(مثلهم) صفتهم في نفاقهم (كمثل الذي استوقد) أوقد (ناراً) في ظلمة (فلما أضاءت) أنارت (ما حوله) فأبصر واستدفأ وأمن ممن يخافه (ذهب الله بنورهم) أطفأه ، وجُمع الضمير مراعاة لمعنى الذي (وتركهم في ظلمات لا يبصرون) ما حولهم متحيرين عن الطريق خائفين فكذلك هؤلاء أمنوا بإظهار كلمة الإيمان فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وكيف قيل " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا"، وقد علمت أن الهاء والميم من قوله "مثلهم"، كناية جماع من الرجال أو الرجال والنساء و "الذي"، دلالة على واحد من الذكور؟ فكيف جعل الخبر عن واحد مثلا لجماعة؟ وهلا قيل: مثلهم كمثل الذين استوقدوا نارًا؟ وإن جاز عندك أن تمثل الجماعة بالواحد، فتجيز لقائل رأي جماعة من الرجال فأعجبته صورهم وتمام خلقهم وأجسامهم، أن يقول: كأن هؤلاء، أو كأن أجسام هؤلاء، نخلة؟ قيل: أما في الموضع الذي مثل ربنا جل ثناؤه جماعة من المنافقين، بالواحد الذي جعله لأفعالهم مثلاً، فجائز حسن، وفي نظائره، كما قال جل ثناؤه في نظير ذلك: " تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت" ( الأحزاب: 19)، يعني كدوران عين الذي يغشى عليه من الموت وكقوله: " ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" (لقمان: 28) بمعنى: إلا كبعث نفس واحدة.
وأما في تمثيل أجسام الجماعة من الرجال، في الطول وتمام الخلق، بالواحدة من النخيل، فغير جائز، ولا في نظائره، لفرق بينهما.
فأما تمثيل الجماعة من المنافقين بالمستوقد الواحد، فإنما جاز، لأن المراد من الخبر عن مثل المنافقين، الخبر عن مثل استضاءتهم بما أظهروا بألسنتهم من الإقرار وهم لغيره مستبطنون من اعتقاداتهم الرديئة، وخلطهم نفاقهم الباطن بالإقرار بالإيمان الظاهر. والإستضاءة وان اختلفت أشخاص أهلها معنى واحد، لا معان مختلفة. فالمثل لها في معنى المثل للشخص الواحد، من الأشياء المختلفة الأشخاص.
وتأويل ذلك: مثل استضاءة المنافقين بما أظهروه من الإقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، قولاً، وهم به مكذبون اعتقادًا، كمثل استضاءة الموقد نارًا. ثم أسقط ذكر الاستضاءة، وأضيف المثل إليهم، كما قال نابغة بني جعدة:
وكيف تواصل من أصبحت خلالته كأبي مرحب
يريد: كخلالة أبي مرحب، فأسقط حلالة ، إذ كان فيما أظهر من الكلام، دلالة لسامعيه على ما حذف منه. فكذلك القول في قوله: " مثلهم كمثل الذي استوقد نارا "، لما كان معلومًا عند سامعيه بما أظهر من الكلام، أن المثل إنما ضرب لاستضاءة القوم بالإقرار دون أعيان أجسامهم حسن حذف ذكر الاستضاءة، وإضافة المثل إلى أهله. والمقصود بالمثل ما ذكرنا. فلما وصفنا، جاز وحسن قوله: " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا "، ويشبه مثل الجماعة في اللفظ بالواحد، إذ كان المراد بالمثل الواحد في المعنى.
وأما إذا أريد تشبيه الجماعة من أعيان بني آدم أو أعيان ذوي الصور والأجسام، بشيء فالصواب من الكلام تشبيه الجماعة بالجماعة، والواحد بالواحد، لأن عين كل واحد منهم غير أعيان الآخرين.
ولذلك من المعنى، افترق القول في تشبيه الأفعال والأسماء. فجاز تشبيه أفعال الجماعة من الناس وغيرهم إذا كانت بمعنى واحد بفعل الواحد، ثم حذف أسماء الأفعال وإضافة المثل والتشبيه إلى الذين لهم الفعل. فيقال: ما أفعالكم إلا كفعل الكلب. ثم يحذف فيقال: ما أفعالكم الا كالكلب أو كالكلاب، وأنت تعني: إلا كفعل الكلب، وإلا كفعل الكلاب. ولم يجز أن تقول: ما هم إلا نخلة، وأنت تريد تشبيه أجسامهم بالنخل في الطول والتمام.
