ونزل في الشهداء: (ولا تحسبن الذين قتلوا) بالتخفيف والتشديد (في سبيل الله) أي لأجل دينه (أمواتاً بل) هم (أحياء عند ربهم) أرواحهم في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت كما ورد في الحديث (يرزقون) يأكلون من ثمار الجنة
قوله تعالى ولا تحسبن الآية روى أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصيب أخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت أخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله هذه الآية ولا تحسبن الذين قتلوا الآية وما بعدها وروى الترمذي عن جابر نحوه
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره : "ولا تحسبن"، ولا تظنن ، كما: حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق : "ولا تحسبن"، ولا تظنن.
وقوله : "الذين قتلوا في سبيل الله"، يعني : الذين ، قتلوا بأحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، "أمواتا"، يقول : ولا تحسبنهم ، يا محمد، أمواتاً لا يحسون شيئاً ولا يلتذون ولا يتنعمون ، فإنهم أحياء عندي ، متنعمون في رزقي ، فرحون مسرورون بما آتيتهم من كرامتي وفضلي ، وحبوتهم به من جزيل ثوابي وعطائي ، كما:
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق ، وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ابن إسحق ، عن إسماعيل بن أمية، عن أبي الزبير المكي ، عن ابن عباس قال : "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش. فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا! لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا على الحرب! فقال الله عز وجل : أنا أبلغهم عنكم". فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الآيات.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير بن عبد الحميد، وحدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، قالا جميعاً، حدثنا محمد بن إسحق ، عن الأعمش عن أبي الضحى، عن مسروق بن الأجدع قال سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآيات: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله"، الآية، قال : أما إنا قد سألنا عنها فقيل لنا: إنه لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ،ظل العرش ، فيطلع الله إليهم اطلاعة فيقول : يا عبادي ، ما تشتهون فأزيدكم ؟ فيقولون : ربنا، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل منها حيث شئنا! ثلاث مرات ، ثم يطلع فيقول : يا عبادي ، ما تشتهون فأزيدكم ؟ فيقولون : ربنا، لا فوق ما أعطيتنا! الجنة نأكل منها حيث شئنا! إلا أنا نحب أن ترد أرواحنا في أجسادنا! ثم تردنا إلى الدنيا فنقاتل فيك حتى نقتل فيك مرة أخرى.
حدثنا الحسن بن يحيى المقدسي قال ، حدثنا وهب بن جرير قال ، حدثنا شعبة، عن الأعمش ، عن أبي الضحى، عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الاية. ثم ذكر نحوه وزاد فيه : إني قد قضيت أن لا ترجعوا.
حدثنا ابن المثنى قال ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن شعبة، عن سليمان ، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن أرواح الشهداء، ولولا عبد الله ما أخبرنا أحد! قال : أرواح الشهداء عند الله في أجواف طير خضر في قناديل تحت العرش ، تسرح في الجنة حيث شاء، ثم ترجع إلى قناديلها، فيطلع إليها ربها فيقول : ماذا تريدون ؟ فيقولون : نريد أن نرجع إلى الدنيا فنقتل مرة أخرى.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان وعبدة بن سليمان ، عن محمد بن إسحق ، عن الحارث بن فضيل ، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الشهداء "أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، قال : أرواح الشهداء عند الله كطير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح في الجنة حيث شاءت. قال : فاطلع إليهم ربك اطلاعة فقال : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه ؟ قالوا: ربنا، ألسنا نسرح في الجنة في أيها شئنا! ثم اطلع عليهم الثالثة فقال : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه ؟ قالوا : تعيد أرواحنا في أجسادنا فنقاتل في سبيلك مرة أخرى! فسكت عنهم.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا ابن عيينة، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبيدة، عن عبد الله : أنهم قالوا في الثالثة- حين قال لهم : هل تشتهون من شيء فأزيدكموه ؟ - قالوا : تقرىء نبينا عنا السلام ، وتخبره أن قد رضينا ورضي عنا.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال : قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يرغب المؤمنين في ثواب الجنة ويهون عليهم القتل : "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون"، أي قد أحييتهم ، فهم عندي يرزقون في روح الجنة وفضلها، مسرورين بما آتاهم الله من ثوابه على جهادهم عنه.
حدثت عن الحسين قال ، سمعت أبا معاذ قال ، حدثنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك قال : كان المسلمون يسألون ربهم أن يريهم يوماً كيوم بدر، يبلون فيه خيراً، ويرزقون فيه الشهادة، يرزقون فيه الجنة والحياة في الرزق ، فلقوا المشركين يوم أحد، فاتخذ الله منهم شهداء، وهم الذين ذكرهم الله فقال : "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا"، الآية.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن المفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : ذكر الشهداء فقال : "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم"، إلى قوله : "ولا هم يحزنون"، زعم أن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، في قناديل من ذهب معلقة بالعرش ، فهي ترعى بكرة وعشية في الجنة، تبيت في القناديل ، فإذا سرحن نادى مناد: ماذا تريدون ؟ ماذا تشتهون ؟ فيقولون : ربنا، نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألهم ربهم أيضاً: ماذا تشتهون ؟ وماذا تريدون ؟ فيقولون : نحن فيما اشتهت أنفسنا! فيسألون الثالثة، فيقولون ما قالوا: ولكنا نحب أن ترد أرواحنا في أجسادنا! لما رأوا من فضل الثواب.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا عباد قال ، حدثنا إبراهيم بن معمر، عن الحسن قال : ما زال ابن آدم يتحمد، حتى صار حياً ما يموت. ثم تلا هذه الآية : "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون".
حدثنا محمد بن مرزوق قال ، حدثنا عمر بن يونس ، عن عكرمة قال ، حدثنا إسحق بن أبي طلحة قال ، حدثني أنس بن مالك في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة، قال : لا أدري أربعين أو سبعين. قال : وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري ، فخرج أولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتوا غاراً مشرفاً على الماء قعدوا فيه ، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال - أراه ابن ملحان الأنصاري -: أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرج حتى أتى حياً منهم ، فاحتبى أمام البيوت ثم قال : يا أهل بئر معونة، إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله. فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جنبه حتى خرج من الشق الآخر، فقال : الله أكبر، فزت ورب الكعبة! فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه ، فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل . قال قال إسحق : حدثني أنس بن مالك : إن الله تعالى أنزل فيهم قرآناً، رفع بعد ما قرأناه زماناً. وأنزل الله : "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون".
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال ، أخبرنا يزيد قال ، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال : لما أصيب الذين أصيبوا يوم أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لقوا ربهم فأكرمهم ، فأصابوا الحياة والشهادة والرزق الطيب ، قالوا: يا ليت بيننا وبين إخواننا من يبلغهم أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا! فقال الله تبارك وتعالى : أنا رسولكم إلى نبيكم وإخوانكم. فأنزل الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون"، إلى قوله : "ولا هم يحزنون". فهذا النبأ الذي بلغ الله رسوله والمؤمنين ما قال الشهداء.
