(إن في خلق السماوات والأرض) وما فيهما من العجائب (واختلاف الليل والنهار) بالذهاب والمجيء والزيادة والنقصان (والفلك) السفن (التي تجري في البحر) ولا ترسب موقرة (بما ينفع الناس) من التجارات والحمل (وما أنزل الله من السماء من ماء) مطر (فأحيا به الأرض) بالنبات (بعد موتها) يبسها (وبث) فرق ونشر به (فيها من كل دابة) لأنهم ينمون بالخصب الكائن عنه (وتصريف الرياح) تقليبها جنوبا وشمالا حارة وباردة (والسحاب) الغيم (المسخر) المذلل بأمر الله تعالى يسير إلى حيث شاء الله (بين السماء والأرض) بلا علاقة (لآيات) دالات على وحدانيته تعالى (لقوم يعقلون) يتدبرون
قوله تعالى إن في خلق السموات الآية أخرج سعيد بن منصور في سننه والفريابي في تفسيره والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الضحى قال لما نزلت وإلهكم إله وأحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم تعجب المشركون وقالوا إلها وأحدا لئن كان صادقا فليأتنا بآية فأنزل الله إن في خلق السموات والأرض إلى قوله لقوم يعقلون قلت هذا معضل لكن له شاهد
أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في كتاب العظمة عن عطاء قال نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وإلهكم إله وأحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم فقال كفار قريش بمكة كيف يسع الناس إله وأحد فأنزل الله إن في خلق السموات والأرض إلى قوله لقوم يعقلون ك وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق جيد موصول عن ابن عباس قال قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهبا نتقوى به على عدونا فأوحى الله إليه أني معطيهم ولكن إن كفروا بعد ذلك عذبتهم عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين فقال رب دعني وقومي فأدعوهم يوما بيوم فأنزل الله هذه الآية إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الآيات ما هو أعظم
القول في المعنى الذي من أجله أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار" الآية.قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: أنزلها عليه احتجاجاً له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" فتلا ذلك على أصحابه، وسمع به المشركون من عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أن ذلك كذلك، ونحن ننكر ذلك، ونحن نزعم أن لنا آلهة كثيرة؟ فأنزل الله عند ذلك: "إن في خلق السماوات والأرض"، احتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا ما ذكرنا عنهم. ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى ذكره: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار"، إلى قوله: "لآيات لقوم يعقلون"، فبهذا تعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء. وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أن أهل الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [آية]، فأنزل الله هذه الآية، يعلمهم فيها أن لهم في خلق السموات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك، آية بينة على وحدانية الله، وأنه لا شريك له في ملكه، لمن عقل وتدبر ذلك بفهم صحيح. ذكر من قال ذلك: حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى قال: لما نزلت "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية! فأنزل الله تعالى ذكره: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار"، الآية. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه، قال حدثني سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى قال: لما نزلت: "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية، فأنزل الله تعالى ذكره: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار" الآية. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه،قال، حدثني سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى قال: لما نزلت هذه الآية، جعل المشركون يعجبون ويقولون: تقول إلهكم إله واحد! فلتأتنا باية إن كنت من الصادقين! فأنزل الله: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار" الآية.حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا الحجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أرنا آية! فنزلت هذه الآية: "إن في خلق السماوات والأرض". حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد قال، سألت قريش اليهود فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات! فحدثوهم بالعصا وبيده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات، فأخبروهم أنه كان يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً، فنزداد يقيناً، ونتقوى به على عدونا. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه، فأوحى إليه: إني معطيهم، فأجعل لهم الصفا ذهباً، ولكن إن كذبوا عذبتهم عذاباً لم أعذبه أحداً من العالمين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ذرني وقومي فأدعوهم يوماً بيوم". فأنزل الله عليه: "إن في خلق السماوات والأرض"، الآية: إن في ذلك لآية لهم، إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهباً، فخلق الله السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، أعظم من أن أجعل لهم الصفا ذهباً ليزدادوا يقيناً حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار"، قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : غير لنا الصفا ذهباً إن كنت صادقاً أنه منه! فقال الله: إن في هذه الايات لايات لقوم يعقلون. وقال: قد سأل الايات قوم قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين.قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن الله تعالى ذكره نبه عباده- على الدلالة على وحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء- بهذه الآية. وجائز أن تكون نزلت فيما قاله عطاء، وجائز أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى، ولا خبر عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذر، فيجوز أن يقضي أحد لأحد الفريقين بصحة قول على الآخر. وأي القولين كان صحيحاً، فالمراد من الآية ما قلت.القول في تأويل قوله تعالى: "إن في خلق السماوات والأرض"قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "إن في خلق السماوات والأرض"، إن في إنشاء السموات والأرض وابتد اعهما.ومعنى خلق الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها بعد أن لم تكن موجودة.وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل:الأرض ، ولم تجمع كما جمعت السموات، فأغنى ذلك عن إعادته.فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خلق هو غيرها فيقال: "إن في خلق السماوات والأرض" ؟.قيل: قد اختلف في ذلك. فقال بعض الناس: لها خلق هو غيرها. واعتلوا في ذلك بهذه الآية، وبالتي في سورة الكهف: "ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم" [الكهف: اه]. وقالوا: لم يخلق الله شيئاً إلا والله له مريد. قالوا: فالأشياء كانت بإرادة الله، والإرادة خلق لها. وقال آخرون: خلق الشيء صفة له، لا هي هو، ولا غيره. قالوا: لو كان غيره لوجب أن يكون مثله موصوفا. قالوا: ولو جاز أن يكون خلقه غيره، وأن يكون موصوفاً، لوجب أن تكون له صفة هي له خلق. ولو وجب ذلك كذلك، لم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلوماً بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخلق السموات والأرض صفة لهما، على ما وصفنا. واعتلوا أيضاً- بأن للشيء خلقا ليس هو به- من كتاب الله بنحو الذي اعتل به الأولون. وقال آخرون: خلق السموات والأرض، وخلق كل مخلوق، هو ذلك الشيء بعينه لا غيره. فمعنى قوله: "إن في خلق السماوات والأرض"، إن في السموات والأرض.
القول في تأويل قوله تعالى: "واختلاف الليل والنهار"قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "واختلاف الليل والنهار"، وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس. وإنما الاختلاف في هذا الموضع الافتعال ، من خلوف كل واحد منهما الآخر، كما قال تعالى ذكره: "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا" [الفرقان: 62]. بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مكان صاحبه، إذا ذهب الليل جاء النهار بعده، وإذا ذهب النهار جاء الليل خلفه. ومن- ذلك قيل: خلف فلان فلاناً في أهله بسوء، ومنه قول زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفة وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
وأما "الليل". فإنه جمع ليلة نظير التمر الذي هو جمع تمرة. وقد يجمع ليال ، فيزيدون في جمعها ما لم يكن في واحدتها. وزيادتهم الياء في ذلك نظير زيادتهم إياها في رباعية وثمانية وكراهية. وأما النهار، فإن العرب لا تكاد تجمعه، لأنه بمنزلة الضوء. وقد سمع في جمعه النهر،
قال الشاعر:
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهر
ولو قيل في جمع قليله أنهرة كان قياساً.