وأما قوله: "استوقد نارًا"، فإنه في تأويل: أوقد، كما قال الشاعر:
وداع دعا: يامن يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
يريد: فلم يجبه، فكان معنى الكلام إذا: مثل استضاءة هؤلاء المنافقين في إظهارهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بألسنتهم، من قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وصدقنا بمحمد وبما جاء به، وهم للكفر مستبطنون فيما الله فاعل بهم، مثل استضاءة موقد نار بناره، حتى أضاءت له النار ما حوله، يعني: ما حول المستوقد.
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة: أن "الذي " في قوله: "كمثل الذي استوقد نارًا"، بمعنى الذين، كما قال جل ثناؤه: " والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون" (الزمر: 33)، وكما قال الشاعر:
فإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
قال أبو جعفر: والقول الأول هو القول، لما وصفنا من العلة. وقد أغفل قائل ذلك فرق ما بين الذي، في الآيتين وفي البيت. لأن الذي في قوله: "والذي جاء بالصدق"، قد جاءت الدلالة على أن معناها الجمع، وهو قوله: " أولئك هم المتقون"، وكذلك الذي في البيت، وهو قوله _(دماؤهم). وليست هذه الدلالة في قوله: " كمثل الذي استوقد نارًا". فذلك فرق ما بين "الذي " في قوله: "كمثل الذي استوقد نارًا"، وسائر شواهده التي استشهد بها على أن معنى " الذي " في قوله: "كمثل الذي استوقد نارا" بمعنى الجماع. وغير جائز لأحد نقل الكلمة التي هي الأغلب في استعمال العرب على معنى إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها.
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فروي عن ابن عباس فيه أقوال:أحدها: ما
حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن أبى محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ضرب الله للمنافقين مثلاً فقال: " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون " أي يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم به ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق.
والآخر: ماحدثنا به المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح،عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا" إلى آخر الآية: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه. "وتركهم في ظلمات " يقول: في عذاب.
والثالث: ما حدثني به موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون "، زعم أن أناسًا دخلوا في الإسلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فأضاءت له ما حوله في قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي. فبينا هو كذلك، إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى. فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشر، فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر. وأما النور، فالإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. وكانت الظلمة نفاقهم.
والآخر: ما حدثني به محمد بن سعد، قال: حدثني أبي سعد بن محمد، قال: حدثني عمي، عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس: قوله: " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا"، إلى "فهم لا يرجعون "، ضربه الله مثلاً للمنافق. وقوله: "ذهب الله بنورهم " قال: أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به. وأما الظلمة، فهي ضلالتهم وكفرهم يتكلمون به، وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم، فعتوا بعد ذلك.
وقال آخرون: بما حدثني به بشربن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله: " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون"، وأن المنافق تكلم بلا إله إلا الله، فأضاءت له في الدنيا، فناكح بها المسلمين، وغازى بها المسلمين، ووارث بها المسلمين، وحقن بها دمه وماله. فلما كان عند الموت، سلبها المنافق، لأنه لم يكن لها أصل في قلبه، ولاحقيقة في علمه.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة " مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله " هي: لا إله إلا الله، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا، وأمنوا في الدنيا، ونكحوا النساء، وحقنوا بها دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان،عن الضحاك بن مزاحم، قوله: " كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله" قال: أما النور، فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمات، فهي ضلالتهم وكفرهم.
وقال آخرون بما: حدثني به محمد بن عمرو الباهلي، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى بن ميمون، قال: حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله "، قال: أما إضاءة النار، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وذهاب نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو حذيفة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله "، أما إضاءة النار، فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وذهاب نورهم، إقبالهم إلى الكافرين والضلالة.
حدثني القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحق بن الحجاج، عن عبدالله بن أبي جعفر، عن أبيه،عن الربيع بن أنس، قال: ضرب مثل أهل النفاق فقال: "مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا"، قال: إنما ضوء النار ونورها ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، كذلك المنافق، كلما تكلم بكلمة الإخلاص أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة.
حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني عبد الرحمن بن زيد، في قوله: " كمثل الذي استوقد نارًا"، إلى آخر الآية، فقال: هذه صفة المنافقين. كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النار، فتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وأولى التأويلات بالآية ما قاله قتادة، والضحاك، وما رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وذلك: أن الله جل ثناؤه إنما ضرب هذا المثل للمنافقين الذين وصف صفتهم وقص قصصهم، من لدن ابتدأ بذكرهم بقوله: "ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين" لا المعلنين بالكفر المجاهرين بالشرك. ولو كان المثل لمن آمن إيماناً صحيحاً ثم أعلن بالكفر إعلاناً صحيحاً على ما ظن المتأول قول الله جل ثناؤه: "كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ": أن ضوء النار مثل لإيمانهم الذي كان منهم عنده على صحة، وأن ذهاب نورهم مثل لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة لم يكن هناك من القوم خداع ولا استهزاء عند أنفسهم ولا نفاق. وأنى يكون خداع ونفاق ممن لم يبد لك قولاً ولا فعلاً إلا ما أوجب لك العلم بحاله التي هو لك عليها، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها؟ إن هذا بغير شك من النفاق بعيد، ومن الخداع بريء. وإذ كان القوم لم تكن لهم إلا حالتان: حال إيمان ظاهر، وحال كفر ظاهر، فقد سقط عن القوم اسم النفاق. لأنهم في حال ايمانهم الصحيح كانوا مؤمنين، وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين. ولا حالة هناك ثالثة كانوا بها منافقين.
وفي وصف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق، ما ينبىء عن أن القول غير القول الذي زعمه من زعم: أن القوم كانوا مؤمنين، ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه، الى الكفر الذي هو نفاق. وذلك قول إن قاله، لم تدرك صحته إلا بخبر مستفيض، أو ببعض المعاني الموجبة صحته، فأما في ظاهر الكتاب فلا دلالة على صحته، لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه.
فإذ كان الأمر على ما وصفنا في ذلك، فأولى تأويلات الآية بالآية: مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإقرار به، وقولهم له وللمؤمنين: آمنا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، حتى حكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين: في حقن الدماء والأموال، والأمن على الذرية من السباء، وفي المناكحة والموارثة كمثل استضاءة الموقد النار بالنار، حتى إذا ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله مستضيئاً بنوره من الظلمة، خمدت النار وانطفأت، فذهب نوره، وعاد المستضيءبه في ظلمة وحيرة.
وذلك أن المنافق لم يزل مستضيئاً بضوء القول الذي دافع عنه في حياته القتل والسباء، مع استبطانه ما كان مستوجبًا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه تخيل إليه بذلك نفسه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزىء مخادع، حتى سولت له نفسه إذ ورد على ربه في الآخرة أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أو ما تسمع الله جل ثناؤه يقول إذ نعتهم، ثم أخبر خبرهما عند ورودهم عليه: "يوم يبعثهم الله جميعًا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون" ( المجادلة: 18) ظناً من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة في مثل الذي كان به نجاؤهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا: من الكذب والإفك، وأن خداعهم نافعهم هنالك نفعه إياهم في الدنيا، حتى عاينوا من أمر الله ما أيقنوا أنهم كانوا من ظنونهم في غرور وضلال، واستهزاء بأنفسهم وخداع، إذ أطفأ الله نورهم يوم القيامة، فاستنظروا المؤمنين ليقتبسوا من نورهم فقيل لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا واصلوا سعيرًا. فذلك حين ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، كما انطفأت نار المستوقد النار بعد إضاءتها له، فبقي في ظلمته حيران تائهاً، يقول الله جل ثناؤه: " يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورًا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب* ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور* فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير" ( الحديد: 13- 15).
فإن قال لنا قائل: إنك ذكرت أن معنى قول الله تعالى ذكره "كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ": خمدت وانطفأت، وليس ذلك بموجود في القرآن. فما دلالتك على أن ذلك معناه؟
قيل: قد قلنا إن من شأن العرب الإيجاز والاختصار، إذا كان فيما نطقت به الدلالة الكافية على ما حذفت وتركت، كما قال أبو ذؤيب الهذلي:
عصيت إليها القلب، إني لأمرها سميع، فما أدري أرشد طلابها
يعني بذلك: فما أدري أرشد طلابها أم غي، فحذف ذكر أم غي، إذ كان فيما نطق به الدلالة عليها، وكما قال ذو الرمة في نعت حمير:
فلما لبسن الليل، أوحين نصبت له من خذا آذانها وهو جانح
يعني: أو حين أقبل الليل، في نظائر لذلك كثيرة، كرهنا إطالة الكتاب بذكرها. فكذلك قوله: " كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله "، لما كان فيه وفيما بعده من قوله: "ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون " دلالة على المتروك كافية من ذكره اختصر الكلام طلب الإيجاز.
