمعنى القيام: أي لمن خاف قيامي عليه ومراقبتي له كقوله تعالى: "أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت" وقال الأخفش: ذلك لمن خاف مقامي: أي عذابي "وخاف وعيد" أي خاف وعيدي بالعذاب، وقيل بالقرآن وزواجره، وقيل هو نفس العذاب، والوعيد الاسم من الوعد.
" فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم " أي: من بعد هلاكهم.
"ذلك لمن خاف مقامي" أي: قيامه بين يدي كما قال: "ولمن خاف مقام ربه جنتان" ( الرحمن-46)، فأضاف قيام العبد إلى نفسه، كما تقول: ندمت على ضربك أي على ضربي إياك، "وخاف وعيد" أي عقابي.
14."ولنسكننكم الأرض من بعدهم"أي أرضهم و ديارهم كقوله تعلى : "وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها"وقرئ ليهلكن وليسكننكم بالياء اعتباراً لأوحى كقولك : أقسم زيد ليخرجن "ذلك "إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين "لمن خاف مقامي"موقفي وهو الموقف الذي يقيم فيه العباد للحكومة يوم القيامة ، أو قيامي عليه وحفظي لا عمله وقيل المقام مقحم."وخاف وعيد"أي وعيدي بالعذاب أو عذابي الموعود للكفار.
14. And verily We shall make you to dwell in the land after them. This is for him who fearth My Majesty and feareth My threats.
14 - And verily we shall cause you to abide in the land, and succeed them. this for such as fear the time when they shall stand before my tribunal, such as fear the punishment denounced.