القول في تأويل قوله تعالى:"والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس"قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: إن في الفلك التي تجري في البحر. و الفلك هو السفن، واحده وجمعه بلفظ واحد، ويذكر ويؤنث، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى: "وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون" [يس: 41] فذكره.وقد قال في هذه الآية: "والفلك التي تجري في البحر"، وهي مجراة لأنها إذا أجريت فهي الجارية، فأضيف إليها من الصفة ما هو لها.وأما قوله: "بما ينفع الناس"، فإن معناه: ينفع الناس في البحر.القول في تأويل قوله تعالى: "وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها"قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وما أنزل الله من السماء من ماء"، وفيما أنزله الله
من السماء من ماء، وهو المطر الذي ينزله الله من السماء.
وقوله: "فأحيا به الأرض بعد موتها"، وإحياؤ ها عمارتها، وإخراج نباتها.و الهاء التي في به عائدة على الماء، والهاء والألف في قوله: "بعد موتها" على الأرض.و موت الأرض ، خرابها، ودثور عمارتها، وانقطاع نباتها، الذي هو للعباد أقوات، وللأنام أرزاق. القول في تأويل قوله تعالى: "وبث فيها من كل دابة"قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وبث فيها من كل دابة"، وإن فيما بث في الأرض من دابة. ومعنى قوله: "وبث فيها"، وفرق فيها، من قول القائل: بث الأمير سراياه ، يعني:
فرق. والهاء والألف في قوله: "فيها"، عائدتان على "الأرض" .والدابة، الفاعلة، من قول القائل: دبت الدابة تدب دبيباً فهي دابة. والدابة، اسم لكل ذي روح كان غير طائر بجناحيه، لدبيبه على الأرض.القول في تأويل قوله تعالى: "وتصريف الرياح"قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وتصريف الرياح"، وفي تصريفه الرياح، فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول، كما تقول: يعجبني إكرام أخيك ، تريد: إكرامك أخاك.تصريف الله إياها، أن يرسلها مرة لواقح، ومرة يجعلها عقيماً، ويبعثها عذاباً تدمر كل شيء بأمر ربها، كما:
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وتصريف الرياح والسحاب المسخر"، قال: قادر والله ربنا على ذلك، إذا شاء [جعلها رحمة لواقح للسحاب ونشراً بين يدي رحمته، واذا شاء] جعلها عذاباً ريحاً عقيماً لا تلقح، إنما هي عذاب على من أرسلت عليه.وزعم بعض أهل العربية أن معنى قوله: "وتصريف الرياح"، أنها تأتي مرة جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً. ثم قال: وذلك تصريفها. وهذه الصفة التي وصف الرياح بها، صفة تصرفها لا صفة تصريفها، لأن تصريفها تصريف الله لها، وتصرفها اختلاف هبوبها.وقد يجوز أن يكون معنى قوله: "وتصريف الرياح"، تصريف الله تعالى ذكره هبوب الريح باختلاف مهابها.القول في تأويل قوله تعالى:"والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون" قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "والسحاب المسخر"، وفي السحاب، جمع سحابة. يدل على ذلك قوله تعالى ذكره: "وينشئ السحاب الثقال" [الرعد:12] فوحد المسخر وذكره، كما قالوا: هذه تمرة وهذا تمر كثير في جمعه، هذه نخلة وهذا نخل . وإنما قيل للسحاب سحاب إن شاء الله، لجر بعضه بعضاً وسحبه إياه، من قول القائل: مر فلان يجر ذيله ، يعني: يسحبه . فأما معنى قوله: "لآيات"، فإنه علامات ودلالات على أن خالق ذلك كفه ومنشئه، إله واحد. "لقوم يعقلون"، لمن عقل مواضع الحجج، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأعلم تعالى ذكره عباده، بأن الأدلة والحجج إنما وضعت معتبراً لذوي العقول والتمييز، دون غيرهم من الخلق، إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي، والمكلفين بالطاعة والعبادة، ولهم الثواب، وعليهم العقاب.فإن قال قائل: وكيف احتج على أهل الكفر بقوله: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار" الآية، في توحيد الله؟ وقد علمت أن أصنافاً من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقة؟.
قيل: إن إنكار من أنكر ذلك غير دافع أن يكون جميع ما ذكر تعالى ذكره في هذه الاية، دليلاً على خالقه وصانعه، وأن له مدبراً لا يشبهه [شيء]، وبارئاً لا مثل له. وذلك وإن كان كذلك، فإن الله إنما حاج بذلك قوماً كانوا مقرين بأن الله خالقهم، غير أنهم يشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان. فحاجهم تعالى ذكره فقال- إذ أنكروا قوله: "وإلهكم إله واحد"، وزعموا أن له شركاء من الآلهة-: [إن إلهكم الذي خلق السموات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما. وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر]، وذلك هو معنى قوله: "والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" وأنزل إليكم الغيث من السماء، فأخصب به جنابكم بعد جدوبه، وأمرعه بعد دثوره، فنعشكم به بعد قنوطكم-، وذلك هو معنى قوله: "وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها"- وسخر لكم الأنعام فيها لكم مطاعم ومآكل، ومنها جمال ومراكب، ومنها أثاث وملابس- وذلك هو معنى قوله: "وبث فيها من كل دابة"- وأرسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسير لكم السحاب الذي بودقه حياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم- وذلك هو معنى قوله: "وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض ".فأخبرهم أن إلههم هو الله الذي أنعم عليهم بهذه النعم، وتفرد لهم بها. ثم قال: هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء، فتشركوه في عبادتكم إياي، وتجعلوه لي ندا وعدلاً؟ فإن لم يكن من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء، ففي الذي عددت عليكم من نعمتي، وتفردت لكم بأيادي، دلالات لكم إن كنتم تعقلون مواقع الحق والباطل، والجور والإنصاف. وذلك أني لكم بالإحسان إليكم متفرد دون غيري، وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أنداداً. فهذا هو معنى الآية.والذين دكروا بهذه الآية واحتج عليهم بها، هم القوم الذين وصفت صفتهم، دون المعطلة والدهرية، وإن كان في أصغر ما عد الله في هذه الآية، من الحجج البالغة، المقنع لجميع الأنام، تركنا البيان عنه، كراهة إطالة الكتاب بذكره.