الأولى : لما بين الله تعالى أن ما جرى يوم أحد كان امتحاناً يميز المنافق من الصادق ، بين أن من لم ينهزم فقتل له الكرامة والحياة عنده ، والآية في شهداء أحد ، وقيل : نزلت في شهداء بئر معونة ، وقيل : بل هي عامة في جميع الشهداء ، وفي مصنف أبي داود بإسناد صحيح عن ابن عباس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنة تأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عند الحرب فقال الله سبحانه أنا أبلغهم عنكم "، قال : فأنزل الله " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا " إلى آخر الآيات .
وروى بقي بن مخلد ، " عن جابر قال : لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا جابر ما لي أراك منكساً مهتماً ؟ قلت : يا رسول الله ، استشهد أبي وترك عيالاً وعليه دين ، فقال : ألا أبشرك بما لقي الله عز وجل به أباك ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحاً ، وما كلم أحداً قط إلا من وراء حجاب فقال له يا عبدي تمن أعطك قال يا رب فردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب تبارك وتعالى إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون قال يا رب فأبلغ من ورائي " ، فأنزل الله عز وجل " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله " الآية ، أخرجه ابن ماجة في سننه ، و الترمذي في جامعه وقال : هذا حديث حسن غريب ، وروى وكيع عن سالم بن الأفطس عن سعيد بن جبير " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء " قال : لما أصيب حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير ورأوا ما رزقوا من الخير قالوا : ليت إخواننا يعلمون ما أصابنا من الخير يزدادوا في الجهاد رغبة ، فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله تعالى : " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا " إلى قوله : " لا يضيع أجر المؤمنين " وقال أبو الضحى : نزلت هذه الآية في أهل أحد خاصة ، والحديث الأول يقتضي صحة هذا القول ، وقال بعضهم : نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً ، ثمانية من الأنصار ، وستة من المهاجرين ، وقيل : نزلت في شهداء بئر معونة ، وقصتهم مشهورة ذكرها محمد بن إسحاق وغيره ، وقال آخرون : إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة وسرور تحسروا وقالوا : نحن في النعمة والسرور ، وآباؤنا وإخواننا في القبور ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تنفيساً عنهم وإخباراً عن حال قتلاهم .
قلت : وبالجملة وإن كان يحتمل أن يكون النزول بسبب المجموع فقد أخبر الله تعالى فيها عن الشهداء أنهم أحياء في الجنة يرزقون ، ولا محالة أنهم ماتوا وأن أجسادهم في التراب ، وأرواحهم حية كأرواح سائر المؤمنين ، وفضلوا بالرزق في الجنة من وقت القتل حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم .
وقد اختلف العلماء في هذا المعنى ، فالذي عليه المعظم هو ما ذكرناه ، وأن حياة الشهداء محققة ، ثم منهم من يقول : ترد إليهم الأرواح في قبورهم فينعمون كما يحيا الكفار في قبورهم فيعذبون ، وقال مجاهد : يرزقون من ثمر الجنة ، أي يجدون ريحها وليسوا فيها ، وصار قوم إلى أن هذا مجاز ، والمعنى أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة ، وهو كما يقال : ما مات فلان ، أي ذكره حي ، كما قيل :
موت التقي حياة لا فناء لها قد مات قوم وهم في الناس أحياء
فالمعنى أنهم يرزقون الثناء الجميل ، وقال آخرون : أرواحهم في أجواف طير خضر وأنهم يرزقون في الجنة ويأكلون ويتنعمون ، وهذا هو الصحيح من الأقوال ، لأن ما صح به النقل فهو الواقع ، وحديث ابن عباس نص يرفع الخلاف ، وكذلك حديث ابن مسعود خرجه مسلم ، وقد أتينا على هذا المعنى مبيناً في كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة ، الحمد لله .
وقد ذكرنا هناك كم للشهداء ، وأنهم مختلفوا الحال ، وأما من تأول في الشهداء أنهم أحياء بمعنى أنهم سيحيون فبعيد يرده القرآن والسنة ، فإن قوله تعالى : " بل أحياء " دليل على حياتهم ، وأنهم يرزقون ولا يرزق إلا حي وقد قيل : إنه يكتب لهم في كل سنة ثواب غزوة ، ويشركون في ثواب كل جهاد كان بعدهم إلى يوم القيامة ، لأنهم سنوا أمر الجهاد ، نظيره قوله تعالى : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا " [ المائدة : 32 ] ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى ، وقيل : لأن أرواحهم تركع وتسجد تحت العرش إلى يوم القيامة ، كأرواح الأحياء المؤمنين الذين باتوا على وضوء ، وقيل : لأن الشهيد لا يبلى في القبر ، ولا تأكله الأرض ، وقد ذكرنا هذا المعنى في التذكرة وأن الأرض لا تأكل الأنبياء والشهداء والعلماء والمؤذنين المحتسبين وحملة القرآن .
الثانية : إذا كان الشهيد حياً حكماً فلا يصلى عليه ، كالحي حساً ، وقد اختلف العلماء في غسل الشهداء والصلاة عليهم ، فذهب مالك و الشافعي و أبو حنيفة و الثوري إلى غسل جميع الشهداء والصلاة عليهم ، إلا قتيل المعترك في قتال العدو خاصة لحديث جابر قال " قال النبي صلى الله عليه وسلم : ادفنوهم بدمائهم " ، يعني يوم أحد ولم يغسلهم ، رواه البخاري ، وروى أبو داود عن ابن عباس قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم ،وبهذا قال أحمد و إسحاق و الأوزاعي و داود بن علي وجماعة فقهاء الأمثار وأهل الحديث و ابن علية وقال سعيد بن المسيب و الحسن : يغسلون قال أحدهما : إنما لم تغسل شهداء أحد لكثرتهم والشغل عن ذلك ، قال أبو عمر : ولم يقل بقول سعيد و الحسن هذا أحد من فقهاء الأمصار إلا عبيد الله بن الحسن العنبري ، وليس ما ذكروا من الشغل عن غسل شهداء أحد علة ، لأن كل واحد منهم كان له ولي يشتغل به ويقوم بأمره ، والعلة في ذلك والله أعلم : ما جاء في الحديث في دمائهم . " أنها تأتي يوم القيامة كريح المسلك " ، فبان أن العلة ليست الشغل كما قال من قال في ذلك ، وليس لهذه المسألة مدخل في القياس والنظر ، وإنما هي مسألة اتباع للأثر الذي نقله الكافة في قتلى أحد لم يغسلوا ، وقد احتج بعض المتأخرين ممن ذهب مذهب الحسن بقوله عليه السلام في شهداء أحد : " أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة " ، قال : وهذا يدل على خصوصهم وأنه لا يشركهم في ذلك غيرهم ، قال أبو عمر : وهذا يشبه الشذوذ ، والقول بترك غسلهم أولى ، لثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتلى أحد وغيرهم ، وروى أبو داود عن جابر قال : رمي رجل بسهم في صدره أو في حلقه فمات فأدرج في ثيابه كما هو قال : ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
الثالثة : وأما الصلاة عليهم فاختلف العلماء في ذلك أيضاً ، فذهب مالك و الليث و الشافعي و أحمد و داود إلى أنه لا يصلى عليهم ، لحديث جابر قال : " كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد ثم يقول : أيهما أكثر أخذاً للقرآن ؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد وقال : أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة ، وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم " ، وقال فقهاء الكوفة والبصرة والشام : يصلى عليهم ، ورووا آثاراً كثيرة أكثرها مراسيل .
