(ولئن) لام القسم (أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية) على صدقك في أمر القبلة (ما تبعوا) أي لا يتبعون (قبلتك) عناداً (وما أنت بتابع قبلتهم) قطع لطمعه في إسلامهم وطمعهم في عوده إليها (وما بعضهم بتابع قبلة بعض) أي اليهود قبلة النصارى وبالعكس (ولئن اتبعت أهواءهم) التي يدعونك إليها (من بعد ما جاءك من العلم) الوحي (إنك إذا) إن اتبعتهم فرضا (لمن الظالمين)
القول في تأويل قوله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام"
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد نرى يا محمد نحن تقلب وجهك في السماء. ويعني: بالتقلب، التحول والتصرف. ويعنى بقوله: في السماء، نحو السماء وقبلها.وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم- فيما بلغنا- لأنه كان- قبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة-يرفع بصره إلى السماء ينتظر من الله جل ثناؤه أمره بالتحويل نحو الكعبة، كما: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "قد نرى تقلب وجهك في السماء"، قال: "كان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء، يحب أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة، حتى صرفه الله إليها " .
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "قد نرى تقلب وجهك في السماء"، "فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس، يهوى ويشتهي القبلة نحو البيت الحرام، فوجهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها ويشتهيها".
حدثنا المثنى قال، حدثني إسحق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "قد نرى تقلب وجهك في السماء"، يقول: نظرك في السماء. "وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس، وكان يهوى قبلة البيت الحرام، فولاه الله قبلة كان يهواها".
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي
قال: " كان الناس يصلون قبل بيت المقدس، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة على رأس ثمانية عشر شهراً من مهاجره، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء ينظر ما يؤمر. وكان يصلي قبل بيت المقدس، فنسختها الكعبة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يصلي قبل الكعبة، فأنزل الله جل ثناؤه: "قد نرى تقلب وجهك في السماء" الآية" . ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة.قال بعضهم: كره قبلة بيت المقدس، من أجل أن اليهود قالوا: يتبع قبلتنا ويخالفنا فى ديننا! ذكر من قال ذلك:حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهدقال: قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتبع قبلتنا! فكان يدعو الله جل ثناؤه ويستفرض القبلة، فنزلت:"قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام"،- وانقطع قول يهود: يخالفنا ويتبع قبلتنا!- في صلاة الظهر، فجعل الرجال مكان النساء، والنساء مكان الرجال. حدثني يونس قال، " أخبرنا ابن وهب قال، سمعته- يعني ابن زيد- يقول: قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "فأينما تولوا فثم وجه الله" ـ [البقرة: 115] ـ . قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتاً من بيوت الله- لبيت المقدس- لو أنا استقبلناه فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهراً، فبلغه أن يهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله جل ثناؤه: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" الآية " .وقال آخرون: يل كان يهوى ذلك، من أجل أنه كان قبلة أبيه إبراهيم عليه السلام. ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهراً،- فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم، كان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل: "قد نرى تقلب وجهك في السماء" الآية " . فأما قوله: "فلنولينك قبلة ترضاها"، فإنه يعني: فلنصرفنك عن بيت المقدس، إلى قبلة "ترضاها": تهواها وتحبها.وأما قوله: "فول وجهك"، يعني: اصرف وجهك وحوله.
وقوله: "شطر المسجد الحرام"، يعني بـ الشطر، النحو والقصد والتلقاء، كما قال الهذلي:
إن العسير بها داء مخامرها فشطرها نظر العينين محسور
يعني بقوله: شطرها، نحوها، وكما قال ابن أحمر:
تعدو بنا شطرجمع وهي عاقدة قد كارب العقد من إيفادها الحقبا
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية: "شطر المسجد الحرام"، يعني: تلقاءه. حدثني المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن طلحة، عن ابن عباس: "شطر المسجد الحرام"، نحوه. حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن نجيح، عن مجاهد قوله: "فول وجهك شطر المسجد الحرام"، نحوه. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، مجاهد، مثله. حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة: "فول وجهك شطر المسجد الحرام"، أي: تلقاء المسجد الحرام.حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله: "فول وجهك شطر المسجد الحرام"، قال: نحو المسجد الحرام. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع "فول وجهك شطر المسجد الحرام"، أي: تلقاءه. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبر عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال: شطره، نحوه.
