16 - (وورث سليمان داود) النبوة والعلم دون باقي أولاده (وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير) أي فهم أصواته (وأوتينا من كل شيء) تؤتاه الأنبياء والملوك (إن هذا) المؤتى (لهو الفضل المبين) البين الظاهر
يقول تعالى ذكره " وورث سليمان " أباه " داود " العلم الذي كان آتاه الله في حياته ، والملك الذي كان خصه به على سائر قومه ، فجعله له بعد أبيه داود دون سائر ولد أبيه " وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير " يقول : وقال سليمان لقومه : يا أيها الناس علمنا منطق الطير ، يعني فهمنا كلامها ، وجعل ذلك من الطير كمنطق الرجل من بني آدم إذ فهمه عنها .
وقد حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب " وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير " قال : بلغنا أن سليمان كان عسكره مئة فرسخ : خمسة وعشرون منها للإنس ،وخمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للوحش ، وخمسة وعشرون للطير ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاث مئة صريحة ، وسبع مئة سرية ، فأمر الريح العاصف فرفعته ، وأمر الرخاء فسيرته ، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد أردت أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت الريح فأخبرته . وقوله " وأوتينا من كل شيء " يقول : وأعطينا ووهب لنا من كل شيء من الخيرات "إن هذا لهو الفضل المبين " يقول : إن هذا الذي أوتينا من الخيرات لهو الفضل على جميع أهل دهرنا المبين ، يقول : الذي يبين لمن تأمله وتدبره أنه فضل أعطيناه على من سوانا من الناس .
قوله تعالى : " وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء " قال الكلبي : كان لداود صلى الله عليه وسلم تسعة عشر ولداً فورث سليمان من بينهم نبوته وملكه . ولو كان وراثة مال لكان جميع أولاده فيه سواء ، وقاله ابن العربي ، قال : فلو كانت وراثة مال لانقسمت على العدد ، فخص الله سليمان بما كان لداود من لحكمة والنبوة ، وزاده من فضله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده . قال ابن عطية : داود من بني إسرائيل وكان ملكاً وورث سليمان ملكه ومنزلته من النبوة ، بمعنى صار إليه ذلك بعد موت أبيه فمي ميراثاً تجوزاً وهذا نحو قوله :
العلماء ورئة الأنبياء ويحتمل قوله عليه السلام : " إنا معشر الأنبياء لا نورث " أن يريد أن ذلك من فعل الأنبياء وسيرتهم ، وإن كان فيهم من ورث ماله كزكرياء على أشهر الأقوال فيه ، وهذا تقول : إنا معشر المسلمين إنما شغلتنا العبادة ، والمراد أن ذكر فعل الأكثر . ومنه ماحكى سيبويه : إنا معشر العرب أقرى الناس للضيف .
قلت : قد تقدم هذا المعنى في ( مريم ) وأن الصحيح القول الأول لقوله عليه السلام : " إنا معشر الأنبياء لا نورث " فهو عام ولا يخرج منه شيء إلا بدليل . قال مقاتل : كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه ، وكان داود أشد تعبداً من سليمان . قال غيره : ولم يبلغ أحد من الأنبياء ما بلغ ملكه ، فإن الله سبحانه وتعالى سخر له الإنس والجن والطير والوحش ، وآتاه ما لم يؤت أحداً من العالمين ، وورث أباه في الملك والنبوة ، وقالم بعده بشريعته ، وكل نبي حاء بعد موسى ممن بعث أو لم يبعث فإنما كان بشريعة موسى ، إلى أن بعث المسيح عليه السلام فنسخها . وبينه وبين الهجرة نحو من ألف وثمانمائة سنة . واليهود تقول ألف وثلاثمائة واثنتان وستون سنة . وقيل : إن بين موته وبين مولد لانبي صلى الله عليه وسلم نحواً من ألف وسبعمائة ، واليهود تنقص منها ثلاثمائة سنة ، وعاش نيفاً وخمسين سنة .
