152 - (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي) أي بالخصلة التي (هي أحسن) وهي ما فيه صلاحه (حتى يبلغ أشده) بأن يحتلم (وأوفوا الكيل والميزان بالقسط) بالعدل وترك البخس (لا نكلف نفسا إلا وسعها) طاقتها في ذلك فإن أخطأ في الكيل والوزن والله يعلم صحته نيته فلا مؤاخذة عليه ورد كما في حديث (وإذا قلتم) في حكم أو غيره (فاعدلوا) بالصدق (ولو كان) القول له أو عليه (ذا قربى) قرابة (وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكَّرون) بالتشديد ، تتعظون والسكون
قال أبو جعفر : يعني جل ثناؤه بقوله : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " ، ولا تقربوا ماله !لا بما فيه صلاحه وتثميره ، كما :
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن ليث ، عن مجاهد : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " ، قال : التجارة فيه .
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " ، فليثمر ماله .
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا فضيل بن مرزوق العنزي ، عن سليط بن بلال ، عن الضحاك بن مزاحم في قوله : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " ، قال : يبتغي له فيه ، ولا يأخذ من ربحه شيئاً.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " ، قال : التي هي أحسن ، أن يأكل بالمعروف إن افتقر، وإن استغنى فلا يأكل . قال الله : " ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف " قال : وسئل عن الكسوة ، فقال : لم يذكر الله الكسوة ، إنما ذكر الأكل . وأما قوله : " حتى يبلغ أشده " ، فإن الأشد جمع شد ، كما الأضر جمع ضر ، وكما الأشر جمع شر ، و الشد القوة ، وهو استحكام قوة شبابه وسنه ، كما شد النهار ارتفاعه وامتداده . يقال : أتيته شد النهار، ومد النهار ، وذلك حين امتداده وارتفاعه ، وكان المفضل فيما بلغني ينشد بيت عنترة :
عهدي به شد النهار كأنما خضب التبان ورأسه بالعظلم
ومنه قول الآخر:
تطيف به شد النهار ظعينة طويلة أنقاء اليدين سحوق
وكان بعض البصريين يزعم أن الأشد مثل الآنك .
فأما أهل التاويل ، فإنهم مختلفون في الحين الذي إذا بلغه الإنسان قيل : بلغ أشده .
فقال بعضهم : يقال ذلك له إذا بلغ الحلم .
ذكر من قال ذلك :
حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال ، حدثنا عمي قال ، أخبرني يحيى بن أيوب ، عن عمرو بن الحارث ، عن ربيعه في قوله : " حتى يبلغ أشده " ، قال : الحلم .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال ، حدثنا عمي قال ، حدثني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، مثله . قال ابن وهب : وقال لي مالك مثله .
حدثت عن الحماني قال ، حدثنا هشيم ، عن مجاهد ، عن عامر : " حتى يبلغ أشده " ، قال : الأشد، الحلم ، حيث تكتب له الحسنات ، وتكتب عليه السيآت .
وقال آخرون : إنما يقال ذلك له ، إذا بلغ ثلاثين سنة.
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : " حتى يبلغ أشده " ، قال : أما " أشده " ، فثلاثون سنة، ثم جاء بعدها : " حتى إذا بلغوا النكاح "
وفي الكلام محذوف ، ترك ذكره اكتفاءً بدلالة ما ظهر عما حذف ، وذلك أن معنى الكلام : " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده " "إذا بلغ أشده " فآنستم منه رشداً ، فادفعوا إليه ماله ، لأنه جل ثناؤه لم ينه أن يقرب مال اليتيم في حال يتمه إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده ، ليحل لوليه بعد بلوغه أشده أن يقربه بالتي هي أسوأ ، ولكنه نهاهم أن يقربوه حياطةً منه له ، وحفظاً عليه ، ليسلموه إليه إذا بلغ أشده .
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " ، وأن أوفوا الكيل والميزان . يقول : لا تبخسوا النالس الكيل إذا كلتموهم ، والوزن إذا وزنتموهم ، ولكن أوفوهم حقوقهم . وإيفاءهم ذلك ، إعطاؤهم حقوقهم تامة ، " بالقسط " ، يعني بالعدل ، كما :
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبوحذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : " بالقسط " ، بالعدل .
وقد بينا معنى : القسط بشواهده فيما مضى ، وكرهنا إعادته .
