(إن الذين تولوا منكم) عن القتال (يوم التقى الجمعان) جمع المسلمين وجمع الكفار بأحد وهم المسلمون إلا اثنى عشر رجلاً (إنما استزلهم) أزلهم (الشيطان) بوسوسته (ببعض ما كسبوا) من الذنوب وهو مخالفة أمر النبي (ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور) للمؤمنين (حليم) لا يعجل على العصاة
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : إن الذين ولوا عن المشركين ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانهزموا عنهم.
وقوله : "تولوا"، تفغلوا، من قولهم : ولى فلان ظهره.
وقوله : "يوم التقى الجمعان"، يعني : يوم التقى جمع المشركين والمسلمين بأحد، "إنما استزلهم الشيطان"، أي : إنما دعاهم إلى الزلة الشيطان.
وقوله : استزل استفعل من الزلة. والزلة ، هي الخطيئة.
"ببعض ما كسبوا"، يعني ببعض ما عملوا من الذنوب ، "ولقد عفا الله عنهم"، يقول : ولقد تجاوز الله عن عقوبة ذنوبهم فصفح لهم عنه ، "إن الله غفور"، يعني به : مغط على ذنوب من آمن به واتبع رسوله ، بعفوه عن عقوبته إياهم عليها، "حليم"، يعني أنه ذو أناة لا يعجل على من عصاه وخالف أمره بالنقمة.
ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين عنوا بهذه الآية.
فقال بعضهم : عني بها كل من ولى الدبر عن المشركين بأحد.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو هشام الرفاعي قال ، حدثنا أبو بكر بن عياش قال ، حدثنا عاصم بن كليب، عن أبيه قال: خطب عمر يوم الجمعة فقرأ آل عمران، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها، فلما انتهى إلى قوله: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، قال : لما كان يوم أحد هزمناهم ، ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى، والناس يقولون : قتل محمد! فقلت : لا أجد أحداً يقول : قتل محمد، إلا قتلته ! حتى اجتمعنا على الجبل، فنزلت: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، الآية كلها.
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله : "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، الآية، وذلك يوم أحد، نأمن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تولوا عن القتال وعن نبي الله يومئذ، وكان ذلك من أمر الشيطان وتخويفه ، فأنزل الله عز وجل ما تسمعون : أنه قد تجاوز لهم عن ذلك وعفا عنهم.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثني عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، الآية، فذكر نحو قول قتادة.
وقال آخرون : بل عني بذلك خاص ممن ولى الدبر يومئذ. قالوا: وإنما عني به الذين لحقوا بالمدينة منهم دون غيرهم.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما انهزموا يومئذ، تفرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فدخل بعضهم المدينة، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة فقاموا عليها، فذكر الله عز وجل الذين انهزموا فدخلوا المدينة فقال : "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، الآية.
وقال آخرون : بل نزل ذلك في رجال بأعيانهم معروفين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عكرمة قوله : "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان"، قال : نزلت في رافع بن المعلى وغيره من الأنصار، وأبي حذيفة بن عتبة ورجل آخر، قال ابن جريج: وقوله: "إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم"، إذ لم يعاقبهم.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال : فر عثمان بن عفان ، وعقبة بن عثمان ، وسعد بن عثمان -رجلان من الأنصار- حتى بلغوا الجلعب ، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص - فأقاموا به ثلاثاً، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : لقد ذهبتم فيها عريضةً!!.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قوله : "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا" الآية، والذين استزلهم الشيطان : عثمان بن عفان ، وسعد بن عثمان ، وعقبة بن عثمان ، الأنصاريان ، ثم الزرقيان.
وأما قوله : "ولقد عفا الله عنهم"، فإن معناه : ولقد تجاوز الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان ، أن يعاقبهم بتوليهم عن عدوهم ، كما:
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج قوله: "ولقد عفا الله عنهم"، يقول: "ولقد عفا الله عنهم"، إذ لم يعاقبهم.
حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله في توليهم يوم أحد: "ولقد عفا الله عنهم"، فلا أدري أذلك العفو عن تلك العصابة، أم عفو عن المسلمين كلهم؟.
وقد بينا تأويل قوله : "إن الله غفور حليم"، فيما مضى.