وكذلك حذف ما حذف واختصار ما اختصر من الخبر عن مثل المنافقين بعده، نظير ما اختصر من الخبر عن مثل المستوقد النار. لأن معنى الكلام: فكذلك المنافقون ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون بعد الضياء الذي كانوا فيه في الدنيا بما كانوا يظهرون بألسنتهم من الإقرار بالإسلام وهم لغيره مستبطنون كما ذهب ضوء نار هذا المستوقد، بانطفاء ناره وخمودها، فبقي في ظلمة لايبصر.
والهاء والميم في قوله "ذهب الله بنورهم "، عائدة على الهاء والميم في قوله "مثلهم ".
قوله تعالى : "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون" .
قوله تعالى : "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" فمثلهم رفع بالابتداء والخبر في الكاف ، فهي اسم ، كما هي في قول الأعشى :
أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والقتل
وقول امرىء القيس :
ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا تصوب فيه العين طورا وترتقي
أراد مثل الطعن ، وبمثل ابن الماء . ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً ، تقديره مثلهم مستقر كمثل ، فالكاف على هذا حرف . والمثل والمثل والمثيل واحد ومعناه الشبيه . والمتماثلان : المتشابهان ، هكذا قال أهل اللغة .
قوله : "الذي" يقع للواحد والجمع . قال ابن الشجري هبة الله بن علي : ومن العرب من يأتي بالجمع بلفظ الواحد ، كما قال :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
وقيل في قول الله تعالى : "والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون" : إنه بهذه اللغة ، وكذلك قوله : "مثلهم كمثل الذي" قيل : المعنى كمثل الذين استوقدوا ، ولذلك قال : "ذهب الله بنورهم" ، فحمل أول الكلام على الواحد ، وآخره على الجمع . فأما قوله تعالى : "وخضتم كالذي خاضوا" فإن الذي ها هنا وصف لمصدر محذوف تقديره وخضتم كالخوض الذي خاضوا . وقيل : إنما وحد الذي و استوقد لأن المستوقد كان واحداً من جماعة تولى الإيقاد لهم ، فلما ذهب الضوء رجع عليهم جميعاً فقال : بنورهم . واستوقد بمعنى أوقد ، مثل استجاب بمعنى أجاب ، فالسين والتاء زائدتان ، قاله الأخفش ، ومنه قول الشاعر :
وداع دعا يا من يجيب الى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي يجبه . واختلف النحاة في جوابه لما ، وفي عود الضمير من نورهم ، فقيل : جواب لما محذوف وهو طفئت ، والضمير في نورهم على هذا للمنافقين ، والإخبار بهذا عن حال تكون في الآخرة ، كما قال تعالى :"فضرب بينهم بسور له باب" . وقيل : جوابه ذهب ، والضمير في نورهم عائد على الذي ، وعلى هذا القول يتم تمثيل المنافق بالمستوقد ، لأن بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده . والمعنى المراد بالآية ضرب مثل للمنافقين ، وذلك أن ما يظهرونه من الإيمان الذي تثبت لهم به أحكام المسلمين من المناكح والتوارث والغنائم والأمن على أنفسهم وولادهم وأموالهم بمثابة من أوقد ناراً ليلة مظلمة فاستضاء بها ورأى ما ينبغي أن يتقيه وأمن منه ، فإذا طفئت عنه أو ذهبت وصل إليه الأذى وبقي متحيراً ، فكذلك المنافقون لما آمنوا اغتروا بكلمة الإسلام ، ثم يصيرون بعد الموت الى العذاب الأليم ـ ما أخبر التنزيل : "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" ـ ويذهب نورهم ، وولهذا يقولون : "انظرونا نقتبس من نوركم" . وقيل : إن إقبال المنافقين الى المسلمين وكلامهم معهم كالنار ، وانصرافهم عن مودتهم وارتكاسهم عندهم كذهابها . وقيل غير هذا .