فيه أربع مسألة :
الأولى : قال عطاء : لما نزلت "وإلهكم إله واحد" قالت كفار قريش : كيف يسع الناس إله واحد ! فنزلت : "إن في خلق السماوات والأرض" . ورواه سفيان عن ابيه عن ابي الضحى قال : لما نزلت "وإلهكم إله واحد" قالوا هل من دليل على ذلك ؟ فأنزل الله تعالى : "إن في خلق السماوات والأرض" فكأنهم طلبوا آية فبين لهم دليل التوحيد ، وأن هذا العالم والبناء العجيب لا بد له من بان وصانع . وجمع السموات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى . ووحد الأرض لأنها كلها تراب ، والله تعالى أعلم .
فآية السموات : ارتفاعها بغير عمد من تحتها ولا علائق من فوقها ، دل ذلك على القدرة وخرق العادة . ولو جاء نبي فتحدي بوقوف جبل في الهواء دون علاقة كما كان معجزاً . ثم ما فيها من الشمس والقمر والنجوم السائرة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة آية ثانية .
وآية الأرض :بحارها وأنهارها ومعادنها وشجرها وسهلها ووعرها .
الثانية :قوله تعالى : "واختلاف الليل والنهار" قيل : اختلافهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر من حيث لا يعلم . وقيل : اختلافهما في الأوصاف من النور والظلمة والطول والقصر . والليل جمع ليلة ، مثل نمرة وتمر ونخلة ونحل . ويجمع أيضاً ليالي وليال بمعنى ، وهو مما شذ عن قياس الجموع ، كشبه ومشابه وحاجة وحوائج وذكر ومذاكر ، وكأن ليالي في القياس جمع ليلاة . وقد استعملوا ذلك في الشعر قال :
في كل يوم وكل ليلاة
وقال آخر :
في كل يوم ما وكل ليلاه حتى يقول كل راء إذ رآه
يا ويحه من جمل ما أشقاه
قال ابن فارس في المجمل : ويقال إن بعض الطير يسمى ليلا ، ولا أعرفه . والنهار يجمع نهر وأنهرة . قال أحمد بن يحيى ثعلب : نهر جمع نهر وهو جمع الجمع للنهار ، وقيل النهار اسم مفرد لم يجمع لأنه بمعنى المصدر ، كقول الضياء ، يقع على القليل والكثير . والأول ، قال الشاعر :
لولا الثريدان هلكنا بالضمر ثريد ليل وثريد بالنهر
قال ابن فارس : النهار معروف ، والجمع نهر وأنهار . ويقال : إن النهار يجمع على النهر . والنهار :ضياء ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس . ورجل نهر : صاحب نهار . ويقال : إن النهار فرخ الحبارى . قال النضر بن شميل : أول النهار طلوع الشمس ، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار . وقال ثعلب : أوله عند العرب طلوع الشمس ، واستشهد بقول امية بن ابي الصلت .
والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد
وأنشد قول عدي بن زيد :
وجاعل الشمس مصراً لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا
وأنشد الكسائي :
إذا طلعت شمس النهار فإنها أمارة تسليمي عليك فسلمي
قال الزجاج في كتاب الأنواء : أول النهار ذرور الشمس . وقسم ابن الأنباري الزمن ثلاث اقسام : قسماً جعله ليلاً محضاً ، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر .وقسماً جعله نهاراً محضاً ، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها . وقسماً جعله مشتركاً بين النهار والليل ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لبقايا ظلمة الليل ومبادلاء ضوء النهار .
قلت : والصحيح أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، كما رواه ابن فارس في المجمل ، يدل عليه ما ثبت في صحيح مسلم " عن عدي بن حاتم قال : لما نزلت : "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" قال له عدي : يا رسول الله ،إني أجعل تحت وسادتي عقالين : عقالا أبيض وعقالا أسود ، أعرف بهما الليل من النهار . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار " . فهذا الحديث يقضي أن النهار من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، وهو مقتضى الفقه في الأيمان ، وبه ترتبط الأحكام . فمن حلف ألا يكلم فلاناً نهاراً فكلمه قبل طلوع الشمس حنث ، وعلى الأول لا يحنث . وقول النبي صلى الله عليه وسلم هو الفيصل في ذلك والحكم . وأما على ظاهر اللعنة وأخذه من السنة فهو من وقت الإسفار إذا اتسع وقت النهار ، كما قال :
ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائم من دونها ما وراءها
وقد جاء عن حذيفة ما يدل على هذا القول ،خرجه النسائي . وسيأتي في آي الصيام إن شاء الله تعالى .
الثالثة : قوله تعالى : "والفلك التي تجري في البحر" الفلك : السفن ، وإفراده وجمعه بلفظ واحد ، ويذكر ويؤنث . وليست الحركات في المفرد تلك بأعيانها في الجمع ، بل كأنه بنى الجمع بناء آخر ، يدل على ذلك توسط التثنية في قولهم : فلكان . والفلك المفرد مذكر ، قال تعالى : "في الفلك المشحون" فجاء به مذكراً ، وقال : "والفلك التي تجري في البحر" فأنث . ويحتمل واحداً وجمعاً ، وقال : "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة" فجمع ، فكأنه يذهب بها إذا كانت واحدة إلى المركب فيذكر ، وإلى السفينة فيؤنث . وقيل : واحدة فلك ، مثل أسد وأسد ، وخشب وخشب ، وأصله من الدوران ، ومنه :فلك السماء التي تدور عليه النجوم . وفلكت الجارية استدار ثديها ، ومنه فلكه المغزل . وسميت السفينة فلكاً لأنها تدور بالماء أسهل دور . ووجه الآية في الفلك :تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها . وأول من عملها نوح عليه السلام كما أخبر تعالى ، وقال له جبريل : اصنعها على جؤجؤ الطائر ، فعملها نوح عليه السلام وراثة في العالمين بما أراه جبريل : فالسفينة طائر مقلوب والماء في أسفلها نظير الهواء في أعلاها ، قاله ابن العربي .
الرابعة : هذه الآية وما كان مثلها دليل على جواز ركوب البحر مطلقاً لتجارة كان أو عبادة ، كالحج والجهاد . ومن السنة حديث أبي هريرة قال :
"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :يا رسول الله ، إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء" . الحديث .
