(ذلك) الذي ذكر من أكلهم النار وما بعده (بأن) بسبب أن (الله نزل الكتاب بالحق) متعلق بنزل فاختلفوا فيه حيث آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه بكتمه (وإن الذين اختلفوا في الكتاب) بذلك وهم اليهود وقيل المشركون في القرآن حيث قال بعضهم شعر وبعضهم سحر وبعضهم كهانة (لفي شقاق) خلاف (بعيد) عن الحق
القول في تأويل قوله تعالى:"ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد" قال أبو جعفر: أما قوله: "ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق"، فإنه اختلف في، المعني بـ "ذلك". فقال بعضهم: معني "ذلك"، فعلهم هذا الذي يفعلون- من جراءتهم على عذاب النار، في مخالفتهم أمر الله، وكتمانهم الناس ما أنزل الله في كتابه، وأمرهم ببيانه لهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه- من أجل أن الله تبارك وتعالى "نزل الكتاب بالحق"، وتنزيله الكتاب بالحق هو خبره عنهم في قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون* ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم" [البقرة: 6- 7]، فهم- مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون- لا يكون منهم غير اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.وقال آخرون: معناه: "ذلك" معلوم لهم، بأن الله نزل الكتاب بالحق، لأنا قد أخبرنا في الكتاب أن ذلك لهم، والكتاب حق. كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم: ذلك العذاب- الذي قال الله تعالى ذكره، فما أصبرهم عليه- معلوم أنه لهم. لأن الله قد أخبر في مواضع من تنزيله أن النار للكافرين، وتنزيله حق، فالخبر عن "ذلك" عندهم مضمر.وقال آخرون: معنى "ذلك"، أن الله وصف أهل النار، فقال: "فما أصبرهم على النار"، ثم قال: هذا العذاب بكفرهم. و هذا ههنا عندهم، هي التي يجوز مكانها "ذلك"، كأنه قال: فعلنا ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به. قال: فيكون "ذلك"- إذا كان ذلك معناه- نصباً، ويكون رفعاً بالباء. قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بتأويل الاية عندي: أن الله تعالى ذكره أشار بقوله: "ذلك"، إلى جميع ما حواه قوله: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب"، إلى قوله: "ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق"، من خبره عن أفعال أحبار اليهود، وذكره ما أعد لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك، فقال: هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبار من اليهود، بكتمانهم الناس ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته مع علمهم به، طلباً منهم لعرض من الدنيا خسيس- وبخلافهم أمري وطاعتي، وذلك- من تركي تطهيرهم وتزكيتهم وتكليمهم، وإعدادي لهم العذاب الأليم- بأني أنزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه. فيكون في "ذلك" حينئذ وجهان من الإعراب: رفع ونصب. والرفع ب الباء، والنصب بمعنى:
فعلت ذلك بأني أنزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه. وترك ذكر كفروا به واختلفوا، اجتزاء بدلالة ما ذكر من الكلام عليه.
وأما قوله: "وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد"، يعني بذلك اليهود والنصارى، اختلفوا في كتاب الله، فكفرت اليهود بما قص الله فيه من قصص عيسى ابن مريم وأمه. وصدقت النصارى ببعض ذلك، وكفروا ببعضه، وكفروا جميعاً بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين اختلفوا فيما أنزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من الرشد والصواب، كما قال الله تعالى ذكره: "فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق" [البقرة: 137]. حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد"، يقول: هم اليهود والنصارى. يقول: هم في عداوة بعيدة. وقد بينت معنى الشقاق ، فيما مضى.
قوله تعالى : "ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد" .
قوله تعالى : "ذلك" ذلك في موضع رفع ، وهو إشارة إلى الحكم ، كأنه قال : ذلك الحكم بالنار . وقال الزجاج : تقديره الأمر ذلك ، أو ذلك الأمر ، أو ذلك العذاب لهم . قال الأخفش : وخبر ذلك مضمر ، معناه ذلك معلوم لهم . وقيل :محله نصب ، معناه فعلنا ذلك بهم . "بأن الله نزل الكتاب" يعني القرآن في هذا الموضع "بالحق" أي بالصدق . وقيل بالحجة . "وإن الذين اختلفوا في الكتاب" يعني التوارة ، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى ، وأنكر اليهود صفته . وقيل :خالفوا آباءهم وسلفهم في التمسك بها . وقيل: خالفوا ما في التوارة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيها . وقيل : المراد القرآن ، والذين اختلفوا كفار قريش ، يقول بعضهم : هو سحر ، وبعضهم يقول : اساطير الأولين . وبعضهم : مفترىً ، إلى غير ذلك .وقد تقدم القول في معنى الشقاق ، والحمد لله .