قوله : "نارا" النار مؤنثة وهي من النور وهو أيضاً الإشراق . وهي من الواو ، لأنك تقول في التصغير : نويرة ، وفي الجمع نور وأنوار ونيران ، انقلبت الواو ياء لكسر ما قبلها . وضاءت وأضاءت لغتان ، يقال : ضاء القمر يضوء ضوءاً يضيء ، يكون لازماً ومتعدياً . وقرأ محمد بن السميقع : ضاءت بغير ألف ، والعامة بالألف ، قال الشاعر :
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه
"ما حوله" ما زائدة مؤكدة . وقيل :مفعولة بأضاءت . و حوله ظرف مكان ، والهاء في موضع خفض بإضافته إليها . و "ذهب" وأذهب لغتان من الذهاب ، وهو زوال الشيء . "وتركهم" أي ابقاهم . "في ظلمات" جمع ظلمة . وقرأ الأعمش : ظلمات بإسكان اللام على الأصل . ومن قرأها بالضم فللفرق بين الإسم والنعت . وقرأ أشهب العقيلي : بفتح اللام . قال البصريون أبدل من الضمة فتحة لأنها اخف وقال الكسائي : ظلمات جمع الجمع ، جمع ظلم . "لا يبصرون" فعل مستقبل في موضع الحال ، كأنه قال : غير مبصرين ، فلا يجوز الوقف على هذا على ظلمات .
يقال مثل ومثل ومثيل أيضاً والجمع أمثال، قال الله تعالى: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي وهو مع هذا أصم لا يسمع أبكم لا ينطق أعمى لو كان ضياء لما أبصر ، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال والتشبيه ههنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ههنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات واحتج بقوله تعالى " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين "، والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير هذه الاية ههنا وهي قوله تعالى "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون" فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان أي في الدنيا ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة قال وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال "رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت" أي كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" وقال تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً" وقال بعضهم تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا ناراً، وقال بعضهم المستوقد واحد لجماعة معه وقال آخرون الذي ههنا بمعنى الذين كما قال الشاعر :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
قلت وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى: "فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون" وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في الظلام، وقوله تعالى "ذهب الله بنورهم" أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان "وتركهم في ظلمات" وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق "لا يبصرون" لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها وهم مع ذلك "صم" لا يسمعون خيراً "بكم" لا يتكلمون بما ينفعهم "عمي" في ضلالة وعماية البصيرة كما قال تعالى: "فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.
ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى "فلما أضاءت ما حوله" زعم أن ناساً دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة ثم إنهم نافقوا وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال والحرام والخير والشر فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر، وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاية، قال: أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك. وقال مجاهد: "فلما أضاءت ما حوله" أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" قال هذا مثل المنافق يبصر أحياناً ويعرف أحياناً ثم يدركه عمى القلب. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" إلى آخر الاية. قال هذه صفة المنافقين كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون، وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" فإنما ضوء النار ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة، وقال الضحاك: "ذهب الله بنورهم" أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله" فهي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا دمائهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. وقال سعيد عن قتادة في هذه الاية: إن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وغازاهم بها ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله فلما كان عند الموت سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله "وتركهم في ظلمات لا يبصرون" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "وتركهم في ظلمات لا يبصرون" يقول في عذاب إذا ماتوا، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: "وتركهم في ظلمات" أي يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفؤوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق، وقال السدي في تفسيره بسنده: "وتركهم في ظلمات" فكانت الظلمة نفاقهم. وقال الحسن البصري: وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فذلك حين يموت المنافق فيظلم عليه عمله عمل السوء فلا يجد له عملاً من خير عمل به يصدق به قوله لا إله إلا الله: "صم بكم عمي" قال السدي بسنده: صم بكم عمي فهم خرس عمي، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "صم بكم عمي" يقول لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه، ولا يعقلونه وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة: "فهم لا يرجعون" قال ابن عباس: أي لا يرجعون إلى هدى، وكذا قال الربيع بن أنس: وقال السدي بسنده "صم بكم عمي فهم لا يرجعون" إلى الإسلام. وقال قتادة: فهم لا يرجعون، أي لا يتوبون ولا هم يذكرون ،
17- "مثلهم" مرتفع بالابتداء، وخبره إما الكاف في قوله: "كمثل" لأنها اسم: أي مثل مثل كما في قول الأعشى:
أتنتهون ولن تنهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وقول امرئ القيس:
ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا تصوب فيه العين طوراً وترتقي
أراد مثل الطعن وبمثل ابن الماء، ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً: أي مثلهم مستنير كمثل، فالكاف على هذا حرف. والمثل: الشبه، والمثلان: المتشابهان "والذي" موضوع موضع الذين: أي كمثل الذين استوقدوا، وذلك موجود في كلام العرب كقول الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كلا القوم يا أم خالد
ومنه "وخضتم كالذي خاضوا" ومنه "والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون". ووقود النار: سطوعها وارتفاع لهبها، " استوقد " بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش. ومنه قول الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أي يجبه. والإضاءة فرط الإنارة، وفعلها يكون لازماً ومتعدياً. و"ما حوله" قيل: ما زائدة. وقيل: هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول أضاءت وحوله منصوب على الظرفية، و"ذهب" من الذهاب، وهو زوال الشيء. و"تركهم" أي أبقاهم "في ظلمات" جمع ظلمة. وقرأ الأعمش بإسكان اللام على الأصل. وقرأ أشهب العقيلي بفتح اللام، وهي عدم النور.