وأما قوله :" لا نكلف نفسا إلا وسعها" ، فإنه يقول : لا نكلف نفسا، من إيفاء الكيل والوزن ، إلأ ما يسعها فيحل لها ولا تحرج فيه . وذلك أن الله جل ثناؤه، علم من عباده أن كثيرًا منهم تضيق نفسه عن أن تطيب لغيره بما لا يجب عليها له ، فأمر المعطي بإيفاء رب الحق حقه الذي هو له ، ولم يكلفه الزيادة، لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها. وأمر ألذي له الحق ، بأخذ حقه ، ولم يكلفه الرضى بأقل منه ، لما في النقصان عنه من ضيق نفسه . فلم يكلف نفسا منهما إلا ما لا حرج فيه ولا ضيق ، فلذلك قال : " لا نكلف نفسا إلا وسعها" .
وقد استقصينا بيان ذلك بشواهده في موضع غير هذا الموضع ، بما أغنى عن إعادته .
قال أبو جعفر : يعني تعالى ذكره بقوله : " وإذا قلتم فاعدلوا" ، وإذا حكمتم بين الناس فتكلمتم فقولوا الحق بينهم ، واعدلوا وأنصفوا ولا تجوروا ، ولو كان الذي يتوجه الحق عليه والحكم ، ذا قرابة لكم ، ولا تحملنكم قرابة قريب أو صداقة صديق حكمتم بينه وبين غيره ، أن تقولوا غير الحق فيما احتكم إليكم فيه ، " وبعهد الله أوفوا" ، يقول : وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا . وإيفاء ذلك : أن يطيعوه فيما أمرهم به ونهاهم ، وأن يعملوا بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وذلك هو الوفاء بعهد الله .
وأما قوله : " ذلكم وصاكم به " ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل للعادلين بالله الأوثان والأصنام من قومك : هذه الأمور التي ذكرت لكم في هاتين الايتين ، هي الأشياء التي عهد إلينا ربنا، ووصاكم بها ربكم ، وأمركم بالعمل بها ، لا بالبحائر، والسوائب ، والوصائل ، والحام ، وقتل الأولاد ، ووأد البنات ، واتباع خطوات الشيطان ، " لعلكم تذكرون " ، يقول : أمركم بهذه الأمور التي أمركم بها في هاتين الآيتين ، ووصاكم بها وعهد إليكم فيها، لتتذكروا عواقب أمركم ، وخطأ ما أنتم عليه مقيمون ، فتنزجروا عنها ، وترتدعوا وتنيبوا إلى طاعة ربكم . وكان ابن عباس يقول : هذه الآيات ، هن الايات المحكمات .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن علي بن صالح ، عن أبي إسحق ، عن عبد الله بن قيس ، عن ابن عباس قال : هن الآيات المحكمات ، قوله : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " .
حدثنا محمد بن المثنى و محمد بن بشار قالا، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا أبي قال ، سمعت يحيى بن أيوب يحدث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن مرثد بن عبد الله ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال : سمع كعب الأحبار رجلا يقرأ : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " ، فقال : والذي نفس كعب بيده ، إن هذا لأول شيء في التوراة : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم " .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن سعيد بن مسروق ، عن رجل ، عن الربيع بن خيثم : أنه قال لرجل : هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد ؟ ثم قرأ هؤلاء الآيات : بمبن قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثثا إسحق الرازي ، عن أبي سنان ، عن عمرو بن مرة قال : قال الربيع : ألا أقرأ عليكم صحيفة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ لم يقل : خاتمها فقرأ هذه الأيات : " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم "
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا جرير ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة قال : جاء إليه نفر فقالوا : قد جالست أصحاب محمد، فحدثنا عن الوحي .
فقرأ عليهم هذه الايات من الأنعام: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " . قالوا: ليس عن هذا نسالك قال : فما عندنا وحي غيره
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : هؤلاء الآيات التي أوصى بها من محكم القرآن .
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : " وإذا قلتم فاعدلوا" ، قال : قولوا الحق .
العاشرة- قوله تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" أي بما فيه صلاحه وتثميره، وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه. وهذا أحسن الأقوال في هذا، فإنه جامع. قال مجاهد "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" بالتجارة فيه، ولا تشتري منه ولا تستقرض.
