(إلا الذين تابوا) رجعوا عن ذلك (وأصلحوا) عملهم (وبينوا) ما كتموا (فأولئك أتوب عليهم) أقبل توبتهم (وأنا التواب الرحيم) بالمؤمنين
القول في تأويل قوله تعالى:"إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم"قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله واللاعنين يلعنون الكاتمين الناس ما علموا من
أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته في الكتاب الذي أنزله الله وبينه للناس، إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم؟ وراجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والإقرار به وبنبوته وتصديقه فيما جاء به من عند الله، وبيان ما أنزل الله في كتبه التي أنزل إلى أنبيائه، من الأمر باتباعه؟ وأصلح حال نفسه بالتقرب إلى الله من صالح الأعمال بما يرضيه عنه؟ وبين الذي علم وحي الله الذي أنزله إلى أنبيائه وعهد إليهم في كتبه فلم يكتمه، وأظهره فلم يخفه، "فأولئك"، يعني: هؤلاء الذين فعلوا هذا الذي وصفت منهم، هم الذين أتوب عليهم، فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي، والانابة إلى مرضاتي. ثم قال تعالى ذكره: "وأنا التواب الرحيم"، يقول: وأنا الذي أرجع بقلوب عبيدي المنصرفة عني إلي، والرادها بعد إدبارها عن طاعتي إلى طلب محبتي، والرحيم بالمقبلين بعد إقبالهم إلي، أتغمدهم مني بعفو، وأصفح عن عظيم ما كانوا اجترموا فيما بيني وبينهم، بفضل رحمتي لهم. فإن قال قائل: وكيف يتاب على من تاب؟ وما وجه قوله: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم"؟ وهل يكون تائب إلا وهو متوب عليه، أو متوب عليه إلا وهو تائب؟ قيل: ذلك مما لا يكون أحدهما إلا والآخر معه، فسواء قيل: إلا الذين تيب عليهم فتابوا- أو قيل: إلا الذين تابوا فإني أتوب عليهم. وقد بينا وجه ذلك فيما جاء من الكلام هذا المجيء، في نظيره فيما مضى مات كتابنا هذا، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا"، يقول: أصلحوا فيما بينهم وبين الله، وبينوا الذي جاءهم من الله فلم يكتموه ولم يجحدوا به، أولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم.حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا"، قال: بينوا ما في كتاب الله للمؤمنين، وما سألوهم عنه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كله في يهود. قال أبو جعفر: وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: "وبينوا"، إنما هو: وبينوا التوبة بإخلاص العمل. ودليل ظاهر الكتاب والتنزيل بخلافه. لأن القوم إنما عوتبوا قبل هذه الآية، على كتمانهم ما أنزل الله تعالى ذكره وبينه في كتابه، في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، ثم استثنى منهم تعالى ذكره الذين يبينون أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، فيتوبون مما كانوا عليه من الجحود والكتمان، فأخرجهم من عداد من يلعنه الله ويلعنه اللاعنون، ولم يكن العتاب على تركهم تبيين التوبة بإخلاص العمل. والذين استثنى الله من الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب، عبدالله بن سلام وذووه من أهل الكتاب، الذين أسلموا فحسن إسلامهم، واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم" .
قوله تعالى : "إلا الذين تابوا" استثنى تعالى التائبين الصالحين لأعمالهم وأقوالهم المنيبين لتوبتهم . ولا يكفي في التوبة عند علمائنا قول القائل :قد تبت ، حتى يظهر منه في الثاني خلاف الأول ، فإن كان مرتداً رجع إلى الإسلام مظهراً شرائعه ، وإن كان من أهل المعاصي ظهر منه العمل الصالح ، وجانب اهل الفساد والأحوال التي كان عليها . وإن كان من أهل الأوثان جانبهم وخالط أهل الإسلام ، وهكذا يظهر عكس ما كان عليه . وسيأتي بيان التوبة وأحكامها في النساء إن شاء الله تعالى . وقال بعض العلماء في قوله : "وبينوا" أي بكسر الخمر وإراقتها . وقيل : "وبينوا" يعني ما في التوارة من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباعه . والعموم أولى على ما بيناه ، أي بينوا خلاف ما كانوا عليه ،والله تعالى أعلم . "فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم" تقدم والحمد لله .
