(إن يمسسكم) يصبكم بأُحُد (قَرح) بفتح القاف وضمها: جهد من جرح ونحوه (فقد مس القوم) الكفار (قرح مثله) ببدر (وتلك الأيام نداولها) نصرفها (بين الناس) يوما لفرقة ويوما لأخرى ليتعظوا (وليعلم الله) علم ظهور (الذين آمنوا) أخلصوا في إيمانهم من غيرهم (ويتخذ منكم شهداء) يكرمهم بالشهادة (والله لا يحب الظالمين) الكافرين أي يعاقبهم وما ينعم به عليهم استدراج
قوله تعالى ويتخذ منكم شهداء أخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال لما أبطأ على النساء الخبر خرجن ليستخبرن فإذا رجلان مقبلان على بعير فقالت امرأة ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا حي قالت فلا أبالي يتخذ الله من عباده الشهداء ونزل القرآن على ما قالت ويتخذ منكم شهداء
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، كلاهما بفتح القاف، بمعنى : إن يمسسكم القتل والجراح ، يا معشر أصحاب محمد، فقد مس القوم من أعدائكم من المشركين قرح -قتل وجراح- مثله.
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة: إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله [كلاهما بضم القاف].
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب قراءة من قرأ: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، بفتح القاف في الحرفين ، لإجماع أهل التأويل على أن معناه: القتل والجراح ، فذلك يدل على أن القراءة هي الفتح.
وكان بعض أهل العربية يزعم أن القرح و القرح لغتان بمعنى واحد. والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا.
ذكر من قال: إن القرح، الجراح والقتل.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، قال: جراح وقتل.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، قال : إن يقتلوا منكم يوم أحد، فقد قتلتم منهم يوم بدر.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، والقرح الجراحة، وذاكم يوم أحد، فشا في أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم يومئذ القتل والجراحة، فأخبرهم الله عز وجل أن القوم قد أصابهم من ذلك مثل الذي أصابكم ، وأن الذي أصابكم عقوبة.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع في قوله: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، قال : ذلك يوم أحد، فشا في المسلمين الجراح، وفشا فيهم القتل ، فذلك قوله: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، يقول : إن كان أصابكم قرح فقد أصاب عدوكم مثله ، يعزي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ويحثهم على القتال.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله"، والقرح هي الجراحات.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "إن يمسسكم قرح"، أي: جراح، "فقد مس القوم قرح مثله"، أي: جراح مثلها.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا حفص بن عمر قال ، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نام المسلمون وبهم الكلوم -يعني يوم أحد- قال عكرمة: وفيهم أنزلت : "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس"، وفيهم أنزلت "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون" [النساء: 104].
وأما تأويل قوله: "إن يمسسكم قرح"، فإنه: إن يصبكم ، كما:
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس: "إن يمسسكم"، إن يصبكم.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره [بقوله]: "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، أيام بدر وأحد.
ويعني بقوله: "نداولها بين الناس"، نجعلها دولاً بين الناس مصرفة.
ويعني بـ "الناس"، المسلمين والمشركين. وذلك أن الله عز وجل أدال المسلمين من المشركين ببدر، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين . وأدال المشركين من المسلمين بأحد، فقتلوا منهم سبعين ، سوى من جرحوا منهم.
يقال منه: أدال الله فلاناً من فلان ، فهو يديله منه إدالة، إذا ظفر به فانتصر منه مما كان نال منه المدال منه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن: "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، قال جعل الله الأيام دولاً، أدال الكفار يوم أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، إنه والله لولا الدول ما أوذي المؤمنون، ولكن قد يدال للكافر من المؤمن، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ، ويعلم الصادق من الكاذب.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قوله : "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فأظهر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين يوم بدر، وأظهر عليهم عدوهم يوم أحد. وقد يدال الكافر من المؤمن ، ويبتلى المؤمن بالكافر، ليعلم الله من يطيعه ممن يعصيه ، ويعلم الصادق من الكاذب. وأما من ابتلي منهم -من المسلمين- يوم أحد، فكان عقوبة بمعصيتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي: "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، يوماً لكم ويوماً عليكم.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج، قال ابن عباس : "نداولها بين الناس"، قال: أدال المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فإنه كان يوم أحد بيوم بدر، قتل المؤمنون يوم أحد، اتخذ الله منهم شهداء، وغلب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر المشركين، فجعل له الدولة عليهم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا حفص بن عمر قال ، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "لما كان قتال أحد وأصاب المسلمين ما أصاب، صعد النبي صلى الله عليه وسلم الجبل ، فجاء أبو سفيان فقال: يا محمد! يا محمد! ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحرب سجال: يوم لنا ويوم لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أجيبوه، فقالوا: لا سواء، لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار! فقال أبو سفيان: لنا عزى ولا عزى لكم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم. فقال أبو سفيان: اعل هبل! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا: الله أعلى وأجل! فقال أبو سفيان: موعدكم وموعدنا بدر الصغرى". قال عكرمة: وفيهم أنزلت: "وتلك الأيام نداولها بين الناس".
