(يا أيها الذين آمنوا استعينوا) على الآخرة (بالصبر) على الطاعة والبلاء (والصلاة) خصها بالذكر لتكررها وعظمها (إن الله مع الصابرين) بالعون
القول في تأويل قوله تعالى:"يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين"قال أبو جعفر: وهذه الآية حض من الله تعالى ذكره على طاعته، واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال، فقال: "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة" على القيام بطاعتي، وأداء فرائضي في ناسخ أحكامي، والانصراف عما أنسخه منها إلى الذي أحدثه لكم من فرائضي، وأنقلكم إليه من أحكامي، والتسليم لأمري فيما آمركم به في حين إلزامكم حكمه، والتحول عنه بعد تحويلي إياكم عنه- وإن لحقكم في ذلك مكروه من مقالة أعدائكم من الكفار بقذفهم لكم الباطل، أو مشقة على أبدانكم في قيامكم به، أو نقص في أموالكم- وعلى جهاد أعدائكم وحربهم في سبيلي، بالصبر منكم لي على مكروه ذلك ومشقته عليكم، واحتمال عنائه وثقله، ثم بالفزع منكم فيما ينوبكم من مفظعات الأمور إلى الصلاة لي. فإنكم بالصبر على المكاره تدركون مرضاتي، وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قبلي، وتدركون حاجاتكم عندي، فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصي، أنصرهم وأرعاهم وأكلؤهم، حتى يظفروا بما طلبوا وأملوا قبلي.وقد بينت معنى الصبر و الصلاة فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته، كما: حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة، عن أبي العاليةفي قوله: "واستعينوا بالصبر والصلاة"، يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنهما من طاعة الله. حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله: "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة"، اعلموا أنهما عون على طاعة الله.وأما قوله: "إن الله مع الصابرين"، فإن تأويله: فإن الله ناصره وظهيره وراض بفعله، كقول القائل: افعل يا فلان كذا وأنا معك ، يعني: إني ناصرك على فعلك ذلك ومعينك عليه.
قوله تعالى : "فاذكروني أذكركم" أمر وجوابه ، وفيه معنى المجازاة فلذلك جزم . وأصل الذكر التنبه بالقلب للمذكور والتيقظ له . وسمي الذكر باللسان ذكراً لأنه دلالة على الذكر القلبي ، غير أنه لما كثر إطلاق الذكر على القول اللساني صار هو السابق للفهم .
ومعنى الآية : اذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب والمغفرة ، قاله سعيد بن جبير . وقال أيضاً : الذكر طاعة الله ، فمن لم يطعه لم يذكره وإن أكثر التسبيح والتهليل وقراءة القرآن ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم :
"من أطاع الله فقد ذكر الله وإن أقل صلاته وصومه وصنيعه للخير ومن عصى الله فقد نسي الله وإن كثر صلاته وصومه وصنيعه للخير" . ذكره أبو عبد الله محمد بن خويز منداد في أحكام القرآن له . وقال أبو عثمان النهدي : إني لأعلم الساعة التي يذكرنا الله فيها ، قيل له : ومن أين تعلمها ؟ قال يقول الله عز وجل : "فاذكروني أذكركم" . وقال السدي : ليس من عبد يذكر الله إلا ذكره الله عز وجل ، لا يذكره مؤمن إلا ذكره الله برحمته ، ولا يذكره كافر إلا ذكره الله بعذاب . وسئل أبو عثمان فقيل له : نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة ؟ فقال :احمدوا الله تعالى على أن زين جارحة من جواركم بطاعته . وقال ذو النون المصري رحمه الله : من ذكر الله تعالى ذكراً على الحقيقة نسي في جنب ذكره كل شيء ، وحفظ الله عليه كل شيء ، وكان له عوضاً من كل شيء .وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله . والأحاديث في فضل الذكر وثوابه كثيرة خرجها الأئمة . روى ابن ماجة عن عبد الله بن بسر :
"أن أعرابيا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به ، قال : لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله عز وجل" . وخرج عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"إن الله عز وجل يقول أنا مع عبدي إذا هو ذكرني وتحركت بي شفتاه" . وسيأتي لهذا الباب مزيد بيان عند قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا" وأن المراد ذكر القلب الذي يجب استدامته في عموم الحالات .
