(وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل) كغيره (انقلبتم على أعقابكم) رجعتم إلى الكفر ، والجملة الأخيرة محل الاستفهام الإنكاري أي ما كان معبودا فترجعوا (ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا) وإنما يضر نفسه (وسيجزي الله الشاكرين) نعمه بالثبات
قوله تعالى وما محمد إلا رسول الآية أخرج ابن المنذر عن عمر قال تفرقنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فصعدت الجبل فسمعت يهود تقول قتل محمد فقلت لا أسمع أحدا يقول قتل محمد إلا ضربت عنقه فنظرت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتراجعون فنزلت وما محمد إلا رسول الآية
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال لما أصابهم يوم أحد ما أصابهم من القرح وتداعوا نبي الله قالوا قد قتل فقال أناس لو كان نبيا ما قتل وقال أناس قاتلوا على ما قاتل عليه نبيكم حتى يفتح الله عليكم أو تلحقوا به فأنزل الله وما محمد إلا رسول الآية
وأخرج البيهقي في الدلائل عن أبي نجيح أن رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال أشعرت أن محمدا قد قتل فقال إن كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم فنزلت
وأخرج ابن راهوية في مسنده عن الزهري أن الشيطان صاح يوم أحد أن محمدا قد قتل قال كعب بن مالك وأنا أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عينيه من تحت المغفر فناديت بأعلى صوتي هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله وما محمد إلا رسول الآية
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما محمد إلا رسول كبعض رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه ، داعياً إلى الله وإلى طاعته ، الذين حين انقضت آجالهم ماتوا وقبضهم الله إليه. يقول جل ثناؤه: فمحمد صلى الله عليه وسلم إنما هو فيما الله به صانع من قبضه إليه عند انقضاء مدة أجله، كسائر رسله إلى خلقه الذين مضوا قبله، وماتوا عند انقضاء مدة آجالهم.
ثم قال لأصحاب محمد، معاتبهم على ما كان منهم من الهلع والجزع حين قيل لهم بأحد: إن محمداً قتل، ومقبحاً إليهم انصراف من انصرف منهم عن عدوهم وانهزامه عنهم: أفئن مات محمد، أيها القوم ، لانقضاء مدة أجله ، أو قتله عدو، "انقلبتم على أعقابكم"، يعني: ارتددتم عن دينكم الذي بعث الله محمداً بالدعاء إليه ورجعتم عنه كفاراً بالله بعد الإيمان به ، وبعد ما قد وضحت لكم صحة ما دعاكم محمد إليه، وحقيقة ما جاءكم به من عند ربه، "ومن ينقلب على عقبيه"، يعني بذلك : ومن يرتد منكم عن دينه ويرجع كافراً بعد إيمانه، "فلن يضر الله شيئا"، يقول: فلن يوهن ذلك عزة الله ولا سلطانه ، ولا يدخل بذاك نقص في ملكه ، بل نفسه يضر بردته ، وحظ نفسه ينقص بكفره ، "وسيجزي الله الشاكرين"، يقول: وسيثيب الله من شكره على توفيقه وهدايته إياه لدينه، بثبوته على ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم إن هو مات أو قتل، واستقامته على منهاجه ، وتمسكه بدينه وملته بعده، كما:
حدثنا المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا عبد الله بن هاشم قال ، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي في قوله : "وسيجزي الله الشاكرين"، الثابتين على دينهم ، أبا بكر وأصحابه . فكان علي رضي الله عنه يقول : كان أبو بكر أمين الشاكرين ، وأمين أحباء الله ، وكان أشكرهم وأحبهم إلى الله.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن العلاء بن بدر قال : إن أبا بكر أمين الشاكرين. وتلا هذه الآية: "وسيجزي الله الشاكرين".
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "وسيجزي الله الشاكرين"، أي: من أطاعه وعمل بأمره.
وذكر أن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن انهزم عنه بأحد من أصحابه.
ذكر الأخبار الواردة بذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، إلى قوله: "وسيجزي الله الشاكرين"، ذاكم يوم أحد، حين أصابهم القرح والقتل ، ثم تناعوا نبي الله صلى الله عليه وسلم تفئة ذلك، فقال أناس: لو كان نبياً ما قتل! وقال أناس من علية أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: قاتلوا على ما قاتل عليه محمد نبيكم حتى يفتح الله لكم أو تلحقوا به! فقال الله عز وجل: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم"، يقول: إن مات نبيكم أو قتل، ارتددتم كفاراً بعد إيمانكم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع بنحوه، وزاد فيه، قال الربيع: وذكر لنا والله أعلم ، أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال : يا فلان ، أشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم. فأنزل الله عز وجل: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم"، يقول : ارتددتم كفاراً بعد إيمانكم.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد إليهم -يعني: إلى المشركين- أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال: لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم. وأمر عليهم عبد الله بن جبير، أخا خوات بن جبير.
ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان. فلما رأى ذلك خالد بن الوليد، وهو على خيل المشركين، كر. فرمته الرماة فانقمع . فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه، بادروا الغنيمة، فقال بعضهم: لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم! فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر. فلما رأى خالد قلة الرماة، صاح في خيله ثم حمل ، فقتل الرماة وحمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل ، تنادوا، فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم.
فأتى ابن قميئة الحارثي -أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة- فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله ، وتفرق عنه أصحابه ، ودخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها. وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس: إلي عباد الله! إلي عباد الله!، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، فجعلوا يسيرون بين يديه، فلم يقف أحد إلا طلحة وسهل بن حنيف. فحماه طلحة، فرمي بسهم في يده فيبست يده.
وأقبل أبي بن خلف الجمحي -وقد حلف ليقتلن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتله -فقال: يا كذاب، أين تفر؟ فحمل عليه، فطعنه النبي صلى الله عليه وسلم في جيب الدرع، فجرح جرحاً خفيفاً، فوقع يخور خوار الثور. فاحتملوه وقالوا: ليس بك جراحة! [فما يجزعك]؟ قال: أليس قال : لأقتلنك؟ لو كانت لجميع ربيعة ومضر لقتلتهم! ولم يلبث إلا يوماً وبعض يوم حتى مات من ذلك الجرح.
وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال بعض أصحاب الصخرة: ليت لنا رسولاً إلى عبد الله بن أبي، فيأخذ بنا أمنةً من أبي سفيان! يا قوم ، إن محمداً قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم. قال أنس بن النضر: يا قوم، إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء! ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل.
وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس، حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة. فلما رأوه ، وضع رجل سهماً في قوسه فأراد أن يرميه ، فقال : أنا رسول الله! ففرحوا حين وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً، وفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أن في أصحابه من يمتنع به. فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا.
فقال الله عز وجل للذين قالوا: إن محمداً قد قتل، فارجعوا إلى قومكم: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين".
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ومن ينقلب على عقبيه"، قال: يرتد.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه ، وحدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه: أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال : يا فلان ، أشعرت أن محمداً قد قتل! فقال الأنصاري : إن كان محمد قد قتل ، فقد بلغ! فقاتلوا عن دينكم.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحق قال ، حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، أخو بني عدي بن النجار قال: انتهى أنس بن النصر-عم أنس بن مالك- إلى عمر، وطلحة بن عبيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قتل محمد رسول الله! قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله! واستقبل القوم فقاتل حتى قتل، وبه سمي أنس بن مالك.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قال: نادى مناد يوم أحد حين هزم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: ألا أن محمداً قد قتل، فارجعوا إلى دينكم الأول! فأنزل الله عز وجل: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، الآية.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قال: ألقي في أفواه المسلمين يوم أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فنزلت هذه الآية: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، الآية.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتزل هو وعصابة معه يومئذ على أكمة، والناس يفرون، ورجل قائم على الطريق يسألهم: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وجعل كلما مروا عليه يسألهم فيقولون: والله ما ندري ما فعل! فقال: والذي نفسي بيده، لئن كان النبي صلى الله عليه وسلم قتل، لنعطينهم بأيدينا، إنهم لعشائرنا وإخواننا! وقالوا: إن محمداً إن كان حياً لم يهزم، ولكنه قتل! فترخصوا في الفرار حينئذ. فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، الآية كلها.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، الآية، ناس من أهل الارتياب والمرض والنفاق ، قالوا يوم فر الناس عن نبي الله صلى الله عليه وسلم وشج فوق حاجبه وكسرت رباعيته: قتل محمد، فالحقوا بدينكم الأول! فذلك قوله: "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم".
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم"، قال : ما بينكم وبين أن تدعوا الإسلام وتنقلبوا على أعقابكم إلا أن يموت محمد أو يقتل! فسوف يكون أحد هذين: فسوف يموت، أو يقتل.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل"، إلى قوله: "وسيجزي الله الشاكرين"، أي : لقول الناس: قتل محمد، وانهزامهم عند ذلك وانصرافهم عن عدوهم ، أي : أفئن مات نبيكم أو قتل ، رجعتم عن دينكم كفاراً كما كنتم ، وتركتم جهاد عدوكم وكتاب الله وما قد خلف نبيه من دينه معكم وعندكم ، وقد بين لكم فيما جاءكم عني أنه ميت ومفارقكم؟ "ومن ينقلب على عقبيه"، أي: يرجع عن دينه، "فلن يضر الله شيئا"، أي: لن ينقص ذلك من عز الله ولا ملكه ولا سلطانه.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج: قال أهل المرض والارتياب والنفاق ، حين فر الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم: قد قتل محمد، فالحقوا بدينكم الأول! فنزلت هذه الآية.