قوله تعالى : " إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم "
قوله تعالى : " إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا " هذه الجملة هي خبر " إن الذين تولوا " والمراد من تولى عن المشركين يوم أحد ، عن عمر رضي الله عنه وغيره ، السدي : يعني من هرب إلى المدينة في وقت الهزيمة دون من صعد الجبل ، وقيل : هي في قوم بأعيانهم تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في وقت هزيمتهم ثلاثة أيام ثم انصرفوا ومعنى " استزلهم الشيطان " استدعى زللهم بأن ذكرهم خطايا سلفت منهم ، فكرهوا الثبوت لئلا يقتلوا وهو معنى " ببعض ما كسبوا " وقيل : ( استزلهم ) حملهم على الزلل ، وهو استفعل من الزلة وهي الخطيئة ، وقيل : زل وأزل بمعنى واحد ، ثم قيل : كرهوا القتال قبل إخلاص التوبة ، فإنما تولوا لهذا ، وهذا على القول الأول ، وعلى الثاني بمعصيتهم النبي صلى الله عليه وسلم في تركهم المركز وميلهم إلى الغنيمة ، وقال الحسن : " ما كسبوا " قبولهم من إبليس ما وسوس إليهم ، وقال الكلبي : زين لهم الشيطان أعمالهم ، وقيل : لم يكن الانهزام معصية ، لأنهم أرادوا التحصن بالمدينة ، فيقطع العدو طمعه فيهم لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل ، ويجوز أن يقال : لم يسمعوا دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للهول الذي كانوا فيه ، ويجوز أن يقال : زاد عدد العدو على الضعف ، لأنهم كانوا سبعمائة والعدو ثلاثة آلاف ، وعند هذا يجوز الانهزام ولكن الانهزام عن النبي صلى الله عليه وسلم خطأ لا يجوز ، ولعلهم توهموا أن النبي صلى الله عليه وسلم انحاز إلى الجبل أيضاً ، وأحسنها الأول ، وعلى الجملة فإن حمل الأمر على ذنب محقق فقد عفا الله عنه ، وإن حمل على انهزام مسوغ فالآية فيمن أبعد في الهزيمة وزاد على لاقدر المسوغ ، وذكر أبو الليث السمرقندي نصر بن محمد بن إبراهيم قال : حدثنا الخليل بن أحمد قال حدثنا السراج قال حدثنا قتيبة قال حدثنا أبو بكر بن غيلان عن جرير : أن عثمان كان بينه وبين عبد الرحمن بن عوف كلام ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : أتسبني وقد شهدت بدراً ولم تشهد ، وقد بايعت تحت الشجرة ولم تبايع ، وقد كنت تولى مع من تولى يوم الجمع ، يعني يوم أحد ، فرد عليه عثمان فقال : أما قولك : أنا شهدت بدراً ولم تشهد ، فإني لم أغب عن شيء شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مريضة وكنت معها أمرضها ، فضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سهماً في سهام المسلمين ، وأما بيعة الشجرة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثني ربيئة على المشركين بمكة ، الربيئة هو الناظر فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمينه على شماله فقال : هذه لعثمان فيمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وشماله خير لي من يميني وشمالي ، وأما يوم الجمع فقال الله تعالى " ولقد عفا الله عنهم " فكنت فيمن عفا الله عنهم ، فحج عثمان عبد الرحمن .
قلت : وهذا المعنى صحيح أيضاً عن ابن عمر ، كما في صحيح البخاري قال : حدثنا عبدان أخبرنا أبو حمزة عن عثمان بن موهب قال : " جاء رجل حج البيت فرأى قوماً جلوساً فقال : من هؤلاء القعود ؟ قالوا : هؤلاء قريش : قال : من الشيح ؟ قالوا : ابن عمر ، فأتاه فقال : إني سائلك عن شيء أتحدثني ؟ قال : أنشدك بحرمة هذا البيت ، أتعلم أن عثمان بن عفان فر يوم أحد ؟ قال : نعم ، قال : فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها ؟ قال : نعم ، قال : فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها ؟ قال : نعم ، قال : فكبر ، قال ابن عمر : تعالى لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه ، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله عفا عنه ، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه ، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فإنه لو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان بن عفان لبعثه مكانه ، فبعث عثمان وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى : هذه يد عثمان ، فضرب بها على يده فقال : هذه لعثمان ، اذهب بهذا الآن معك ".