قوله تعالى: "وقال يا أيها الناس " أي قال سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله ( علمنا منطق الطير ) أي تفضل الله علينا على ما ورثنا من داود من العلم والنبوة والخلافة في الأرض في أن فهمنا من أصوات الطير المعاني التي في نفوسها . قال مقاتل في الآية : كان سليمان جالساً ذات يوم إذ مر به طائر المعاني التي في نفوسها . قال مقاتل في الآية : كان سليمان جالساً ذات يوم إذ مر به طائر يطوف ، فقال لجلسائه : أتدرون ما يقول هذا الطائر ؟ إنها قالت لي : السلام عليك أيها الملك المسلط والنبي لبني إسرائيل ! أعطاك الله الكرامة ، وأظهرك على عدوك ، وإني منطلق إلى أفراخي ثم أمر بك الثانية ، وإنه سيرجع إلينا الثانية ثم رجع ، فقال إنه يقول : السلام عليك أيها الملك المسلط ، إن شئت أن تأذن لي كيما أكتسب على أفراخي حتى يشبوا ثم آتيك فافعل بي ما شئت . فأخبرهم سليمان بما قال ، وأذن له فانطلق . وقال فرقد السبخي : مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول هذا البلبل ؟ قالوا : لا يانبي الله . قال إنه يقول : أكلت نصف ثمرة فعلى الدنيا العفاء . ومر بهدهد فوق شجرة وقد نصب له صبي فخاً فقال سليمان : احذر يا هدهد ! فقال : يا نبي الله ! هذا صبي لا عقل له فأنا أسخر به . وثم رجع سليمان فوجده قد وقع في حبالة الصبي وهو في يده فقال هدهد ما هذا ؟ قال : ما رأيتها حتى وقعت فيها يا نبي الله . قال : ويحك ! فأنت ترى الماء تحت الأرض أما ترى الفخ ! قال : يا نبي الله إذا نزل القضاء عمي البصر . وقال كعب : صاح ورشان عند سليمان بن داود ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا قال إنه يقول : لدوا للموت وابنوا للخراب . وصاحت فاختة ، فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا قال إنها تقول : ليت هذا الخلق لم يخلقوا وليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا . وصاح عنده هدهد ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال إنه يقول : كما تدين تدان . وصاح عنده هدهد ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا. قال فإنه يقلو : من لا يحرم لا يحرم . وصاح صرد عنده ، فقال : أتدرون ما يقول قالوا : لا . قال إنه يقول : استغفروا الله يا مذنبين ، فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله . وقيل : إن الصرد هو الذي دل آدم على مكان البيت . وهو أول من صام ، ولذلك يقال للصرد الصوام ، روي عن أبي هريرة . وصاحت عنده طيطوى فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا . قال إنها تقول : كل حي ميتت وكل جديد بال . وصاحت خطافة عنده ، فقال : أتدرون ما تقول : قالوا : لا . قال إنها تقول : قالوا : لا . قال إنها تقول : قدموا خيراً تجدوه ، فمن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتلها . وقيل : إن آدم خرج من الجنة فاشتكى إلى الله الوجشة ، فآنسه الله تعالى بالخطاف وألزمها البيوت ، فهي لا تفارق بني آدم أنساً لهم قال : ومعها أربع آيات من كتاب الله عز وجل : " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته " [ الحشر : 21] إلى أخرها وتمد صوتها بقوله : " العزيز الحكيم " . وهدرت حمامة عند سليمان فقال : أتدرون ما تقول ؟ قالوا : لا . قال إنها تقول : سبحان ربي الأعلى عدد ما في سمواته وأررضه . وصاح قمري عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قال وا : لا . قال إنه يقول : سبحان ربي العظيم المهيمن . وقال كعب : وحدثهم سليمان ، فقال الغراب يقول : اللهم العن العشار ، والحدأة تقول : " كل شيء هالك إلا وجهه " [ القصص : 88 ] . والقطاة تقول : من سكت سلم . والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه . والضفدع يقول : سبحان ربي القدوس . والبازي يقول : سبحان ربي وبحمده . والسرطان يقول : سبحان المذكور بكل لسان في كل مكان .
