(إن الصفا والمروة) جبلان بمكة (من شعائر الله) أعلام دينه جمع شعيرة (فمن حج البيت أو اعتمر) أي تلبس بالحج أو العمرة ، وأصلهما القصد والزيارة (فلا جناح عليه) إثم عليه (أن يطَّوف) فيه إدغام التاء في الأصل في الطاء (بهما) بأن يسعى بينهما سبعا ، نزلت لما كره المسلمون ذلك لأن أهل الجاهلية كانوا يطوفون بهما وعليهما صنمان يمسحونهما ، وعن ابن عباس أن السعي غير فرض لما أفاده رفع الإثم من التخيير وقال الشافعي وغيره ركن ، وبين صلى الله عليه وسلم فريضته بقوله "إن الله كتب عليكم السعي" رواه البيهقي وغيره وقال "ابدؤوا بما بدأ الله به" يعني الصفا. رواه مسلم (ومن تطوع) وفي قراءة بالتحتية وتشديد الطاء مجزوما وفيه إدغام التاء فيها{يطَّوعْ} (خيرا) أي بخير ، أي عمل ما لم يجب عليه من طواف وغيره (فإن الله شاكر) لعمله بالإثابة عليه (عليم) به
قوله تعالى ان الصفا والمرة الآية أخرج الشيخان وغيرهما عن عروة عن عائشة قال قلت أرأيت قول الله ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما فما أرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما فقالت عائشة بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ولكنها إنما أنزلت لأن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة فسألوا عن ذلك رسول الله فقالوا يا رسول الله انا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية فأنزل الله ان الصفا والمروة من شعائر الله إلى قوله فلا جناح عليه أن يطوف بهما
وأخرج البخاري عن عاصم بن سليمان قال سألت أنسا عن الصفا والمروة قال كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله ان الصفا والمروة من شعائر الله
وأخرج الحاكم عن ابن عباس قال كانت الشياطين في الجاهلية تطوف الليل أجمع بين الصفا والمروة وكانت بينهما أصنام لهم فلما جاء الإسلام قال المسلمون يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة فإنه شيء كنا نصنعه في الجاهلية فأنزل الله هذه الآية
القول في تأويل قوله تعالى:"إن الصفا والمروة من شعائر الله" قال أبو جعفر: والصفا جمع صفاة ، وهي الصخرة الملساء، ومنه قول الطرماح:
أبى لي ذو القوى والطول ألا يؤبس حافر أبدا صفاتي
وقد قالوا إن الصفا واحد، وأنه يثنى صفوان ، ويجمع أصفاء وصفيا وصفيا، واستشهدوا على ذلك بقول الراجز:
كأن متنيه من النفية مواقع الطيرعلى الصفي
وقالوا: هو نظير عصا وعصي [وعصي، وأعصاء]، ورحا ورحي [ورحي]، وأرحاء.وأما المروة ، فإنها الحصاة الصغيرة، يجمع قليلها مروات ، وكثيرها المرو، مثل تمرة وتمرات وتمر ، قال الأعشى ميمون بن قيس:
وترى بالأرض خفا زائلاً فإذا ما صادف المرو رضح
يعني بـ (المرو): الصخر الصغار، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي:
حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشرق، كل يوم تقرع
ويقال: المشقر . وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله: "إن الصفا والمروة"، في هذا الموضع الجبلين المسميين بهذين الاسمين اللذين في حرمه، دون سائر الصفا والمروة. ولذلك أدخل فيهما الألف واللام، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين، دون سائر الأصفاء والمرو.وأما قوله: "من شعائر الله"، فإنه يعني: من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده معلماً ومشعراً يعبدونه عندها، إما بالدعاء، وإما بالذكر، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها. ومنه قول الكميت:
نقتلهم جيلاً فجيلاً، تراهم شعائر قربان بهم يتقرب
وكان مجاهد يقول في الشعائر بما: حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبوعاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح،عن مجاهد: "إن الصفا والمروة من شعائر الله"، قال: من الخبر الذي أخبركم عنه. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. فكأن مجاهدا كان يرى أن الشعائر، إنما هو جمع شعيرة، من إشعار الله عباده أمر الصفا والمروة، وما عليهم في الطواف بهما. فمعناه: إعلامهم ذلك. وذلك تأويل من المفهوم بعيد. وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" عباده المؤمنين أن السعي بينهما من مشاعر الحج التي سنها لهم، وأمر بها خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم، إذ سأله أن يريه مناسك الحج. وذلك وإن كان مخرجه مخرج الخبر، فإنه مراد به الأمر. لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، فقال له: "ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا" [النحل:123] وجعل تعالى ذكره إبراهيم إماماً لمن بعده. فإذ كان صحيحاً أن الطواف والسعي بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مناسك الحج. فمعلوم أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد عمل به وسنه لمن بعده، وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته باتباعه، فعليهم العمل بذلك، على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.القول في تأويل قوله تعالى: "فمن حج البيت أو اعتمر"قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "فمن حج البيت"، فمن أتاه عائداً إليه بعد بدء.وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو حاج إليه ، ومنه قول الشاعر:
وأشهد من عوف حلولاً كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا
يعني بقوله: يحجون ، يكثرون التردد إليه لسودده ورياسته. وإنما قيل للحاج حاج ، لأنه يأتي البيت قبل التعريف، ثم يعود إليه لطواف يوم النحر بعد التعريف، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه لطواف الصدر. فلتكراره العود إليه مرة بعد أخرى قيل له: حاج .وأما المعتمر، فإنما قيل له: معتمر، لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه. وإنما يعني تعالى ذكره بقوله: "أو اعتمر"، أو اعتمر البيت، ويعني بـ الاعتمار الزيارة. فكل قاصد لشيء فهو له معتمر، ومنه قول العجاج:
لقد سما ابن معمرحين اعتمر مغزى بعيداً من بعيد وضبر يعني بقوله: حين اعتمر، حين قصده وأمه.القول في تأويل قوله تعالى: "فلا جناح عليه أن يطوف بهما" قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "فلا جناح عليه أن يطوف بهما"، يقول: فلا حرج عليه ولا مأثم في طوافه بهما.فإن قال قائل: وما وجه هذا الكلام، وقد قلت لنا، إن قوله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله"، وإن كان ظاهره ظاهر الخبر، فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما؟ فكيف يكون أمراً بالطواف، ثم يقال: لا جناح على من حج البيت أو اعتمر في الطواف بهما؟ وإنما يوضع الجناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناح والحرج؟ والأمر بالطواف بهما، والترخيص في الطواف بهما، غير جائز اجتماعهما في حال واحدة؟. قيل: إن ذلك بخلاف ما إليه ذهبت. وإنما معنى ذلك عند أقوام: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عمرة القضية، تخوف أقوام كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيماً منهم لهما"، فقالوا: وكيف نطوف بهما، وقد علمنا أن تعظيم الأصنام وجميع ما كان بعبد من ذلك من دون الله، شرك؟ ففي طوافنا بهذين الحجرين أحرج ذلك، لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما، وقد جاء الله بالإسلام اليوم، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له! فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم: "إن الصفا والمروة من شعائر الله"، يعني: إن الطواف بهما، فترك ذكر الطواف بهما، اكتفاء بذكرهما عنه. وإذ كان معلوماً عند المخاطبين به أن معناه: من معالم الله، التي جعلها علما لعباده يعبدونه عندهما بالطواف بينهما، ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل من الذكر، "فمن حج البيت أو اعتمر" فلا يتخوفن الطواف بهما، من أجل ما كان أهل الجاهلية يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفراً، وأنتم تطوفون بهما إيماناً، وتصديقاً لرسولي، وطاعةً لأمري، فلا جناح عليكم في الطواف بهما.و الجناح، الإثم، كما:حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فلا جناح عليه أن يطوف بهما"، يقول: ليس عليه إثم، ولكن له أجر. وبمثل الذي قلنا في ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين. ذكر الأخبار التي رويت بذلك:
حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
داود، عن الشعبي: أن وثناً كان في الجاهلية على الصفا يسمى إسافاً ، ووثناً على المروة يسمى نائلة، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مسحوا الوثنين. فلما جاء الإسلام وكسرت الأوثان، قال المسلمون: إن الصفا والمروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر! قال: فأنزل الله: إنهما من الشعائر، "فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما". حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر قال: كان صنم بالصفا يدعى إسافاً، ووثن بالمروة يدعى نائلة، ثم ذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب - وزاد فيه، قال: فذكر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه، وأنث المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثاً (1).حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي وذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب عن يزيد، وزاد فيه- قال: فجعله الله تطوع خير. حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرني عاصم الأحول قال، قلت لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الطواف بين الصفا والمروة حتى نزلت هذه الاية؟ فقال: نعم كنا نكره الطواف بينهما لأنهما من شعائر الجاهلية، حتى نزلت هذه الآية: "إن الصفا والمروة من شعائر الله". حدثني علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل بن إسمعيل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم قال، سألت أنساً عن الصفا والمروة، فقال: كانتا من مشاعر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما، فنزلت: "إن الصفا والمروة من شعائر الله". حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثني الحسين المعلم قال، حدثنا شيبان أبو معاوية، عن جابر الجعفي، عن عمرو بن حبشي قال، قلت لابن عمر: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما"، قال: انطلق إلى ابن عباس فاسأله، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عيه وسلم. فأتيته فسألته، فقال: إنه كان عندهما أصنام، فلما حرمن أمسكوا عن الطواف بينهما، حتى أنزلت: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما". حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله"، وذلك أن ناساً كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فأخبر الله أنهما من شعائره، والطواف بينهما أحب إليه، فمضت السنة بالطواف بينهما. حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما"، قال: زعم أبو مالك، عن ابن عباس: أنه كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل أجمع بين الصفا والمروة، وكانت بينهما آلهة، فلما جاء الإسلام وظهر، قال المسلمون: يا رسول الله، لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شرك كنا نفعله في الجاهلية! فأنزل الله: "فلا جناح عليه أن يطوف بهما". حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله"، قال: قالت الأنصار: إن السعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية! فأنزل الله تعالى ذكره: "إن الصفا والمروة من شعائر الله". حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "فلا جناح عليه أن يطوف بهما"، قال: كان أهل الجاهلية قد وضعوا على كل واحد منهما صنماً يعظمونهما، فلما أسلم المسلمون كرهوا الطواف بالصفا والمروة لمكان الصنمين، فقال الله تعالى: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما"، وقرأ: "ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب" [الحج: 32] وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم قال، قلت لأنس: الصفا والمروة،
أكنتم تكرهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التي نهيتم عنها؟ قال: نعم، حتى نزلت: "إن الصفا والمروة من شعائر الله". حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، أخبرنا عاصم قال، سمعت أنس بن مالك يقول: إن الصفا والمروة من مشاعر قريش في الجاهلية، فلما كان الإسلام تركناهما.وقال آخرون: بل أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية، في سبب قوم كانوا في الجاهلية لا يسعون بينهما، فلما جاء الإسلام تخوفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوفونه في الجاهلية. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قوله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" الاية، فكان حي من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما، فأخبرهم الله أن الصفا والمروة من شعائر الله. وكان من سنة إبراهيم وإسمعيل الطواف بينهما.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله". حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثنيعقيل، عن ابن شهاب قال، حدثني عروة بن الزبير قال، سألت عائشة فقلت لها: أرأيت قول الله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما"؟ وقلت لعائشة: والله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة! فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي! إن هذه الاية لو كانت كما أولتها كانت: لا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت في الأنصار: كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة، الطاغية التي كانوا يعبدون بالمشلل، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك- فقالوا: يا رسول الله انا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة- أنزل الله تعالى ذكره: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما". قالت عائشة: ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رجال من الأنصار ممن يهل لمناة في الجاهلية- ومناة صنم بين مكة والمدينة- قالوا: يا نبي الله، إنا كنا لا نطوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما". قال عروة: فقلت لعائشة: ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة! قال الله: "فلا جناح عليه". قالت: يا ابن أختي، ألا ترى أنه يقول: "إن الصفا والمروة من شعائر الله"! قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال: هذا العلم! قال أبو بكر: ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون: لما أنزل الله الطواف بالبيت ولم ينزل الطواف بين الصفا والمروة، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة، وإن الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطواف بين الصفا والمروة، فهل علينا من حرج أن لا نطوف بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" الاية كلها، قال أبو بكر: فأسمع أن هذه الاية نزلت في الفريقين كليهما، فيمن طاف وفيمن لم يطف. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كان ناس من أهل تهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله". قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، كما جعل الطواف بالبيت من شعائره.فأما قوله: "فلا جناح عليه أن يطوف بهما"، فجائز أن يكون قيل لكلا الفريقين اللذين تخوف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين اللذين ذكرهما الشعبي، وبعضهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية، على ما روي عن عائشة.وأي الأمرين كان من ذلك، فليس في قول الله تعالى ذكره: "فلا جناح عليه أن يطوف بهما"، الآية، دلالة على أنه عنى به وضع الحرج عمن طاف بهما، من أجلى أن الطواف بهما كان غير جائز بحظر الله ذلك، ثم جعل الطواف بهما رخصة، لإجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يحظرذلك في وقت، ثم رخص فيه بقوله: "فلا جناح عليه أن يطوف بهما".وإنما الاختلاف في ذلك بين أهل العلم على أوجه: فرأى بعضهم أن تارك الطواف بينهما تارك من مناسك حجه ما لا يجزيه منه غير قضائه بعينه، كما لا يجزي تارك الطواف- الذي هو طواف الافاضة- إلا قضاؤه بعينه. وقالوا: هما طوافان: أمر الله بأحدهما بالبيت، والاخر بين الصفا والمروة.
ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يجزيه من تركه فدية، ورأوا أن حكم الطواف بهما حكم رمي بعض الجمرات والوقوف بالمشعر وطواف الصدر وما أشبه ذلك، مما يجزي تاركه من تركه فدية، ولا يلزمه العود لقضائه بعينه. ورأى آخرون أن الطواف بهما تطوع، إن فعله صاحبه كان محسناً، وإن تركه تارك لم يلزمه
بتركه شيء. ذكر من قال إن السعي بين الصفا والمروة واجب، ولا يجزى منه فدية، ومن تركه فعليه العود: حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لعمري ما حج من لم يسع بين الصفا والمروة، لأن الله قال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله". حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك بن أنس: من نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يستبعد من مكة، فليرجع فليسع، وإن كان قد أصاب النساء فعليه العمرة والهدي. وكان الشافعي يقول: على من ترك السعي بين الصفا والمروة حتى رجع إلى بلده، العود إلى مكة حتى يطوف بينهما، لا يجزيه غيرذلك. حدثنا بذلك عنه قتادة. ذكر من قال: يجزى منه دم، وليس عليه عود لقضائه. قال الثوري بما: حدثني به علي بن سهل، عن زيد بن أبي الزرقاء، عنه، وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن عاد تارك الطواف بينهما لقضائه فحسن، وإن لم يعد فعليه دم. ذكرمن قال: الطواف بينهما تطوع، ولا شيء على من تركه، ومن كان يقرأ: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما).
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء: لو أن حاجاً أفاض بعد ما رمى جمرة العقبة، فطاف بالبيت ولم يسع، فأصابها- يعني: امرأته- لم يكن عليه شيء، لا حج ولا عمرة، من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود: (فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما). فعاودته بعد ذلك فقلت: إنه قد ترك سنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ألا تسمعه يقول: "فمن تطوع خيرا"، فأبى أن يجعل عليه شيئاً؟. حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء،عن ابن عباس أنه كان يقرأ: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" الآية (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) . حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم قال: سمعت أنساً يقول: الطواف بينهما تطوع.حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عاصم الأحول قال، قال أنس بن مالك: هما تطوع.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما"، قال: فلم يحرج من لم يطف بهما. حدثنا المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أحمد، عن عيسى بن قيس، عن عطاء، عن عبد الله بن الزبير قال: هما تطوع. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم قال: قلت لأنس بن مالك: السعي بين الصفا والمروة تطوع؟ قال: تطوع. والصواب من القول في ذلك عندنا أن الطواف بهما فرض واجب، وأن على من تركه العود لقضائه، ناسياً كان، أو عامداً. لأنه لا يجزيه غير ذلك، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج بالناس، فكان مما علمهم من مناسك حجهم الطواف بهما. ذكر الرواية عنه بذلك: حدثني يوسف بن سليمان قال، حدثنا حاتم بن إسمعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: "لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفا في حجه قال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله"، ابدؤوا بما بدأ الله بذكره. فبدأ بالصفا فرقي عليه". حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمود بن ميمون أبو الحسن، عن أبي بكر بن عياش، عن ابن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله"، فأتى الصفا فبدأ بها، فقام عليها، ثم أتى المروة فقام عليها، وطاف وسعى.فإذ كان صحيحاً بإجماع الجميع من الأمة- أن الطواف بهما على تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مناسكهم، وعمله في حجه وعمرته، وكان بيانه صلى الله عليه وسلم لأمته جمل ما نص الله في كتابه، وفرضه في تنزيله، وأمر به مما لم يدرك علمه إلا ببيانه، لازما العمل به أمته، كما قد بينا في كتابنا كتاب البيان عن أصول الأحكام- إذا اختلفت الأمة في وجوبه، ثم كان مختلفاً في الطواف بينهما: هل هو واجب أو غير واجب، كان بيناً وجوب فرضه على من حج أو اعتمر، لما وصفنا.وكذلك وجوب العود لقضاء الطواف بين الصفا والمروة- لما كان مختلفا فيما على من تركه،مع إجماع جميعهم على أن ذلك مما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علمهم مناسك حجهم- كما طاف بالبيت وعلمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علمهم مناسك حجهم وعمرتهم- وأجمع الجميع على أن الطواف بالبيت لا تجزي منه فدية ولا بدل، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه، كان نظيراً له الطواف بالصفا والمروة، ولا تجزي منه فدية ولا جزاء، ولا يجزي تاركه إلا العود لقضائه، إذ كانا كلاهما طوافين: أحدهما بالبيت، والآخر بالصفا والمروة.ومن فرق بين حكمهما عكس عليه القول فيه، ثم سئل البرهان على التفرقة بينهما. فإن اعتل بقراءة من قرأ:(فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما).قيل: ذلك خلاف ما في مصاحف المسلمين، غير جائز لأحد أن يزيد في مصاحفهم ما ليس فيها. وسواء قرأ ذلك كذلك قارىء، أو قرأ قارىء: "ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق" [الحج: 29] (فلا جناح عليهم أن لا يطوفوا به). فإن جازت إحدى الزيادتين اللتين ليستا في المصحف، كانت الأخرى نظيرتها، وإلا كان مجيز إحداهما- إذ منع الأخرى- متحكماً. والتحكم لا يعجز عنه أحد.