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحقعن البراء: "فولوا وجوهكم شطره"، قال: قبله. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: شطره، ناحيته، جانبه قال: وجوانبه شطوره.ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يولي وجهه إليه من المسجد الحرام.فقال بعضهم: القبلة التي حول إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وعناها الله تعالى ذكره بقوله: "فلنولينك قبلة ترضاها"، حيال ميزاب الكعبة. ذكر من قال ذلك: حدثني عبدالله بن أبي زياد قال، حدثنا عثمان قال، أخبرنا شعبة عن يعلى بن عطاءعن يحيى بن قمطة، عن عبدالله بن عمرو: "فلنولينك قبلة ترضاها"، حيال ميزاب الكعبة. وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبدالله بن عمرو جالساً في المسجد الحرام بإزاء الميزاب، وتلا هذه الآية: "فلنولينك قبلة ترضاها"، قال: هذه القبلة، هي هذه القبلة. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم- بإسناده عن عبدالله بن عمرو، نحوه- الا أنه قال: استقبل الميزاب فقال: هذه القبلة التي قال الله لنبيه: "فلنولينك قبلة ترضاها". وقال آخرون: بل ذلك البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب. ذكر من قال ذلك: حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير،عن ابن عباس: البيت كله قبلة، وهذه قبلة البيت- يعني التي فيها الباب.قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه: "فول وجهك شطر المسجد الحرام"، فالمولي وجهه شطر المسجد الحرام، هو المصيب القبلة. وإنما على من توجه إليه النية بقلبه أنه إليه متوجه، كما أن على من ائتم بإمام فإنما عليه الائتمام به، وإن لم يكن محاذياً بدنه بدنه، وإن كان في طرف الصف والإمام في طرف آخر، عن يمينه أو عن يساره، بعد أن يكون من خلفه مؤتماً به، مصلياً الى الوجه الذي يصلي إليه الإمام. فكذلك حكم القبلة، وإن لم يكن يحاذيها كل مصل ومتوجه اليها ببدنه، غير أنه متوجه إليها. فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلها، فهو مستقبلها، بعد ما بينه وبينها أو قرب، من عن يمينها أو عن يسارها، بعد أن يكون غير مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووجهه، كما: حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحق، عن عميرة بن زياد الكندي، عن علي: "فول وجهك شطر المسجد الحرام"، قال: شطره، قبله.قال أبو جعفر: وقبلة البيت بابه، كما: حدثني يعقوب بن إبراهيم والفضل بن الصباح قالا، حدثنا هشيم قال، أخبرناعبد الملك، عن عطاء قال، " قال أسامة بن زيد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من البيت أقبل بوجهه إلى الباب، فقال: هذه القبلة، هذه القبلة". حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا، حدثنا جرير، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال، حدثني أسامة بن زيد قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم من البيت فصلى ركعتين مستقبلاً بوجهه الكعبة، فقال: هذه القبلة، مرتين". حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء،عن أسامة بن زيد،عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه. حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: سمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطواف ولم تؤمروا بدخوله. قال: قال: لم يكن ينهى عن دخوله، ولكني سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها، ولم يصل حتى خرج، فلما خرج ركع في قبل القبلة ركعتين، وقال: هذه القبلة". قال أبو جعفر: فأخبر صلى الله عليه وسلم أن البيت هو القبلة، وأن قبلة البيت بابه.
القول في تأويل قوله تعالى: "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره"
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحولوا وجوهكم في صلاتكم نحو المسجد الحرام وتلقاءه.
و الهاء التي في شطره كل عائدة إلى المسجد الحرام. فأوجب جل ثناؤه بهذه الاية على المؤمنين، فرض التوجه نحو المسجد الحرام في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى.