وحديث أنس بن مالك في قصة أم حرام ، أخرجهما الأئمة : مالك وغيره . روى حديث أنس عنه جماعة عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن انس ، ورواه بشر بن عمر عن مالك عن إسحاق عن أنس عن أم حرام ، جعله من مسند أم حرام لا من مسند أنس . هكذا حدث عنه به بندار محمد بن بشار ، ففيه دليل واضح على ركوب البحر في الجهاد للرجال والنساء ، وإذا جاز ركوبه للجهاد فركوبه للحج المفترض أولى وأوجب . وروي عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما المنع من ركوبه . والقرآن والسنة يرد هذا القول ، ولو كان ركوبه يكره أو لا يجوز لنهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الذين قالوا له : إنا نركب البحر . وهذه الآية وما كان مثلها نص في الغرض وإليها المفزع . وقد تؤول ما روي عن العمرين في ذلك بأن ذلك محمول على الاحتياط وترك التغرير بالمهج في طلب الدنيا والاستكثار منها ، وأما في أداء الفرائض فلا . ومما يدل على جواز ركوبه من جهة المعنى أن الله تعالى ضرب البحر وسط الأرض وجعل الخلق في العدوتين ، وقسم المنافع بين الجهتين فلا يوصل إلى جلبها إلا بشق البحر لها ، فسهل الله سبيله بافلك ، قاله ابن العربي . قال ابو عمر : وقد كان مالك يكره للمراة الركوب للحج في البحر ، وهو للجهاد لذلك أكره . والقرآن والسنة يرد قوله ، إلا أن بعض أصحابنا من أهل البصرة قال : إنما كره ذلك مالك لأن السفن بالحجاز صغار ، وأن النساء لا يقدرن على الاستتار عند الخلاء فيها لضيقها وتزاحم الناس فيها ، وكان الطريق من المدينة إلى مكة على البر ممكناً ، فلذلك كره مالك ذلك . وأما السفن الكبار نحو سفن أهل البصرة فليس بذلك بأس . قال: والأصل أن الحج على كل من استطاع إليه سبيلاً من الأحرار البالغين ، نساء كانوا أو رجالاً ، إذا كان الأغلب من الطريق الأمن ، ولم يخص بحراً من بر .
قلت : فدل الكتاب والسنة والمعنى على إباحة ركوبه للمعنيين جميعاً : العبادة والتجارة ، فهي الحجة وفيها الأسوة . إلا أن الناس في ركوب البحر تختلف أحوالهم ، فرب راكب يسهل عليه ذلك ولا يشق ، وآخر يشق عليه ويضعف به ، كالمائد المفرط الميد ، ومن لم يقدر معه على أداء فرض الصلاة ونحوها من الفرائض ، فالأول ذلك له جائز ، والثاني يحرم عليه ويمنع منه . ولا خلاف بين أهل العلم وهي :
الخامسة : أن البحر إذا أرتج لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ولا في الزمن الذي الأغلب فيه عدم السلامة ، وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن تكون السلامة فيه الأغلب ، فإن الذين يركبونه حال السلامة وينجون لا حاصر لهم ، والذين يهلكون فيه محصورون .
السادسة : قوله تعالى : "بما ينفع الناس" أي بالذي ينفعهم من التجارات وسائر المآرب التي تصلح بها أحوالهم . وبركوب البحر تكتسب الأرباح ، وينتفع من يحمل إليه المتاع ايضاً . وقد قال بعض من طعن في الدين : إن الله تعالى يقول في كتابكم : "ما فرطنا في الكتاب من شيء" فأين ذكر التوابل المصلحة للطعام من الملح والفلفل وغير ذلك ؟ فقيل له في قوله "بما ينفع الناس" .
السابعة : قوله تعالى :"وما أنزل الله من السماء من ماء" يعني بها الأمطار التي بها إنعاش العالم وإخراج النبات والأرزاق ، وجعل منه المخزون عدة للانتفاع في غير وقت نزوله ، كما قال تعالى : "فأسكناه في الأرض" .
الثامنة : قوله تعالى : "وبث فيها من كل دابة" أي فرق ونشر ، ومنه "كالفراش المبثوث" . ودابة تجمع الحيوان له ، وقد أخرج بعض الناس الطير ، وهو مردود ، قال الله تعالى : "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" فإن الطير يدب على رجليه في بعض حالات ، قال الأعشى :
دبيب قطا البطحاء في كل منهل
وقال علقمة بن عبدة :
صواعقها لطيرهن دبيب
التاسعة : قوله تعالى : "وتصريف الرياح" تصريفها : إرسالها عقيما وملقحة ، وصراً ونصراً وهلاكاً ، وحارة وباردة ، ولينة وعاصفة . وقيل : تصريفها إرسالها جنوباً وشمالاً ، ودبوراً وصباً ، ونكباء ، وهي التي تأتي بين مهبي ريحين . وقي : تصريفها أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها ، والصغار كذلك ، ويصرف عنهما ما يضر بهما ، ولا اعتبار بكبر القلاع ولا صغرها ، فإن الريح لو جاءت جسداً واحداً لصدمت القلاع وأغرقت . والرياح جمع ريح سميت به لأنها تأتي بالروح غالباً . روى أبو داود عن ابي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
"الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها وأسألوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها" . واخرجه أيضاً ابن ماجة في سننه حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة حدثنا يحيى بن سعيد عن الأوزاعي عن الزهري حدثنا ثابت الزرقي عن ابي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتي بالرحمة والعذاب ولكن سلوا الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها" . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن" . المعنى : أن الله تعالى جعل فيها التفريج والتنفيس والترويح والإضافة من طريق الفعل ، والمعنى : إن الله تعالى جعلها كذلك . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور" . وهذا معنى ما جاء في الخبر أن الله سبحانه وتعالى فرج عن نبيه صلى الله عليه وسلم بالريح يوم الأحزاب ، فقال تعالى : "فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها" . ويقال نفس الله عن فلان كربة من كرب الدنيا ، أي فرج عنه . وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :
"من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة" . أي فرج عنه . وقال الشاعر :
كأن الصبا ريح إذا ما تنسمت على كبد مهموم تجلت همومها
قال ابن الأعرابي :النسيم أول هبوب الريح . وأصل الريح روح ، ولهذا قيل في جمع القلة أرواح ، ولا يقال : أرياح ، لأنها من ذوات الواو ، وإنما قيل : رياح من جهة الكثرة وطلب تناسب الياء معها . وفي مصحف حفصة وتصريف الأرواح .
العاشرة : قوله تعالى : "وتصريف الرياح" قرأ حمزة و الكسائي الريح على الإفراد ، وكذلك في الأعراف والكهف وإبراهيم والنمل والروم وفاطر والشورى والجاثية ، لا خلاف بينهما في ذلك . ووافقهما ابن كثير في الأعراف والنمل والروم وفاطر والشورى . وأفرد حمزة : "الرياح والسحاب" . وأفرد ابن كثير "وهو الذي أرسل الرياح" في الفرقان . وقرا الباقون بالجمع في جميعها سوى الذي في إبراهيم والشورى فلم يقرأهما بالجمع سوى نافع ، ولم يختلف السبعة فيما سوى هذه المواضع . والذي ذكرناه في الروم هو الثاني "الله الذي يرسل الرياح" . ولا خلاف بينهم في "الرياح مبشرات" . وكان أبو جعفر يزيد بن القعقاع يجمع الرياح إذا كان يها ألف ولام في جميع القرآن ، سوى "تهوي به الريح" و "الريح العقيم" . فإن لم يكن فيه ألف ولام أفرد . فمن وحد الريح فلأنه اسم للجنس يدل على القليل والكثير . ومن جمع فلاختلاف الجهات التي تهب منها الرياح . ومن جمع مع الرحمة ووحد مع العذاب فإنه فعل ذلك اعتباراً بالأغلب في القرآن ، نحو : "الرياح مبشرات" و "الريح العقيم" فجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله : "وجرين بهم بريح طيبة" . وروي :
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا هبت الريح : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا" . وذلك لأن ريح العذاب شديدة ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح . فأفردت مع الفلك في يونس ، لأن ريح إجراء السفن إنما هي ريح واحدة متصلة ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب .
الحادية عشرة : قال العلماء الريح تحرك الهواء ، وقد يشتد ويضعف . فإذا بدت حركة الهواء من تجاه القبلة ذاهبة إلى سمت القبلة قيل لتلك الريح : الصبا . وإذا بدت حركة الهواء من وراء القبلة وكانت ذاهبة إلى تجاه القبلة قيل لتلك الريح : الدبور . وإذا بدت حركة الهواء عن يمين القبلة ذاهبة إلى يسارها قيل لها : ريح الجنوب . وإذا بدت حركة الهواء عن يسار القبلة ذاهبة إلى يمينها قيل لها : ريح الشمال . ولكل واحدة من هذه الرياح طبع ، فتكون منفعتها بحسب طبعها ، فالصبا حارة يابسة ، والدبور باردة رطبة ، والجنوب حارة رطبة ، والشمال باردة يابسة . واختلاف طباعها كاختلاف طبائع فصول السنة . وذلك أن الله تعالى وضع للزمان أربعة فصول مرجعها إلى تغيير احوال الهواء ، فجعل الربيع الذي هو أول الفصول حاراً رطباً ، ورتب فيه النشء فتنزل فيه المياه ، وتخرج الأرض زهرتها وتظهر نباتها ، ويأخذ الناس في غرس الأشجار وكثير من الزرع ، وتتوالد فيه الحيوانات وتكثر الألبان . فإذا انقضى الربيع تلاه الصيف الذي هو مشاكل للربيع في إحدى طبيعته وهي الحرارة ، ومباين له في الأخرى وهي الرطوبة ، لأن الهواء في الصيف حار يابس ، فتنضج فيه الثمار وتبيس فيه الحبوب المزروعة في الربيع . فإذا انقضى الصيف تبعه الخريف الذي هو مشاكل للصيف في إحدى طبيعتيه وهيي اليبس ، ومباين له في الأخرى وهي الحرارة ، لأن الهواء في الخريف بادر يابس ، فيتناهى فيه صلاح الثمار وتيبس وتجف فتصير إلى حال الادخار ، فتقطف الثمار وتحصد الأعناب وتفرغ من جمعها الأشجار . فإذا انقضى الخريف تلاه الشتاء وهو ملائم للخريف في إحدى طبيعتيه وهي البرودة ، ومباين له في الأخرى وهو اليبس ، لأن الهواء في الشتاء بارد ركب ، فتكثر الأمطار والثلوج وتمهد الأرض كالجسد المستريح ، فلا تتحرك إلا أن يعيد الله تبارك وتعالى إليها حرارة الربيع ، فإذا اجتمعت مع الرطوبة كان عند ذلك النشء والنمو بإذن الله سبحانه وتعالى . وقد تهب رياح كثيرة سوى ما ذكرناه ، إلا أن الأصول هذه الأربع . فكل ريح تهب بين ريحين فحكمها حكم الريح التي تكون في هبوبها أقرب إلى مكانها وتسمى النكباء .
الثانية عشرة : قوله تعالى :"والسحاب المسخر بين السماء والأرض" سمي السحاب سحاباً لانسحابه في الهواء . وسحبت ذيلي سحباً . وتسحب فلان على فلان : اجترأ . والسحب : شدة الأكل والشرب . والمسخر : المذلل ، وتسخيره بعثه من مكان إلى آخر . وقيل : تسخيره ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق ، والأول أظهر . وقد يكون بماء وبعذاب ، روى مسلم عن ابي هريرة رضي الله عنه " عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : بينما رجل بفلاة من الأرض فسمع صوتاً في سحابة اسق حديقة فلان فتنحى ذلك السحاب فأفزع ماءه في حرة فإذا شرجة من تلك الشراج قد استوعبت ذلك الماء كله فتتبع الماء فإذا رجل قائم في حديقته يحول الماء بمسحاته فقال له يا عبد الله ما اسمك قال فلان للاسم الذي سمع في السحابة فقال يا عبد الله لم تسألني عن اسمي فقال إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول اسق حديقة فلان لاسمك فما تصنع فيها قال أما إذ قلت هذا فإني أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدق بثلثه وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأرد ثلثه " . وفي رواية : "وأجعل ثلثه في المساكين والسائلين وابن السبيل" . وفي التنزيل : "والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت" ، وقال :"حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت" وهو في التنزيل كثير . وخرج ابن ماجة عن عائشة .
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى سحاباً مقبلاً من أفق من الآفاق ترك ما هو فيه وإن كان في صلاة حتى يستقبله فيقول : اللهم إنا نعوذ بك من شر ما أرسل به، فإن أمطر قال : اللهم سيباً نافعاً مرتين أو ثلاثة ، وإن كشفه الله ولم يمطر حمد الله على ذلك " . أخرجه مسلم بمعناه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت :
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الريح والغيم ، عرف ذلك في وجهه وأقبل وأدبر ، فإذا مطرت سر به وذهب عنه ذلك . قالت عائشة : فسألته فقال: إني خشيت أن يكون عذاباً سلط على أمتي" . "ويقول إذا رأى المطر : رحمة" في رواية فقال :
لعله يا عائشة كما قال قوم عاد "فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا" . فهذه الأحاديث والآي تدل على صحة القول الأول وأن تسخيرها ليس ثبوتها ، والله تعالى أعلم . فإن الثبوت يدل على عدم الانتقال ، فإن أريد بالثبوت كونها في الهواء ليست في السماء ولا في الأرض فصحيح ، لقوله بين وهي مع ذلك مسخرة محمولة ، وذلك أعظم في القدرة ، كالطير في الهواء قال الله تعالى : "ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله" ، وقال : :"أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن" .
الثالثة عشرة : قال كعب الأحبار : السحاب غربال المطر ، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض ، رواه عنه ابن عباس . ذكره الخطيب أبو بكر أحمد بن علي عن معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني قال : رايت ابن عباس مر على بغلة وأنا في بني سلمة ، فمر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم على ابن عباس فسأله ابن عباس : هل سمعت كعب الأحبار يقول في السحاب شيئاً ؟ قال : نعم ، قال : السحاب غربال المطر ، لولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض .قال : سمعت كعباً يقول في الأرض تنبت العام نباتاً ، وتنبت عاماً قابلاً غيره ؟ قال نعم ، سمعته يقول : إن البذر ينزل من السماء . قال ابن عباس : وقد سمعت ذلك من كعب .