وقال مكحول : صاح دراج عند سليمان ، فقال : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : لا . قال إنه يقول : " الرحمن على العرش استوى " [ طه : 5] وقال الحسن قال النبي صلى الله عليه وسلم : " الديك إذا صاح قال اذكروا الله يا غافلين " . وقال الحسن بن علي بن أبي طالب قال النبي صلى الله عليه وسلم :" النسر إذا صاح قال يا بن آدم عش ما شئت فآخرك الموت وإذا صاح العقاب قال في العبد من الناس الراحة وإذا صاح القنبر قال إلهي العن مبغضي آل محمد وإذا صاح الخطاف قرأ : ( الحمدد لله رب العالمين ) إلى آخرها فيقول : ( ولا الضالين ) ويمد بها صوته كما يمد القارئ " قال قتادة و الشعبي : إنما هذا الأمر في الطير خاصة ، لقوله : ( علمنا منطق الطير ) والنملة طائة إذا قال يوجد له أجنحة . قال الشعبي : وكذلك كانت هذه النملة ذات جناحين . وقالت فرقة : بل كان في جميع الحيوان ، وإنما ذكر الطير لأنه كان جنداً من جند سليمان يحتاجه في التظليل عن الشمس وفي البعث في الأمور فخص بالذكر لكثرة مداخلته ، ولأن أمر سائر الحيوان نادر وغير متردد ترداد أمر الطير . وقال أبو جعفر النحاس يب: والمنطق قد يقع لما يفهم بغير كلام ، والله جل وعز أعلم بما أراد . قال ابن العربي : من قال إنه لا يعلم إلا يعلم إلا منطق الطير فنقصان عظيم، وقد اتفق الناس على أنه كان يفهم كلام نم لا يتكلم ويخلق له فيه القول من النبات ، فكان كل نبت يقول له : أنا شجر كذا ، أنفع من كذا وأضر من كذا ، فما ظنك بالحيوان .
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه: داود وابنه سليمان عليهما السلام, من النعم الجزيلة والمواهب الجليلة, والصفات الجميلة, وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والاخرة, والملك والتمكين التام في الدنيا, والنبوة والرسالة في الدين, ولهذا قال تعالى: "ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" قال ابن أبي حاتم : ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام , أخبرني أبي عن جدي قال: كتب عمر بن عبد العزيز : إن الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته, لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل. قال الله تعالى: "ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام.
وقوله تعالى: "وورث سليمان داود" أي في الملك والنبوة, وليس المراد وراثة المال, إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود, فإنه قد كان لدواد مائة امرأة, ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة, فإن الأنبياء لا تورث أموالهم كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث, ما تركناه فهو صدقة" وقال: "يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء" أي أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين العظيم, حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير, وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضاً, وهذا شيء لم يعطه أحد من البشر فيما علمناه مما أخبر الله به ورسوله, ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود, كما قد يتفوه به كثير من الناس, فهو قول بلا علم, ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة, إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم, ويعرف ما تقول, وليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا, بل لم تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال. ولكن الله سبحانه كان قد أفهم سليمان ما يتخاطب به الطيور في الهواء, وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها, ولهذا قال تعالى: "علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء" أي مما يحتاج إليه الملك "إن هذا لهو الفضل المبين" أي الظاهر البين لله علينا.
قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة , حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو , عن المطلب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة, فكان إذا خرج أغلقت الأبواب, فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع ـ قال ـ فخرج ذات يوم وأغلقت الأبواب, فأقبلت امرأة تطلع إلى الدار, فإذا رجل قائم وسط الدار, فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن بداود, فجاء داود عليه السلام فإذا الرجل قائم وسط الدار, فقال له داود: من أنت ؟ فقال: الذي لا يهاب الملوك ولا يمتنع من الحجاب, فقال داود: أنت إذاً والله ملك الموت مرحباً بأمر الله, فتزمل داود مكانه حتى قبضت نفسه حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس, فقال سليمان عليه السلام للطير: أظلي داود, فظللت عليه الطير حتى أظلمت عليه الأرض, فقال لها سليمان: اقبضي جناحاً جناحاً" قال أبو هريرة : " يا رسول الله كيف فعلت الطير ؟ فقبض رسول الله يده وغلبت عليه يومئذ المضرحية " . قال أبو الفرج بن الجوزي : المضرحية هن النسور الحمراء.
وقوله تعالى: "وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون" أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير, يعني ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس وكانوا هم الذين يلونه, والجن وهم بعدهم في المنزلة, والطير ومنزلتها فوق رأسه, فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها. وقوله: "فهم يوزعون" أي يكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له. قال مجاهد : جعل على كل صنف وزعة يردون أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما يفعل الملوك اليوم.
وقوله: " حتى إذا أتوا على واد النمل " أي حتى إذا مر سليمان عليه السلام بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل "قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" أورد ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن سعيد عن قتادة عن الحسن أن اسم هذه النملة حرس, وأنها من قبيلة يقال لهم بنو الشيصان, وأنها كانت عرجاء, وكانت بقدر الذئب, أي خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها, فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم, ففهم ذلك سليمان عليه السلام منها " فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه " أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي من تعليمي منطق الطير والحيوان. وعلى والدي بالإسلام لك, والإيمان بك "وأن أعمل صالحاً ترضاه" أي عملاً تحبه وترضاه "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" أي إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك, والرفيق الأعلى من أوليائك, ومن قال من المفسرين أن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره, وأن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب أو غير ذلك من الأقاويل, فلا حاصل لها.