وقد روي إنكار هذه القراءة، وأن يكون التنزيل بها، عن عائشة.
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك بن أنس، " عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله عز وجل: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما"، فما نرى على أحد شيئاً أن لا يطوف بهما! فقالت عائشة: كلا! لو كانت كما تقول، كانت: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) ، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يهلون لمناة- وكانت مناة حذو قديد-، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" " . قال أبو جعفر: وقد يحتمل قراءة من قرأ: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)، أن تكون لا التي مع أن ، صلة في الكلام، إذ كان قد تقدمها جحد في الكلام قبلها، وهو قوله: "فلا جناح عليه"، فيكون نظير قول الله تعالى ذكره: " قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " [الأعراف: 12] بمعنى ما منعك أن تسجد، وكما قال الشاعر:
ما كان يرضى رسول الله فعلهما والطيبان أبو بكر ولا عمر
ولو كان رسم المصحف كذلك، لم يكن فيه لمحتج حجة، مع احتمال الكلام ما وصفنا. لما بينا أن ذلك مما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته في مناسكهم، على ما ذكرنا، ولدلالة القياس على صحته، فكيف وهو خلاف رسوم مصاحف المسلمين، ومما لو قرأه اليوم قارىء كان مستحقاً العقوبة، لزيادته في كتاب الله عز وجل ما ليس منه؟. القول في تأويل قوله تعالى؟ "ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم"قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة: "ومن تطوع خيرا" على لفظ المضي بالتاء وفتح العين. وقرأته عامة قراء الكوفيين: (ومن يطوع خيرا) ـ الياء وجزم العين وتشديد الطاء، بمعنى: ومن يتطوع. وذكر أنها في قراءة عبد الله: (ومن يتطوع)، فقرأ ذلك قراء أهل الكوفة، على ما وصفنا، اعتباراً بالذي ذكرنا من قراءة عبد الله - سوى عاصم، فإنه وافق المدنيين- فشددوا الطاء طلباً لإدغام التاء في الطاء. وكلتا القراءتين معروفة صحيحة، متفق معنياهما غير مختلفين- لأن الماضي من الفعل مع حروف الجزاء بمعنى المستقبل. فبأي القراءتين قرأ ذلك قارىء فمصيب. [والصواب عندنا في ذلك، أن ] معنى ذلك: ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قضاء حجته الواجبة عليه، فإن الله شاكر له على تطوعه له بما تطوع به من ذلك ابتغاء وجهه، فمجازيه به، عليم بما قصد وأراد بتطوعه بما تطوع به.وإنما قلنا إن الصواب في معنى قوله: "فمن تطوع خيرا" هو ما وصفنا، دون قول من زعم أنه معني به: فمن تطوع بالسعي والطواف بين الصفا والمروة، لأن الساعي بينهما لا يكون متطوعاً بالسعي بينهما، إلا في حج تطوع أو عمرة تطوع، لما وصفنا قبل. وإذ كان ذلك كذلك كان معلوماً أنه إنما عنى بالتطوع بذلك، التطوع بما يعمل ذلك فيه من حج أو عمرة. وأما الذين زعموا أن الطواف بهما تطوع لا واجب، فإن الصواب أن يكون تأويل ذلك على قولهم: فمن تطوع بالطواف بهما، فإن الله شاكر- لأن للحاج والمعتمر على قولهم الطواف بهما إن شاء، وترك الطواف. فيكون معنى الكلام على تأويلهم: فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة، فإن الله شاكر تطوعه ذلك- عليم بما أراد ونوى الطائف بهما كذلك، كما:حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم"، قال: من تطوع خيراً فهو خير له، تطوع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت، من السنن. وقال آخرون: معنى ذلك: ومن تطوع خيراً فاعتمر.ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم"، من تطوع خيراً فاعتمر فإن الله شاكر عليم. قال: فالحج فريضة، والعمرة تطوع، ليست العمرة واجبة على أحد من الناس.
فيه تسع مسائل :
الأولى : روى البخاري عن عاصم بن سليمان قال :
سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" . وخرج الترمذي عن عورة قال :
قلت لعائشة : ما رأى على أحد لم يطف بين الصفا والمروة شيئاً ، وما أبالي ألا أطوف بينهما . فقالت : بئس ما قلت يا بن أختي ، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاف المسلمون ،وإنما كان من أهل لمناة الطاغية التي بالمشلل لا يطوفون بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى :"فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" ولو كانت كما تقول لكانت : فلا جناح عليه إلا يطوف بهما . قال الزهري :فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأعجبه ذلك وقال : إن هذا لعلم ، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون : إنما كان من لا يطوف بين الصفا والمروة من العرب يقولون إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية . وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف بالبيت ولم نؤمر به بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : "إن الصفا والمروة من شعائر الله" قال أبو بكر بن عبد الرحمن : فأراها قد نزلت في هؤلاء وهؤلاء .قال : هذا حديث حسن صحيح . أخرجه البخاري بمعناه ، وفيه بعد قوله فأنزل الله تعالى : "إن الصفا والمروة من شعائر الله" : قالت عائشة وقد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطوف بينهما ، ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن فقال : إن هذا لعلم ما كنت سمعته ، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يذكرون ان الناس ـ إلا من ذكرت عائشة ـ ممن كان يهل بمناة كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة ، فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا : يا رسول الله ، كنا نطوف بالصفا والمروة ، إن الله أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا ، فهل علينا من حرج أن نطوف بالصفا والمروة ؟ فأنزل الله عز وجل : "إن الصفا والمروة من شعائر الله" الآية . قال أبو بكر : فاسمع هذه الآية نزلت في الفريقين كلهيما : في الذين كانوا ينحرفون أن يطوفوا في الجاهلية بالصفا والمروة ، والذين يطوفون ثم تحرجوا أن يطوفوا بهما في الإسلام ، من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ، ولم يذكر الصفا حتى ذكر ذلك بعد الطواف بالبيت . وروى الترمذي عن عاصم بن سليمان الأحول قال :
سألت أنس بن مالك عن الصفا والمروة فقال :كانا من شعائر الجاهلية ، فلما كان الإسلام أمسكنا عنهما ، فأنزل الله عز وجل : "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" قال : هذا حديث حسن صحيح . خرجه البخاري أيضاً . وعن ابن عباس قال : كان في الجاهلية شياطين تعزف الليل كله بين الصفا والمروة وكان بينهما آلهة ، فلما ظهر الإسلام قال المسلمون : يا رسول الله ، لا نطوف بين الصفا والمروة فإنهما شرك ، فنزلت .وقال الشعبي كان على الصفا في الجاهلية صنم يسمى إسافا وعلى المروة صنم يسمى نائلة فكانوا يمسحونهما إذا طافوا ، فامتنع المسلمون من الطواف بينهما من أجل ذلك ، فنزلت الآية .