الرابعة عشرة : قوله تعالى : "لآيات" أي دلالات تدل على وحدانيته وقدرته ، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله: "وإلهكم إله واحد" ليدل بها على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه ، وذكر رحمته ورأفته بخلقه . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها" أي لم يتفكر فيها ولم يعتبرها .
فإن قيل : فما أنكرت أنها أحدثت أنفسها . وقيل له : هذا محال ، لأنها لو أحدثت أنفسها لم تخل من أن تكون أحدثتها وهي موجودة أو هي معدومة ، فإن أحدثتها وهي معدومة كان محالا ، لأن الإحداث لا يتأتى إلا من حي عالم قادر مريد ، وما ليس بموجود لا يصح وصفه بذلك ، وإن كانت موجودة فوجودها يغني عن إحداث أنفسها . وأيضاً فلو جاز ما قالوه لجاز أن يحدث البناء نفسه ، وكذلك النجارة والنسج ، وذلك محال ،وما أدى إلى المحال محال . ثم إن الله تعالى لم يقتصر بها في وحدانيته على مجرد الأخبار حتى قرن ذلك بالنظر والاعتبار في آي من القرآن ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : "قل انظروا ماذا في السماوات والأرض" ، والخطاب للكفار ، لقوله تعالى : "وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون" وقال : "أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض" . يعني بالملكوت الايات . وقال "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" يقول : أو لم ينظروا في ذلك نظرة تفكر وتدبر حتى يستدلوا بكونها محلاً للحوادث والتغييرات على أنها محدثات ، وأن المحدث لا يستغني عن صانع يصتعه ، وأن ذلك الصانع حكيم عالم قدير مريد سميع بصير متكلم ، لأنه لو لم يكن بهذه الصفات لكان الإنسان أكمل منه وذلك محال . وقال تعالى : "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" يعني آدم عليه السلام ، "ثم جعلناه" أي جعلنا نسله وذريته "نطفة في قرار مكين" إلى قول : "تبعثون" . فالإنسان إذا تفكر بهذا التنبيه بما جعل له من العقل في نفسه رآها مدبرة وعلى أحوال شتى مصرفة . كان نطفة ثم علقة ثم مظغة ثم لحماً وعظماً ، فيعلم أنه لم ينقل نفسه من حال النقص إلى حال الكمال ، لأنه لا يقدر على أن يحدث لنفسه في الحال الأفضل التي هي كمال عقله وبلوغ أشده عضواً من الأعضاء ، ولا يمكنه أن يزيد في جوارحه جارحة ، فيدله ذلك على أنه في حال نقصه وأوان ضعفه عن فعل ذلك أعجز . وقد يرى نفسه شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً وهو لم ينقل نفسه من حال الشباب والقوة إلى حال الشيخوخة والهرم ، ولا اختاره لنفسه ولا في وسعه أن يزايل حال المشيب ويراجع قوة الشباب ، فيعلم بذلك أنه ليس هو الذي فعل تلك الأفعال بنفسه ، وأن له صانعاً صنعه وناقلاً نقله من حال إلى حال ، ولولا ذلك لم تتبدل أحواله بلا ناقل ولا مدبر . وقال بعض الحكماء : إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير ،الذي هو بدن الإنسان ، ولذلك قال تعالى : "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" وقال : "وفي أنفسكم أفلا تبصرون" . فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة ، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها ، وأعضاؤه تصير عند البلى تراباً من جنس الأرض ، وفيه من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن ، ومن جنس الهواء فيه الروح والنفس ، ومن جنس النار فيه المرة الصفراء . وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض ، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار ، لأن العروق تستمد من الكبد . ومثانته بمنزلة البحر ، لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر . وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض . وأعضاؤه كالأشجار ، فكما أن لكل شجر ورقاً أو ثمراً فكذلك لكل عضو فعل أو أثر . والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض . ثم إن الإنسان يحكي بلسانه كل صوت حيوان ، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان ،فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق محدث لصانع واحد ، لا إله إلا هو .
يقول تعالى: "إن في خلق السموات والأرض" تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها ـ وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها وجبالها وبحارها وقفارها ووهادها وعمرانها وما فيها من المنافع, واختلاف الليل والنهار . هذا يجيء ثم يذهب ويخلفه الاخر ويعقبه, لا يتأخر عنه لحظة, كما قال تعالى: "لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون" وتارة يطول هذا ويقصر هذا, وتارة يأخذ هذا من هذا ثم يتقارضان, كما قال تعالى: "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" أي يزيد من هذا في هذا ومن هذا في هذا, "والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل ذلك الأقليم, ونقل هذا إلى هؤلاء "وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها" كما قال تعالى: " وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون * ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون " "وبث فيها من كل دابة" أي على اختلاف أشكالها وألوانها ومنافعها وصغرها وكبرها, وهو يعلم ذلك كله ويرزقه, لا يخفى عليه شيء من ذلك, كما قال تعال: "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين" "وتصريف الرياح" أي فتارة تأتي بالرحمة, وتارة تأتي بالعذاب, وتارة تأتي مبشرة بين يدي السحاب, وتارة تسوقه, وتارة تجمعه, وتارة تفرقه, وتارة تصرفه, ثم تارة تأتي من الجنوب وهي الشامية, وتارة تأتي من ناحية اليمن وتارة صبا, وهي الشرقية التي تصدم وجه الكعبة, وتارة دبوراً وهي غربية تنفذ من ناحية دبر الكعبة. وقد صنف الناس في الرياح والمطر والأنواء كتباً كثيرة فيما يتعلق بلغاتها وأحكامها, وبسط ذلك يطول ههنا, والله أعلم, "والسحاب المسخر بين السماء والأرض" أي سائر بين السماء والأرض, مسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن, كما يصرفه تعالى: " لآيات لقوم يعقلون " أي في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى, كما قال تعالى: " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ". وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا أبو سعيد الدشتكي, حدثني أبي عن أبيه, عن أشعث بن إسحاق, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: أتت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد, إنا نريد أن تدعو ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً فنشتري به الخيل والسلاح, فنؤمن بك ونقاتل معك, قال "أوثقوا لي لئن دعوت ربي فجعل لكم الصفا ذهباً لتؤمنن بي" فأوثقوا له, فدعا ربه, فأتاه جبريل فقال: إن ربك قد أعطاهم الصفا ذهباً على أنهم إن لم يؤمنوا بك عذبهم عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين, قال محمد صلى الله عليه وسلم "رب لا بل دعني وقومي فلأدعهم يوماً بيوم", فأنزل الله هذه الاية: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" الاية, ورواه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن جعفر بن أبي المغيرة به, وزاد في آخره: وكيف يسألونك الصفا وهم يرون من الايات ما هو أعظم من الصفا ؟ وقال ابن أبي حاتم أيضاً: حدثنا أبي, حدثنا أبو حذيفة, حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح, عن عطاء, قال: نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم " فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد ؟ فأنزل الله تعالى: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس" إلى قوله: " لآيات لقوم يعقلون " فبهذا يعلمون أنه إله واحد , وأنه إله كل شيء, وخالق كل شيء, وقال وكيع بن الجراح: حدثنا سفيان عن أبيه, عن أبي الضحى, قال: لما نزلت "وإلهكم إله واحد" إلى آخر الاية, قال المشركون: إن كان هكذا, فليأتنا بآية, فأنزل الله عز وجل "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار" إلى قوله: "يعقلون" رواه آدم ابن أبي إياس عن أبي جعفر هو الرازي, عن سعيد بن مسروق والد سفيان, عن أبي الضحى به.