وعن نوف البكالي أنه قال: كان نمل سليمان أمثال الذئاب, هكذا رأيته مضبوطاً بالياء المثناة من تحت, وإنما هو بالباء الموحدة وذلك تصحيف, والله أعلم. والغرض أن سليمان عليه السلام فهم قولها وتبسم ضاحكاً من ذلك, وهذا أمرعظيم جداً. وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا محمد بن بشار , حدثنا يزيد بن هارون , أنبأنا مسعر عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي قال:خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي, فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك, ولا غنى بنا عن سقياك وإلا تسقنا تهلكنا. فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. وقد ثبت في الصحيح عند مسلم من طريق عبد الرزاق , عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قرصت نبياً من الأنبياء نملة, فأمر بقرية النمل فأحرقت, فأوحى الله إليه, أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح ؟ فهلا نملة واحدة ؟".
16- "وورث سليمان داود" أي ورثه العلم والنبوة. قال قتادة والكلبي: كان لداود تسعة عشر ولداً ذكراً فورث سليمان من بينهم نبوته، ولو كان المراد وارثة المال لم يخص سليمان بالذكر لأن جميع أولاده في ذلك سواء، وكذا قال جمهور المفسرين، فهذه الوارثة هي وارثة مجازية كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء" "وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير" قال سليمان هذه المقالة مخاطباً للناس تحدثاً بما أنعم الله به عليه وشكر النعمة التي خصه بها، وقدم منطق الطير لأنها نعمة خاصة به لا يشاركه فيها غيره. قال الفراء: منطق الطير كلام الطير فجعل كمنطق الرجل، وأنشد قول حميد بن ثور:
عجيب لها أن يكون غناؤها فصيحاً ولم يغفر بمنطقها فما
ومعنى الآية فهمنا ما يقول الطير. قال جماعة من المفسرين: إنه علم منطق جميع الحيوانات، وإنما ذكر الطير لأنه كان جنداً من جنده يسير معه لتظليله من الشمس. وقال قتادة والشعبي: إنما علم منطق الطير خاصة ولا يعترض ذلك بالنملة فإنها من جملة الطير، وكثيراً ما تخرج لها أجنحة فتطير، وكذلك كانت هذه النملة التي سمع كلامها وفهمه، ومعنى "وأوتينا من كل شيء" كل شيء تدعو إليه الحاجة: كالعلم والنبوة والحكمة والمال وتسخير الجن والإنس والطير والرياح والوحش والدواب وحكل ما بين السماء والأرض. وجاء سليمان بنون العظمة، والمراد نفسه بياناً لحاله من كونه مطاعاً لا يخالف، لا تكبراً وتعظيماً لنفسه، والإشارة بقوله: "إن هذا" إلى ما تقدم ذكره من التعليم والإيتاء "لهو الفضل المبين" أي الظاهر الواضح الذي لا يخفى على أحد، أو المظهر لفضيلتنا.
16- "وورث سليمان داود"/، نبوته وعلمه وملكه دون سائر أولاده، وكان لداود تسعة عشر ابناً، وأعطي سليمان ما أعطي داود من الملك، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين.
قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبداً من سليمان، وكان سليمان شاكراً لنعم الله تعالى.
"وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير"، سمى صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه، كما يفهم من كلام الناس.
روي عن كعب قال: صاح ورشان عند سليمان عليه السلام، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: إنه يقول لدوا للموت وابنوا للخراب، وصاحت فاختة، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال: إنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح طاووس، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: فإنه يقول: كما تدين تدان، وصاح هدهد، فقال: أتدرون ما يقول هذا؟ قالوا: لا، قال: فإنه يقول: من لا يرحم لا يرحم، وصاح صرد، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: فإنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين، قال: وصاحت طوطى، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال: فإنها تقول: كل حي ميت وكل حديد بال، وصاح خطاف، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: فإنه يقول: قدموا خيراً تجدوه، وهدرت حمامة، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا: لا، قال: فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه، وصاح قمري، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: فإنه يقول: سبحان ربي الأعلى، قال: والغراب يدعو على العشار، والحدأة تقول: كل شيء هالك إلا الله، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه، والضفدع يقول: سبحان ربي القدوس، والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده، والضفدعة تقول: سبحان المذكور بكل لسان.
