17 - (فاتخذت من دونهم حجابا) أرسلت سترا تستتر به لتفلي رأسها أو ثيابها أو تغتسل من حيضها (فأرسلنا إليها روحنا) جبريل (فتمثل لها) بعد لبسها ثيابها (بشرا سويا) تام الخلق
وقوله "فاتخذت من دونهم حجابا" يقول : فاتخذت من دون أهلها ستراً يسترها عنهم وعن الناس. وذكر عن ابن عباس ، أنها صارت بمكان يلي المشرق ، لأن الله أظلها بالشمس ، وجعل لها منها حجاباً.
حدثني محمد بن سعد، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله "انتبذت من أهلها مكانا شرقيا" قال : مكانا أظلتها الشمس أن يراها أحد منهم .
وقال غيره في ذلك ما:
حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو، قال : ثنا أسباط، عن السدي "فاتخذت من دونهم حجابا" من الجدران .
وقوله "فأرسلنا إليها روحنا" يقول تعالى ذكره : فأرسلنا إليها حين انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، واتخذت من دونهم حجاباً: جبريل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر، قال : ثنا يزيد، قال : ثنا سعيد، عن قتادة، قوله "فأرسلنا إليها روحنا" قال : أرسل إليها فيما ذكر لنا جبريل.
حدثنا ابن حميد، قال : ثنا سلمة، عن ابن إسحاق ، عمن لا يتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : وجدت عندها جبريل قد مثله الله بشراً سوياً.
حدثنا القاسم، قال : ثنا الحسين، قال : ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله "فأرسلنا إليها روحنا" قال : جبريل.
حدثني محمد بن سهل، قال : ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال : ثني عبد الصمد بن معقل ابن أخي وهب ، قال : سمعت وهب بن منبه ، قال : أرسل الله جبريل إلى مريم ، فمثل لها بشراً سوياً.
حدثنا موسى، قال : ثنا عمرو، قال : ثنا أسباط، عن السدي، قال : فلما طهرت ، يعني مريم من حيضها، إذا هي برجل معها، وهو قوله "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً" يقول تعالى ذكره : فتشبه لها في صورة آدمي سوي الخلق منهم ، يعني في صورة رجل من بني آدم معتدل الخلق.
قوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا " قيل: هو روح عيسى عليه السلام، لأن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجساد، فركب الروح في جسد عيسى عليه السلام الذي خلقه في بطنها. وقيل هو جبريل وأضيف الروح إلى الله تعالى تخصيصاً وكرامة. والظاهر أنه جبريل عليه السلام، لقوله: " فتمثل لها " أي تمثل الملك لها. " بشرا " تفسير أو حال " سويا " أي مستوي الخلقة، لأنها لم تكن لتطيق أو تنظر جبريل في صورته. ولما رأت رجلاً حسن الصورة في صورة البشر قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء
فقال لها جبريل عليه السلام: " قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " جعل الهبة من قبله لما كان الإعلام بها من قبله. وقرأ ورش عن نافع ليهب لك على معنى أرسلني الله ليهب لك. وقيل: معنى " لأهب " بالهمز محمول على المعنى، أي قال: أرسلته لأهب لك. ويحتمل " لأهب " بلا همز أن يكون بمعنى المهموز ثم خففت الهمزة.
فـ" قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا " أي ممن يتقي الله. البكالي: فنكص جبريل عليه السلام فزعاً من ذكر الرحمن تبارك وتعالى. الثعلبي : كان رجلاً صالحاً فتعوذت به تعجباً. وقيل: تقي فعيل بمعنى مفعول أي كنت ممن يتقى منه. في البخاري قال أبو وائل: علمت مريم أن التقي ذو نهية حين قالت: " إن كنت تقيا ". وقيل: تقي اسم فاجر معروف في ذلك الوقت، قاله وهب بن منبه، حكاه مكي وغيره. ابن عطية : وهو ضعيف ذاهب مع التخرص.
لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام, وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً مباركاً, عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب, فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة, ولهذا ذكرهما في آل عمران وههنا, وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى, ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه, وأنه على ما يشاء قادر, فقال "واذكر في الكتاب مريم" وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام. وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل, وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران, وأنها نذرتها محررة, أي تخدم مسجد بيت المقدس, وكانوا يتقربون بذلك "فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً" ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة, فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب, وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك, وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم, ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف, وثمر الصيف في الشتاء, كما تقدم بيانه في سورة آل عمران, فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة, أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام "انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً" أي اعتزلتهم وتنحت عنهم, وذهبت إلى شرق المسجد المقدس. وقال السدي لحيض أصابها, وقيل لغير ذلك.
قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه, وما صرفهم عنه إلا قيل ربك: " انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " قال: خرجت مريم مكاناً شرقياً, فصلوا قبل مطلع الشمس, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير . وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا إسحاق بن شاهين , حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر , عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى: " انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " واتخذوا ميلاد عيسى قبلة. وقال قتادة "مكاناً شرقياً" شاسعاً منتحياً, وقال محمد بن إسحاق : ذهبت بقلتها لتستقي الماء. وقال نوف البكالي : اتخذت لها منزلاً تتعبد فيه, فالله أعلم.
