(أولئك الذين اشترَوا الضلالة بالهدى) أخذوها بدله في الدنيا (والعذاب بالمغفرة) المعدة لهم في الآخرة لو لم يكتموا (فما أصبرهم على النار) أي ما أشد صبرهم ، وهو تعجيب للمؤمنين من ارتكابهم موجباتهم من غير مبالاة وإلا فأيُّ صبرٍ لهم
القول في تأويل قوله تعالى:"أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة" قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى"، أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يوجب لهم غفرانه ورضوانه. فاستغنى بذكر العذاب و المغفرة، من ذكر السبب الذي يوجبهما، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. وكذلك بينا وجه "اشتروا الضلالة بالهدى" باختلاف المختلفين، والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول، فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته.القول في تأويل قوله تعالى: "فما أصبرهم على النار"
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.
ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فما أصبرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله "فما أصبرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم عليها.حدثني المثنى قال، حدثنا عمروبن عون قال، حدثنا هشيم، عن بشر، عن الحسن في قوله: "فما أصبرهم على النار"، قال: والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار.حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا مسعر- وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو بكير قال، حدثنا مسعر-، عن حماد، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، أو بعض أصحابه "فما أصبرهم على النار"، ما أجرأهم. حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدئنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله: "فما أصبرهم على النار"، يقول: ما أجرأهم وأصبرهم على النار. وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "فما أصبرهم على النار"، قال: ما أعملهم بالباطل.حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.واختلفوا في تأويل ما ألتي في قوله: "فما أصبرهم على النار". فقال بعضهم: هي بمعنى الاستفهام، وكأنه قال: فما الذي صبرهم؟ أي شيء صبرهم؟ ذكر من قال ذلك: حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فما أصبرهم على النار"، هذا على وجه الاستفهام. يقول: ما الذي أصبرهم على النار؟ حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج الأعور قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال لي عطاء: "فما أصبرهم على النار"، قات: ما يصبرهم على النار، حين تركوا الحق واتبعوا الباطل؟ حدثنا أبو كريب قال: سئل أبو بكر بن عياش: "فما أصبرهم على النار"، قال: هذا استفهام، ولو كانت من الصبر قال: "فما أصبرهم"، رفعاً. قال: يقال للرجل: ا أصبرك ما الذي فعل بك هذا؟حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "فما أصبرهم على النار"، قال: هذا استفهام. يقول ما هذا الذي صبرهم على النار حتى جرأهم فعملوا بهذا؟وقال آخرون: هو تعحب. يعني: فما أشد جراءتهم على النار بعملهم أعمال أهل النار! ذكر من قال ذلك:
حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فما أصبرهم على النار" قال: ما أعملهم بأعمال أهل النار! وهو قول الحسن وقتادة، وقد ذكرناه قبل. فمن قال: هو تعجب- وجه تأويل الكلام إلى: "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة"، فما أشد جراءتهم- بفعلهم ما فعلوا من ذلك- على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره: "قتل الإنسان ما أكفره" [عبس: 17] تعجباً من كفره بالذي خلقه وسوى خلقه.فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام، فمعناه: هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار- والنار لا صبر عليها لأحد- حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلاً؟قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: ما أجرأهم على النار، بمعنى: ما أجرأهم على عذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب: ما أصبر فلاناً على الله ، بمعنى: ما أجرأ فلاناً على الله! وإنما يعجب الله خلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، واشترائهم بكتمان ذلك ثمناً قليلاً من السحت والرشى التي أعطوها- على وجه التعجب من تقدمهم على ذلك. مع علمهم بأن ذلك موجب لهم سخط الله وأليم عقابه. وإنما معنى ذلك: فما أجرأهم على عذاب النار! ولكن اجتزىء بذكر "النار"، من ذكر عذابها كما يقال: ما أشبه سخاءك بحاتم، بمعنى: ما أشبه سخاءك بسخاء حاتم، وما أشبه شجاعتك بعنترة.
قوله تعالى : "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار" .
قوله تعالى : "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة" تقدم القول فيه . ولما كان العذاب تابعاً للضلالة وكانت المغفرة تابعة للهدى الذي اطرحوه دخلا في تجوز الشراء .