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن ابن عباس في قوله: "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فإنه أدال على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، أي نصرفها للناس، للبلاء والتمحيص.
حدثني إبراهيم بن عبد الله قال ، أخبرنا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي قال ، حدثنا حماد بن زيد، عن ابن عون، عن محمد في قول الله: "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، قال: يعني الأمراء.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء، نداولها بين الناس.
ولو لم يكن في الكلام واو، لكان قوله: "ليعلم" متصلاً بما قبله ، وكان "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، ليعلم الله الذين آمنوا. ولكن لما دخلت الواو فيه ، آذنت بأن الكلام متصل بما قبلها، وأن بعدها خبراً مطلوباً، واللام التي في قوله: "وليعلم"، به متعلقة.
فإن قال قائل: وكيف قيل: "وليعلم الله الذين آمنوا"، معرفةً، وأنت لا تستجيز في الكلام: قد سألت فعلمت عبد الله، وأنت تريد: علمت شخصه ، إلا أن تريد: علمت صفته وما هو؟
قيل: إن ذلك إنما جاز مع "الذين"، لأن في "الذين" تأويل من و أي، وكذلك جائز مثله في الألف واللام، كما قال تعالى ذكره : "فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين" [العنكبوت: 3]، لأن في الألف واللام من تأويل أي و من، مثل الذي في الذي. ولو جعل مع الاسم المعرفة اسم فيه دلالة على أي، جاز، كما يقال: سألت لأعلم عبد الله من عمرو، ويراد بذلك : لأعرف هذا من هذا.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام : وليعلم الله الذين آمنوا منكم ، أيها القوم ، من الذين نافقوا منكم ، نداول بين الناس ، فاستغنى بقوله: "وليعلم الله الذين آمنوا"، عن ذكر قوله: من الذين نافقوا، لدلالة الكلام عليه. إذ كان في قوله : "الذين آمنوا"، تأويل أي على ما وصفنا. فكأنه قيل : وليعلم الله أيكم المؤمن ، كما قال جل ثناؤه : "لنعلم أي الحزبين أحصى" [الكهف: 12]. غير أن الألف واللام، والذي و من إذا وضعت مع العلم موضع أي، نصبت بوقوع العلم عليه ، كما قيل : وليعلمن الكاذبين ، فأما أي ، فإنها ترفع.
قال أبو جعفر: وأما قوله: "ويتخذ منكم شهداء"، فإنه يعني: "وليعلم الله الذين آمنوا"، وليتخذ منكم شهداء، أي: ليكرم منكم بالشهادة من أراد أن يكرمه بها.
والشهداء جمع شهيد، كما:
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، أي : ليميز بين المؤمنين والمنافقين ، وليكرم من أكرم من أهل الإيمان بالشهادة.
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك قراءة على ابن جريج في قوله : "وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، قال : فإن المسلمين كانوا يسألون ربهم: ربنا أرنا يوماً كيوم بدر نقاتل فيه المشركين، ونبليك فيه خيراً، ونلتمس فيه الشهادة! فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، فكرم الله أولياءه بالشهادة بأيدي عدوهم ، ثم تصير حواصل الأمور وعواقبها لأهل طاعة الله.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، قال : قال ابن عباس: كانوا يسألون الشهادة، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ منهم شهداء.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله: "وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوماً كيوم بدر، يبلون فيه خيراً، ويرزقون فيه الشهادة، ويرزقون الجنة والحياة والرزق، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ الله منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل فقال: "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات" الآية، [البقرة: 154].
قال أبو جعفر: وأما قوله: "والله لا يحب الظالمين"، فإنه يعني به: الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم ربهم، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "والله لا يحب الظالمين"، أي : المنافقين الذين يظهرون بألسنتهم الطاعة، وقلوبهم مصرة على المعصية.