الثانية : أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس ، وهو هنا جبل بمكة معروف ، وكذلك المروة جبل أيضاً ، ولذلك أخرجهما بلفظ التعريف . وذكر الصفا لأن آدم المصطفى صلى الله عليه وسلم وقف عليه فسمي به ، ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة ، فأنث لذلك ، والله أعلم . وقال الشعبي : كان على الصفا صنم يسمى إسافا وعلى المورة صنم سدعى نائلة قاطرد ذلك في التذكير والتأنيث وقدم المذكر ، وهذا حسن ، لأن الأحاديث المذكورة تدل على هذا المعنى . وما كان كراهة من كره الطواف بينهما إلا من أجل هذا ،حتى رفع الله الحرج في ذلك . وزعم أهل الكتاب أنهما زنيا في الكعبة فمسخهما الله حجرين فوضعهما على الصفا والمروة ليعتبر بهما ، فلما طالت المدة عبدا من دون الله ، والله تعالى أعلم . والصفا ( مقصور ) : جمع صفاة ، وهي الحجارة الملس . وقيل :الصفا اسم مفرد وجمعه صفي ( بضم الصاد ) وأصفاء على مثل أرجاء . قال الراجز :
كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي
وقيل : من شروط الصفا البياض والصلابة ، واشتقاقه من صفا يصفو ، أي خلص من التراب والطين . والمروة ( واحدة المرو ) وهي الحجارة الصغار التي فيها لبن . وقد قيل إنها الصلاب . والصحيح أن المرو الحجارة صليبها ورخوها الذي يتشظى وترق حاشيته ، وفي هذا يقال : المرو أكثر ويقال في الصليب . قال الشاعر :
وتولى الأرض خفا ذابلا فإذا ما صادف المرو رضخ
وقال أبو ذؤيب :
حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشقر كل يوم تقرع
وقد قيل : إنها الحجارة السود . وقيل :حجارة بيض براقة تكون فيها النار .
الثالثة : قوله تعالى : "من شعائر الله" أي من معالمه ومواضع عباداته ، وهي جمع شعيرة ، والشعائر : المعتبدات التي أشعرها الله تعالى ، أي جعلها أعلاما للناس ، من الموقف والسعي والنحر . والشعار : العلامة ، يقال : أشعر الهدي أعلمه بغرز حديدة في سنامه ، من قولك : اشعرت أي أعلمت ، وقال الكميت :
نقتلهم جيلا تراهم شعائر قربان بهم يتقرب
الرابعة : قوله تعالى : "فمن حج البيت" أي قصد . وأصل الحج القصد ، قال الشاعر :
فأشهد من عوف حلولا كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا
السب : لفظ مشترك . قال أبو عبيدة : السب ( بالكسر ) الكثير السباب . وسبك أيضاً الذي يسابك ، قال الشاعر :
لا تسبنني فلست بسبي إن سبي من الرجال الكريم
والسب أيضاً الخمار ، وكذلك العمامة ، قال المخبل السعدي :
يحجون سب الزبرقان المزعفرا
والسب أيضاً الحبل في لغة هذيل ، قال أبو ذؤيب :
تدلى عليها بين سب وخيطة بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها
والسبوب : الحبال . والسب : شقة كتان رقيقة ، والسبيبة مصله ، والجمع السبوب والسبائب ، قاله الجوهري . وحج الطبيب الشجة إذا سبرها بالميل ، قال الشاعر : :
يحج مأمومة في قعرها لجف
اللجف : الخسف . تلجفت البئر : انخسف اسفلها . ثم اختص هذا الإسم بالقصد إلى البيت الحرام لأفعال مخصوصة .
الخامسة : قوله تعالى : "أو اعتمر" أي زار . والعمرة : الزيارة ، قال الشاعر :
لقد سما ابن معمر حين اعتمر مغزى بعيدا من بعيد وضبر
السادسة : قوله تعالى : "فلا جناح عليه" أي لا إثم . وأصله من الجنوح وهو الميل ، ومنه الجوانح للأعضاء لاعوجاجها . وقد تقدم تأويل عائشة لهذه الآية . قال ابن العربي : وتحقيق القول فيه أن قول القائل : لا جناح عليك أن تفعل ، إباحة الفعل . وقوله : لا جناح عليك ألا تفعل ، إباحة لترك الفعل ، فلما سمع عورة قول الله تعالى : "فلا جناح عليه أن يطوف بهما" قال : هذا دليل على أن ترك الطواف جائز ، ثم رأى الشريعة مطبقة على أن الطواف لا رخصة في تركه فطلب الجمع بين هذين المتعارضين . فقالت له عائشة :ليس قوله : "فلا جناح عليه أن يطوف بهما" دليلاً على ترك الطواف ،إنما كان يكون دليلاً على تركه لو كان فلا جناح عليه أن يطوف بهما فلن يأت هذا اللفظ لإباحة ترك الطواف ، ولا فيه دليل عليه ، وإنما جاء لإفادة إباحة الطواف لمن كان يتحرج منه في الجاهلية ، أو لمن ان يطوف به في الجاهلية قصداً للأصنام التي كانت فيه ، فأعلمهم الله سبحانه أن الطواف ليس بمحظور إذا لم يقصد الطائف قصداً باطلاً .