الحادية عشرة- قوله تعالى: "حتى يبلغ أشده" يعني قوته، وقد تكون في البدن وقد تكون في المعرفة بالتجربة، ولا بد من حصول الوجهين، فإن الأشد وقعت هنا مطلقة. وقد جاء بيان حال اليتيم في سورة النساء مقيدة، فقال: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا" [النساء: 6] فجمع بين قوة البدن وهو بلوغ النكاح، وبين قوة المعرفة وهو إيناس الرشد، فلو مكن اليتيم من ماله قبل حصول المعرفة وبعد حصول القوة لأذهبه في شهواته وبقي صعلوكاً لا مال له. وخص اليتيم بهذا الشرط لغفلة الناس عنه وافتقاد الآباء لأبنائهم فكان الاهتبال بفقيد الأب أولى. وليس بلوغ الأشد يبيح قرب ماله بغير الأحسن، لأن الحرمة في حق البالغ ثابتة. وخص اليتيم بالذكر لأن خصمه الله. والمعنى: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده. وفي الكلام حذف، فإذا بلغ أشده وأونس منه الرشد فادفعوا إليه ماله. واختلف العلماء في أشد اليتيم، فقال ابن زيد: بلوغه وقال أهل المدينة. بلوغه وإيناس رشده. وعند أبي حنيفة: خمس وعشرون سنة. قال ابن العربي: وعجباً من أبي حنيفة، فإنه يرى أن المقدرات لا تثبت قياساً ولا نظراً وإنما تثبت نقلاً، وهو يثبتها بالأحاديث الضعيفة، ولكنه سكن دار الضرب فكثر عنده المدلس، ولو سكن المعدن كما قيض الله لمالك لما صدر عنه إلا إبريز الدين. وقد قيل: إن انتهاء الكهولة فيها مجتمع الأشد، كما قال سحيم بن وثيل:
أخو خمسين مجتمع أشدي ونجدني مداورة الشؤون
يروي نجدني بالدال والذال. والأشد واحد لا جمع له، بمنزلة الآنك وهو الرصاص. وقد قيل: واحده شد، كفلس وأفلس. وأصله من شد النهار أي ارتفع، يقال: أتيته شد النهار ومد النهار. وكان محمد بن محمد الضبي ينشد بيت عنترة:
عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم
وقال آخر:
تطيف به شد النهار ظعينة طويلة أنقاء اليدين سحوق
وكان سيبويه يقول: واحده شدة. قال الجوهري: وهو حسن في المعنى، لأنه يقال: بلغ الغلام شدته. ولكن لا تجمع فعلة على أفعل، وأما أنعم فإنما هو جمع نعم، من قولهم: يوم بؤس ويوم نعم. وأما قول من قال: واحده شد، مثل كلب وأكلب، وشد مثل ذئب وأذؤب فإنما هو قياس. كما يقولون في واحد الأبابيل: إبول، قياساً على عجول، وليس شيئاً سمع من العرب. قال أبو زيد: أصابتني شدى على فعلى، أي شدة. وأشد الرجل إذا كانت معه دابة شديدة.
الثانية عشر- قوله تعالى: "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط" أي بالاعتدال في الأخذ والعطاء عند البيع والشراء. والقسط: العدل. "لا نكلف نفسا إلا وسعها" أي طاقتها في إيفاء الكيل والوزن وهذا يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرر. وما لا يمكن الاحتراز عنه من تفاوت ما بين الكيلين، ولا يدخل تحت قدرة البشر فمعفو عنه. وقيل: الكيل بمعنى المكيال. يقال: هذا كذا وكذا كيلاً، ولهذا عطف عليه بالميزان. وقال بعض العلماء: لما علم الله سبحانه من عباده أن كثيراً منهم تضيق نفسه عن أن تطيب للغير بما لا يجب عليها له أمر المعطى بإيفاء رب الحق حقه الذي هو له، ولم يكلفه الزيادة، لما في الزيادة عليه من ضيق نفسه بها. وأمر صاحب الحق بأخذ حقه ولم يكلفه الرضا بأقل منه، لما في النقصان من ضيق نفسه. وفي موطأ مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن عبد الله بن عباس أنه قال: ما ظهر الغلول في قوم قط إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط الله عليهم العدو. وقال ابن عباس أيضاً: إنكم معشر الأعاجم قد وليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم الكيل والميزان.
الثالثة عشرة- قوله تعالى: "وإذا قلتم فاعدلوا" يتضمن الأحكام والشهادات. "ولو كان ذا قربى" أي ولو كان الحق على مثل قراباتكم، كما تقدم في النساء. "وبعهد الله أوفوا" عام في جميع ما عهده الله إلى عباده. ويحتمل أن يراد به جميع ما انعقد بين إنسانين. وأضيف ذلك العهد إلى الله من حيث أمر بحفظه والوفاء به "لعلكم تذكرون" تتعظون.