قوله تعالى:" إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين "
قوله تعالى:" إن يمسسكم قرح" القرح الجرح. والضم والفتح فيه لغتان عن الكسائي والأخفش، مثل عقر وعقر. الفراء: هو بالفتح الجرح، وبالضم ألمه. والمعنى: إن يمسسكم يوم أحد قرح فقد مس القوم يوم بدر قرح مثله. وقرأ محمد بن السميقع(قرح) بفتح القاف والراء على المصدر." وتلك الأيام نداولها بين الناس" قيل: هذا في الحرب، تكون مرة للمؤمنين لينصر الله عز وجل دينه. ومرة للكافرين إذا عصى المؤمنون ليبتليهم ويمحص ذنوبهم، فأما إذا لم يعصوا فإن حزب الله هم الغالبون. وقيل:" نداولها بين الناس" من فرح وغم وصحة وسقم وغنى وفقر والدولة الكرة، قال الشاعر:
فيوم لنا ويوم علينا ويوم نساء ويوم نسر
قوله تعالى:" وليعلم الله الذين آمنوا" معناه: وإنما كانت هذه المداولة ليرى المؤمن من المنافق فيميز بعضهم من بعض، كما قال:" وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين* وليعلم الذين نافقوا"[آل عمران:166-167] وقيل: ليعلم صبر المؤمنين، العلم الذي يقع عليه الجزاء كما علمه غيباً قبل أن كلفهم. وقد تقدم في (البقرة) هذا المعنى.
قوله تعالى:" ويتخذ منكم شهداء " فيه ثلاث مسائل:
الأولى : قوله تعالى:" ويتخذ منكم شهداء " أي يكرمكم بالشهادة، أي ليقتل قوم فيكونوا شهداء على الناس بأعمالهم. وقيل: لهذا قيل شهيد. وقيل: سمي شهيداً لأنه مشهود له بالجنة وقيل: سمي شهيداً لأن أرواحهم احتضرت دار السلام، لأنهم أحياء عند ربهم، وأرواح غيرهم لاتصل إلى الجنة، فالشهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للجنة، وهذا هو الصحيح على ما يأتي والشهادة فضلها عظيم، ويكفيك في فضلها قوله تعالى:" إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم" [التوبة:111] الآية. وقوله: " يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم " ، قوله:" ذلك الفوز العظيم" [الصف:10-12] وفي صحيح البستي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(ما يجد الشهيد من القتل إلا كما يجد أحدكم من القرحة). وروى النسائي عن راشد بن سعد عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال:
يا رسول الله، ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال:(كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة). وفي البخاري: (من قتل من المسلمين يوم أحد) منهم حمزة واليمان وأنس بن النضر ومصعب بن عمير.
حدثني عمرو بن علي أن معاذ بن هشام قال حدثني أبي عن قتادة قال:( ما نعلم حياً من أحياء العرب أكثر شهيداً أعز يوم القيامة من الأنصار. قال قتادة:
وحدثنا أنس بن مالك أنه قتل منهم يوم احد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون. قال: وكان بئر معونة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم اليمامة على عهد أبي بكر يوم مسيلمة الكذاب).
وقال انس: أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب وبه نيف وستون جراحة من طعنة وضربة ورمية، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسحها وهي تلتئم بإذن الله تعالى كأن لم تكن.
الثانية: في قوله تعالى:" ويتخذ منكم شهداء" دليل على أن الإرادة غير الأمر كما يقوله أهل السنة، فإن الله تعالى نهى الكفار عن قتل المؤمنين: حمزة وأصحابه وأراد قتلهم، ونهى آدم عن أكل الشجرة وأراده فواقعه آدم، وعكسه أنه أمر إبليس بالسجود ولم يرده فامتنع منه، وعنه وقعت الإشارة بقوله الحق:" ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم" [التوبة:46] وإن كان قد أمر جميعهم بالجهاد، ولكنه خلق الكسل والأسباب القاطعة عن المسير فقعدوا.
الثالثة: "روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:
جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال له: خير أصحابك في الأسارى أن شاؤوا القتل الفداء على أن يقتل منهم عام المقبل مثلهم فقالوا الفداء ويقتل منا) " أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن. فأنجز الله وعده بشهادة أوليائه بعد أن خيرهم فاختاروا القتل. "والله لا يحب الظالمين" أي المشركين، أي وإن أنال الكفار من المؤمنين فهو لا يحبهم، وإن أحل ألماً بالمؤمنين فإنه يحب المؤمنين.