قال أبو جعفر: ومعنى الكلام : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، أفتنقلبون على أعقابكم ، إن مات محمد أو قتل؟ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً، فجعل الاستفهام في حرف الجزاء، ومعناه أن يكون في جوابه. وكذلك كل استفهام دخل على جزاء، فمعناه أن يكون في جوابه. لأن الجواب خبر يقوم بنفسه ، والجزاء شرط لذلك الخبر، ثم يجزم جوابه وهو كذلك ومعناه الرفع ، لمجيئه بعد الجزاء، كما قال الشاعر:
حلفت له: إن تدلج الليل لا يزل أمامك بيت من بيوتي سائر
فمعنى لا يزل رفع، ولكنه جيرم لمجيئه بعد الجزاء، فصار كالجواب. ومثله: "أفإن مت فهم الخالدون" [الأنبياء: 34]، و "فكيف تتقون إن كفرتم" [المزمل: 17]، ولو كان مكان "فهم الخالدون" [الأنبياء: 34]، يخلدون ، وقيل: أفئن مت يخلدوا، جاز الرفع فيه والجزم . وكذلك لو كان مكان "انقلبتم"، تنقلبوا، جاز الرفع والجزم ، لما وصفت قبل . وتركت إعادة الاستفهام ثانية مع قوله: "انقلبتم"، اكتفاءً بالاستفهام في أول الكلام ، وأن الاستفهام في أوله دال على موضعه ومكانه.
وقد كان بعض القرأة يختار في قوله: " أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون " [الإسراء: 82- الصافات: 16- الواقعة: 47]، ترك إعادة الاستفهام مع أئنا، اكتفاء بالاستفهام في قوله : أئذا كنا تراباً، ويستشهد على صحة وجه ذلك بإجماع القرأة على تركهم إعادة الاستفهام مع قوله: "انقلبتم"، اكتفاء بالاستفهام في قوله: "أفإن مات"، إذ كان دالاً على معنى الكلام وموضع الاستفهام منه. وكان يفعل مثل ذلك في جميع القرآن.
وسنأتي على الصواب من القول في ذلك إن شاء الله إذا انتهينا إليه.
فيه خمس مسائل :
الأولى : روي أنها نزلت بسبب انهزام المسلمين يوم أحد حين صاح الشيطان : قد قتل محمد ، قال عطية العوفي : فقال بعض الناس : قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم فإنما هما إخوانكم ، وقال بعضهم : إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به ، فأنزل الله تعالى في ذلك " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " إلى قوله " فآتاهم الله ثواب الدنيا " وما نافية ، وما بعدها ابتداء وخبر ، وبطل عمل ( ما ) وقرأ ابن عباس ( قد خلت من قبله رسل ) بغير ألف ولام ، فأعلم الله تعالى في هذه الآية أن الرسل ليست بباقية في قومها أبداً ، وأنه يجب التمسك مبما أتت به الرسل وإن فقد الرسول بموت أو قتل ، وأكرم نبيه صلى الله عليه وسلم وصفيه باسمين مشتقين من اسمه : محمد وأحمد ، تقول العرب : رجل محمود ومحمد إذا كثرت خصاله المحمودة ، قال الشاعر :
إلى الماجد القرم الجواد المحمد
وقد مضى هذا في الفاتحة ، وقال عباس بن مرداس :
يا خاتم النباء إنك مرسل بالخير كل هدى السبيل هداكا
إن الإله بنى عليك محبةً في خلقه ومحمداً سماكا
فهذه الآية من تتمة العتاب مع المنهزمين ، أي لم يكن لهم الانهزام وإن قتل محمد ، والنبوة لا تدرأ الموت ، والأديان لا تزول بموت الأنبياء ، والله أعلم .