قال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما أنزل الله "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" و"إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً" الاية, فانطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه, فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله, ويفسد, فاشتد ذلك عليهم, فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله "ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم" قال: فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم رواه أبو داود, وقوله تعالى: "حتى يبلغ أشده" قال الشعبي ومالك وغير واحد من السلف: يعني حتى يحتلم, وقال السدي: حتى يبلغ ثلاثين سنة, وقيل أربعون سنة, وقيل ستون سنة, قال: وهذا كله بعيد ها هنا والله أعلم, وقوله تعالى: "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط" يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء, كما توعد على تركه في قوله تعالى: " ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين " وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان.
وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي: من حديث الحسين بن قيس أبي علي الرحبي, عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان "إنكم وليتم أمراً هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم" ثم قال: لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث الحسين وهو ضعيف في الحديث. وقد روي بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفاً, قلت وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث شريك عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن ابن عباس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين بهما هلكت القرون المتقدمة: المكيال والميزان" وقوله تعالى: "لا نكلف نفساً إلا وسعها" أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه, فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه, وقد روى ابن مردويه من حديث بقية عن ميسرة بن عبيد عن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه عن سعيد بن المسيب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاية "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها" فقال "من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ وذلك تأويل وسعها" هذا مرسل غريب, وقوله "وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى" كقوله "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط" الاية, وكذا التي تشبهها في سورة النساء, يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد, والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد في كل وقت وفي كل حال, وقوله "وبعهد الله أوفوا" قال ابن جرير: يقول وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا, وإيفاء ذلك أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم وتعملوا بكتابه وسنة رسوله, وذلك هو الوفاء بعهد الله "ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون" يقول تعالى: هذا أوصاكم به وأمركم به وأكد عليكم فيه "لعلكم تذكرون" أي تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه قبل هذا, وقرأ بعضهم بتشديد الذال وآخرون بتخفيفها.
152- "ولا تقربوا مال اليتيم" أي لا تتعرضوا له بوجه من الوجوه إلا بـ الخصلة "التي هي أحسن" من غيرها، وهي ما فيه صلاحه وحفظه وتنميته، فيشمل كل وجه من الوجوه التي فيها نفع لليتيم وزيادة في ماله، وقيل: المراد بالتي هي أحسن التجارة "حتى يبلغ أشده" أي إلى غاية هي أن يبلغ اليتيم أشده، فإن بلغ ذلك فادفعوا إليه ماله، كما قال تعالى: "فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم".
واختلف أهل العلم في الأشد، فقال أهل المدينة: بلوغه وإيناس رشده. وقال أبو حنيفة: خمس وعشرون سنة. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هو البلوغ. وقيل: إنه انتهاء الكهولة، ومنه قول سحيم الرباحي:
أخو الخمسين مجتمع أشدى وبحديثي مداورة الشــؤون
والأولى في تحقيق بلوغ الأشد أنه البلوغ إلى سن التكليف مع إيناس الرشد، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكاً مسلك العقلاء، لا مسلك أهل السفه والتبذير، ويدل على هذا قوله تعالى في سورة النساء: "وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم" فجعل بلوغ النكاح، وهو بلوغ سن التكليف مقيداً بإيناس الرشد، ولعله قد سبق هنالك كلام في هذا، والأشد واحد لا جمع له، وقيل: واحده شد كفلس وأفلس وأصله من شد النهار: أي ارتفع. وقال سيبويه: واحده شدة. قال الجوهري: وهو حسن في المعنى، لأنه يقال: بلغ الكلام شدته، ولكن لا تجمع فعلة على أفعل. قوله: "وأوفوا الكيل والميزان بالقسط" أي بالعدل في الأخذ والإعطاء عند البيع والشراء "لا نكلف نفساً إلا وسعها" أي إلا طاقتها في كل تكليف من التكاليف، ومنه التكليف بإيفاء الكيل والوزن، فلا يخاطب المتولي بهما بما لا يمكن الاحتراز عنه في الزيادة والنقصان "وإذا قلتم فاعدلوا" أي إذا قلتم بقول في خبر أو شهادة أو جرح أو تعديل فاعدلوا فيه وتحروا الصواب، ولا تتعصبوا في ذلك لقريب ولا على بعيد، ولا تميلوا إلى صديق ولا على عدو، بل سووا بين الناس فإن ذلك من العدل الذي أمر الله به، والضمير في "ولو كان" راجع إلى ما يفيده "وإذا قلتم" فإنه لا بد للقول من مقول فيه، أو مقول له: أي ولو كان المقول فيه، أو المقول له "ذا قربى" أي صاحب قرابة لكم. وقيل إن المعنى: ولو كان الحق على مثل قراباتكم والأول أولى، ومثل هذه الآية قوله: "ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين". قوله: "وبعهد الله أوفوا" أي أوفوا بكل عهد عهده الله إليكم، ومن جملة ما عهده إليكم ما تلاه عليكم رسوله بأمره في هذا المقام، ويجوز أن يراد به كل عهد ولو كان بين المخلوقين، لأن الله سبحانه لما أمر بالوفاء به في كثير من الآيات القرآنية كان ذلك مسوغاً لإضافته إليه، والإشارة بقوله: "ذلكم" إلى ما تقدم ذكره "وصاكم به" أمركم به أمراً مؤكداً "لعلكم تذكرون" فتتعظون بذلك.
152- " ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن "، يعني: بما فيه صلاحه وتثميره . وقال مجاهد : هو التجارة فيه. وقال الضحاك : هو أن يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئاً، " حتى يبلغ أشده "، قال الشعبي ومالك: الأشد: الحلم، حتى يكتب له الحسنات[وتكتب عليه] السيئات. قال أبو العالية : حتى يعقل وتجتمع قوته.وقال الكلبي : الأشد ما بين الثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة. وقيل: إلى أربعين سنة. وقيل: إلى ستين سنة. وقال الضحاك : عشرون سنة. وقال السدي : ثلاثون سنة. وقال مجاهد : الأشد ثلاث وثلاثون سنة .
والأشد جمع شد، مثل قد وأقد، وهو استحكام قوة شبابه وسنه، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه . وقيل بلوغ الأشد أن يؤنس رشده بعد البلوغ .
وتقدير الآية: ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده، فادفعوا إليه ماله إن كان رشيداً .
" وأوفوا الكيل والميزان بالقسط "، بالعدل، " لا نكلف نفساً إلا وسعها "، أي: طاقتها في إيفاء الكيل والميزان، أي: لم يكلف المعطي أكثر مما وجب عليه، ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه، حتى لا تضيق نفسه عنه، بل أمر كل واحد منهما بما يسعه مما لا حرج عليه فيه.
" وإذا قلتم فاعدلوا "، فاصدقوا في الحكم والشهادة، " ولو كان ذا قربى "، أي: ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قرابة، " وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون "، تتعظون، قرأ حمزة و الكسائي و حفص تذكرون [خفيفة] الذال، كل القرآن، والآخرون بتشديدها .
قال ابن عباس هذه: الآيات محكمات في جميع الكتب، لم ينسخهن شيء وهن محرمات على بني آدم كلهم، وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار.
152" ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن " أي بالفعلة التي هي أحسن ما يفعل بماله كحفظه وتثميره " حتى يبلغ أشده " حتى يصير بالغا ، وهو جمع شدة كنعمة وأنعم أو شد كصر وأصر وقيل مفرد كأنك " وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " بالعدل والتسوية " لا نكلف نفسا إلا وسعها " إلا ما يسعها ولا يعسر عليها . وذكره عقيب الأمر معناه أن إيفاء الحق عسر عليكم فعليكم بما في وسعكم وما وراءه معفو عنكم " وإذا قلتم " في حكومة ونحوها " فاعدلوا " فيه " ولو كان ذا قربى " ولو كان المقول له أو عليه من ذوي قرابتكم " وبعهد الله أوفوا " يعني ما عهد إليكم من ملازمة العدل وتأدية أحكام الشرع . " ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون " تتعظون به ، وقرأ حمزة وحفص و الكسائي " تذكرون " بتخفيف الذال حيث وقع إذا كان بالتاء والباقون بتشديدها .
152. And approach not the wealth of the orphan save with that which is better; till he reach maturity. Give full measure and full weight, in justice. We task not any soul beyond its scope. And if ye give your word, do justice thereunto, even though it be (against) a kinsman; and fulfil the covenant of Allah. This He commandeth you that haply ye may remember.
152 - And come not nigh to the orphan's property, except to improve it, until he attain the age of full strength; give measure and weight with (full) justice; no burden do we place on any soul, but that which it can bear; whenever ye speak, speak justly, even if a near relative is concerned; and fulfil the covenant of God: thus doth he command you, that ye may remember.