يقول تعالى مخاطباً عباده المؤمنين الذين أصيبوا يوم أحد وقتل منهم سبعون "قد خلت من قبلكم سنن" أي قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء, ثم كانت العاقبة لهم, والدائرة على الكافرين, ولهذا قال تعالى: "فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين" ثم قال تعالى: "هذا بيان للناس" يعني القرآن فيه بيان الأمور على جليتها وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم "وهدى وموعظة" يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم. و "هدى" لقلوبكم, و "موعظة للمتقين"أي زاجر عن المحارم والمآثم. ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين "ولا تهنوا" أي لا تضعفوا بسبب ما جرى "ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين" أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله" أي إن كنتم قد أصابتكم جراح وقتل منكم طائفة, فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح "وتلك الأيام نداولها بين الناس" أي نديل عليكم الأعداء تارة, وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة, ولهذا قال تعالى: "وليعلم الله الذين آمنوا" قال ابن عباس : في مثل هذا لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء "ويتخذ منكم شهداء" يعني يقتلون في سبيله ويبذلون مهجهم في مرضاته "والله لا يحب الظالمين * وليمحص الله الذين آمنوا" أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب. وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به. وقوله "ويمحق الكافرين" أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم, ثم قال تعالى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين" أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد, كما قال تعالى في سورة البقرة "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا" الاية. وقال تعالى: " الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون " الاية, ولهذا قال ههنا "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين" أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله, والصابرين على مقاومة الأعداء. وقوله "ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون" أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم, تتمنون لقاء العدو وتتحرقون عليهم وتودون مناجزتهم ومصابرتهم, فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه, فدونكم فقاتلوا وصابروا, وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تتمنوا لقاء العدو, وسلوا الله العافية, فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" ولهذا قال تعالى: "فقد رأيتموه" يعني الموت شاهدتموه وقت لمعان السيوف وحد الأسنة واشتباك الرماح وصفوف الرجال للقتال والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل. وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس كما تتخيل الشاة صداقة الكبش, وعداوة الذئب.
والقرح بالضم والفتح: الجرح وهما لغتان فيه، قاله الكسائي والأخفش. وقال الفراء: هو بالفتح الجرح، وبالضم ألمه. وقرأ محمد بن السميفع قرح بفتح القاف والراء على المصدر. والمعنى في الآية: إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر، فلا تهنوا لما أصابكم في هذا اليوم، فإنهم لم يهنوا لما أصابهم في ذلك اليوم، وأنتم أولى بالصبر منهم، وقيل: إن المراد بما أصاب المؤمنين والكافرين في هذا اليوم، فإن المسلمين انتصروا عليهم في الابتداء فأصابوا منهم جماعة، ثم انتصر الكفار عليهم فأصابوا منهم. والأول أولى، لأن ما أصابه المسلمون من الكفار في هذا اليوم لم يكن مثل ما أصابوه منهم فيه. وقوله "وتلك الأيام" أي: الكائنة بين الأمم في حروبها والآتية فيما بعد كالأيام الكائنة في زمن النبوة، تارة تغلب هذه الطائفة، وتارة تغلب الأخرى كما وقع لكم أيها المسلمون في يوم بدر وأحد، وهو معنى قوله "نداولها بين الناس" فقوله "تلك" مبتدأ، والأيام صفته، والخبر نداولها، وأصل المداولة المعاورة: داولته بينهم عاورته. والدولة: الكرة، ويجوز أن تكون الأيام خبراً ونداولها حالاً، والأول أولى. وقوله "وليعلم الله" معطوف على علة مقدرة كأنه قال: نداولها بين الناس ليظهر أمركم وليعلم، أو يكون المعلل محذوفاً: أي ليعلم الله الذين اتقوا، فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل: أي فعلنا فعل من يريد أن يعلم لأنه سبحانه لم يزل عالماً، أو ليعلم الله الذين آمنوا بصبرهم علماً يقع عليه الجزاء كما علمه علماً أزلياً "ويتخذ منكم شهداء" أي: يكرمهم بالشهادة. والشهداء جمع شهيد، سمي بذلك لكونه مشهوداً له بالجنة، أو جمع شاهد لكونه كالمشاهد للجنة، ومن للتبعيض وهم شهداء أحد. وقوله "والله لا يحب الظالمين" جملة معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه لتقرير مضمون ما قبله.