وقوله: "فاتخذت من دونهم حجاباً" أي استترت منهم وتوارت, فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام "فتمثل لها بشراً سوياً" أي على صورة إنسان تام كامل. قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله: "فأرسلنا إليها روحنا" يعني جبرائيل عليه السلام, وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن, فإنه تعالى قد قال في الاية الأخرى: " نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين " وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى عليه السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم عليه السلام, وهو الذي تمثل لها بشراً سوياً, أي روح عيسى, فحملت الذي خاطبها, وحل في فيها, وهذا في غاية الغرابة والنكارة وكأنه إسرائيلي "قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً" أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب, خافته وظنت أنه يريدها على نفسها, فقالت: "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً" أي إن كنت تخاف الله تذكيراً له بالله وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل, فخوفته أولاً بالله عز وجل.
قال ابن جرير : حدثني أبو كريب , حدثنا أبو بكر عن عاصم قال: قال أبو وائل وذكر قصة مريم, فقال: قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت: "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً * قال إنما أنا رسول ربك" أي فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك, ويقال إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقاً وعاد إلى هيئته وقال " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء, وقرأ الاخرون "لأهب لك غلاماً زكياً" وكلا القرائتين له وجه حسن ومعنى صحيح, وكل تستلزم الأخرى "قالت أنى يكون لي غلام" أي فتعجبت مريم من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام ؟ أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني, ولست بذات زوج, ولا يتصور مني الفجور, ولهذا قالت: "ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا" والبغي هي الزانية, ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي "قال كذلك قال ربك هو علي هين" أي فقال لها الملك مجيباً لها عما سألت: إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاماً وإن لم يكن لك بعل, ولا توجد منك فاحشة, فإنه على ما يشاء قادر, ولهذا قال: "ولنجعله آية للناس" أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم, فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى, وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى, فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر, فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.
وقوله: "ورحمة منا" أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله ونبياً من الأنبياء, يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده, كما قال تعالى في الاية الأخرى: " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين " أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته, قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم , حدثنا مروان , حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي عن مجاهد : قال: قالت مريم عليها السلام: كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني, وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر.
وقوله: "وكان أمراً مقضياً" يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم, يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدرته ومشيئته, ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها, كما قال تعالى: "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا" وقال: "والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" قال محمد بن إسحاق : "وكان أمراً مقضياً" أي إن الله قد عزم على هذا فليس منه بد, واختار هذا أيضاً ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره, والله أعلم.
17- "فاتخذت من دونهم حجاباً" أي اتخذت من دون أهلها حجاباً يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة، أو حال التطهر من الحيض. والحجاب الستر والحاجز "فأرسلنا إليها روحنا" هو جبريل عليه السلام، وقيل هو روح عيسى، لأن الله سبحانه خلق الأرواح قبل الأجساد، والأول أولى لقوله: "فتمثل لها بشراً سوياً" أي تمثل جبريل لها بشراً مستوي الخلق لم يفقد من نعوت بني آدم شيئاً، قيل ووجه تمثل الملك لها بشراً أنها لا تطيق أن تنظر إلى الملك وهو على صورته.
17 - " فاتخذت " ، فضربت ، " من دونهم حجاباً " ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : ستراً .
وقيل : جلست وراء الجدار . وقال مقاتل : وراء الجبل .
وقال عكرمة : إن مريم كانت تكون في المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها ، حتى إذا طهرت عادت إلى المسجد ، فبينما هي تغتسل من المحيض قد تجردت ، إذ عرض لها جبريل في صورة شاب أمرد ، وضيء الوجه ، جعد الشعر ، سوي الخلق ، فذلك قوله :
" فأرسلنا إليها روحنا " ، يعني : جبريل عليه السلام ، " فتمثل لها بشراً سوياً " ، وقيل : المراد من الروح عيسى عليه السلام ، جاء في صورة بشر فحملت به . والأول أصح . فلما رأت مريم جبريل يقصد نحوها نادته من بعيد ، ف
17ـ "فاتخذت من دونهم حجاباً" ستراً. "فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً" قيل قعدت في مشرفة للاغتسال من الحيض متحجبة بشيء يسترها - وكانت تتحول من المسجد إلى بيت خالتها إذا حاضت وتعود إليه إذا طهرت - فبينما هي في مغتسلها أتاها جبريل عليه السلام متمثلاً بصورة شاب أمرد سوي الخلق لتستأنس بكلامه، ولعله لتهييج شهوتها به فتنحدر نطفتها إلى رحمها.
17. And had chosen seclusion from them. Then We sent unto her Our spirit and it assumed for her the likeness of a perfect man.
17 - She placed a screen (To screen herself) from them; then we sent to her our angel, and he appeared before her as a man in all respects.