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة وعلى سائر شهداء أحد .
الرابعة : وأجمع العلماء على أن الشهيد إذا حمل حياً ولم يمت في المعترك وعاش وأكل فإنه يصلى عليه ، كما قد صنع بعمر رضي الله عنه .
واختلفوا فيمن قتل مظلوماً كقتيل الخوارج وقطاع الطريق وشبه ذلك ، فقال أبو حنيفة و الثوري : كل من قتل مظلوماً لم يغسل ، ولكنه يصلى عليه وعلى كل شهيد ، وهو قول سائر أهل العراق ، ورووا من طرق كثيرة صحاح عن زيد بن صوحان ، وكان قتل يوم الجمل : لا تنزعوا عني ثوباً ولا تغسلوا عني دماً ، وثبت عن عمار بن ياسر أنه قال مثل قوم زيد بن صوحان ، وقتل عمار بن ياسر بصفين ولم يغسله علي ، ولـ الشافعي قولان ، أحدهما ، يغسل كجميع الموتى إلا من قتله أهل الحروب ، وهذا قول مالك ، قال مالك : لا يغسل من قتله الكفار ومات في المعترك ، وكل مقتول غير قتيل المعترك قتيل الكفار فإنه يغسل ويصلي عليه ، وهذا قول أحمد بن حنبل رضي الله عنه ، والقول الآخر لـ الشافعي : لا يغسل قتيل البغاة ، وقول مالك أصح ، فإن غسل الموتى قد ثبت بالإجماع ونقل الكافة ، فواجب غسل كل ميت إلا من أخرجه إجماع أو سنة ثابتة ، وبالله التوفيق .
الخامسة : العدو إذا صبح قوماً في منزلهم ولم يعلموا به فقتل منهم فهل يكون حكمه حكم قتيل المعترك ، أو حكم سائر الموتى ، وهذه المسألة نزلت عندنا بقرطبة أعادها الله : أغار العدو قصمه الله ، صبيحة الثالث من رمضان المعظم سنة سبع وعشرين وستمائة والناس في أجرانهم على غفلة فقتل وأسر ، وكان من جملة من قتل والدي رحمه الله ، فسألت شيخنا المقرئ الأستاذ أبا جعفر أحمد المعروف بـ أبي حجة فقال ، غسله وصل عليه ، فإن أباك لم يقتل في المعترك بين الصفين ، ثم سألت شيخنا ربيع بن عبد الرحمن بن أحمد بن ربيع بن أبي فقال : إن حكمه حكم القتلى في المعترك ثم سألت قاضي الجماعة أبا الحسن علي بن قطرال وحوله جماعة من الفقهاء فقالوا : غسله وكفنه وصل عليه ، ففعلت ، ثم بعد ذلك وقفت على المسألة في التبصرة لـ أبي الحسن اللخمي وغيرها ، ولو كان ذلك قبل ما غسلته ، وكنت دفنته بدمه في ثيابه .
السادسة : هذه الآية تدل على عظيم ثواب القتل في سبيل الله والشهادة فيه حتى أنه يكفر الذنوب ، كما " قال صلى الله عليه وسلم : القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين كذلك قال لي جبريل عليه السلام آنفاً " ، قال علماؤنا ذكر الدين تنبيه على ما في معناه من الحقوق المتعلقة بالذمم ، كالغصب وأخذ المال بالباطل وقتل العمد وجراحه وغير ذلك من التبعات ، فإن كل هذا أولى ألا يغفر بالجهاد من الدين فإنه أشد ، والقصاص في هذه كله بالحسنات والسيئات حسبما وردت به السنة الثابتة .
" روى عبد الله بن أنيس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يحشر الله العباد أو قال الناس شك همام ، وأومأ بيده إلى الشام عراة غرلاً بهماً قلنا : ما بهم ؟ قال : ليس معهم شيء فيناديهم بصوت يسمعه من قرب ومن بعد أنا الملك أنا الديان لا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة ، قال قلنا : كيف وإنما نأتي الله حفاة عراة غرلاً ، قال : بالحسنات والسيئات " ، أخرجه الحارث بن أبي أسامة ، وفي صحيح مسلم ، " عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتدرون من المفلس ؟ قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع فقال : إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار " ، و " قال صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي ثم قتل ثم أحيي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضي عنه " ، وروى أبو هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نفس المؤمن معلقة ما كان عليه دين " ، وقال أحمد بن زهير : سئل يحيى بن معين عن هذا الحديث فقال : هو صحيح فإن قيل : فهذا يدل على أن بعض الشهداء لا يدخلون الجنة من حين القتل ، ولا تكون أرواحهم في جوف طير كما ذكرتم ، ولا يكونون في قبورهم فأين يكونون ؟ قلنا : قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً ، فلعلهم هؤلاء " ، والله أعلم . ولهذا قال الإمام أبو محمد بن عطية : وهؤلاء طبقات وأحوال مختلفة يجمعها أنهم ( يرزقون ) وقد أخرج الإمام أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني في سننه " عن سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : شهيد البحر مثل شهيدي البر والمائد في البحر كالمتشحط في دمه في البر وما بين الموجتين كقاطع الدنيا في طاعة الله وإن الله عز وجل وكل ملك الموت بقبض الأرواح إلا شهداء البحر فإنه سبحانه يتولى قبض أرواحهم ويغفر لشهيد البر الذنوب كلها إلا الدين ويغفر لشهيد البحر الذنوب كلها والدين " .
السابعة : الدين الذي يحبس به صاحبه عن الجنة ، والله أعلم ، هو الذي قد ترك له وفاء ولم يوص به ، أو قدر على الأداء فلم يؤده ، أو أدانه في سرف أو في سفه ومات ولم يوفه ، وأما أدان في حق واجب لفاقة وعسر ومات ولم يترك وفاء فإن الله لا يحبسه عن الجنة إن شاء الله ، لأن على السلطان فرضاً أن يؤدي عنه دينه ، إما من جملة الصدقات ، أو من سهم الغارمين ، أو من الفيء الراجع على المسلمين ، " قال صلى الله عليه وسلم : من ترك ديناً أو ضياعاً فعلى الله ورسوله ومن ترك مالاً فلورثته " ، وقد زدنا هذا الباب بياناً في كتاب التذكرة والحمد لله .