وعن مكحول قال: صاح دراج عند سليمان، فقال: هل تدرون ما يقول؟ قالوا: لا، قال: فإنه يقول: الرحمن على العرش استوى.
وعن فرقد السبخي قال مر سليمان على بلبل فوق شجرة يحرك رأسه ويميل ذنبه، فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول هذا البلبل؟ فقالوا الله ونبيه أعلم، قال يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء.
وروي أن جماعة من اليهود قالوا لابن عباس: إنا سائلوك عن سبعة أشياء فإن أخبرتنا آمنا وصدقنا، قال: سلوا تفقهاً ولا تسألوا تعنتاً، قالوا: أخبرنا ما يقول القنبر في صفيره، والديك في صقيعه، والضفدع في نقيقه، والحمار في نهيقه، والفرس في صهيله، وماذا يقول الزرزور والدراج؟ قال: نعم، أما القنبر فيقول: اللهم العن مبغضي محمد وآل محمد، وأما الديك فيقول: اذكروا الله يا غافلين، وأما الضفدع فيقول: سبحان المعبود في لجج البحار، وأما الحمار فيقول: اللهم العن العشار، وأما الفرس فيقول: إذا التقى الصفان سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وأما الزرزور فيقول: اللهم إني أسألك قوت يوم بيوم يا رازق، وأما الدراج فيقول: الرحمن على العرش استوى، قال: فأسلم اليهود وحسن إسلامهم.
وروي عن عن جعفر بن محمد الصادق عن أبيه عن جده عن الحسين بن علي قال: إذا صاح النسر قال: يابن آدم، عش ما شئت آخره الموت، وإذا صاح العقاب قال: في البعد من الناس أنس، وإذا صاح القنبر قال: إلهي إلعن مبغضي آل محمد، وإذا صاح الخطاف، قرأ: الحمد لله رب العالمين، ويمد الضالين كما يمد القارئ.
قوله تعالى: "وأوتينا من كل شيء"، يوتى الأنبياء والملوك، قال ابن عباس: من أمر الدنيا والآخرة. وقال مقاتل: يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والرياح، "إن هذا لهو الفضل المبين"، الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا. وروى أن سليمان عليه السلام أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبعمائة سنة وستة أشهر، ملك جميع أهل الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع، وأعطي على ذلك منطق كل شيء، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة.
16 -" وورث سليمان داود " النبوة أو العلم أو الملك بأن قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر . " وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء " تشهيراً لنعمة الله وتنويهاً بها ودعاء الناس إلى التصديق بذكر المعجزة التي هي علم منطق الطير وغير ذلك من عظائم ما أوتيه ، والنطق والمنطق في المتعارف كل لفظ يعبر به عما في الضمير مفرداً كان أو مركباً وقد يطلق لكل ما يصوت به على التشبيه ، أو التبع كقولهم نطقت الحمامة ومنه الناطق والصامت للحيوان والجماد ، فإن الأصوات الحيوانية من حيث إنها تابعة للتخيلات منزلة العبارات سيما وفيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض بحيث يفهمها ما من جنسه ، ولعل سليمان عليه الصلاة والسلام مهما سمع صوت حيوان علم بقوته القدسية التخيل الذي صوته والغرض الذي توخاه به . ومن ذلك ما حكي أنه مر ببلبل يصوت ويترقص فقال : يقول إذا أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء ، وصاحت فاختة فقال : إنها تقول ليت الخلق لم يخلقوا ، فلعله كان صوت البلبل عن شبع وفراغ بال وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلب ، والضمير في " علمنا " " وأوتينا " له ولأبيه عليهما الصلاة والسلام أوله وحده على عادة الملوك لمراعاة قواعد السياسة ، والمراد " من كل شيء " كثرة ما أوتي كقولك : فلان يقصده كل أحد ويعلم كل شيء . " إن هذا لهو الفضل المبين " الذي لا يخفى على أحد .
16. And Solomon was David's heir. And he said: O mankind! Lo! we have been taught the language of birds, and have been given (abundance) of all things. This surely is evident favor.
16 - And Solomon was David's heir. He said: O ye people! We have been taught the speech of Birds, and on us has been bestowed (a little) of all things: this is indeed Grace manifest (from God.)