وأدخلت الفاء في قوله: "فولوا"، جواباً للجزاء. وذلك أن قوله: "حيث ما كنتم" جزاء ومعناه: حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره.
القول ني تأويل قوله تعالى: "وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم" قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "وإن الذين أوتوا الكتاب"، أحبار اليهود وعلماء النصارى.وقد قيل: إنما عنى بذلك اليهود خاصة. ذكر من قال ذلك: حدثنا موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي "وإن الذين أوتوا الكتاب"، أنزل ذلك في اليهود.وقوله: "ليعلمون أنه الحق من ربهم"، يعني هؤلاء الأحبار والعلماء من أهل الكتاب، يعلمون أن التوجه نحو المسجد، الحق الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباد بعده. وبعني بقوله: "من ربهم" أنه الفرض الواجب على عباد الله تعالى ذكره، وهو الحق من عند ربهم، فرضه عليهم. القول في تأويل قوله تعالى: "وما الله بغافل عما يعملون".قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك وتعالى: وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون، في اتباعكم أمره، وانتهائكم إلى طاعته، فيما ألزمكم من فرائضه، وإيمانكم به في صلاتكم نحو بيت المقدس، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطر المسجد الحرام، ولا هو ساه عنه، ولكنه جل ثناؤه يحصيه لكم ويدخره لكم عنده، حتى يجازيكم به أحسن جزاء، ويثيبكم عليه أفضل ثواب.
قوله تعالى : "ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك" لأنهم كفروا وقد تبين لهم الحق ، وليس تنفعهم الآيات ، أي العلامات . وجمع قبلة في التكسير : قبل . وفي التسليم : قبلات . ويجوز أن تبدل من الكسرة فتحة ، فتقول قبلات . ويجوز أن تحذف الكسرة وتسكن الباء فتقول قبلات . وأجيبت لئن بجواب لو وهي ضدها في أن لو تطلب في جوابها المضي والوقوع ، و لئن تطلب الاستقبال ، فقال الفراء و الأخفش : أجيبت بجواب لو لأن المعنى : ولو أتيت . وكذلك تجاب لو بجواب لئن ، تقول :لو أحسنت أحسن إليك ، ومثله قوله تعالى : "ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا" أي ولو ارسلنا ريحاً . وخالفهما سيبويه فقال :إن معنى لئن مخالف لمعنى لو فلا يدخل واحد منهما على الآخرة ، فالمعنى :ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ولا يتبعون قبلتك . قال سيبويه : ومعنى "ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا" ليظلن .
قوله تعالى : "وما أنت بتابع قبلتهم" لفظ خبر ويتضمن الأمر ، أي فلا تركن إلى شيء من ذلك . ثم أخبر تعالى أن اليهود ليست متبعة قبلة النصارى ولا النصارى متعبة قبلة اليهود ، عن السدي وابن زيد . فهذا إعلام باختلافهم وتدابرهم وضلالهم . وقال قوم : المعنى وما من اتبعك ممن أسلم منهم بمتبع قبلة من لم يسلم ، ولا من لم يسلم قبلة من أسلم . والأول أظهر ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : "ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين" الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمراد أمته ممن يجوز أن يتبع هواه فيصير باتباعه ظالماً ، وليس يجوز أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ما يكون به ظالماً ، فهو محمول على إراداة أمته لعصمة النبي صلى الله عليه وسلم وقطعنا أن ذلك لا يكون منه ، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم تعظيماً للأمر ولأنه المنزل عليه . والأهواء : جمع هوى ، وقد تقدم ، وكذا "من العلم" تقدم أيضاً ، فلا معنى للإعادة .
يخبر تعالى عن كفر اليهود وعنادهم ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى: "إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون* ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم" ولهذا قال ههنا " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك " وقوله "وما أنت بتابع قبلتهم" إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به وأنه كما هم مستمسكون بآرائهم وأهوائهم، فهو أيضاً مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ولا كونه متوجهاً إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى، ثم حذر تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى، فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره، ولهذا قال مخاطباً للرسول والمراد به الأمة "ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذاً لمن الظالمين".