قوله تعالى : "واشكروا لي ولا تكفرون" قال الفراء يقال : شكرتك وشكرت لك ، ونصحتك لك ، والفصيح الأول . والشكر معرفة الإحسان والتحدث به ، وأصله في اللغة الظهور ، وقد تقدم . فشكر العبد لله تعالى ثناؤه عليه بذكر إحسانه إليه ، وشكر الحق سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له ، إلا أن شكر العبد نطق باللسان وإقرار بالقلب بإنعام الرب مع الطاعات .
قوله تعالى : "ولا تكفرون" نهي ، ولذلك حذفت منه نون الجماعة ، وهذه نون المتكلم وحذفت الياء لأنها رأس آية ، وإثباتها أحسن في غير القرآن ، أي لا تكفروا نعمتي وأيادي . فالكفر هنا ستر النعمة لا التكذيب . وقد مضى القول في الكفر لغة ، ومضى القول في معنى الاستعانة بالصبر والصلاة ، فلا معنى للإعادة .
لما فرع تعالى من بيان الأمر بالشكر، شرع في بيان الصبر والإرشاد والاستعانة بالصبر والصلاة، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها، أو في نقمة فيصبر عليها كما جاء في الحديث "عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له: إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له"، وبين تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة كما تقدم في قوله: "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين"، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر صلى، والصبر صبران فصبر ترك المحارم والمآثم وصبر على فعل الطاعات والقربات، والثاني أكثر ثواباً لأنه المقصود. وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب، فذلك أيضاً واجب كالاستغفار من المعايب، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الصبر في بابين: الصبر لله بما أحب وإن ثقل على الأنفس والأبدان، والصبر لله عما كره وإن نازعت إليه الأهواء، فمن كان هكذا فهو من الصابرين الذين يسلم عليهم إن شاء الله، وقال علي بن الحسين زين العابدين: إذا جمع الله الأولين والاخرين ينادي مناد، أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب؟ قال: فيقوم عنق من الناس فتتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين يا بني آدم ؟ فيقولون: إلى الجنة، فيقولون: قبل الحساب ؟ قالوا: نعم، قالوا: ومن أنتم ؟ قالوا: نحن الصابرون، قالوا: وما كان صبركم، قالوا: صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله، قالوا: أنتم كما قلتم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين (قلت) ويشهد لهذا قوله تعالى: "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" وقال سعيد بن جبير: الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر .
وقوله تعالى: "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء"، يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون، كما جاء في صحيح مسلم: أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، فاطلع عليهم ربك إطلاعة، فقال: ماذا تبغون ؟ فقالوا: يا ربنا وأي شيء نبغي، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا، قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى ـ لما يرون من ثواب الشهادة ـ فيقول الرب جل جلاله: إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون.
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن الإمام الشافعي عن الإمام مالك عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضاً وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفاً وتكريماً وتعظيماً.
لما فرغ سبحانه من إرشاده عباده إلى ذكره وشكره، عقب ذلك بإرشادهم إلى الاستعانة بالصبر والصلاة، فإن من جمع بين ذكر الله وشكره، واستعان بالصبر والصلاة على تأدية ما أمر الله به، ودفع ما يرد عليه من المحن فقد هدي إلى الصواب ووفق إلى الخير، وإن هذه المعية التي أوضحهغا الله بقوله: 153- "إن الله مع الصابرين" فيها أعظم ترغيب لعباده سبحانه إلى لزوم الصبر على ما ينوب من الخطوب، فمن كان الله معه لم يخش من الأهوال وإن كانت الجبال.
153. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين " بالعون والنصرة.
153-" يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر " عن المعاصي وحظوظ النفس ، " والصلاة " التي هي أم العبادات ومعراج المؤمنين ، ومناجاة رب العالمين . " إن الله مع الصابرين " بالنصر وإجابة الدعوة .
153. O ye who believe! Seek help in steadfastness, and prayer. Lo! Allah is with the steadfast.
153 - Ye who believe! seek help with patient perseverance and prayer: for God is with those who patiently persevere.