فإن قيل :فقد روى عطاء عن ابن عباس أنه قرأ فلا جناح عليه ألا يطوف بهما وهي قراءة ابن مسعود ، ويورى أنها في مصحف أبي كذلك ، ويروى عن أنس مثل هذا . والجواب أن ذلك خلاف ما في المصحف ، ولا يترك ما قد ثبت في المصحف إلى قراءة لا يدرى أصحت أم لا ، وكان عطاء يكثر الإرسال عن ابن عباس من غير سماع . والرواية في هذا عن أنس قد قيل إنها ليست بالمضبوطة ، أو تكون لا زائدة للتوكيد ، كما قال :
وما ألوم البيض ألا تسخرا لما راين الشمط القفندرا
السابعة : روى الترمذي عن جابر :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فطاف بالبيت سبعاً فقرأ: "واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى" وصلى خلف المقام ، ثم أتى الحجر فاستلمه ثم قال : نبدأ بما بدأ الله به" . فبدأ بالصفا وقرأ : "إن الصفا والمروة من شعائر الله" قال : هذا حديث حسن صحيح ، والعمل على هذا عند أهل العلم أنه يبدأ بالصفا قبل المروة ، فإن بدأ بالمروة قبل الصفا لم يجزه ويبدأ بالصفا .
الثامنة : واختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة ، فقال الشافعي و ابن حنبل : هو ركن ، وهو المشهور من مذهب مالك ، لقوله عليه السلام :
"اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" . خرجه الدار قطني . وكتب بمعنى اوجب ، لقوله تعالى : "كتب عليكم الصيام" ، وقوله عليه السلام :
"خمس صلوات كتبهن الله على العباد" . وخرج ابن ماجة " عن أم ولد لشيبة قالت : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول : لا يقطع الأبطح إلا شدا" فمن تركه أو شوطا منه ناسياً أو عامداً رجع من بلده أو من حيث ذكر إلى مكة ، فيطوف ويسعى ، لأن السعي لا يكون إلا متصلاً بالطواف . وسواء عند مالك كان ذلك في حج أو عمرة وإن لم يكن في العمرة فرضاً ، فإن كان قد أصاب النساء فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسكه . وقال الشافعي : عليه هدي ، ولا معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعى . وقال أبو حنيفة وأصحابه و الثوري و الشعبي : ليس بواجب ، فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم ، لأنه سنة من سنن الحج . وهو قول مالك في العتبية . وروي عن ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك و ابن سيرين أنه تطوع ، لقوله تعالى : "ومن تطوع خيرا" . وقرأ حمزة و الكسائي يطوع مضارع مجزوم ، وكذلك "فمن تطوع خيرا فهو خير له" الباقون تطوع ماض ، وهو ما يأتيه المؤمن من قبل نفسه فمن أتى بشيء من النوافل فإن الله يشكره . وشر الله للعبد إثابته علىالطاعة . والصحيح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى لما ذكرنا ، وقوله عليه السلام :
"خذوا عني مناسككم" فصار بياناً لمجمل الحج ، فالواجب أن يكون فرضاً ، كبيانه لعدد الركعات وما كان مثل ذلك إذا لم يتفق على أنه سنة أو تطوع . وقال طليب : رأى ابن عباس قوماً يطوفون بين الصفا والمروة فقال : هذا ما أروثتكم أمكم أم إسماعيل .
قلت : وهذا ثابت في صحيح البخاري ، على ما يأتي بيانه في سورة ابراهيم .
التاسعة : ولا يجوو أن يطوف أحد بالبيت ولا بين الصفا والمروة راكباً إلا من عذر ، فإن طاف معذوراً فعليه دم ، وإن طاف غير معذور أعاد إن كان بحضرة البيت ، وإن غاب عنه أهدى . إنما قلنا ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف بنفسه وقال :
"خذوا عني مناسككم" ، وإنما جوزنا ذلك من العذر .
لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على بعيره واستلم الركن بمحجنه .
وقال لعائشة وقد قالت له ، إني أشتكي ، فقال : طوفي من وراء الناس وأنت راكبة . وفرق أصحابنا بين أن يطوف على بعير أو يطوف على ظهر إنسان ، فإن طاف على ظهر إنسان لم يجزه ، لأنه حينئذ لا يكون طائفاً ، وإنما الطائف الحامل . وإذا طاف على بعير يكون هو الطائف . قال ابن خويز منداد : وهذه تفرقة اختيار ، وأما الإجزاء فيجزىء ، إلا ترى أنه لو أغمي عليه فطيف به محمولاً ، أو وقف به بعرفات محمولاً كان مجزئاً عنه .
قال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود الهاشمي أنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عروة عن عائشة, قال: قلت أرأيت قول الله تعالى. "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" ؟ قلت: فوالله ما على أحد جناح أن لا يتطوف بهما, فقالت عائشة بئسما قلت يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما, ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل, وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة, فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله, إنا كنا نتحرج أن نطوف بالصفا والمروة في الجاهلية. فأنزل الله عز وجل: " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " قالت عائشة: ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما أخرجاه في الصحيحين. وفي رواية عن الزهري أنه قال: فحدثت بهذا الحديث أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. فقال: إن هذا العلم ما كنت سمعته, ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون: إن الناس ـ إلا من ذكرت عائشة ـ كانوا يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار : إنما أمرنا بالطواف بالبيت, ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة فأنزل الله تعالى: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" قال أبو بكر بن عبد الرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء. ورواه البخاري من حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحو ما تقدم. ثم قال البخاري: حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن عاصم بن سليمان قال: سألت أنساً عن الصفا والمروة, قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية, فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عز وجل: "إن الصفا والمروة من شعائر الله", وذكر القرطبي في تفسيره عن ابن عباس قال: كانت الشياطين تفرق بين الصفا والمروة الليل كله وكانت بينهما آلهة, فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطواف بينهما, فنزلت هذه الاية. وقال الشعبي: كان إساف على الصفا وكانت نائلة على المروة, وكانوا يستلمونها فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الاية (قلت) ذكر محمد بن إسحاق في كتاب السيرة أن إسافاً ونائلة كانا بشرين, فزنيا داخل الكعبة فمسخا حجرين فنصبتهما قريش تجاه الكعبة ليعتبر بهما الناس, فلما طال عهدهما عبدا, ثم حولا إلى الصفا والمروة, فنصبا هنالك فكان من طاف بالصفا والمروة يستلمهما, ولهذا يقول أبو طالب في قصيدته المشهورة:
وحيث ينيخ الأشعرون ركابهم لمفضى السيول من إساف ونائل
وفي صحيح مسلم من حديث جابر الطويل, وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه, ثم خرج من باب الصفا وهو يقول "إن الصفا والمروة من شعائر الله" ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به" وفي رواية النسائي "ابدأوا بما بدأ الله به" وقال الإمام أحمد: حدثنا شريح حدثنا عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجراة قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى, حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" ثم رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة, أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: "كتب عليكم السعي فاسعوا" وقد استدل بهذا الحديث على مذهب من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج, كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه, ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك. وقيل أنه واجب وليس بركن, فإن تركه عمداً أو سهواً جبره بدم, وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة, وقيل بل مستحب, وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي وابن سيرين, وروي عن أنس وابن عمر وابن عباس, وحكي عن مالك في العتبية قال القرطبي: واحتجوا بقوله تعالى: "ومن تطوع خيراً" والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما, وقال: "لتأخذوا عني مناسككم" فكل ما فعله في حجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج, إلا ما خرج بدليل, والله أعلم, وقد تقدم قوله عليه السلام "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي" فقد بين الله تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله, أي مما شرع الله تعالى لإبراهيم في مناسك الحج, وقد تقدم في حديث ابن عباس, أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لما نفذ ماؤهما وزادهما حين تركهما إبراهيم عليه السلام هنالك, وليس عندهما أحد من الناس, فلما خافت على ولدها الضيعة هنالك, ونفذ ما عندهما, قامت تطلب الغوث من الله عز وجل, فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين الصفا والمروة, متذللة خائفة وجلة مضطرة فقيرة إلى الله عز وجل, حتى كشف الله كربتها, وآنس غربتها, وفرج شدتها, وأنبع لها زمزم التي ماؤها "طعام طعم, وشفاء سقم" فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله, في هداية قلبه وصلاح حاله وغفران ذنبه. وأن يلتجئ إلى الله عز وجل, لتفريج ما هو به من النقائص والعيوب, وأن يهديه إلى الصراط المستقيم, وأن يثبته عليه إلى مماته وأن يحوله من حاله الذي هو عليه من الذنوب والمعاصي, إلى حال الكمال والغفران والسداد والاستقامة كما فعل بهاجر عليها السلام.
وقوله "ومن تطوع خيراً" قيل زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب, ثامنة وتاسعة ونحو ذلك, وقيل يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع, وقيل: المراد تطوع خيراً في سائر العبادات, حكى ذلك الرازي, وعزي الثالث إلى الحسن البصري, والله أعلم, وقوله "فإن الله شاكر عليم" أي يثيب على القليل بالكثير, عليم بقدر الجزاء فلا يبخس أحداً ثوابه, و "لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً".
أصل 158- "الصفا" في اللغة: الحجر الأملس، وهو هنا علم لجبل من جبال مكة معروف، وكذلك "المروة" علم لجبل بمكة معروف، وأصلها في اللغة: واحدة المروى، وهي الحجارة الصغار التي فيها لين. وقيل: التي فيها صلابة، وقيل: تعم الجميع. قال أبو ذؤيب:
حتى كأني للحوادث مروة بصفا المشقر كل يوم تقرع
وقيل: إنها الحجارة البيض البراقة: وقيل: إنها الحجارة السود. والشعائر جمع شعيرة، وهي العلامة: أي من أعلام مناسكه. والمراد بها مواضع العبادة التي أشعرها الله إعلاماً للناس من الموقف والسعي والمنحر، ومنه إشعار الهدي: أي إعلامه بغرز حديدة في سنامه، ومنه قول الكميت:
نقتلهم جيلاً فجيلاً تراهم شعائر قربان بهم يتقرب
وحج البيت في اللغة: قصده، ومنه قول الشاعر:
وأشهد من عوف حئولاً كثيرة يحجون سب الزبرقان المزعفرا
والسب: العمامة. وفي الشرع: الإتيان بمناسك الحج التي شرعها الله سبحانه. والعمرة في اللغة: الزيارة. وفي الشرع: الإتيان بالنسك المعروف على الصفة الثابتة. والجناح أصله من الجنوح، وهو الميل، ومنه الجوانح لاعوجاجها. وقوله: "يطوف" أصله يتطوف فأدغم. وقرئ: "أن يطوف"، ورفع الجناح يدل على عدم الوجوب، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه والثوري. وحكى الزمخشري في الكشاف عن أبي حنيفة أنه يقول: إنه واجب وليس بركن وعلى تاركه دم. وقد ذهب إلى عدم الوجوب ابن عباس وابن الزبير وأنس بن مالك وابن سيرين. ومما يقوي دلالة هذه الآية على عدم الوجود قوله تعالى في آخر الآية: "ومن تطوع خيراً فإن الله شاكر عليم" وذهب الجمهور إلى أن السعي واجب ونسك من جملة المناسك، واستدلوا بما أخرجه الشيخان وغيرهما عن عائشة أن عروة قال لها: أرأيت قول الله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" فما أرى على أحد جناحاً أن لا يطوف بهما؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أولتها كانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بها، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها، وكان من أهل لها يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله: "إن الصفا والمروة من شعائر الله" الآية، قالت عائشة: ثم قد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما. وأخرج مسلم وغيره عنها أنها قالت: لعمري ما أتم الله حج من لم يسع بين الصفا والمروة ولا عمرته، لأن الله قال: "إن الصفا والمروة من شعائر الله". وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا". وأخرج أحمد في سنده والشافعي وابن سعد وابن المنذر وابن قانع والبيهقي عن حبيبة بنت أبي تجرأة قالت: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله عز وجل كتب عليكم السعي" وهي في مسند أحمد من طريق شيخه عبد الله بن المؤمل عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عنها، ورواه من طريق أخرى عن عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن واصل مولى أبي عيينة عن موسى بن عبيدة عن صفية بنت شيبة أن امرأة أخبرتها فذكرته. ويؤيد ذلك حديث: "خذوا عني مناسككم" اهـ.