الثانية : هذه الآية أدل دليل على شجاعة الصديق وجراءته ، فإن الشجاعة والجرأة حدهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ، ولا مصيبة أعظم من موت النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم بيانه في البقرة فظهرت عنده شجاعته وعلمه ، قال الناس : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، منهم عمر ، وخرس عثمان ، واستخفى علي ، واضطرب الأمر فكشفه الصديق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسنح ، الحديث ، كذا في البخاري ، وفي سنن ابن ماجة عن عائشة قالت : لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر عند امرأته ابنة خارجة بالعوالي فجعلوا يقولون : لم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بعض ما كان يأخذه عند الوحي ، فجاء أبو بكر فكشف عن وجهه وقبل بين عينيه وقال : أنت أكرم على الله من أن يميتك ! مرتين ، قد والله مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر في ناحية المسجد يقول : والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين كثير وأرجلهم ، فقام أبو بكر فصعد المنبر فقال : من كان يعبد الله فإن الله حي لم يمت ، ومن كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" قال عمر : ( فلكأني لم أقرأها إلا يومئذ ) ورجع عن مقالته التي قالها فيما ذكر الوائلي أبو نصر عبيد الله في كتابه الإبانة : عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب حين بويع أبو بكر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم واستوى على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد قبل أبي بكر فقال : أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة وإنها لم تكن كما قلت ، وإني والله ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله الله ولا في عهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدبرنا يريد أن يقول حتى يكون آخرنا موتاً ، فاختار الله عز وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم ، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسوله فخذوا به تهتدوا لما هدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الوائلي أبو نصر : المقالة التي قالها ثم رجع عنها هي ( أن النبي صلى الله علي وسلم لم يمت ولن يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم ) وكان قال ذلك لعظيم ما ورد عليه ، وخشي الفتنة وظهور المنافقين ، فلما شاهد قوة يقين الصديق الأكبر أبي بكر ، وتفوهه بقول الله عز وجل : " كل نفس ذائقة الموت " [ آل عمران : 185 ] ، وقوله : " إنك ميت وإنهم ميتون " [ الزمر : 30 ] ، وما قاله ذلك اليوم ، تنبه وتثبت وقال : كأني لم أسمع بالآية إلا من أبي بكر ، وخرج الناس يتلونها في سكك المدينة ، كأنها لم تنزل قط إلا ذلك اليوم ، ومات صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين بلا اختلاف ، في وقت دخوله المدينة في هجرته حين اشتد الضحاء ، ودفن يوم الثلاثاء ، وقيل ليلة الأربعاء ، وقالت صفية بنت عبد المطلب ترثي رسول الله صلى الله عليه وسلم :
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا وكنت بنا براً ولم تك جافياً
وكنت رحيماً هادياً ومعلماً ليبك عليك اليوم من كان باكيا
لعمرك ما أبكي النبي لفقده ولكن لما أخشى من الهرج آتيا
كأن علي قلبي لذكر محمد وما خفت من بعد النبي المكاريا
أفاطم صلى الله رب محمد على جدت أمسى بيثرب ثاويا
فدى لرسول الله أمي وخالتي وعمي وآبائي ونفسي وما ليا
صدقت وبلغت الرسالة صادقاً ومت صليب العود أبلج صافيا
فلو أن رب الناس أبقى نبينا سعدنا ، ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحيةً وأدخلت جنات من العدن راضيا
أرى حسناً أيتمته وتركته يبكي ويدعو جده اليوم ناعيا
فإن قيل وهي :
الثالثة : فلم أخر دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال لأهل بيت أخروا دفن ميتهم : " عجلوا دفن جيفتكم ولا تؤخروها " فالجواب من ثلاثة أوجه : الأول : ما ذكرناه من عدم اتفاقهم على موته ، الثاني : لأنهم لا يعلمون حيث يدفنونه ، قال قوم في البقيع ، وقال آخرون في المسجد ، وقال قوم : يحبس حتى يحمل إلى أبيه إبراهيم حتى قال العالم الأكبر : سمعته يقول : " ما دفن نبي إلا حيث يموت " ذكره ابن ماجة و الموطأ وغيرهما ، الثالث أنهم اشتغلوا بالخلاف الذي وقع بين المهاجرين والأنصار في البيعة ، فنظروا فيها حتى استتب الأمر وانتظم الشمل واستوثقت الحال ، واستقرت الخلافة في نصابها فبايعوا أبا بكر ، ثم بايعوه من الغد بيعة أخرى عن ملأ منهم ورضا ، فكشف الله به الكربة من أهل الردة ، وقام به الدين ، والحمد لله رب العالمين ، ثم رجعوا بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنظروا في دفنه وغسلوه وكفنوه ، والله أعلم .
الرابعة : واختلف هلى صلي عليه أم لا ، فمنهم من قال : لم يصل عليه أحد ، وإنما وقف كل واحد يدعو ، لأنه كان أشرف من أن يصلي عليه ، وقال ابن العربي : وهذا كلام ضعيف ، لأن السنة تقام بالصلاة عليه في الجنازة ، كما تقام بالصلاة عليه في الدعاء ، فيقول : اللهم صل على محمد إلى يوم القيامة ، وذلك منفعة لنا ، وقيل : لم يصل عليه ، لأنه لم يكن هناك إمام ، وهذا ضعيف ، لأن الذي كان يقيم بهم الصلاة الفريضة هو الذي كان يؤم بهم في الصلاة ، وقيل : صلى عليه الناس أفذاذاً ، لأنه كان آخر العهد به ، فأرادوا أن يأخذ كل أحد بركته مخصوصاً دون أن يكون فيها تابعاً لغيره ، والله أعلم بصحة ذلك .