لما ذكر سبحانه التوحيد بقوله: "وإلهكم إله واحد" عقب ذلك بالدليل الدال عليه، وهو هذه الأمور التي هي من أعظم صنعة الصانع الحكيم، مع علم كل عاقل بأنه لا يتهيأ من أحد من الآلهة التي أثبتها الكفار أن يأبى بشيء منها، أو يقتدر عليه أو على بعضه، وهي خلق السموات، وخلق الأرض، وتعاقب الليل والنهار، وجري الفلك في البحر، وإنزال المطر من السماء، وإحياء الأرض به، وبث الدواب منها بسببه، وتصريف الرياح، فإن من أمعن نظره وأعمل فكره في واحد منها انبهر له، وضاق ذهنه عن تصور حقيقته. وتحتم عليه التصديق بأن صانعه هو الله سبحانه، وإنما جمع السموات لأنها أجناس مختلفة، كل سماء من جنس غير جنس الأخرى، ووحد الأرض لأنها كلها من جنس واحد وهو التراب. والمراد باختلاف الليل والنهار تعاقبهما بإقبال أحدهما وإدبار الآخر، وإضاءة أحدهما وإظلام الآخر. والنهار: ما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقال النضر بن شميل: أول النهار طلوع الشمس، ولا يعد ما قبل ذلك من النهار. وكذا قال ثعلب، واستشهد بقول أمية بن أبي الصلت:
والشمس تطلع كل آخر ليلة حمراء يصبح لونها يتورد
وكذا قال الزجاج. وقسم ابن الأنباري الزمان إلى ثلاثة أقسام: قسماً جعله ليلاً محضاً، وهو من غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وقسماً جعله نهاراً محضاً، وهو من طلوع الشمس إلى غروبها. وقسماً جعله مشتركاً بين النهار والليل، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لبقايا ظلمة الليل ومبادئ ضوء النهار. هذا باعتبار مصطلح أهل اللغة. وأما في الشرع فالكلام في ذلك معروف. والفلك: السفن، وإفراده وجمعه بلفظ واحد، وهو هذا ويذكر ويؤنث. قال الله تعالى: "في الفلك المشحون"، 164- "والفلك التي تجري في البحر" وقال: "حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم" وقيل: واحده فلك بالتحريك، مثل أسد وأسد. وقوله: "بما ينفع الناس" يحتمل أن تكون ما موصولة أي بالذي ينفعهم، أو مصدرية: أي بنفعهم، والمراد بما أنزل من السماء المطر الذي به حياة العالم وإخراج النبات والأرزاق. والبث: النشر، والظاهر أن قوله: "بث" معطوف على قوله: "فأحيا" لأنهما أمران متسببان عن إنزال المطر. وقال في الكشاف: إن الظاهر عطفه على أنزل. والمراد بتصريف الرياح: إرسالها عقيماً، وملقحة وصراً ونصراً، وهلاكاً وحارةً وباردةً، ولينةً عاصفةً، وقيل تصريفها: إرسالها جنوباً وشمالاً ودبوراً، وصباً ونكباً وهي التي تأتي بين مهبي ريحين، وقيل تصريفها: أن تأتي السفن الكبار بقدر ما تحملها والصغار كذلك، ولا مانع من حمل التصريف على جميع ما ذكر. والسحاب سمي سحاباً لانسحابه في الهواء، وسحبت ذيلي سحباً وتسحب فلان على فلان: اجترأ. والمسخر: المذلل، وسخره: بعثه من مكان إلى آخر، وقيل تسخيره: ثبوته بين السماء والأرض من غير عمد ولا علائق. والأول أظهر. والآيات الدلالات على وحدانيته سبحانه لمن ينظر ببصره ويتفكر بعقله.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يجعل لنا الصفا ذهباً نتقوى به على عدونا، فأوحى الله إليه: إني معطيهم فأجعل لهم الصفا ذهباً، ولكن إن كفروا بعد ذلك عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، فقال: "رب دعني وقومي فأدعوهم يوماً بيوم"، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن سعيد بن جبير. وأخرج وكيع والفريابي وآدم بن أبي إياس وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي الضحى قال: لما نزلت "وإلهكم إله واحد" عجب المشركون وقالوا: إن محمداً يقول: "وإلهكم إله واحد" فليأتنا بآية إن كان من الصادقين، فأنزل الله "إن في خلق السموات والأرض" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء نحوه. وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن سليمان قال: الليل موكل به ملك يقال له شراهيل، فإذا حان وقت الليل أخذ خرزة سوداء فدلاها من قبل المغرب، فإذا نظرت إليها الشمس وجبت في أسرع من طرفة عين، وقد أمرت الشمس أن لا تغرب حتى ترى الخرزة، فإذا غربت جاء الليل، فلا تزال الخرزة معلقة حتى يجيء ملك آخر يقال له هراهيل بخرزة بيضاء فيعلقها من قبل المطلع، فإذا رآها شراهيل مد إليه خرزته، وترى الشمس الخرزة البيضاء، فتطلع، وقد أمرت أن لا تطلع حتى تراها، فإذا طلعت جاء النهار. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: "والفلك" قال: السفينة. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: "بث" خلق، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "وتصريف الرياح" قال: إذا شاء جعلها رحمة لواقح للسحاب، وبشراً بين يدي رحمته، وإذا شاء جعلها عذاباً ريحاً عقيماً لا تلقح. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال: كل شيء في القرآن من الرياح فهي رحمة، وكل شيء في القرآن من الريح فهي عذاب. وقد ورد في النهي عن سب الريح وأوصافها أحاديث كثيرة لا تعلق لها بالآية.
164. فأنزل الله عز وجل " إن في خلق السموات والأرض " ذكر السماوات بلفظ الجمع والأرض بلفظ الواحد لأن كل سماء ليست من جنس واحد بل من جنس آخر، والأرضون كلها من جنس واحد وهو التراب، فالآية في السماوات سمكها وارتفاعها من غير عمد ولا علاقة وما ترى فيها من الشمس والقمر والنجوم، والآية في الأرض مدها وبسطها وسعتها وماترى فيها من الأشجار والأنهار والجبال والبحار والجواهر والنبات.