الثامنة : قوله تعالى : " عند ربهم يرزقون " فيه حذف مضاف تقديره عند كرامة ربهم و ( عند ) تقتضي غاية القرب ، فهي كـ( لدى ) ولذلك لم تصغر فيقال ! عنيد ، قاله سيبويه ، فهذه عندية الكرامة لا عندية المسافة والقرب ، و ( يرزقون ) هو الرزق المعروف في العادات ، ومن قال : هي حياة الذكر قال : يرزقون الثناء الجميل ، والأول الحقيقة ، وقد قيل : إن الأرواح تدرك في تلك الحال التي يسرحون فيها من روائح الجنة وطيبها ونعيمها وسرورها ما يليق بالأرواح ، مما ترتزق وتنتعش به ، وأما اللذات الجسمانية فإذا أعيدت تلك الأرواح إلى أجسادها استوفت من النعيم جميع ما أعد الله لها ، وهذا قول حسن ، وإن كان فيه نوع من المجاز فهو الموافق لما اخترناه ، والموفق الإله و " فرحين " نصب في موضع الحال من المضمر في ( يرزقون ) ويجوز في الكلام ( فرحون ) على النعت لأحياء ، وهو من الفرح بمعنى السرور ، والفضل في هذه الآية هو النعيم المذكور ، وقرأ ابن السميقع ( فارحين ) بالألف وهما لغتان كالفره والفاره ، والحذر والحاذر ، والطمع والطامع ، والبخل والباخل ، قال النحاس : ويجوز في غير القرآن رفعه ، يكون نعتاً لأحياء .
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم وإن قتلوا في هذه الدار, فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار. قال محمد بن جرير : حدثنا محمد بن مرزوق , حدثنا عمرو بن يونس عن عكرمة , حدثنا ابن إسحاق بن أبي طلحة , حدثني أنس بن مالك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة, قال: لا أدري أربعين أو سبعين, وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري, فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتوا غاراً مشرفاً على الماء فقعدوا فيه, ثم قال بعضهم لبعض: أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء ؟ فقال ـ أراه ابن ملحان الأنصاري ـ: أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فخرج حتى أتى حياً منهم فاختبأ أمام البيوت, ثم قال: " يا أهل بئر معونة, إني رسول رسول الله إليكم, إني أشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمداً عبده ورسوله, فآمنوا بالله ورسوله, فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح, فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الاخر, فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة " , فاتبعوا أثره حتى أتوا أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين عامر بن الطفيل, وقال إسحاق: حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآناً: "بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه " , ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زماناً, وأنزل الله تعالى: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" وقد قال مسلم في صحيحه : حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير , حدثنا أبو معاوية , حدثنا الأعمش عن عبد الله بن مرة , عن مسروق , قال: سألنا عبد الله عن هذه الاية "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" فقال: أما إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "أرواحهم في جوف طير خضر, لها قناديل معلقة بالعرش, تسرح من الجنة حيث شاءت, ثم تأوي إلى تلك القناديل, فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً ؟ فقالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا ؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات, فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا, قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى, فلما رأى أن ليس لهم حاجة, تركوا" وقد روي نحوه من حديث أنس وأبي سعيد .
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد , حدثنا حماد , حدثنا ثابت عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد, فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة" تفرد به مسلم من طريق حماد .
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله المديني , حدثنا سفيان عن محمد بن علي بن ربيعة السلمي , عن عبد الله بن محمد بن عقيل , عن جابر , قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "أعلمت أن الله أحيا أباك, فقال له: تمن علي. فقال له: أرد إلى الدنيا فأقتل مرة أخرى. قال: إني قضيت الحكم أنهم إليها لا يرجعون". تفرد به أحمد من هذا الوجه. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما: أن أبا جابر وهو عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري رضي الله عنه, قتل يوم أحد شهيداً. قال البخاري : وقال أبو الوليد عن شعبة عن ابن المنكدر : سمعت جابراً قال لما قتل أبي: جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه, فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه, وقال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تبكه ـ أو ما تبكيه ـ ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع " وقد أسنده هو ومسلم والنسائي من طريق آخر عن شعبة , عن محمد بن المنكدر , عن جابر , قال: لما قتل أبي يوم أحد, جعلت أكشف الثوب عن وجهه وأبكي, وذكر تمامه بنحوه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب , حدثنا أبي عن ابن إسحاق , حدثنا إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد عن أبي الزبير المكي , عن ابن عباس , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما أصيب إخوانكم بأحد, جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر, ترد أنهار الجنة, وتأكل من ثمارها, وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش, فلما وجدوا طيب مشربهم ومأكلهم, وحسن متقلبهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد, ولا ينكلوا عن الحرب, فقال الله عز وجل: أنا أبلغهم عنكم, فأنزل الله عز وجل هذه الايات "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" وما بعدها" هكذا رواه أحمد , وكذا رواه ابن جرير عن يونس , عن ابن وهب , عن إسماعيل بن عياش , عن محمد بن إسحاق به. ورواه أبو داود والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن إدريس عن محمد بن إسحاق عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس رضي الله عنهما فذكره, وهذا أثبت. وكذا رواه سفيان الثوري عن سالم الأفطس , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس ـ وروى الحاكم في مستدركه من حديث أبي إسحاق الفزاري , عن سفيان , عن إسماعيل بن أبي خالد , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس , قال: نزلت هذه الاية في حمزة وأصحابه "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه, وكذلك قال قتادة والربيع والضحاك : أنها نزلت في قتلى أحد.
(حديث آخر) قال أبو بكر بن مردويه , حدثنا عبد الله بن جعفر , حدثنا هارون بن سليمان , أنبأنا علي بن عبد الله المديني , أنبأنا موسى بن إبراهيم بن كثير بن بشير بن الفاكه الأنصاري , سمعت طلحة بن خراش بن عبد الرحمن بن خراش بن الصمة الأنصاري , قال: سمعت جابر بن عبد الله قال: نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال "يا جابر مالي أراك مهتماً ؟ قال قلت: يا رسول الله, استشهد أبي وترك ديناً وعيالاً, قال: فقال: ألا أخبرك ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب, وإنه كلم أباك كفاحاً , قال علي :الكفاح المواجهة قال: سلني أعطك. قال: أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية, فقال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني القول: أنهم إليها لا يرجعون. قال: أي رب فأبلغ من ورائي, فأنزل الله "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً" الاية". ثم رواه من طريق أخرى عن محمد بن سليمان بن سليط الأنصاري , عن أبيه عن جابر , به نحوه. وكذا رواه البيهقي في دلائل النبوة من طريق علي بن المديني به. وقد رواه البيهقي أيضاً من حديث أبي عبادة الأنصاري وهو عيسى بن عبد الرحمن إن شاء الله عن الزهري , عن عروة , عن عائشة, قالت: " قال النبي صلى الله عليه وسلم لجابر :يا جابر ألا أبشرك قال: بلى, بشرك الله بالخير, قال شعرت أن الله أحيا أباك, فقال: تمن علي عبدي ما شئت أعطكه, قال: يا رب ما عبدتك حق عبادتك, أتمنى عليك أن تردني إلى الدنيا فأقاتل مع نبيك وأقتل فيك مرة أخرى, قال: إنه سلف مني أنه إليها لا يرجع".