يقول تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة, فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم, فخشوا ـ لعنهم الله ـ إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم, فكتموا ذلك ابقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير , فباعوا أنفسهم بذلك واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله, بذلك النزر اليسير, فخابوا وخسروا في الدنيا والاخرة, أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله بما نصبه وجعله معه من الايات الظاهرات والدلائل القاطعات, فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه, وصاروا عوناً له على قتالهم, وباءوا بغضب على غضب, وذمهم الله في كتابه في غير موضع فمن ذلك هذه الاية الكريمة "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلا" وهو عرض الحياة الدنيا "أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار" أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق, ناراً تأجج في بطونهم يوم القيامة, كما قال تعالى: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً" وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال, "الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم"
وقوله: "ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم" وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم, لأنهم كتموا وقد علموا, فاستحقوا الغضب, فلا ينظر إليهم ولا يزكيهم, أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذاباً أليماً, وقد ذكر ابن أبي حاتم وابن مردويه, ههنا حديث الأعمش عن أبي حازم, عن أبي هريرة, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله, ولا ينظر إليهم, ولا يزكيهم, ولهم عذاب أليم: شيخ زان, وملك كذاب, وعائل مستكبر" ثم قال تعالى مخبراً عنهم "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" أي اعتاضوا عن الهدى, وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه, استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم "والعذاب بالمغفرة" أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب, وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة, وقوله تعالى: "فما أصبرهم على النار" يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل, يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال, عياذاً بالله من ذلك, وقيل معنى قوله: "فما أصبرهم على النار" أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار, وقوله تعالى: "ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق" أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل, وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزواً, فكتابهم أمرهم بإظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه, وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر , وهم يكذبونه ويخالفونه ويجحدونه ويكتمون صفته, فاستهزؤا بآيات الله المنزلة على رسله, فلهذا استحقوا العذاب والنكال, ولهذا قال "ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد"
176- "ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق" الإشارة بإسم الإشارة إلى الأمر: أي ذلك الأمر وهو العذاب. قاله الزجاج. وقال الأخفش: إن خبر اسم الإشارة محذوف والتقدير: ذلك معلوم. والمراد بالكتاب هنا القرآن "بالحق" أي بالصدق، وقيل: بالحجة. وقوله: "وإن الذين اختلفوا في الكتاب" قيل: المراد بالكتاب هنا التوراة، فادعى النصارى أن فيها صفة عيسى وأنكرهم اليهود، وقيل: خالفوا ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيها، وقيل: المراد بالقرآن، والذين اختلفوا كفار قريش، يقول بعضهم: هو سحر، وبعضهم يقول: هو أساطير الأولين، وبعضهم يقول غير ذلك. "لفي شقاق" أي خلاف "بعيد" عن الحق، وقد تقدم معنى الشقاق.
وقد أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله" قال: نزلت في اليهود. وأخرج ابن جرير عن السدي قال: كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم وأخذوا عليه طمعاً قليلاً. وأخرج ابن جرير أيضاً عن أبي العالية نحوه. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس بسندين ضعيفين أنها نزلت في اليهود. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله: "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" قال: اختاروا الضلالة على الهدى والعذاب على المغفرة "فما أصبرهم على النار" قال: ما أجرأهم على عمل النار. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله: "فما أصبرهم على النار" قال: ما أعلمهم بأعمال أهل النار. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر في قوله: "فما أصبرهم على النار" قال: والله ما لهم عليها من صبر ولكن يقول: ما أجرأهم على النار. وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير أيضاً عن السدي في الآية قال: هذا على وجه الاستفهام يقول: ما الذي أصبرهم على النار؟ وقوله: "وإن الذين اختلفوا في الكتاب" قال: هم اليهود والنصارى "لفي شقاق بعيد" قال: في عداوة بعيدة.
176. " ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق " يعني ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق فأنكروه وكفروا به وحينئذ يكون ذلك في محل الرفع وقال بعضهم محله نصب معناه فعلنا ذلك بهم بأن الله أي لأن الله نزل الكتاب بالحق فاختلفوا فيه وقيل معناه ذلك أي فعلهم الذي يفعلون من الكفر والاختلاف والاجتراء على الله من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق وهو قوله تعالى " إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون * ختم الله على قلوبهم " (7-البقرة) " وإن الذين اختلفوا في الكتاب " فآمنوا ببعض وكفروا ببعض " لفي شقاق بعيد " أي في خلاف وضلال بعيد.
176-" ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق " أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان . " وإن الذين اختلفوا في الكتاب " اللام فيه إما للجنس ، واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله تعالى وكفرهم ببعض . أو للعهد ، والإشارة إما إلى التوراة ،واختلفوا بمعنى تخلفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها ، أو خلفوا خلال ما أنزل الله تعالى مكانه ، أي حرفوا ما فيها . وإما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم سحر ، وتقول ، وكلام علمه بشر ، وأساطير الأولين . " لفي شقاق بعيد " لفي خلاف بعيد عن الحق .
176. That is because Allah hath revealed the Scripture with the truth. Lo! those who find (a cause of) disagreement in the Scripture are in open schism.
176 - (their doom is) because God sent down the book in truth but those who seek causes of dispute in the book are in a schism far (from the purpose).