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاء به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة, والهدى النافع للقلوب من بعد ما بينه الله تعالى لعباده من كتبه التي أنزلها على رسله, قال أبو العالية: نزلت في أهل الكتاب, كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم, ثم أخبر أنهم يلعنهم كل شيء على صنيعهم ذلك, فكما أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحوت في الماء , والطير في الهواء , فهؤلاء بخلاف العلماء , فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون, وقد ورد في الحديث المسند من طرائق يشد بعضها بعضاً عن أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: "من سئل عن علم فكتمه, ألجم يوم القيامة بلجام من نار" والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال: لولا آية في كتاب الله, ما حدثت أحداً شيئاً "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" الاية, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عمار بن محمد عن ليث بن أبي سليم عن المنهال بن عمرو , عن زاذان أبي عمرو , عن البراء بن عازب, قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة, فقال: "إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه, يسمعها كل دابة غير الثقلين, فتلعنه كل دابة سمعت صوته, فذلك قول الله تعالى, "أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" يعني دواب الأرض" ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح, عن عامر بن محمد به, وقال عطاء بن أبي رباح: كل دابة والجن والإنس, وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض, قال البهائم: هذا من أجل عصاة بني آدم, لعن الله عصاة بني آدم, وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة "ويلعنهم اللاعنون" يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون, وقد جاء في الحديث أن العالم يستغفر له كل شيء, حتى الحيتان في البحر , وجاء في هذه الاية أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون واللاعنون أيضاً, وهم كل فصيح وأعجمي, إما بلسان المقال, أو الحال, أن لو كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم. ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه, فقال: "إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا" أي رجعوا عما كانوا فيه وأصلحوا أعمالهم وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه "فأولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم" وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر , أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه: وقد ورد أن الأمم السابقة لم تكن التوبة تقبل من مثل هؤلاء منهم ولكن هذا من شريعة نبي التوبة ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه, ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى مماته بأن " عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين * خالدين فيها " أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ثم المصاحبة فهم في نار جهنم التي "لا يخفف عنهم العذاب" فيها أي لا ينقص عما هم فيه "ولا هم ينظرون" أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك. قال أبو العالية وقتادة إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ثم تلعنه الملائكة, ثم يلعنه الناس أجمعون.
(فصل) لا خلاف في جواز لعن الكفار , وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة, يلعنون الكفرة في القنوت وغيره, فأما الكافر المعين, فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له, واستدل بعضهم بالاية "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" وقالت طائفة أخرى: بل يجوز لعن الكافر المعين, واختاره الفقيه أبو بكر بن العربي المالكي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف, واستدل غيره بقوله عليه السلام في قصة الذي كان يؤتى به سكران فيحده, فقال رجل لعنه الله: ما أكثر ما يؤتى به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله" فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن, والله أعلم.
وقوله: 160- "إلا الذين تابوا" إلخ، فيه استثناء التائبين والمصلحين لما فسد من أعمالهم، والمبيني للناس ما بينه الله في كتبه وعلى ألسن رسله.
160. فقال: " إلا الذين تابوا " من الكفر " وأصلحوا " أسلموا وأصلحوا الأعمال فيما بينهم وبين ربهم " وبينوا " ما كتموا " فأولئك أتوب عليهم " أتجاووز عنهم وأقبل توبتهم " وأنا التواب " الرجاع بقلوب عبادي المنصرفة عني إلي " الرحيم " بهم بعد إقبالهم علي.
160-" إلا الذين تابوا " عن الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب عنه " وأصلحوا " ما أفسدوا بالتدارك . " وبينوا " ما بينه الله في كتابهم لتتم توبتهم . وقيل ما أحدثوه من التوبة ليمحوا به سمة الكفر عن أنفسهم ويقتدي بهم أضرابهم " فأولئك أتوب عليهم " بالقبول والمغفرة . " وأنا التواب الرحيم " المبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة .
160. Except such of them as repent and amend and make manifest (the truth). These it is toward whom I relent. I am the Relenting, the Merciful.
160 - Except those who repent and make amends and openly declare (the truth) to them I turn; for I am oft returning, Most Merciful.