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب , حدثنا أبي عن ابن إسحاق , حدثنا الحارث بن فضيل الأنصاري عن محمود بن لبيد , عن ابن عباس رضي الله عنهما, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهداء على بارق نهر بباب الجنة, في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا" تفرد به أحمد . وقد رواه ابن جرير عن أبي كريب : حدثنا عبد الرحمن بن سليمان وعبيدة عن محمد بن إسحاق به, وهو إسناد جيد. وكأن الشهداء أقسام: منهم من تسرح أرواحهم في الجنة, ومنهم من يكون على هذا النهر بباب الجنة, وقد يحتمل أن يكون منتهى سيرهم إلى هذا النهر, فيجتمعون هنالك, ويغدى عليهم برزقهم هناك ويراح, والله أعلم ـ وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضاً فيها, وتأكل من ثمارها, وترى ما فيها من النضرة والسرور, وتشاهد ما أعده الله لها من الكرامة, وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم, اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المتبعة, فإن الإمام أحمد رحمه الله, رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله, عن مالك بن أنس الأصبحي رحمه الله, عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك , عن أبيه رضي الله عنه, قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه" قوله "يعلق" أي يأكل, وفي هذا الحديث "إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة" وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر, فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين, فإنها تطير بأنفسها, فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان ـ وقوله تعالى: "فرحين بما آتاهم الله" إلى آخر الاية, أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم, وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة, ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم, وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم, نسأل الله الجنة. قال محمد بن إسحاق "ويستبشرون" أي ويسرون بلحوق من خلفهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم, ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم. قال السدي : يؤتى الشهيد بكتاب فيه: يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا, ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا, فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم, وقال سعيد بن جبير : لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء, قالوا: يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة, فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير, فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة, وأخبرهم, أي ربهم, أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه, فاستبشروا بذلك, فذلك قوله: "ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم" الاية, وقد ثبت في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة, وقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم, قال أنس : ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع "أن بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا".
ثم قال تعالى: "يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين" قال محمد بن إسحاق : استبشروا وسروا لما عاينوا من وفاء الموعود وجزيل الثواب. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذه الاية جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم, وقلما ذكر الله فضلاً ذكر به الأنبياء وثواباً أعطاهم الله إياه, إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم. وقوله تعالى: "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" هذا كان يوم حمراء الأسد, وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين, كروا راجعين إلى بلادهم, فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لا تمموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة, فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلداً, ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه, لما سنذكره, فانتدب المسلمون على ما بهم من الجراح والإثخان طاعة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد , حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو , عن عكرمة , قال: لما رجع المشركون عن أحد, قالوا: لا محمداً قتلتم, ولا الكواعب أردفتم, بئس ما صنعتم, ارجعوا, فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, فندب المسلمين, فانتدبوا حتى بلغوا حمراء الأسد ـ أو بئر أبي عيينة ـ الشك من سفيان ـ فقال المشركون: نرجع من قابل, فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكانت تعد غزوة, فأنزل الله تعالى: "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم" ورواه ابن مردويه من حديث محمد بن منصور عن سفيان بن عيينة , عن عمرو , عن عكرمة , عن ابن عباس فذكره ـ وقال محمد بن إسحاق : كان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال, فلما كان الغد من يوم الأحد لست عشرة ليلة مضت من شوال, أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو, وأذن مؤذنه أن لا يخرج معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس, فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام , فقال: يا رسول الله, إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع, وقال: يا بني إنه لا ينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن, ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك, فتخلفت عليهن, فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه, وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهباً للعدو, وليبلغهم أنه خرج في طلبهم ليظنوا به قوة, وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم. قال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان : أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل, كان قد شهد أحداً, قال: شهدت أحداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي فرجعنا جريحين, فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو, قلت لأخي ـ أو قال لي ـ: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابة نركبها, وما منا إلا جريح ثقيل فخرجنا مع رسول الله, وكنت أيسر جراحاً منه, فكان إذا غلب حملته عقبة ومشى عقبة, حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. وقال البخاري : حدثنا محمد بن سلام , حدثنا أبو معاوية عن هشام , عن أبيه , عن عائشة رضي الله عنها "الذين استجابوا لله والرسول" الاية, قلت لعروة : يا ابن أختي كان أبواك منهم الزبير وأبو بكر رضي الله عنهما لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصاب يوم أحد, وانصرف عنه المشركون, خاف أن يرجعوا, فقال "من يرجع في أثرهم" فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير رضي الله عنهما, هكذا رواه البخاري منفرداً به بهذا السياق, وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن الأصم , عن عباس الدوري , عن أبي النضر , عن أبي سعيد المؤدب , عن هشام بن عروة به, ثم قال: صحيح, ولم يخرجاه, كذا قال. ورواه ابن ماجه عن هشام بن عمار, وهدية بن عبد الوهاب عن سفيان بن عيينة . عن هشام بن عروة به, وهكذا رواه سعيد بن منصور وأبو بكر الحميدي في مسنده عن سفيان به. وقد رواه الحاكم أيضاً من حديث إسماعيل بن أبي خالد عن البهي , عن عروة , قال: قالت لي عائشة : يا بني إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح, ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه ـ وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر من أصل كتابه, أنبأنا سمويه , أنبأنا عبد الله بن الزبير , أنبأنا سفيان , أنبأنا هشام عن أبيه , عن عائشة رضي الله عنها, قالت: " قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كان أبواك لمن الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح أبو بكر والزبير رضي الله عنهما " , ورفع هذا الحديث خطأ محض من جهة إسناده لمخالفته رواية الثقات من وقفه على عائشة رضي الله عنها كما قدمناه, ومن جهة معناه