قلت : قد خرج ابن ماجة بإسناد بل صحيح من حديث ابن عباس وفيه : فلما فروغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سريره في بيته ، ثم دخل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالاً يصلون عليه ، حتى إذا فرغوا أدخلوا النساء ، حتى إذا فرغن أدخلوا الصبيان ، ولم يؤم الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد ، خرجه عن نصر بن علي الجهضمي أنبأنا وهب بن جرير حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق ، قال حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس ، الحديث بطوله .
الخامسة : في تغيير الحال بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن أنس قال : لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء ، فما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء ، وما نفضنا عن النبي صلى الله عليه وسلم الأيدي حتى أنكرنا قلوبنا ، أخرجه ابن ماجة ، وقال : حدثنا محمد بن بشار أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن ينزل فينا القرآن ، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلمنا ، وأسند عن أم سلمة بنت أبي أمية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : كان الناس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام المصلي يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع قدميه ، فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر ، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع جبينه ، فتوفي أبو بكر وكان عمر ، فكان الناس إذا قام أحدهم يصلي لم يعد بصر أحدهم موضع القبلة ، فكان عثمان بن عفان فكانت الفتنة فتلفت الناس في الصلاة يميناً وشمالاً .
قوله تعالى : " أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " ( أفإين مات ) شرط ، ( أو قتل ) ، عطف عليه ، والجواب ( انلقبتم ) ودخل حرف الاستفهام على حرف الجزاء لأن الشرط قد انعقد به وصار جملة واحدة وخبراً واحداً ، والمعنى : أفتنقلبون على أعقابكم إن مات أو قتل ؟ وكذلك كل استفهام دخل على حرف الجزاء ، فإنه في غير موضعه ، وموضعه أن يكون قبل جواب الشرط ، وقوله " انقلبتم على أعقابكم " تمثيل ، معناه ارتددتم كفاراً بعد إيمانكم ، قاله قتادة وغيره ، ويقال لمن عاد إلى ما كان عليه : انقلب على عقبيه ومنه " نكص على عقبيه " [ الأنفال : 48 ] ، وقيل : المراد بالانقلاب هنا الانهزام ، فهو حقيقة لا مجاز ، وقيل : المعنى فعلتم فعل المرتدين وإن لم تكن ردة .
قوله تعالى : " ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا " بل يضر نفسه ويعرضها للعقاب بسبب المخالفة ، والله تعالى لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية لغناه ، " وسيجزي الله الشاكرين " ، أي الذين صبروا وجاهدوا واستشهدوا ، وجاء " وسيجزي الله الشاكرين " بعد قوله : " فلن يضر الله شيئا " فهو اتصال وعد بوعيد .
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم, نادى الشيطان: ألا إن محمداً قد قتل, ورجع ابن قميئة إلى المشركين, فقال لهم: قتلت محمداً, وإنما كان قد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشجه في رأسه, فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل, وجوزوا عليه ذلك, كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام, فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال, ففي ذلك أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه, قال ابن أبي نجيح عن أبيه : أن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل, فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ, فقاتلوا عن دينكم, فنزل "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل" رواه الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة. ثم قال تعالى منكراً على من حصل له ضعف "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" أي رجعتم القهقرى "ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين" أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه, واتبعوا رسوله حياً وميتاً. وكذلك ثبت في الصحاح والمساند والسنن وغيرها من كتب الإسلام من طرق متعددة تفيد القطع, وقد ذكرت ذلك في مسندي الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن الصديق رضي الله عنه, تلا هذه الاية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال البخاري : حدثنا يحيى بن بكير , حدثنا الليث عن عقيل , عن ابن شهاب , أخبرني أبو سلمة أن عائشة رضي الله عنها, أخبرته أن أبا بكر رضي الله عنه, أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد, فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة , فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة, فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبله وبكى, ثم قال: بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين, أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها, وقال الزهري : حدثني أبو سلمة عن ابن عباس أن أبا بكر خرج و عمر يحدث الناس فقال: اجلس يا عمر فأبى عمر أن يجلس فأقبل الناس إليه وتركوا عمر , فقال أبو بكر : أما بعد من كان يعبد محمداً, فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت. قال