وقوله: 145- "ولئن أتيت" هذه اللام هي موطئة للقسم، والتقدير: والله لئن أتيت. وقوله: "ما تبعوا" جواب القسم المقدر قال الأخفش والفراء: أجيب لئن بجواب لو لأن المعنى: ولو أتيت، ومثله قوله تعالى: "ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا" أي ولو أرسلنا، وإنما قالا هكذا لأن لئن هي ضد لو، وذلك أن الأولى تطلب في جوابها المضي والوقوع ولئن تطلب في جوابها الاستقبال. وقال سيبويه: إن معنى لئن يخالف معنى لو فلا تدخل إحداهما على الأخرى، فالمعنى: " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ". قال سيبويه: ومعنى: "ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً" ليظللن انتهى. وفي هذه الآية مبالغة عظيمة وهي متضمنة للتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وترويح خاطره لأن هؤلاء لا تؤثر فيهم كل آية، ولا يرجعون إلى الحق وإن جاءهم بكل برهان فضلاً عن برهان واحد وذلك أنهم لم يتركوا اتباع الحق لدليل عندهم أو لشبهة طرأت عليهم، حتى يوازنوا بين ما عندهم وما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقلعوا عن غوايتهم عند وضوح الحق، بل كان تركهم للحق تمرداً وعناداً مع علمهم بأنهم ليسو على شيء، ومن كان هكذا فهو لا ينتفع بالبرهان أبداً. وقوله: "وما أنت بتابع قبلتهم" هذه الإخبار ممكن أن يكون بمعنى النهي من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: أي لا تتبع يا محمد قبلتهم ويمكن أن يكون على ظاهره دفعاً لأطماع أهل الكتاب، وقطعاً لما يرجونه من رجوعه صلى الله عليه وسلم إلى القبلة التي كان عليها. وقوله: "وما بعضهم بتابع قبلة بعض" فيه إخبار بأن اليهود والنصارى مع حرصهم على مبايعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما عندهم مختلفون في دينهم حتى في هذا الحكم الخاص الذي قصه الله سبحانه على رسوله، فإن بعضهم لا يتابع الآخر في استقبال قبلته. قال في الكشاف: وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس والنصارى تستقبل مطلع الشمس انتهى. وقوله: "ولئن اتبعت أهواءهم" إلى آخر الآية، فيه من التهديد العظيم والزجر البليغ ما تقشعر له الجلود وترجف منه الأفئدة، وإذا كان الميل إلى أهوية المخالفين لهذه الشريعة الغراء والملة الشريفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد ولد آدم يوجب عليه أن يكون وحاشاه من الظالمين، فما ظنك بغيره من أمته، وقد صان الله هذه الفرقة الإسلامية يعد ثبوت قدم الإسلام وارتفاع مناره عن أن يميلوا إلى شيء من هوى أهل الكتاب، ولم تبق إلا دسيسة شيطانية ووسيلة طاغوتية، وهي ميل بعض من تحمل حجج الله إلى هوى بعض طوائف المبتدعة، لما يرجوه من الحطام العاجل من أيديهم أو الجاه لديهم إن كان لهم في الناس دولة، أو كانوا من ذوي الصولة، وهذا الميل ليس بدون ذلك الميل، بل اتباع أهوية المبتدعة تشبه اتباع أهوية أهل الكتاب، كما يشبه الماء الماء، والبيضة البيضة، والتمرة التمرة، وقد تكون مفسدة اتباع أهوية المبتدعة أشد على هذه الملة من مفسدة اتباع أهوية أهل الملل، فإن المبتدعة ينتمون إلى الإسلام، ويظهرون للناس أنهم ينصرون الذين ويتبعون أحسنه، وهم على العكس من ذلك والضد لما هنالك، فلا يزالون ينقلون من يميل إلى أهويتهم من بدعة إلى بدعة ويدفعونه من شنعة إلى شنعة، حتى يسلخوه من الدين ويخرجوه منه، وهو يظن أنه منه في الصميم، وأن الصراط الذي هو عليه هو الصراط المستقيم، هذا إن كان في عداد المقصرين، ومن جملة الجاهلين، وإن كان من أهل العلم والفهم المميزين بين الحق والباطل كان في اتباعه لأهويتهم ممن أظله الله على علم وختم على قلبه، وصار نقمة على عباد الله ومصيبة صبها الله على المقصرين، لأنهم يعتقدون أنه في علمه وفهمه لا يميل إلا إلى الحق، ولا يتبع إلا الصواب، فيضلون بضلاله، فيكون عليه إثمه وإثم من اقتدى به إلى يوم القيامة، نسأل الله اللطف والسلامة والهداية.