فإن الزبير ليس هو من آباء عائشة , وإنما قالت ذلك عائشة لعروة بن الزبير , لأنه ابن أختها أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم, وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد , حدثني أبي , حدثني عمي , حدثني أبي , عن أبيه , عن ابن عباس , قال: إن الله قذف في قلب أبي سفيان الرعب يوم أحد بعد ما كان منه ما كان, فرجع إلى مكة, فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً, وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب", وكانت وقعة أحد في شوال, وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة, فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة, وإنهم قدموا بعد وقعة أحد, وكان أصاب المؤمنين القرح, واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتد عليهم الذي أصابهم, وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين, وقال "إنما يرتحلون الان فيأتون الحج, ولا يقدرون على مثلها حتى عام مقبل" فجاء الشيطان فخوف أولياءه, فقال: إن الناس قد جمعوا لكم, فأبى عليه الناس أن يتبعوه, فقال " إني ذاهب وإن لم يتبعني أحد لأحضض الناس فانتدب معه أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وأبو عبيدة بن الجراح في سبعين رجلاً, فساروا في طلب أبي سفيان فطلبوه حتى بلغوا الصفراء ", فأنزل الله تعالى: "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" الاية, ثم قال ابن إسحاق : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى إلى حمراء الأسد, وهي من المدينة على ثمانية أميال, قال ابن هشام : واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم , فأقام بها الاثنين والثلاثاء والأربعاء, ثم رجع إلى المدينة, وقد مر به ـ كما حدثني عبد الله بن أبي بكر ـ معبد بن أبي معبد الخزاعي , وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئاً كان بها, ومعبد يومئذ مشرك, فقال: يا محمد, أما والله لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك, ولوددنا أن الله عافاك فيهم, ثم خرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء, وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه, وقالوا: أصبنا حد أصحابه وقادتهم وأشرافهم ثم نرجع قبل أن نستأصلهم ؟ لنكرن على بقيتهم ثم فلنفرغن منهم, فلما رأى أبو سفيان معبداً, قال: ما وراءك يا معبد ؟ قال: محمد وأصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلهم, يتحرقون عليكم تحرقاً, قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم وندموا على ما صنعوا, فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط, قال: ويلك ما تقول ؟ قال: والله ما أرى أن ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم, قال: فإني أنهاك عن ذلك, فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيهم أبياتاً من شعر, قال: وما قلت ؟ قال: قلت:
كادت تهد من الأصوات راحلتي إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردى بأسد كرام لا تنابلة عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت عدواً أظن الأرض مائلة لما سموا برئيس غير مخذول
فقلت ويل ابن حرب من لقائكم إذا تغطمطت البطحاء بالجيل
إني نذير لأهل البسل ضاحية لكل ذي إربة منهم ومعقول
من جيش أحمد لا وخش تنابلة وليس يوصف ما أنذرت بالقيل
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه, ومر به ركب من بني عبد القيس فقال: أين تريدون ؟ قالوا: نريد المدينة. قال: ولم ؟ قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه وأحمل لكم هذه غداً زبيباً بعكاظ إذا وافيتمونا ؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا المسير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم, فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بحمراء الأسد, فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه, فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. وذكر ابن هشام عن أبي عبيدة , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه رجوعهم والذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو أصبحوا بها لكانوا كأمس الذاهب" وقال الحسن البصري في قوله "الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح" إن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا, " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب, فمن ينتدب في طلبه ؟ فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فاتبعوهم, فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلبه, فلقي عيراً من التجار فقال: ردوا محمداً ولكم من الجعل كذا وكذا, وأخبروهم أني قد جمعت لهم جموعاً وأني راجع إليهم, فجاء التجار فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم حسبنا الله ونعم الوكيل " . فأنزل الله هذه الاية, وهكذا قال عكرمة وقتادة وغير واحد: إن هذا السياق نزل في شأن حمراء الأسد, وقيل: نزلت في بدر الموعد, والصحيح الأول. وقوله تعالى: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً" الاية, أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء, فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله واستعانوا به, "وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل". قال البخاري : حدثنا أحمد بن يونس , قال: أراه قال: حدثنا أبو بكر عن أبي حصين , عن أبي الضحى , عن ابن عباس "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار, وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم, فزادهم إيماناً, وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل. وقد رواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبد الله , كلاهما عن يحيى بن أبي بكير , عن أبي بكر وهو ابن عياش به, والعجب أن الحاكم أبا عبد الله رواه من حديث أحمد بن يونس به, ثم قال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه. ثم رواه البخاري عن أبي غسان مالك بن إسماعيل , عن إسرائيل , عن أبي حصين عن أبي الضحى , عن ابن عباس , قال : كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار: "حسبنا الله ونعم الوكيل". وقال عبد الرزاق : قال ابن عيينة : وأخبرني زكريا عن الشعبي , عن عبد الله بن عمرو , قال: هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار, رواه ابن جرير . وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر , حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري , حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن زياد السكري , أنبأنا أبو بكر بن عياش عن حميد الطويل , عن أنس بن مالك , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم أحد: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم, فأنزل الله هذه الاية. وروى أيضاً بسنده عن محمد بن عبيد الله الرافعي , عن أبيه, عن جده أبي رافع : أن النبي صلى الله عليه وسلم, وجه علياً في نفر معه في طلب أبي سفيان , فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال: إن القوم قد جمعوا لكم, فقالوا: "حسبنا الله ونعم الوكيل" فنزلت فيهم هذه الاية. ثم قال ابن مردويه : حدثنا دعلج بن أحمد , حدثنا الحسن بن سفيان , أنبأنا أبو خيثمة مصعب بن سعيد , أنبأنا موسى بن أعين , عن الأعمش , عن أبي صالح , عن أبي هريرة , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا: "حسبنا الله ونعم الوكيل"" هذا حديث غريب من هذا الوجه ـ وقد قال الإمام أحمد : حدثنا حيوة بن شريح وإبراهيم بن أبي العباس , قالا: حدثنا بقية , حدثنا بحير بن سعد عن خالد بن معدان , عن سيف , عن عوف بن مالك أنه حدثهم " أن النبي صلى الله عليه وسلم, قضى بين رجلين, فقال: المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل, فقال النبي صلى الله عليه وسلم ردوا علي الرجل فقال: ما قلت ؟ قال: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يلوم على العجز, ولكن عليك بالكيس, فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل" وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن بحير عن خالد , عن سيف وهو الشامي , ولم ينسب عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ـ وقال الإمام أحمد : حدثنا أسباط , حدثنا مطرف عن عطية , عن ابن عباس في قوله: "فإذا نقر في الناقور", قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يسمع متى يؤمر فينفخ ؟ فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما نقول ؟ قال قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا" وقد روي هذا من غير وجه, وهو حديث جيد, وروينا عن أم المؤمنين زينب وعائشة رضي الله عنهما, أنهما تفاخرتا, فقالت زينب : زوجني الله وزوجكن أهاليكن, وقالت عائشة : نزلت براءتي من السماء في القرآن, فسلمت لها زينب, ثم قالت: كيف قلت حين ركبت راحلة صفوان بن المعطل ؟ فقالت: قلت: حسبي الله ونعم الوكيل. قالت زينب : قلت كلمة المؤمنين, ولهذا قال تعالى: "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" أي لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم ورد عنهم بأس من أراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم "بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" مما أضمر لهم عدوهم "واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم" وقال البيهقي : حدثنا أبو عبد الله الحافظ , حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد , حدثنا محمد بن نعيم , حدثنا بشر بن الحكم , حدثنا مبشر بن عبد الله بن رزين , حدثنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم , عن عكرمة , عن ابن عباس في قول الله تعالى " فانقلبوا بنعمة من الله وفضل " قال: النعمة أنهم سلموا, والفضل أن عيراً مرت وكان في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالاً فقسمه بين أصحابه, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى: "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم" قال: هذا أبو سفيان, قال لمحمد صلى الله عليه وسلم, موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا. فقال محمد صلى الله عليه وسلم "عسى", فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدراً, فوافقوا السوق فيها, فابتاعوا, فذلك قول الله عز وجل: "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" الاية, قال: وهي غزوة بدر الصغرى, رواه ابن جرير , وروى أيضاً عن القاسم , عن الحسين , عن حجاج , عن ابن جريج , قال: لما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش, فيقولون: قد جمعوا لكم, يكيدونهم بذلك, يريدون أن يرعبوهم, فيقول المؤمنون: حسبنا الله ونعم الوكيل, حتى قدموا بدراً, فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد, قال: رجل من المشركين أخبر أهل مكة بخيل محمد, وقال في ذلك:
نفرت قلوصي من خيول محمد وعجوة منثورة كالعنجد
واتخذت ماء قديد موعدي
قال ابن جرير: هكذا أنشدنا القاسم وهو خطأ, وإنما هو:
قد نفرت من رفقتي محمد وعجوة من يثرب كالعنجد
فهي على دين أبيها الأتلد قد جعلت ماء قديد موعدي
وماء ضجنان لها ضحى الغد
ثم قال تعالى: "إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه" أي يخوفكم أولياءه, ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة, قال الله تعالى: "فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين" أي إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي والجأوا إلي, فإني كافيكم وناصركم عليهم, كما قال تعالى: "أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه" إلى قوله "قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون" وقال تعالى: "فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفاً" وقال تعالى: "أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون" وقال تعالى "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز" وقال "ولينصرن الله من ينصره" وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم" الاية, وقال تعالى: " إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد * يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار ".
لما بين الله سبحانه أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحاناً ليتميز المؤمن من المنافق، والكاذب من الصادق، بين ههنا أن من لم ينهزم وقتل فله هذه الكرامة والنعمة، وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون، لا مما يخاف ويحذر كما قالوا من حكى الله عنهم "لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا" وقالوا "لو أطاعونا ما قتلوا" فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد، وقرئ بالياء التحتية: أي لا يحسبن حاسب.
وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل في شهداء أحد، وقيل: في شهداء بدر، وقيل: في شهداء بئر معونة. وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومعنى الآية عند الجمهور: أنهم أحياء حياة محققة. ثم اختلفوا، فمنهم من يقول: أنها ترد إليهم أرواحهم في قبورهم فيتنعمون. وقال مجاهد: يرزقون من ثمر الجنة: أي يجدون ريحها وليسوا فيها. وذهب من عدا الجمهور إلى أنها حياة مجازية، والمعنى: أنهم في حكم الله مستحقون للتنعيم في الجنة، والصحيح الأول، ولا موجب للمصير إلى المجاز. وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم في أجواف طيور خضر، وأنهم في الجنة يرزقون ويأكلون ويتمتعون وقوله "الذين قتلوا" هو المفعول الأول. والحاسب هو النبي صلى الله عليه وسلم، أو كل أحد كما سبق، وقيل: يجوز أن يكون الموصول هو فاعل الفعل، والمفعول الأول محذوف: أي لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً وهذا تكلف لا حاجة إليه، ومعنى النظم القرآني في غاية الوضوح والجلاء. وقوله "بل أحياء" خبر مبتدأ محذوف أي: بل هم أحياء. وقرئ بالنصب على تقدير الفعل: أي بل أحسبهم أحياء. وقوله "عند ربهم" إما خبر ثان، أو صفة لأحياء، أو في محل نصب على الحال، وقيل: في الكلام حذف والتقدير: عند كرامة ربهم. قال سيبويه: هذه عندية الكرامة لا عندية القرب. وقوله "يرزقون" يحتمل في إعرابه الوجوه التي ذكرناها في قوله "عند ربهم" والمراد بالرزق هنا هو الرزق المعروف في العادات على ما يذهب إليه الجمهور كما سلف، وعند من عدا الجمهور المراد به الثناء الجميل، ولا وجه يقتضي تحريف الكلمات العربية في كتاب الله تعالى وحملها على مجازات بعيدة، لا لسبب يقتضي ذلك.
169-قوله تعالى :"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً"الآية،قيل: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين.
وقال الآخرون : نزلت في شهداء أحد وكانوا سبعين رجلاً أربعة من المهاجرين حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عمير وعثمان بن شماس وعبد الله بن جحش وسائرهم من الأنصار.
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا محمد بن حماد أنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق قال:" سألنا عبد الله (هو ابن مسعود) رضي الله عنهما عن هذه الآية:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون" الآية، قال أما أنا قد سألنا عن ذلك فقال:أرواحهم كطير خضر ويروى (في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة في أيها شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربك اطلاعةً فقال: سلوني ما شئتم فقالوا: يا رب كيف نسألك ونحن نسرح في الجنة في أيها شئنا؟، فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا شيئاً قالوا: إنا نسألك أن ترد أرواحنا إلى أجسادنا نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أنهم لا يسألون إلا هذا تركوا".
أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا عبد الله بن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن شاذانأناجيعوية أنا صالح بن محمدأنا سليمان بن عمرو عن إسماعيل بن أمية عنعطاء بن أبي رباحعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما أصيب إخوانكم يوم أحد جعل الله عز وجل أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش، فلما رأوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم ورأوا ما أعد الله لهم من الكرامة، قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه من النعيم وما صنع الله بنا كي يرغبوا في الجهاد، ولا يتكلوا عنه، فقال الله عز وجل أنا مخبر عنكم ومبلغ إخوانكم ففرحوا بذلك واستبشروا فأنزل الله تعالى "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً" إلى قوله "لا يضيع أجر المؤمنين"".