140-"إن يمسسكم قرح"قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر "قرح" بضم القاف حيث جاء، وقرأ الآخرون بالفتح وهما لغتان معناهما كالجهد والجهد، وقال الفراء القرح بالفتح: الجراحة، وبالضم:ألم الجراحة، هذا خطاب مع المسلمين حيث انصرفوا من أحد مع الكآبة والحزن، يقول الله تعالى: "إن يمسسكم قرح" يوم أحد، "فقد مس القوم قرح مثله"، يوم بدر، "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فيوم لهم ويوم عليهم، أديل المسلمون على المشركين يوم بدر حتى قتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، وأديل المشركون من المسلمين يوم أحد حتى جرحوا منهم سبعين وقتلوا خمساً وسبعين .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد ألمليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عمرو بن خالد أنا زهير أخبرنا أبو إسحق قال:سمعت البراء بن عازب قال: "جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الرجالة يوم أحد وكانوا خمسين رجلاً عبد الله بن جبير، فقال: إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم، فهزموهم ، قال :فإنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله بن جبير: الغنيمة، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين . فذاك إذ يدعوهم الرسول في أخراهم، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم غير اثني عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين رجلاً، سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً، فقال أبو سفيان: أفي القوم محمد ثلاث مرات،فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة ثلاث مرات، ثم قال: أفي القوم ابن الخطاب ثلاث مرات ثم رجع إلى أصحابه، فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا ، فما ملك عمر نفسه ، فقال كذبت والله ياعدو الله ، إن الذين عددت لأحياء كلهم ، وقد بقي لك مايسوءك ، قال: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، إنكم ستجدون في القوم مثلهً لم آمر بها ولم تسؤني ، ثم أخذ يرتجز:اعل هبل اعل هبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبوه ؟ قالوا : يا رسول مانقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل، قال : إن لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا تجيبوه؟ قالوا : يا رسول الله مانقول ؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ".
وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديثه قال أبو سفيان : يوم بيوم وإن الأيام دول والحرب سجال، فقال عمر ضي الله عنه : لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
قال الزجاج: الدولة تكون للمسلمين على الكفار ، لقوله تعالى : "وإن جندنا لهم الغالبون" ، وكانت / يوم احد للكفار على المسلمين لمخالفتهم امر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى:"وليعلم الله الذين آمنوا " يعني: إنما كانت هذه المداولة ليعلم الله (أي: ليرى الله ) الذين آمنوا فيميز المؤمن من المنافق، "ويتخذ منكم شهداء" يكرم أقواماً بالشهادة " والله لا يحب الظالمين ".
140" إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله " قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم بضم القاف، والباقون بالفتح وهما لغتان كالضعف والضعف. وقيل هو بالفتح الجراح وبالضم ألمها، والمعنى إن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم يوم بدر مثله، ثم إنهم لم يضعفوا ولم يجبنوا فأنتم أولى بأن لا تضعفوا، فإنكم ترجون من الله ما لا يرجون.
وقيل كلا المسين كان يوم أحد فإن المسلمين نالوا منهم قبل أن يخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم. " وتلك الأيام نداولها بين الناس " نصرفها بينهم تدليل لهؤلاء تارة ولهؤلاء أخرى كقوله:
فيوماً علينا ويوماً لنا ويوم نساء ويوم نسر
والمداولة كالمعاودة يقال داولت الشيء بينهم فتداولوه، والأيام تحتمل الوصف والخبر و "نداولها" يحتمل الخبر والحال والمراد بها: أوقات النصر والغلبة. "وليعلم الله الذين آمنوا" عطف على علة محذوفة أي نداولها ليكون كيت وكيت وليعلم الله إيذاناً بأن العلة فيه غير واحدة، وإن ما يصيب المؤمن فيه من المصالح ما لا يعلم، أو الفعل المعلل به محذوف تقديره وليتميز الثابتون على الإيمان من الذين على حرف فعلنا ذلك، والقصد في أمثاله ونقائضه ليس إلى إثبات علمه تعالى ونفيه بل إلى إثبات المعلوم ونفيه على طريق البرهان. وقيل معناه ليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء وهو العلم بالشيء موجوداً. " ويتخذ منكم شهداء " ويكرم ناساً منكم بالشهادة يريد شهداء أحد، أو يخذ منكم شهوداً معدلين بما صودف منهم من الثبات والبر على الشدائد. " والله لا يحب الظالمين " الذين يضمرون خلاف ما يظهرون، أو الكافرين وهو اعتراض، وفيه تنبيه على أنه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة وإنما يغلبهم أحياناً استدراجاً لهم وابتلاء للمؤمنين.
140. If ye have received a blow, the (disbelieving) people have received a blow the like thereof: These are (only) the vicissitudes which We cause to follow one another for mankind, to the end that Allah may know those who believe and may choose witnesses from among you; and Allah loveth not wrong doers.
140 - If a wound hath touched you, be sure a similar wound hath touched the others. such days (of varying fortunes) we give to men and men by turns: that God may know those that believe, and that he may take to himself from your ranks martyr witnesses (to truth). and God loveth not those that do wrong.