145. قوله تعالى: " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب " يعني اليهود والنصارى قالوا: ائتنا بآية على ما تقول، فقال الله تعالى: " ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب " " بكل آية " معجزة " ما تبعوا قبلتك " يعني الكعبة " وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض " لأن اليهود تستقبل بيت المقدس وهو المغرب والنصارى تستقبل المشرق وقبلة المسلمين الكعبة.
أخبرنا أبو عثمان بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي أخبرنا أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي أخبرنا الحسن بن بكر المروزي أخبرنا المعلى بن منصور أخبرنا عبد الله بن جعفر المخز,مي عن عثمان الأخنسي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " القبلة ما بين المشرق والمغرب " .
وأراد به في حق أهل المشرق، وأراد بالمشرق: مشرق الشتاء في أقصر يوم في السنة، وبالمغرب: مغرب الصيف في أطول يوم من السنة، فمن جعل مغرب الصيف في هذا الوقت على يمينه ومشرق الشتاء على يساره كان وجهه إلى القبلة " ولئن اتبعت أهواءهم ": مرادهم الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به الأمة، " من بعد ما جاءك من العلم " من الحق في القبلة، " إنك إذاً لمن الظالمين ".
145-" ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية " برهان وحجة على أن الكعبة قبلة ، واللام موطئة للقسم " ما تبعوا قبلتك " جواب للقسم المضمر ، والقسم وجوابه ساد مسد جواب الشرط ، والمعنى ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها بالحجة ، وإنما خالفوك مكابرة وعناداً . " وما أنت بتابع قبلتهم " قطع لأطماعهم ، فإنهم قالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن تكون صاحبنا الذي ننتظره ، تغريراً له وطمعاً في رجوعه ، وقبلتهم وإن تعددت لكنها متحدة بالبطلان ومخالفة الحق . " وما بعضهم بتابع قبلة بعض " فإن اليهود تستقبل الصخرة ، والنصارى مطلع الشمس . لا يرجى توافقهم كما لا يرجى موافقتهم لك ، لتصلب كل حزب فيما هو فيه " ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم " على سبيل الفرض والتقدير ، أي : ولئن اتبعتهم مثلاً بعدما بان لك الحق وجاءك فيه الوحي " إنك إذاً لمن الظالمين " وأكد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه : أحدها : الإتيان باللام الموطئة للقسم : ثانيها : القسم المضمر . ثالثها : حرف التحقيق وهو أن . رابعها : تركيبه من جملة فعلية وجملة اسمية . وخامسها : الإتيان باللام في الخبر . وسادسها : جعله من " الظالمين " ، ولم يقل إنك ظالم لأن في الاندراج معهم إيهاماً بحصول أنواع الظلم . وسابعها : التقييد بمجيء العلم تعظيماً للحق المعلوم ، وتحريصاً على اقتفائه وتحذيراً عن متابعة الهوى ، واستفظاعاً لصدور الذنب عن الأنبياء .
145. And even if thou broughtest unto those who have received the Scripture all kinds of portents, they would not follow thy qiblah, nor canst thou be a follower of their qiblah; nor are some of them followers of the qiblah of others. And if thou shouldst follow their desires after the knowledge which hath come unto thee, then surely wert thou of the evil doers.
145 - Even if thou wert to bring to the people of the book all the signs (together), they would not follow thy Qibla; nor art thou going to follow their Qibla; nor indeed will they follow each other's Qibla. if thou after the knowledge hath reached thee, wert to follow their (vain) desires, then wert thou indeed (clearly) in the wrong.