الله تعالى: " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " قال: فو الله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الاية حتى تلاها عليهم أبو بكر , فتلقاها منه الناس كلهم فما سمعها بشر من الناس إلا تلاها, وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي, وحتى هويت إلى الأرض. وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز , حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد , حدثنا أسباط بن نصر عن سماك بن حرب , عن عكرمة , عن ابن عباس , أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله, والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت, والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه, فمن أحق به مني ؟ وقوله تعالى: "وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً" أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له, ولهذا قال "كتاباً مؤجلاً" كقوله "وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب" وكقوله "هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده" وهذه الاية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال, فإن الإقدام والإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه, كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال: سمعت أبا معاوية عن الأعمش عن حبيب بن صهبان , قال: قال رجل من المسلمين وهو حجر بن عدي : ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة ـ يعني دجلة ـ "وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً" ثم أقحم فرسه دجلة, فلما أقحم, أقحم الناس, فلما رآهم العدو قالوا: ديوان فهربوا. وقوله " ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها " أي من كان عمله للدنيا فقط نال منها ما قدره الله له, ولم يكن له في الاخرة نصيب, ومن قصد بعمله الدار الاخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا, كما قال تعالى: " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب " وقال تعالى: " من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا * ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا " ولهذا قال ههنا "وسنجزي الشاكرين" أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والاخرة بحسب شكرهم وعملهم, ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد " وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير " قيل: معناه كم من نبي قتل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير. وهذا القول هو اختيار ابن جرير فإنه قال: وأما الذين قرأوا " قاتل معه ربيون كثير " فإنهم قالوا: إنما عنى بالقتل النبي وبعض من معه من الربيين دون جميعهم, وإنما نفى الوهن والضعف عمن بقي من الربيين ممن لم يقتل, قال: ومن قرأ قاتل فإنه اختار ذلك, لأنه قال: لو قتلوا لم يكن لقول الله "فما وهنوا" وجه معروف لأنه يستحيل أن يوصفوا بأنهم لم يهنوا ولم يضعفوا بعد ما قتلوا, ثم اختار قراءة من قرأ " قاتل معه ربيون كثير " لأن الله عاتب بهذه الايات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً قد قتل, فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال, فقال لهم "أفإن مات أو قتل" أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم و"انقلبتم على أعقابكم" وقيل: وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير, وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولاً آخر, فإنه قال: وكأين من نبي أصابه القتل ومعه ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم, وما ضعفوا عن عدوهم, وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم, وذلك الصبر "والله يحب الصابرين" فجعل قوله "معه ربيون كثير" حالاً, وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه, وله اتجاه لقوله "فما وهنوا لما أصابهم" الاية, وكذا حكاه الأموي في مغازيه عن كتاب محمد بن إبراهيم ولم يحك غيره, وقرأ بعضهم "قاتل معه ربيون كثير" قال سفيان الثوري , عن عاصم , عن زر عن ابن مسعود "ربيون كثير" أي ألوف, وقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والحسن وقتادة والسدي والربيع وعطاء الخراساني : الربيون الجموع الكثيرة وقال عبد الرزاق عن معمر عن الحسن "ربيون كثير" أي علماء كثير, وعنه أيضاً: علماء صبر أبرار وأتقياء. وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عز وجل, قال: ورد بعضهم عليه فقال: لو كان كذلك لقيل: الربيون بفتح الراء, وقال ابن زيد : الربيون الأتباع والرعية, والربانيون الولاة. "فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا"قال قتادة والربيع بن أنس "وما ضعفوا" بقتل نبيهم "وما استكانوا" يقول: فما ارتدوا عن بصيرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله, وقال ابن عباس "وما استكانوا" تخشعوا, وقال السدي وابن زيد : وما ذلوا لعدوهم, وقال محمد بن إسحاق والسدي وقتادة : أي ما أصابهم ذلك حين قتل نبيهم "والله يحب الصابرين * وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين" أي لم يكن لهم هجير إلا ذلك "فآتاهم الله ثواب الدنيا" أي النصر والظفر والعاقبة " وحسن ثواب الآخرة " أي جمع لهم ذلك مع هذا "والله يحب المحسنين".