قلت : ونظير هذه الآية توبة الله على آدم عليه السلام ، وقوله عليه السلام : " فحج آدم وموسى " ، أي غلبه بالحجة ' وذلك أن موسى عليه السلام أراد توبيخ آدم ولومه في إخراج نفسه وذريته من الجنة بسبب أكله من الشجرة ، فقال له آدم : أفتلومني على أمر قدره الله تعالى علي قبل أن أخلق بأربعين سنة ، تاب علي منه ومن تاب عليه فلا ذنب له ومن لا ذنب له يتوجه عليه لوم ، وكذلك من عفا الله عنه ، وإنما كان هذا لإخباره تعالى بذلك ، وخبره صدق ، وغيرهما من المذنبين التائبين يرجون رحمته ويخافون عذابه ، فهم على وجل وخوف ألا تقبل توبتهم ، وإن قبلت فالخوف أغلب عليهم إذ لا علم لهم بذلك ، فأعلم .
يقول تعالى ممتناً على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مستلئمو السلاح في حال همهم وغمهم, والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان, كما قال تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر "إذ يغشيكم النعاس أمنة منه" الاية, وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج , حدثنا أبو نعيم وكيع , عن سفيان , عن عاصم , عن أبي رزين , عن عبد الله بن مسعود , قال: النعاس في القتال من الله وفي الصلاة من الشيطان, وقال البخاري وقال لي خليفة : حدثنا يزيد بن زريع , حدثنا سعيد عن قتادة , عن أنس , عن أبي طلحة , قال: كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد, حتى سقط سيفي من يدي مراراً, يسقط وآخذه, ويسقط وآخذه, وهكذا رواه في المغازي معلقاً, ورواه في كتاب التفسير مسنداً عن شيبان , عن قتادة , عن أنس , عن أبي طلحة , قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد, قال فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه. وقد رواه الترمذي والنسائي والحاكم من حديث حماد بن سلمة , عن ثابت , عن أنس , عن أبي طلحة , قال, رفعت رأسي يوم أحد وجعلت أنظر وما منهم يومئذ أحد إلا يميل تحت حجفته من النعاس, لفظ الترمذي وقال: حسن صحيح, ورواه النسائي أيضاً, عن محمد بن المثنى , عن خالد بن الحارث , عن أبي قتيبة , عن ابن أبي عدي , كلاهما عن حميد , عن أنس قال: قال أبو طلحة : كنت فيمن ألقي عليه النعاس, الحديث, وهكذا روي عن الزبير وعبد الرحمن بن عوف وقال البيهقي : حدثنا أبوعبد الله الحافظ , أخبرني أبو الحسين محمد بن يعقوب , حدثنا محمد بن إسحاق الثقفي , حدثنا محمد بن عبد الله بن المبارك المخزومي , حدثنا يونس بن محمد , حدثنا شيبان عن قتادة , حدثنا أنس بن مالك أن أبا طلحة قال: غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه. قال: والطائفة الأخرى المنافقون ليس لهم هم إلا أنفسهم أجبن قوم وأرعنه وأخذله للحق "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية" أي إنما هم كذبة أهل شك وريب في الله عز وجل هكذا رواه بهذه الزيادة وكأنها من كلام قتادة رحمه الله وهو كما قال, فإن الله عز وجل يقول: "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم" يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله عز وجل سينصر رسوله وينجز له مأموله, ولهذا قال: "وطائفة قد أهمتهم أنفسهم" يعني لايغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف "يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية" كما قال في الاية الأخرى "بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً" إلى آخر الاية, وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة وأن الإسلام قد باد وأهله, وهذا شأن أهل الريب والشك إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة, ثم أخبر تعالى عنهم أنهم "يقولون" في تلك الحال "هل لنا من الأمر من شيء" فقال تعالى: "قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك" ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن إسحاق : فحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير , عن أبيه , عن عبد الله بن الزبير , قال: قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره, قال: فو الله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله " يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا " لقول معتب, رواه ابن أبي حاتم . قال الله تعالى: "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم" أي هذا قدر قدره الله عز وجل وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه, وقوله تعالى: "وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم" أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال "والله عليم بذات الصدور" أي بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر, ثم قال تعالى: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا" أي ببعض ذنوبهم السابقة كما قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها, ثم قال تعالى "ولقد عفا الله عنهم" أي عما كان منهم من الفرار "إن الله غفور حليم" أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ويتجاوز عنهم, وقد تقدم حديث ابن عمر في شأن عثمان وتوليه يوم أحد وأن الله قد عفا عنه مع من عفا عنهم عند قوله " ولقد عفا الله عنهم " ومناسب ذكره ههنا, قال الإمام أحمد : حدثنا معاوية بن عمرو , حدثنا زائدة , عن عاصم , عن شقيق , قال: لقي عبد الرحمن بن عوف الوليد بن عقبة فقال له الوليد ما لي أراك جفوت أمير المؤمنين عثمان فقال له عبد الرحمن : أبلغه أني لم أفر يوم حنين, قال عاصم : يقول يوم أحد: ولم أتخلف عن بدر ولم أترك سنة عمر , قال: فانطلق فأخبر بذلك عثمان , قال: فقال عثمان : أما قوله إني لم أفر يوم حنين, فكيف يعيرني بذنب قد عفا الله عنه فقال تعالى: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم" وأما قوله إني تخلفت يوم بدر, فإني كنت أمرض رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ماتت وقد ضرب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم, ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم فقد شهد, وأما قوله إني تركت سنة عمر فإني لا أطيقها ولا هو, فأته فحدثه بذلك.