158. قوله تعالى: " إن الصفا والمروة من شعائر الله " الصفا جمع صفاة وهي الصخور الصلبة الملساء، يقال: صفاة وصفا، مثل: حصاة وحصى ونواة ونوى، والمروة: الحجر الرخو، وجمعها مروات، وجمع الكثير مرو، مثل تمرة وتمرات وتمر. وإنما عنى الله بهما الجبلين المعروفين بمكة في طرفي ا لمسعى، ولذلك أدخل فيهما الألف واللام، وشعائر الله أعلام دينه، أصلها من الإشعار وهو الإعلام واحدتها شعيرة وكل ما كان معلماً لقربان يتقرب به إلى الله تعالى من صلاة ودعاء وذبيحة فهو شعيرة فالمطاف والموقف والنحر كلها شعائر الله ومثلها المشاعر، والمراد بالشعائر ها هنا: المناسك التي جعلها الله أعلاماً لطاعته، فالصفا والمروة منها حتى يطاف بهما جميعاً " فمن حج البيت أو اعتمر " فالحج في اللغة: القصد، والعمرة: الزيارة، وفي الحج والعمرة المشروعين قصد وزيارة " فلا جناح عليه " أي لا إثم عليه، وأصله من جنح أي مال عن القصد " أن يطوف بهما " أي يدور بهما، وأصله يتطوف أدغمت التاء في الطاء.
وسبب نزول هذه الآية أنه كان على الصفا والمروة صنمان أساف ونائلة، وكان أساف على الصفا ونائلة على المروة، وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة تعظيماً للصنمين ويتمسحون بهما، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعي بين الصفا والمروة لأجل الصنمين فأذن الله فيه وأخبر أنه من شعائر الله.
واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية ووجوب السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة فذهب جماعة إلى وجوبه وهو قول ابن عامر وجابر وعائشة وبه قال الحسن وإليه ذهب مالك و الشافعي وذهب قوم إلى أنه تطوع وهو قول ابن عباس وبه قال ابن سيرين و مجاهد وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي. وقال الثوري وأصحاب الرأي على من تركه دم.
واحتج من أوجبه بما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم أخبرنا الربيع عن سليمان أخبرنا الشافعي أخبرنا عبد الله بن مؤمل العائذي عن عمرو بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني بنت أبي تجراة - اسمها حبيبة إحدى نساء بني عبد الدار - قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور من شدة السعي حتى لأقول إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي ".
أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن هشان بن عروة عن أبيه أنه قال: قلت لعائشة زو ج النبي صلى الله عليه وسلم أرأيت قول الله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما " فما أرى على أحد شيئاً ألا يطوف بهما، قالت عائشة: كلا لو كانت كما تقول كانت (( فلا جناح عليه أن يطوف بهما )) إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد فأنزل الله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله " الآية.
قال عاصم : قلت لأنس بن مالك أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال: نعم، لأنها كانت من شعائر الجاهلية حتىأنزل الله تعالى " إن الصفا والمروة من شعائر الله "
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من المسجد وهو يريد الصفا يقول " نبدأ بما بدأ الله تعالى به " فبدأ بالصفا. وقال كان إذا وقف على الصفا يكبر ثلاثاً ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وله الملك وله الحمد وهوعلى كل شيء قدير. يصنع ذلك ثلاث مرات ويدعو ويصنع على المروة مثل ذلك. كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي يسعى حتى يخرج منه.
قال مجاهد : - رحمه الله - حج موسى عليه السلام على جمل أحمر وعليه عباءتان قطوانيتان، فطاف البيت ثم صعد الصفا ودعا ثم هبط إلى السعي وهو يلبي فيقول لبيك اللهم لبيك. فقال الله تعالى لبيك عبدي وأنا معك فخر موسى عليه السلام ساجداً.
قوله تعالى: " ومن تطوع خيراً " قرأ حمزة و الكسائي بالياء وتشديد الطاء وجزم العين وكذلك الثانية " فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا " (184-البقرة) بمعنى يتطوع ووافق يعقوب في الأولى وقرأ الباقون بالتاء وفتح العين على الماضي وقال مجاهد : معناه فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة. وقال مقاتل و الكلبي : فمن تطوع: أي زاد في الطواف بعد الواجب. وقيل من تطوع بالحج والعمرة بعد أداء الحجة الواجبة عليه وقال الحسن وغيره: أراد سائر الأعمال يعني فعل غير المفترض عليه من زكاة وصلاة وطواف وغيرها من أنواع الطاعات " فإن الله شاكر " مجاز لعبده بعمله " عليم " بنيته. والشكر من الله تعالى أن يعطي لعبده فوق ما يستحق. يشكر اليسير ويعطي الكثير.
158-" إن الصفا والمروة " هما عما جبلين بمكة . " من شعائر الله " من أعلام مناسكه ، جمع شعيرة وهي العلامة " فمن حج البيت أو اعتمر " الحج لغة القصد ، والاعتمار الزيارة . فغلبا شرعاً على قصد البيت وزيارته على الوجهين المخصوصين . " فلا جناح عليه أن يطوف بهما " كان إساف على الصفا ونائلة على المروة ، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما . فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت . والإجماع على أنه مشروع في الحج والعمرة ، وإنما الخلاف في وجوبه . فعن أحمد أنه سنة ، وبه أنس وابن عباس رضي الله عنهم لقوله : " فلا جناح عليه " فإنه يفهم منه التخيير وهو ضعيف ، لأن نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى الوجوب ، فلا يدفعه . وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه واجب ، يجبر بالدم . وعن مالك و الشافعي رحمهما الله أنه ركن لقوله عليه الصلاة والسلام " اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي " . " ومن تطوع خيراً " أي فعل طاعة فرضاً كان أو نفلاً ، أو زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة ، أو طواف أو تطوع بالسعي إن قلنا إنه سنة . و " خيراً " نصب على أن صفة مصدر محذوف ، أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه ، أو بتعدية الفعل لتضمنه معنى أتى أو فعل . وقرأ حمزة و الكسائي و يعقوب ، وأصله يتطوع فأدغم مثل يطوف " فإن الله شاكر عليم " مثيب على الطاعة لا تخفى عليه .
158. Lo! (the mountains) Al-Safa and Al-Marwah are among the indications of Allah. It is therefore no sin for him who is on pilgrimage to the House (of God) or visiteth it, to go around them (as the pagan custom is). And he who doeth good of his own accord (for him), Lo! Allah is Responsive, Aware.
158 - Behold! Safa and Marwa are among the symbols of God. so if those who visit the house in the season or at other times, should compass them round, it no sin in them. and if any one obeyeth his own impulse to good, be sure that God is he who recogniseth and knoweth.