17 - (وحشر) جمع (لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير) في مسير له (فهم يوزعون) يجمعون ثم يسافرون
يقول تعالى ذكره : وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسير لهم فهم يوزعون .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله " فهم يوزعون " فقال بعضهم : معنى ذلك : فهم بحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس ، قال : جعل على كل صنف من يرد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما تصنع الملوك .
حدثنا القاسم ، قال : ثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله " وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون " قال : يرد أولهم على آخرهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : فهم يساقون .
ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله " وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون " قال : يوزعون : يساقون .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين ، قال :ثنا أبو سفيان ، عن معمر قال : قال الحسن " يوزعون " يتقدمون .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال : معناه : يرد أولهم على آخرهم ، وذلك أن الوازع في كلام العرب هو الكاف ، يقال منه : وزع فلان فلانا عن الظلم : إذا كفه عنه ، كما قال الشاعر :
ألم يزع الهوى إذ لم يؤات بلى وسلوت عن طلب الفتاة
وقال آخر :
على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والسيب وازع
وإنما قيل للذين يدفعون الناس على الولاة والأمراء وزعة : لكفهم إياهم عنه .
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : " وحشر لسليمان " ( حشر ) جمع والحشر الجمع ومنه قوله عز وجل : " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " [ الكنهف : 47] واختلف الناس في مقداتر جند سليمان عليه السلام ، فيقال : كان معسكره مائة فرسخ في مائة : خمسة وعشرون للوحش ، وكان له أبلف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية . ابن عطية : واختلف في معسكره ومقدار جنده اختلافاً شديداً غير أن الصحيح أن ملكه كان عظيماً ملأ الأرض ، وانقادات له المعمورة كلها . " فهم يوزعون " معناه يرد أولهم إلى آخرهم ويكفوهن . وقال قتادة كان لكل صنف وزعة في رتبتهم ومواضعهم من الكرسي ومن الأرض إذا مشوا فيها . يقال : وزعته أوزعه وزعاً أي كففته . والزازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم . روى محمد بن إسحاق عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لما وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى _ تعني يوم الفتح _ قال أبو قحافة وقد كف بصره يومئذ لابنته : اظهري بي على أبي قبيس . قالت وأرى رجلاً من السواد مقبلا ً ومديراً قال : ذلك الوازع يمنعها أن تنتشر . وذكر تمام الخبر . ومن هذا قوله عليه السلام : " ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر " قيل : وما رأى يا رسول الله ؟ قال : " أما أنه رأى جبريل يزع الملائكة " خرجه الموطأ . ومن هذا المعنى قول النابغة :
على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع
آخر :
ولما تلاقينا جرت من جفوننا دموع وزعنا غريبها بالأصابع
آخر :
ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله
وقيل : هو من التوزيع بمعنى التفريق . والقوم أوزاع أي طوائف . وفي القصة : إن الشياطين نسجت له بساطاً فرسخاً في فرسخ ذهباً في إبريسسم ، وكان يوضع له كرسن من ذهب وحوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب وفصة فيقد الأنبياء على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفصة .
الثانية : في الآ ية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض ، إذ لا يمكن الحكام ذلك بأنفسهم . وقال ابن عون : سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه لما رأى ما يصنع الناس قال : والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة . وقال الحسن أيضاً : لا بد للناس من وازع ، أي من سلطان يكفهم . وذكر ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول : ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن ، أي من الناس .قال ابن القاسم : قلت لمالك ما يزع ؟ قال : يكف . قال القاضي أبو بكر بن العرببي : وقد جهل قوك المراد بهذا الكلام ، فظنوا أن المعنى فيه أن قدرة السلطان تردع الناس أكثرهم مما تردعهم حدود القرآن وهذا جهل بالله وحكمته . قال : فإن الله ما وصع الحدود إلا مصلحة عامة كافة قائمة لقوام الخلق ، لا زيادة عليها ، ولا نقصان معها ، ولا يصلح سواها ، ولكن الظلمة خاسوا بها ، وقصروا عنها ، وأتوا ما أتوا بغير نية ، ولم يقصدوا وجه الله في القضاء بها ، فلم يرتدع الخلق بها ، ولو حكموا بالعدل ، وأخلصوا النية ، لاستقامت الأمور ، وصلح الجمهور .