وقوله 144- "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل". سبب نزول هذه ما سيأتي من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصيب في يوم أحد صاح الشيطان قائلاً: قد قتل محمد، ففشل بعض المسلمين حتى قال قائل: قد أصيب محمد فأعطوا بأيديكم فإنما هم إخوانكم، وقال آخر: لو كان رسولاً ما قتل، فرد الله عليهم ذلك وأخبرهم بأنه رسول قد خلت من قبله الرسل وسيخلو كما خلوا، فجملة قوله "قد خلت من قبله الرسل" صفة لرسول. والقصر قصر إفراد كأنهم استبعدوا هلاكه فأثبتوا له صفتين: الرسالة، وكونه لا يهلك، فرد الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك، وقيل: هو قصر قلب. وقرأ ابن عباس قد خلت من قبل رسل ثم أنكر الله عليه بقوله "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" أي: كيف ترتدون وتتركون دنيه إذا مات أو قتل مع علمكم أن الرسل تخلو ويتمسك أتباعهم بدينهم وإن فقدوا بموت أو قتل، وقيل: الإنكار لجعلهم خلو الرسل قبله سبباً لانقلابهم بموته أو قتله، وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل لكونه مجوزاً عند المخاطبين. قوله " ومن ينقلب على عقبيه " أي: بإدباره عن القتال أو بارتداده عن الإسلام "فلن يضر الله شيئاً" من الضرر وإنما يضر نفسه "وسيجزي الله الشاكرين" أي الذين صبروا وقاتلوا واستشهدوا، لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام. ومن امتثل ما أمر به فقد شكر النعمة التي أنعم الله به عليه.
144-قوله عز وجل:" وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " قال أصحاب المغازي : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بالشعب من احد في سبعمائه رجل ، وجعل عبد الله بن جبير وهو أخو خوات ابن جبير على الرجالة ، وكانوا خمسين رجلاً ، وقال: أقيموا بأصل الجبل وانضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا ، فإن كانت لنا او علينا فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم فجاءت قريش وعلى ميمنتهم خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل ومعهم النساء يضربن بالدفوف ويقلن الأشعار فقاتلوا حتى حميت الحرب فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفاً فقال من يأخذ هذا السيف بحقه ويضرب به العدو حتى يثخن ، فأخذه ابو دجانة سماك بن خرشة الأنصاري ، فلما أخذه اعتم بعمامة حمراء وجعل يتبختر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها لمشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع ، ففلق به هام المشركين ، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على المشركين فهزموهم .
وروينا عن البراء بن عازب قال: فأنا والله رأيت النساء يشتددن قد بدت خلاخلهن وأسوقهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله بن جبير : الغنيمة والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة ، فلما اتوهم صرفت وجوهم .
وقال الزبير بن العوام : فرأيت هنداً وصواحباتها هاربات مصعدات في الجبل ، باديات خدامهن ما دون أخذهن شئ فلما نظرت الرماة الى القوم قد انكشفوا ورأوا اصحابهم ينتهبون الغنيمة أقبلوا يريدون النهب.
فلما رأى خالد بن الوليد قلة الرماة واشتغال المسلمين بالغنيمة ، ورأى ظهورهم خالية صاح في خيله من المشركين ، ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من خلفهم فهزموهم وقتلوهم ، ورمى عبد الله بن قمئة رسول اله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر أنفه ورباعيته وشجه في وجهه فأثقله وتفرق عنه أصحابه ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم الى صخرة يعلوها ، وكان قد ظاهر بين درعين ، فلم يستطع فجلس تحته طلحة فنهض حتى استوى عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :أوجب طلحة ووقعت هند والنسوة معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجدعن الآذان والأنوف حتى اتخذت هند من ذلك قلائد ، وأعطتها وحشياً وبقرت عن كبدة حمزة ولاكتها لم تستطع أن تسيغها فلفظتها ،وأقبل عبد الله بن قمئة يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذب مصعب بن عمير- وهو صاحب راية رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله ابن قمئة ، وهو يرى أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع الى المشركين وقال: إني قتلت محمداً وصاح صارخ الا ان محمداً قد قتل، ويقال: إن ذلك الصارخ كان إبليس ، فانكفأ الناس، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس:إلي عباد الله (إلي عباد الله ) ، فاجتمع اليه ثلاثون رجلاً فحموه حتى كشفوا عنه المشركين ، ورمى سعد بن ابي وقاص حتى اندقت سية قوسه ، ونثل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته ، وقال له : ارم فداك أبي وأمي ، وكان طلحة رجلاً رامياً شديداً النزع كسر يومئذ قوسين أو ثلاثاً ، وكان الرجل يمر بجعبة من النبل فيقول: انثرها لأبي طلحة ، وكان إذا رمى أشرف النبي صلى الله عليه وسلم فينظر الى موضع نبله وأصيبت يد طلحة بن عبيد الله فيبست حين وقى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان يومئذ حتى وقعت على وجنته ، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانها ، فعادت كأحسن ماكانت .