قوله تعالى : "فما أصبرهم على النار" مذهب الجمهور ـ منهم الحسن و مجاهد ـ أن ما معناه التعجب ، وهو مردود إلى المخلوقين ، كأنه قال : اعجبوا من صبرهم على النار ومكثهم فيها . وفي التنزيل : "قتل الإنسان ما أكفره" و "أسمع بهم وأبصر" . وبهذا المعنى صدر أبو علي : قال الحسن و قتادة وابن جبير و الربيع : ما لهم والله عليها من صبر ، ولكن ما أجرأهم على النار ! وهي لغة يمنية معروفة . قال الفراء أخبرني الكسائي قال : أخبرني قاضي اليمن أن خصمين اختصما إليه فوجبت اليمين على أحدهما فحلف ، فقال له صاحبه : ما أصبرك على الله ؟ أي ما أجرأك عليه . والمعنى : ما أشجعهم على النار إذ يعملون عملاً يؤدي إليها . وحكى الزجاج أن المعنى ما أبقاهم على النار ، من قولهم : ما أصبر فلاناً على الحبس ! أي ما أبقاه فيه . وقيل : المعنى فما أقل جزعهم من النار ، فجعل قلة الجزع صبراً . وقال الكسائي وقطرب : أي ما أدومهم على عمل أهل النار . وقيل : ما استفهام معناه التوبيخ ، قاله ابن عباس و السدي و عطاء و أبو عبيدة معمر بن المثنى ، ومعناه : أي أي شيء صبرهم على عمل أهل النار ؟ ! وقيل : هذا على وجه الاستهانة بهم والاستخفاف بأمرهم .
يقول تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة, فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم, فخشوا ـ لعنهم الله ـ إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم, فكتموا ذلك ابقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير , فباعوا أنفسهم بذلك واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله, بذلك النزر اليسير, فخابوا وخسروا في الدنيا والاخرة, أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله بما نصبه وجعله معه من الايات الظاهرات والدلائل القاطعات, فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه, وصاروا عوناً له على قتالهم, وباءوا بغضب على غضب, وذمهم الله في كتابه في غير موضع فمن ذلك هذه الاية الكريمة "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلا" وهو عرض الحياة الدنيا "أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار" أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق, ناراً تأجج في بطونهم يوم القيامة, كما قال تعالى: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً" وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال, "الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم"
وقوله: "ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم, لأنهم كتموا وقد علموا, فاستحقوا الغضب, فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم, أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذاباً أليماً, وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه, ههنا حديث الأعمش عن أبي حازم, عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله, ولا ينظر إليهم, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم: شيخ زان, وملك كذاب, وعائل مستكبر" ثم قال تعالى مخبراً عنهم "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" أي اعتاضوا عن الهدى, وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه, استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم "والعذاب بالمغفرة" أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب, وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة, وقوله تعالى: "فما أصبرهم على النار" يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل, يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال, عياذاً بالله من ذلك, وقيل معنى قوله: "فما أصبرهم على النار" أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار, وقوله تعالى: "ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق" أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل, وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزواً, فكتابهم أمرهم بإظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه, وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر , وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه ويكتمون صفته, فاستهزؤا بآيات الله المنزلة على رسله, فلهذا استحقوا العذاب والنكال, ولهذا قال "ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد"
وقوله: 175- "اشتروا الضلالة بالهدى" قد تقدم تحقيق معناه. وقوله: "فما أصبرهم على النار" ذهب الجمهور ومنهم الحسن ومجاهد إلى أن معناه التعجب. والمراد تعجيب المخلوقين من حال هؤلاء الذين باشروا الأسباب لعذاب النار، فكأنهم بهذه المباشرة للأسباب صبروا على العقوبة في نار جهنم. وحكى الزجاج أن المعنى: ما أبقاهم على النار، من قولهم: ما أصبر فلاناً على الحبس: أي ما أبقاه فيه، وقيل المعنى: ما أقل جزعهم من النار، فجعل قلة الجزع صبراً. وقال الكسائي وقطرب: أي ما أدومهم على عمل أهل النار، وقيل: ما استفهامية، ومعناه التوبيخ: أي أي شيء أصبرهم على عمل النار. قاله ابن عباس والسدي وعطاء وأبو عبيدة.
175. " أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة فما أصبرهم على النار " قال عطاء و السدي : هو ما: استفهام معناه ما الذي صبرهم على النار وأي شيء يصبرهم على النار حتى تركوا الحق واتبعوا الباطل وقال الحسن و قتادة : والله ما لهم عليها من صبر ولكن ما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار قال الكسائي : فما أصبرهم على عمل أهل النار أي ما أدومهم عليه
175-" أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى " في الدنيا . " والعذاب بالمغفرة " في الآخرة ،بكتمان الحق للمطالع والأغراض الدنيوية . " فما أصبرهم على النار " تعجب من حالهم في الالتباس بموجبات النار من غيره مبالاة . وما تامة مرفوعة بالابتداء ، وتخصيصها كتخصيص قولهم .
شر اهر ذا ناب
أو استفهامية وما بعدها الخبر ، أو موصولة وما بعدها صلة والخبر محذوف .
175. Those are they who purchase error at the price of guidance, and torment at the price of pardon. How constant are they in their strife to reach the Fire!
175 - They are the ones who buy error in place of guidance and torment in place of forgiveness. ah! what boldness (they show) for the fire!