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه: داود وابنه سليمان عليهما السلام, من النعم الجزيلة والمواهب الجليلة, والصفات الجميلة, وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والاخرة, والملك والتمكين التام في الدنيا, والنبوة والرسالة في الدين, ولهذا قال تعالى: "ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" قال ابن أبي حاتم : ذكر عن إبراهيم بن يحيى بن تمام , أخبرني أبي عن جدي قال: كتب عمر بن عبد العزيز : إن الله لم ينعم على عبده نعمة فيحمد الله عليها إلا كان حمده أفضل من نعمته, لو كنت لا تعرف ذلك إلا في كتاب الله المنزل. قال الله تعالى: "ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان عليهما السلام.
وقوله تعالى: "وورث سليمان داود" أي في الملك والنبوة, وليس المراد وراثة المال, إذ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود, فإنه قد كان لدواد مائة امرأة, ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة, فإن الأنبياء لا تورث أموالهم كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث, ما تركناه فهو صدقة" وقال: "يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء" أي أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين العظيم, حتى إنه سخر له الإنس والجن والطير, وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضاً, وهذا شيء لم يعطه أحد من البشر فيما علمناه مما أخبر الله به ورسوله, ومن زعم من الجهلة والرعاع أن الحيوانات كانت تنطق كنطق بني آدم قبل سليمان بن داود, كما قد يتفوه به كثير من الناس, فهو قول بلا علم, ولو كان الأمر كذلك لم يكن لتخصيص سليمان بذلك فائدة, إذ كلهم يسمع كلام الطيور والبهائم, ويعرف ما تقول, وليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا, بل لم تزل البهائم والطيور وسائر المخلوقات من وقت خلقت إلى زماننا هذا على هذا الشكل والمنوال. ولكن الله سبحانه كان قد أفهم سليمان ما يتخاطب به الطيور في الهواء, وما تنطق به الحيوانات على اختلاف أصنافها, ولهذا قال تعالى: "علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء" أي مما يحتاج إليه الملك "إن هذا لهو الفضل المبين" أي الظاهر البين لله علينا.
قال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة , حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن عمرو بن أبي عمرو , عن المطلب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان داود عليه السلام فيه غيرة شديدة, فكان إذا خرج أغلقت الأبواب, فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع ـ قال ـ فخرج ذات يوم وأغلقت الأبواب, فأقبلت امرأة تطلع إلى الدار, فإذا رجل قائم وسط الدار, فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل والدار مغلقة ؟ والله لنفتضحن بداود, فجاء داود عليه السلام فإذا الرجل قائم وسط الدار, فقال له داود: من أنت ؟ فقال: الذي لا يهاب الملوك ولا يمتنع من الحجاب, فقال داود: أنت إذاً والله ملك الموت مرحباً بأمر الله, فتزمل داود مكانه حتى قبضت نفسه حتى فرغ من شأنه وطلعت عليه الشمس, فقال سليمان عليه السلام للطير: أظلي داود, فظللت عليه الطير حتى أظلمت عليه الأرض, فقال لها سليمان: اقبضي جناحاً جناحاً" قال أبو هريرة : " يا رسول الله كيف فعلت الطير ؟ فقبض رسول الله يده وغلبت عليه يومئذ المضرحية " . قال أبو الفرج بن الجوزي : المضرحية هن النسور الحمراء.
وقوله تعالى: "وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون" أي وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير, يعني ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة في الإنس وكانوا هم الذين يلونه, والجن وهم بعدهم في المنزلة, والطير ومنزلتها فوق رأسه, فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها. وقوله: "فهم يوزعون" أي يكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد عن منزلته التي هي مرتبة له. قال مجاهد : جعل على كل صنف وزعة يردون أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير كما يفعل الملوك اليوم.
