(أولئك هم الكافرون حقا) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله (وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا) ذا إهانة وهو عذاب النار
فقال جل ثناؤه لعباده ، منبها لهم على ضلالتهم وكفرهم : "أولئك هم الكافرون حقا"، يقول : أيها الناس ، هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم ، هم أهل الكفر بي ، المستحقون عذابي والخلود في ناري حقاً. فاستيقنوا ذلك ، ولا يشككنكم في أمرهم انتحالهم الكذب ، ودعواهم أنهم يقرون بما زعموا أنهم به مقرون من الكتب والرسل ، فإنهم في دعواهم ما ادعوا من ذلك كذبة. وذلك أن المؤمن بالكتب والرسل ، هو المصدق بجميع ما في الكتاب الذي يزعم أنه به مصدق ، وبما جاء به الرسول الذي يزعم أنه به مؤمن . فأما من صدق ببعض ذلك وكذب ببعض ، فهو لنبوة من كذب ببعض ما جاء به جاحد، ومن جحد نبوة نبي فهو به مكذب . وهؤلاء الذين جحدوا نبوة بعض الأنبياء، وزعموا أنهم مصدقون ببعض ، مكذبون من زعموا أنهم به مؤمنون ، لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم ، فهم بالله وبرسله ، الذين يزعمون أنهم به مصدقون ، والذين يزعمون أنهم بهم مكذبون ، كافرون ، فهم الجاحدون وحدانية الله ونبوة أنبيائه حق الجحود، المكذبون بذلك حق التكذيب . فاحذروا أن تغتروا بهم وببدعتهم ، فإنا قد أعتدنا لهم عذاباً مهيناً.
وأما قوله : "وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا"، فإنه يعني : "وأعتدنا" لمن جحد بالله ورسوله جحود هؤلاء الذين وصفت لكم ، أيها الناس ، أمرهم من أهل الكتاب ، ولغيرهم من سائر أجناس الكفار، "عذابا"، في الآخرة، "مهينا"، يعني : يهين من عذب به بخلوده فيه .
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا"، أولئك أعداء الله اليهود والنصارى. آمنت اليهود بالتوراة وموسى ، وكفروا بالإنجيل وعيسى . وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم. فاتخذوا اليهودية والنصرانية، وهما بدعتان ليستا من الله ، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رسله.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله"، يقولون : محمد ليس برسول لله ! وتقول اليهود: عيسى ليس برسول لله ! فقد فرقوا بين الله وبين رسله ، "ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض"، فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قوله : "إن الذين يكفرون بالله ورسله" إلى قوله : "بين ذلك سبيلا"، قال : اليهود والنصارى . آمنت اليهود بعزير وكفرت بعيسى، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعزير، وكانوا يؤمنون بالنبي ويكفرون بالآخر، "ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا"، قال : ديناً يدينون به الله.
الثالثة - قوله تعالى :" أولئك هم الكافرون حقا" تأكيد يزيل التوهم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله، وإذا كفروا برسوله كفروا به عز وجل، وكفروا بكل رسول مبشر بذلك الرسول، فلذلك صاروا الكافرين حقاً و" للكافرين " يقوم مقام المفعول الثاني لأعتدنا، أي أعتدنا لجميع أصنافهم " عذابا مهينا" أي مذلا .
يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله, من اليهود والنصارى حيث فرقوا بين الله ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض بمجرد التشهي والعادة, وما ألفوا عليه آباءهم لا عن دليل قادهم إلى ذلك, فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك, بل بمجرد الهوى والعصبية, فاليهود ـ عليهم لعائن الله ـ آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام, والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم, والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران, والمجوس يقال إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له زرادشت, ثم كفروا بشرعه فرفع من بين أظهرهم, والله أعلم, والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض, فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي, تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً, إنما هو عن غرض وهوى وعصبية, ولهذا قال تعالى: "إن الذين يكفرون" با لله ورسله فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله, ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله أي في الإيمان, "ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً" أي طريقاً ومسلكاً, ثم أخبر تعالى عنهم فقال: "أولئك هم الكافرون حقاً" أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به, لأنه ليس شرعياً إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله, لامنوا بنظيره وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه, أو نظروا حق النظر في نبوته.
وقوله: "وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً" أي كما استهانوا بمن كفروا به, إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه, وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته, كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه, فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي " وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله " في الدنيا والاخرة. وقوله: "والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم" يعني بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم, فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي بعثه الله, كما قال تعالى: " آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله " الاية, ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل, فقال: "أولئك سوف يؤتيهم أجورهم" على ما آمنوا بالله ورسله "وكان الله غفوراً رحيماً" أي لذنوبهم, أي إن كان لبعضهم ذنوب.
151- "أولئك هم الكافرون" أي: الكاملون في الكفر. وقوله "حقاً" مصدر مؤكد لمضمون الجملة: أي حق ذلك حقاً، أو هو صفة لمصدر الكافرين: أي كفراً حقاً.
151-"أولئك هم الكافرون حقاً"، حقق كفرهم ليعلم أن الكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم "وأعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً".
151" أولئك هم الكافرون " هم الكاملون في الكفر لا عبرة بإيمانهم هذا. " حقا " مصدر مؤكد لغيره أو صفة لمصدر الكافرين بمعنى: هم الذين كفروا كفراً حقاً أي يقيناً محققاً. " وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ".
151. Such are disbelievers in truth; and for disbelievers We prepare a shameful doom.
151 - They are in truth (equally) unbelievers; and we have prepared for unbelievers a humiliating punishment.