سمعت عبد الواحد بن أحمد المليحي قال: سمعت الحسن بن أحمد القتيبي قال: سمعت محمد بن عبد الله بن يوسف قال: سمعتمحمد بن إسماعيل البكري قال: سمعت يحيى بن حبيب بن عربي قال: سمعت موسى بن إبراهيم قال: سمعت طلحة بن خراش قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: "لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي:يا جابر ما لي أراك منكسراً؟ قلت يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالاً وديناً، قال: أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: (ما كلم الله تعالى أحداً إلى من وراء حجاب، وإنه أحيا أباك فكلمه كفاحاً، قال: يا عبدي تمن علي أعطك، قال: يا رب أحيني فأقتل فيك الثانية، قال الرب تبارك وتعالى: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون، فأنزلت فيهم"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً"".
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا حميد عن أنس رضي الله عنهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"ما من عبد يموت، له عند الله خير، يحب أن يرجع إلى الدنيا، وأن له الدنيا وما فيها، إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يحب أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرةً أخرى".
وقال قوم: نزلت هذه الآية في شهداء بئر معونة، وكان سبب ذلك على ما روى محمد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وعنحميد الطويل عن أنس بن مالك وغيرهم من أهل العلم قال: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر، ملاعب الأسنة، وكان سيد بني عامر بن صعصعه، على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأهدى إليه هدية، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها، وقال لا أقبل هدية مشرك، فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك؟ ثم عرض عليه الأسلام، وأخبره بما له فيه وما أعد الله للمؤمنين، وقرأ عليه القرآن فلم يسلم، ولم يبعد وقال: يا محمد إن الذي تدعو إليه حسن جميل فلو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فيدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أخشى عليهم أهل نجد.
فقال أبو البراء: أنا لهم جار فابعثهم فليدعوا الناس إلى أمرك.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلاً من خيار المسلمين منهم الحارث بن الصمة وحرام بن ملحان وعروة بن أسماء بن الصلت السلمي ونافع بن يزيد بن ورقاء الخزاعي وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر رضي الله عنه، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد فساروا حتى نزلوا بئر معونة وهي أرض بين أرض بني عامر وحرة بني سليم فلما نزلوها، قال بعضهم لبعض أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال حرام بن ملحان: أنا. فخرج بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عامر بن الطفيل في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حرام بن ملحان: يا أهل بئر معونة إني رسول الله إليكم إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فآمنوا بالله ورسوله، فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضرب به في جبنه حتى خرج من الشق الآخر، فقال: الله أكبر فزت ورب الكعبة.
ثم استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا: لن نخفر أبا براء قد عقد لهم عقداً وجواراً ثم استصرخ عليهم قبائل من بني سليم - عصية ورعلاً وذكوان _ فأجابوه فخرجوا حتى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلما رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتى قتلوا من عند آخرهم إلا كعب بن زيد فإنهم تركوه وبه رمق فارتث من بين القتلى، فضلوه فيهم فعاش حتى قتل يوم الخندق، وكان في سرح القوم عمرو بن أمية الضمري ورجل من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف فلم ينبههما بمصاب أصحابهما إلا الطير تحوم على المعسكر! فقالا: والله إن لهذا الطير لشأناً فأقبلا لينظرا فإذا القوم في دمائهم وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو بن أمية الضمري: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره، فقال الأنصاري الله أكبر لكني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، ثم قاتل القوم حتى قتل،وأخذوا عمرو بن أمية الضمري، أسيراً فلما أخبرهم أنه من مضر أطلقه عامر بن الطفيل، وجز ناصيته وأعتقه عن رقبة زعم أنها كانت على أمه، فقدم عمرو بن أمية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عمل أبي براء قد كنت لهذا كارهاً متخوفاً ، فبلغ ذلك أبا البراء فشق عليه إخفار عامر إياه، وما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسببه وجواره.
وكان فيمن أصيب عامر بن فهيرة، فروى محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه أن عامر بن الطفيل كان يقول: من الرجل منهم لما قتل رأيته رفع بين السماء والأرض حتى رأيت السماء من دونه؟ قالو: هو عامر بن فهيرة، ثم بعد ذلك حمل ربيعة بن أبي براء على عامر بن الطفيل فطعنه على فرسه فقتله.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الأعلى بن حماد أنا يزيد بن زريع أنا سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك :"أن رعلاً وذكوان وعصية وبني لحيان استمدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدو لهم فأمدهم بسبعين من الأنصار كنا نسميهم القراء في زمانهم ، وكانوا يحتطبون بالنهار ويصلون بالليل، حتى كانوا ببئر معونة قتلوهم وغدروا بهم ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقنت شهراً يدعو في الصبح على أحياء من أحياء العرب على رعل وذكوان وعصية وبني لحيان .
قال أنس رضي الله عنه: فقرأنا فيهم قرآناً ، ثم إن ذلك رفع : بلغوا عنا قومنا انا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا ثم نسخت (فرفع بعدما قرأناه)زماناً وأنزل الله تعالى:"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً" الآية."وقيل : إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة تحسروا على الشهداء، وقالوا: نحن في النعمة وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبول ، فأنزل الله تعالى تنفيساً عنهم وإخباراً عن حال قتلاهم " ولا تحسبن " ولا تظنن "الذين قتلوا في سبيل الله" قرأ ابن عامر" قتلوا" بالتشديد، والآخرون بالتخفيف " أمواتاً" كأموات من لم يقتل في سبيل الله " بل أحياء عند ربهم" ، قيل أحياء في الدين ، وقيل: في الذكر، وقيل: لأنهم يرزقون ويأكلون ويتمتعون كالأحياء ، وقيل: لأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة ، وقيل : لأن الشهيد لا يبلى في القبر، ولا تأكله الأرض.
وقال عبيد بن عمير: "مررسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من احد على مصعب بن عمير وهو مقتول فوقف عليه ودعا له / ثم قرأ " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه " ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشهد أن هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة ، ألا فأتوهم وزوروهم وسلموا عليهم ، فوالذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلى يوم القيامة إلا ردوا عليه" "يرزقون" من ثمار الجنة وتحفها.
169" ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا " نزلت في شهداء أحد. وقيل في شهداء بدر والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد. وقرىء بالياء على إسناده إلى ضمير الرسول، أو من يحسب أو إلى الذين قتلوا. والمفعول الأول محذوف لأنه في الأصل مبتدأ جائز الحذف عند القرينة. وقرأ ابن عامر "قتلوا" بالتشديد لكثرة المقولين. "بل أحياء" أي بل هم أحياء. وقرىء بالنصب على معنى بل أحسبهم أحياء " عند ربهم " ذوو زلفى منه. "يرزقون" من الجنة وهو تأكيد لكونهم أحياء.
169. Think not of those, who are slain in the way of Allah, as dead. Nay, they are living. With their Lord they have provision.
169 - Think not of those who are slain in God's way as dead. nay, they live, finding their sustenance in the presence of their lord;