وقوله: " حتى إذا أتوا على واد النمل " أي حتى إذا مر سليمان عليه السلام بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل "قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" أورد ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن سعيد عن قتادة عن الحسن أن اسم هذه النملة حرس, وأنها من قبيلة يقال لهم بنو الشيصان, وأنها كانت عرجاء, وكانت بقدر الذئب, أي خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها, فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم, ففهم ذلك سليمان عليه السلام منها " فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه " أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي من تعليمي منطق الطير والحيوان. وعلى والدي بالإسلام لك, والإيمان بك "وأن أعمل صالحاً ترضاه" أي عملاً تحبه وترضاه "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" أي إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك, والرفيق الأعلى من أوليائك, ومن قال من المفسرين أن هذا الوادي كان بأرض الشام أو بغيره, وأن هذه النملة كانت ذات جناحين كالذباب أو غير ذلك من الأقاويل, فلا حاصل لها.
وعن نوف البكالي أنه قال: كان نمل سليمان أمثال الذئاب, هكذا رأيته مضبوطاً بالياء المثناة من تحت, وإنما هو بالباء الموحدة وذلك تصحيف, والله أعلم. والغرض أن سليمان عليه السلام فهم قولها وتبسم ضاحكاً من ذلك, وهذا أمرعظيم جداً. وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا محمد بن بشار , حدثنا يزيد بن هارون , أنبأنا مسعر عن زيد العمي عن أبي الصديق الناجي قال:خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي, فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك, ولا غنى بنا عن سقياك وإلا تسقنا تهلكنا. فقال سليمان: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. وقد ثبت في الصحيح عند مسلم من طريق عبد الرزاق , عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قرصت نبياً من الأنبياء نملة, فأمر بقرية النمل فأحرقت, فأوحى الله إليه, أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح ؟ فهلا نملة واحدة ؟".
17- "وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير" الحشر الجمع: أي جمع له جنوده من هذه الأجناس. وقد أطال المفسرون في ذكر مقدار جنده وبالغ كثير منهم مبالغة تستبعدها العقول ولا تصح من جهة النقل، ولو صحت لكان في القدرة الربانية ما هو أعظم من ذلك وأكثر "فهم يوزعون" أي لكل طائفة منهم وزعة ترد أولهم على آخرهم فيقفون على مراتبهم، يقال وزعه يزعه وزعاً: كفه، والوازع في الحرب الموكل بالصفوف يزع من تقدم منهم: أي يرده، ومنه قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا وقلت ألما أصح والشيب وازع
وقول الآخر:
ومن لم يزعه لبه وحياؤه فليس له من شيب فوديه وازع
وقول الآخر:
ولا يزع النفس اللجوج عن الهوى من الناس إلا وافر العقل كامله
وقيل من التوزيع بمعنى التفريق، يقال: القوم أوزاع: أي طوائف.
قوله عز وجل: 17- "وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير" في مسير له، "فهم يوزعون"، فهم يكفون. قال قتادة: كان على كل صنف من جنوده وزعة ترد أولاها على أخراها لئلا يتقدموا في المسير، والوازع الحابس، وهو النقيب. وقال مقاتل: يوزعون يساقون.
وقال السدي: يوقفون. وقيل: يجمعون. وأصل الوزع الكف والمنع.
وقال محمد بن كعب القرظي: كان معسكر سليمان مائة فرسخ، خمسة وعشرون منها للإنس، وخمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للوحش، وخمسة وعشرون للطير، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلثمائة صريحة، وسبعمائة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه، ويأمر الرخاء فتسير به، وأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض: إني قد زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد من الخلائق بشيء إلا جاءت به الريح، فأخبرتك.
17 -" وحشر " وجمع . " لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون " يحبسون بحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا .
17. And there were gathered together unto Solomon his armies of the jinn and humankind, and of the birds, and they were set in battle order;
17 - And before Solomon were marshalled his hosts, of Jinns and men and birds, and they were all kept in order and ranks.