17. " مثلهم " شبههم، وقيل صفتهم. والمثل: قول سائر في عرف الناس يعرف به معنى الشيء وهو أحد أقسام القرآن السبعة " كمثل الذي " يعني الذين بدليل سياق الآية. ونظيره " والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " (33-الزمر) " استوقد " أوقد " ناراً فلما أضاءت " النار " ما حوله " أي حول المستوقد. وأضاء: لازم ومتعد يقال أضاء الشيء بنفسه وأضاءه غيره وهو هاهنا متعد " ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون " قال ابن عباس و قتادة و مقاتل و الضحاك و السدي نزلت في المنافقين.
يقول: مثلهم في نفاقهم كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة فاستدفأ ورأى ما حوله فاتقى مما يخاف فبينا هو كذلك إذا طفيت ناره فبقي في ظلمة طائفاً متحيراً فكذلك المنافقون بإظهار كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم وأولادهم وناكحوا المؤمنين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم فذلك نورهم فإذا ماتوا عادوا إلى الظلمة والخوف. وقيل: ذهاب نورهم في القبر. وقيل: في القيامه حيث يقولون للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم. وقيل: ذهاب نورهم بإظهارعقيدتهم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم فضرب النار مثلاً ثم لم يقل أطفأ الله نارهم لكن عبر بإذهاب النور عنه لأن النار نور وحرارة فيذهب نورهم وتبقى الحرارة عليهم. وقال مجاهد : إضاءة النار إقبالهم إلى المسلمين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى المشركين والضلالة وقال عطاء و محمد بن كعب : نزلت في اليهود. وانتظارهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم واستفتاحهم به على مشركي العرب فلما خرج كفروا به ثم وصفهم الله فقال
17-" مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً " لما جاء بحقيقة حالهم عقبها يضرب المثل زيادة في التوضيح والتقرير ، فإنه أوقع في القلب وأقمع للخصم الألد ، ولأنه يريك المتخيل محققاً والمعقول محسوساً ، والأمر ما أكثر الله في كتبه الأمثال ، وفشت في كلام الأنبياء والحكماء . والمثل في الأصل بمعنى النظير يقال : مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ، ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده ، ولا يضرب إلا ما فيه غرابة ، ولذلك حوفظ عليه من التغيير ، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة مثل قوله تعالى : " مثل الجنة التي وعد المتقون " وقوله تعالى : " ولله المثل الأعلى " .
والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد ناراً ، والذي : بمعنى الذين كما في قوله تعالى : " وخضتم كالذي خاضوا " إن جعل مرجع الضمير في بنورهم ، وإنما جاز ذلك ولم يجز وضع القائم موضع القائمين لأنه غير مقصود بالوصف ، بل الجملة التي هي صلته وهو وصلة إلى وصف المعرفة بها لأنه ليس باسم تام بل هو كالجزء منه ، فحقه أنه لا يجمع كما لا نجمع أخواتها ، ويستوي فيه الواحد والجمع وليس الذين جمعه المصحح ، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى ولذلك جاء بالياء أبداً على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل ، ولكونه مستطالاً بصلته استحق التخفيف ، ولذلك بولغ فيه فحذف ياؤه ثم كسرته ثم اقتصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ، أو قصد به جنس المستوقدين ، أو الفوج الذي استوقد . والاستيقاد : طلب الوقود والسعي في تحصيله ، وهو سطوع النار وارتفاع لهبها . واشتقاق النار من : نار ينور نوراً إذا نفر لأن فيها حركة واضطراباً .
" فلما أضاءت ما حوله " أي : النار ، ما حول المستوقد إن جعلتها متعدية ، وإلا أمكن أن تكون مسندة إلى ما ، والتأنيث لأن ما حوله أشياء وأماكن أو إلى ضمير النار ، وما : موصولة في معنى الأمكنة ، نصب على الظرف ، أو مزيدة ، وحوله ظرف وتأليف الحول للدوران . وقيل للعام لأنه يدور .
" ذهب الله بنورهم " جواب لما ، والضمير للذي ، وجمعه للحمل على المعنى ، وعلى هذا نما قال : " بنورهم " ولم يقل : بنارهم لأنه المراد من أيقادها . أو استئناف أجيب به اعتراض سابق يقول : ما بالهم شبهت حالهم بحال مستوقد انطفأت ناره ؟ أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان . والضمير على الوجهين للمنافقين ، والجواب محذوف كما في قوله تعالى : " فلما ذهبوا به " للإيجاز وأمن الالتباس . واسند الذهاب إلى الله تعالى أما لأن الكل بفعله ، أو لأن الإطغاء حصل بسبب خفي ، أو أمر سماوي كريح أو مطر، أو للمبالغة ولذلك عدي الفعل بالباء دون الهمزة لما فيها من معنى الاستصحاب والاستمساك يقال : ذهب السلطان بماله إذا أخذه ، وما أخذه الله وأمسكه فلا مرسل له ، ولذلك عدل عن الضوء الذي هو مقتضى اللفظ إلى النور ، فإنه لو قيل : ذهب الله بضوئهم احتمل ذهاباً بما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نوراً ، والغرض إزالة النور عنهم رأساً ألا ترى كيف قرر ذلك وأكده بقوله " وتركهم في ظلمات لا يبصرون " فذكر الظلمة التي هي عدم النور ، وانطماسه بالكلية ، وجمعها ونكرها ووصفها بأنها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبحان . وترك الأصل بمعنى طرح وخلى ، وله مفعول واحد فضمن معنى صير ، فجرى مجرى أفعال القلوب كقوله تعالى : " وتركهم في ظلمات " .
وقول الشاعر :
فتركته جزر السباع ينشنه يقضمن حسن بنانه والمعصم
والظلمة مأخوذة من قولهم : ما ظلمك أن تفعل كذا ، أي ما منعك ، لأنها تسد البصر وتمنع الرؤية . وظلماتهم : ظلمة الكفر ، وظلمة النفاق ، وظلمة يوم القيامة " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم " . أو ظلمة الضلال ، وظلمة سخط الله ، وظلمة العقاب السرمدي ، أو ظلمة شديدة كأنها ظلمة متراكمة ، ومفعول " لا يبصرون " من قبيل المطروح المتروك فكأن الفعل غير متعد .
والآية مثل ضربه الله لمن آتاه ضرباً من الهدى فأضاعه ، ولم يتوصل به إلى نعيم الأبد فبقي متحيراً متحسراً ، تقريراً وتوضيحاً لما تضمنته الآية الأولى ، ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون فأنهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم هم من الحق باستبطان الكفر ، وإظهاره حين خلوا إلى شياطينهم ، ومن آثر الضلالة على الهدى المجهول له بالفطرة ، أو ارتد عن دينه بعدما آمن ، ومن صح له أحوال الإرادة فادعى أحوال المحبة فأذهب الله عنه ما أشرق عليه من أنوار الإرادة ، أو مثل لإيمانهم من حيث إنه يعود عليهم يحقن الدماء ، وسلامة الأموال والأولاد ، ومشاركة المسلمين في المغانم . والأحكام بالنار الموقدة للاستضاءة ، ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها .
17. Their likeness is as the likeness of one who kindleth fire, and when it sheddeth its light around him Allah taketh away their light and leaveth them in darkness, where they cannot see,
17 - Their similitude is that of a man When it lighted all around him, God took away their light And left them in utter darkness. So they could not see.