قوله 155- "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان" أي انهزموا يوم أحد: وقيل المعنى: إن الذين تولو المشركين يوم أحد "إنما استزلهم الشيطان" استدعى زللهم بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب التي منها مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم "ولقد عفا الله عنهم" لتوبتهم واعتذارهم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال: أمنهم الله يومئذ بنعاس غشاهم، وإنما ينعس من يأمن. وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن أبا طلحة قال: غشينا ونحن في مصافنا يوم أحد، فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه، فذلك قوله: "ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً" الآية. وأخرج الترمذي وصححه وابن جرير وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل عن الزبير بن العوام قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم من أحد إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس، وتلا هذه الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال: إن المنافقين قالوا لعبد الله بن أبي، وكان سيد المنافقين: قتل اليوم بنو الخزرج، فقال: وهل لنا من الأمر شيء، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. وأخرج ابن جرير عن قتادة والربيع في قوله "ظن الجاهلية" قال: ظن أهل الشرك. وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: معتب هو الذي قال يوم أحد: لو كان لنا من الأمر شيء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أن الذي قال ذلك عبد الله بن أبي. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن عوف في قوله "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان" قال: هم ثلاثة، واحد من المهاجرين، واثنان من الأنصار. وأخرج ابن منده وابن عساكر عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد. وقد روي في تعيين من في الآية روايات كثيرة.
155-"إن الذين تولوا منكم " أي انهزموا،"منكم" ، يامعشر المسلمين،"يوم التقى الجمعان" ،جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد ، وكان قد انهزم اكثر المسلمين ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر رجلاً ستة من المهاجرين : وهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم .
قوله تعالى:"إنما استزلهم الشيطان"أي: طلب زلتهم ، كما يقال: استعجلت فلاناً إذا طلبت عجلته ، وقيل : حملهم على الزلة وهي الخطيئة ، وقيل : أزل واستزل بمعنى واحد، "ببعض ما كسبوا" أي : بشؤم ذنوبهم ، قال بعضهم : بتركهم المركز ، وقال الحسن : ما كسبوا هو قبولهم من الشيطان ما وسوس إليهم من الهزيمة ، "ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم ".
155" إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا " يعني إن الذين انهزموا يوم أحد إنما كان السبب في انهزامهم أن الشيطان طلب منهم الزلل فأطاعوه واقترفوا ذنوباً لمفالفة النبي صلى الله عليه وسلم بترك المركز، والحرص على الغنيمة أو الحياة فمنعوا التأييد وقوة القلب. وقيل استزلال الشيطان توليهم وذلك بسبب ذنوب تقدمت لهم فإن المعاصي يجر بعضها بعضاً كالطاعة. وقيل استزلهم بذكر ذنوب سلفت منهم فكرهوا القتال قبل إخلاص التوبة والخرج من المظلمة. " ولقد عفا الله عنهم " لتوبتهم واعتذارهم. " إن الله غفور " للذنوب "حليم" لا يعاجل بعقوبة الذنب كي يتوب.
155. Lo! those of you who turned back on the day when the two hosts met, Satan alone it was who caused them to backslide, because of some of that which they have earned. Now Allah hath forgiven them. Lo! Allah is Forgiving. Clement.
155 - Those of you who turned back on the day the two hosts met, it was Satan who caused them to fail, because of some (evil) they had done. but God has blotted out (their fault): for God is oft forgiving, most forbearing.