قوله تعالى: " واختلاف الليل والنهار " أي تعاقبهما في الذهاب والمجيء يخلف أحدهما صاحبه إذا ذهب أحدهما جاء الآخر خلفه أي بعده نظيره قوله تعالى: " وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة " (62-الفرقان) قال عطاء : أراد اختلافهما في النور والظلمة والزيادة والنقصان. والليل جمع ليلة، والليالي جمع الجمع. والنهار جمعه نهر وقدم الليل على النهار في الذكر لأنه أقدم منه قال الله تعالى " وآية لهم الليل نسلخ منه النهار " (37-يس).
" والفلك التي تجري في البحر " يعني السفن واحده وجمعه سواء فإذا أريد به الجمع يؤنث وفي الواحد يذكر قال الله تعالى: في الواحد والتذكير " إذ أبق إلى الفلك المشحون " (140-الصافات) وقال في الجمع والتأنيث " حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة " (22-يونس).
" والفلك التي تجري في البحر " الآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة لا ترسب تحت الماء " بما ينفع الناس " يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب وأنواع المطالب " وما أنزل الله من السماء من ماء " يعني المطر قيل: أراد بالسماء السحاب، يخلق الله في السحاب ثم من السحاب ينزل وقيل أراد به السماء المعروفة يخلق الله تعالى الماء في السماء ثم ينزل من السماء إلى السحاب ثم من السحاب ينزل إلى الأرض " فأحيا به " أي الماء " الأرض بعد موتها " أي بعد يبوستها وجدوبتها " وبث فيها " أي فرق فيها " من كل دابة وتصريف الرياح ".
قرأ حمزة و الكسائي الريح بغير ألف وقرأ الباقون بالألف وكل ريح في القرآن ليس فيها ألف ولا لام اختلفوا في جمعها وتوحيدها إلا في الذاريات " الريح العقيم " (41-الذاريات) اتفقوا على توحيدها وفي الحرف الأول من سورة الروم " الرياح مبشرات " (456-الروم) اتفقوا على جمعها، وقرأ أبو جعفر سائرها على الجمع، والقراء مختلفون فيها، والريح يذكر ويؤنث، وتصريفها أنها تتصرف إلى الجنوب والشمال والقبول والدبور والنكباء.
وقيل: تصريفها أنها تارة تكون ليناً وتارة تكون عاصفاً وتارة تكون حارة وتارة تكون باردة قال ابن عباس: أعظم جنود الله الريح والماء وسميت الريح ريحاً لأنها تريح النفوس قال شريح القاضي : ما هبت ريح إلا لشفاء سقيم صحيح والبشارة في ثلاث من الرياح في الصبا والشمال والجنوب أما الدبور فهي الريح العقيم لا بشارة فيها وقيل الرياح ثمانية: أربعة للرحمة وأربعة للعذاب. فأما التي للرحمة المبشرات والناشرات والذاريات والمرسلات وأما التي للعذاب فالعقيم والصرصر في البر والعاصف والقاصف في البحر " والسحاب المسخر " أي الغيم المذلل سمي سحاباً لأنه ينسحب أي يسير في سرعة كأنه يسحب أي يجر " بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون " فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً قال وهب بن منبه : ثلاثة لا يدرى من أين تجيء الرعد والبرق والسحاب.
164-" إن في خلق السموات والأرض " إنما جمع السموات وأفراد الأرض ، لأنها طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين . " واختلاف الليل والنهار " تعاقبهما كقوله تعالى : " جعل الليل والنهار خلفةً " . " والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس " أي ينفعهم ، أو بالذي ينفعهم ، والقصد به إلى الاستدلال بالبحر وأحواله ، وتخصيص " الفلك " بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه ، ولذلك قدمه على ذكر المطر والسحاب ، لأن منشأهما البحر في غالب الأمر ، وتأنيث " الفلك " لأنه بمعنى السفينة . وقرئ بضمتين على الأصل ، أو الجمع وضمة الجمع غير ضمة الواحد عند المحققين . " وما أنزل الله من السماء من ماء " من الأولى للإبتداء ، والثانية للبيان . والسماء يحتمل الفلك والسحاب وجهة العلو . " فأحيا به الأرض بعد موتها " بالنبات " وبث فيها من كل دابة " عطف على أنزل ،كأنه استدل بنزول المطر وتكوين النبات به وبث الحيوانات في الأرض ، أو على أحيا فإن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة . والبث النشر والتفريق . " وتصريف الرياح " في مهابها وأحوالها ، وقرأ حمزة و الكسائي على الإفراد . " والسحاب المسخر بين السماء والأرض " لا ينزل ولا ينقشع ، مع أن الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله تعالى . وقيل : مسخر الرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى ، واشتقاقه من السحب لأن بعضه يجر بعضاً . " لآيات لقوم يعقلون " يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون عقولهم ، وعنه صلى الله عليه وسلم " ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها " أي لم يتفكر فيها .
واعلم أن دلالة هذه الآيات على وجود الإله و وحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلاً ، والكلام المجمل أنها : أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة وأنحاء مختلفة ، إذ كان من الجائز مثلاً أن لا تتحرك السموات ، أو بعضها كالأرض وأن تتحرك بعكس حركاتها ، وبحيث تصير المنطقة دائرة مارة بالقطبين ، وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلاً ،وعلى هذا الوجه لبساطتها وتساوي أجزائها ، فلا بد لها من موجه قادر حكيم ، يوجدها على ما تستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته ، متعالياً عن معارضة غيره ، إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه الآخر . فإن توافقت إرادتهما : فالفعل إن كان لهما ، لزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد ، وإن كان لأحدهما ، لزم ترجيح الفاعل بلا مرجح وجز الآخر المنافي لآلهيته . وإن اختلفت : لزم التمانع والتطارد ، كما أشار إليه بقوله تعالى : " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " . وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله . وحث على البحث والنظر فيه .
164. Lo! in the creation of the heavens and the earth, and the difference of night and day, and the ships which run upon the sea with that which is of use to men, and the water which Allah sendeth down from the sky, thereby reviving the earth after its death, and dispersing all kinds of beasts therein, and (in) the ordinance of the winds, and the clouds obedient between heaven and earth: are signs (of Allah's sovereignty) for people who have sense.
164 - Behold! in the creation of the heavens and the earth; in the alternation of the night and the day; in the sailing of the ships through the ocean for the profit of mankind; in the rain which God sends down from the skies, and the life which he gives therewith to an earth that is dead; in the beasts of all kinds that he scatters through the earth; in the change of the winds, and the clouds which they trail like their slaves between the sky and the earth; (here) indeed are signs for a people that are wise.