فلما أنصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ادركه ابي بن خلف الجمحي ، وهو يقول : لا نجوت إن نجوت ، فقال القوم : يارسول الله الا يعطف عليه رجل منا؟ فقال صلى الله عليه وسلم :دعوه حتى اذا دنا منه، وكان أبي قبل ذلك يلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : عندي رمكة اعلفها كل يوم فرق ذرة أقتلك عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل أنا أقتلك إن شاء الله ، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ثم استقبله فطعنه في عنقه ، فخدشه خدشة فتدهدأً عن فرسه وهو يخور كما يخور الثور،ويقول: قتلني محمد ،فأخذه أصحابه وقالوا: ليس عليك بأس، قال : بلى لو كانت هذه الطعنة بربيعة ومضر لقتلتهم ، أليس قال لي: أقتلك ؟ فلو بزق علي بعد تلك المقالة لقتلني ، فلم يلبث الا يوماً حتى مات بموضع يقال له سرف.
اخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمرو بن علي أنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إشتد غضب الله على من قتله نبي/ واشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قالوا: وفشا في الناس أن محمداً قد قتل فقال بعض المسلمين : ليت لنا رسولاً الى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم ، وقال أناس من أهل النفاق :إن كان محمداً قد قتل فالحقوا بدينكم الأول ، فقال أنس بن النضر عم انس بن مالك : يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد لم يقتل وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقاتلوا على ماقاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وموتوا على مامات عليه ثم قال: اللهم إني اعتذر اليك مما يقول هؤلاء يعني المسلمين ، وأبرأ اليك مما جاء به هؤلاء يعني المنافقين ، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل.
ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم انطلق الى الصخرة وهو يدعو الناس، فأول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب ابن مالك ، قال عرفت عينيه تحت المغفر تزهران ، فناديت بأعلى صوتي : يامعشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فأشار الي أن اسكت ، فانحازت اليه طائفة من أصحابه ، فلامهم النبي صلى الله عليه وسلم على الفرار، فقالوا / يانبي الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، أتانا الخبر بأنك قد قتلت ، فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ".
ومحمد هو المستغرق لجميع المحامد، لأن الحمد لايستوجبه الا الكامل ، والتحميد فوق الحمد، فلا يستحقه الا المستولي على الأمر في الكمال ، وأكرم الله نبيه وصفيه باسمين مشتقين من اسمه جل جلاله (محمد وأحمد) ، وفيه يقول حسان بن ثابت :
ألم تر أن الله أرسل عبده ببرهانه والله أعلى وأمجد
وشق له من اسمه ليجله فذو العرض محمود وهذا محمد
قوله تعالى :"أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم " رجعتم الى دينكم الأول،"ومن ينقلب على عقبيه"، فيرتد عن دينه،"فلن يضر الله شيئاً"، بارتداده وإنما يضر نفسه" وسيجزي الله الشاكرين".
144" وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل " فسيخلوا كما خلو بالموت أو القتل. "أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم" إنكاراً لارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم عن الدين لخلوه بموت أو قتل بعد علمهم بخلو الرسل قبله وبقاء دينهم متمسكاً به. وقيل الفاء لسببية والهمزة لإنكار أن يجعلوا خلو الرسل قبله سباباً لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاته. وروي "أنه لما رمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر فكسر رباعيته وشج وجهه، فذب عنه مصعب بن عمير رضي الله عنه وكان صاحب الراية حتى قتله ابن قميئة وهو يرى أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قتلت محمداً وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل، فانكفأ الناس وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوا إلي عباد الله فانحاز إليه ثلاثون من أصحابه وحموه حتى كشفوا عنه المشركين وتفرق الباقون، وقال بعضهم: ليت ابن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وقال ناس من المنافقين لو كان نبياً لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك رضي الله عنهما: يا قوم إن قتل محمداً فان رب محمد حي لا يموت وما تصنعون بالحياة بعده فقاتلوا على ما قاتل عليه، ثم قال اللهم إني أعتذر إليك مما يقولون وأبرأ إليك منه وشد بسيفه فقاتل حتى قتل" فنزلت. " ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا " بارتداده بل يضر نفسه. " وسيجزي الله الشاكرين " على نعمة الإسلام بالثبات عليه كأنس وأضرابه.
144. Muhammad is but a messenger, messengers (the like of whom) have passed away before him. Will it be that, when he dieth or is slain, ye will turn back on your heels? He who turneth back doth no hurt to Allah, and Allah will reward the thankful.
144 - Muhammad is no more than an apostle: many were the apostles that passed away before him. if he died or were slain, will ye then turn back on your heels? if any did turn back on his heels, not the least harm will he do to God; but God (on the other hand) will swiftly reward those who (serve him) with gratitude.