هم (صمٌّ) عن الحق فلا يسمعونه سماع قبول (بكمٌ) خرسٌ عن الخير فلا يقولونه (عُمْيٌ) عن طريق الهدى فلا يرونه (فهم لا يرجعون) عن الضلالة
قال أبو جعفر: وإذ كان تأويل قول الله جل ثناؤه: "ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون "، هو ما وصفنا من أن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عما هو فاعل بالمنافقين في الآخرة،
عند هتك أستارهم، وإظهاره فضائح أسرارهم، وسلبه ضياء أنوارهم، من تركهم في ظلم أهوال يوم القيامة يترددون، وفي حنادسها لا يبصرون فبين أن قوله جل ثناؤه: "صم بكم عمي فهم لا يرجعون " من المؤخر الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، صم بكم عمي فهم لايرجعون، مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، أو كمثل صيب من السماء.
وإذ كان ذلك معنى الكلام، فمعلوم أن قوله: "صم بكم عمي "، يأتيه الرفع من وجهين، والنصب من وجهين:فأما أحد وجهي الرفع: فعلى الاستئناف، لما فيه من الذم. وقد تفعل العرب ذلك في المدح والذم، فتنصب وترفع، وإن كان خبرًا عن معرفة، كما قال الشاعر:
لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معـــترك والطيبـين معاقـدالأزر
فيروى: النازلون و النازلين، وكذلك الطيبون و الطيبين ، على ما وصفت من المدح. والوجه الآخر: على نية التكرير من "أولئك "، فيكون المعنى حينئذ: أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين، أولئك صم بكم عمي فهم لا يرجعون. وأما أحد وجهي النصب: فأن يكون قطعًا مما في "مهتدين " من ذكر "أولئك"، لأن الذي فيه من ذكرهم معرفة، والصم نكرة.
والآخر: أن يكون قطعًا من "الذين "، لأن "الذين " معرفة و الصم نكرة.
وقد يجوز النصب فيه أيضاً على وجه الذم، فيكون ذلك وجهًا من النصب ثالثاً.
فأما على تأويل ما روينا عن ابن عباس من غير وجه رواية علي بن أبي طلحة عنه، فإنه لا يجوز فيه الرفع إلا من وجه واحد، وهو الاستئناف. وأما النصب فقد يجوز فيه من وجهين: أحدهما: الذم، والاخر: القطع من الهاء والميم اللتين في تركهم ، أو من ذكرهم في "لا يبصرون ".
وقد بينا القول الذي هو أولى بالصواب في تأويل ذلك. والقراءة التي هي القراءة، الرفع دون النصب، لأنه ليس لأحد خلاف رسوم مصاحف المسلمين. وإذا قرىء نصبًا كانت قراءة مخالفة رسم مصاحفهم.
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن المنافقين: أنهم باشترائهم الضلالة بالهدى لم يكونوا للهدى والحق مهتدين، بل هم صم عنهما فلا يسمعونهما، لغلبة خذلان الله عليهم، بكم عن القيل بهما فلا ينطقون بهما والبكم: الخرس، وهو جماع أبكم عمي عن أن يبصروهما فيعقلوهما، لأن الله قد طبع على قلوبهم بنفاقهم فلا يهتدون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال علماء أهل التأويل:
حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "صم بكم عمي"، عن الخير.
حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبدالله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "صم بكم عمي"، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.
حدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "بكم "، هم الخرس.
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة، قوله "صم بكم عمي": صم عن الحق فلا يسمعونه، عمي عن الحق فلا يبصرونه، بكم عن الحق فلا ينطقون به.
القول في تأويل قوله: "فهم لا يرجعون".
قال أبو جعفر: وقوله "فهم لا يرجعون"، إخبار من الله جل ثناؤه عن هؤلاء المنافقين الذين نعتهم الله باشترائهم الضلالة بالهدى، وصممهم عن سماع الخير والحق، وبكمهم عن القيل بهما، وعماهم عن إبصارهما أنهم لا يرجعون إلى الإقلاع عن ضلالتهم، ولا يتوبون إلى الإنابة من نفاقهم. فآيس المؤمنين من أن يبصر هؤلاء رشدًا، أو يقولوا حقًا، أو يسمعوا داعيًا إلى الهدى، أو أن يذكروا فيتوبوا من ضلالتهم، كما آيس من توبة قادة كفار أهل الكتاب والمشركين وأحبارهم، الذين وصفهم بأنه قد ختم على قلوبهم وعلى سمعهم وغشى على أبصارهم.
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة:"فهم لا يرجعون"، أي: لا يتوبون ولا يذكرون.
وحدثني موسى بن هرون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس وعن مرة، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "فهم لا يرجعون": فهم لا يرجعون إلى الإسلام.
وقد روي عن ابن عباس قول يخالف معناه معنى هذا الخبر، وهو ما:
حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "فهم لا يرجعون"، أي: فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خير، فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه.
وهذا تأويل ظاهر التلاوة بخلافه. وذلك أن الله جل ثناؤه أخبر عن القوم أنهم لا يرجعون عن اشترائهم الضلالة بالهدى إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحق، من غير حصر منه جل ذكره ذلك من حالهم على وقت دون وقت وحال دون حال. وهذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس، ينبىء أن ذلك من صفتهم محصور على وقت، وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين، وأن لهم السبيل إلى الرجوع عنه. وذلك من التأويل دعوى باطلة، لا دلالة عليها من ظاهر ولا من خبر تقوم بمثله الحجة فيسلم لها.
قوله تعالى : "صم بكم عمي فهم لا يرجعون" .
قوله تعالى : "صم بكم عمي" صم أي هم صم ، فهو خبر ابتداء مضمر . وفي قراءة عبد الله ابن مسعود وحفصة . صماً بكماً عمياً ، فيجوز النصب على الذم ، كما قال تعالى : "ملعونين أينما ثقفوا" ، وكما قال : "وامرأته حمالة الحطب" ، وكما قال الشاعر :
سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور
فنصب عداة الله على الذم . فالوقف على يبصرون على هذا المذهب صواب حسن . ويجوز أن ينصب صماً بـ تركهم ، كأنه قال : وتركهم صماً بكماً عمياً ، فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على يبصرون . والصمم في كلام العرب : الانسداد ، يقال : قناة صماء إذا لم تكن مجوفة . وصممت القارورة إذا سددتها . فالأصم : من انسدت خروق مسامعه . والأبكم : الذي لا ينطق ولا يفهم ، إذا فهم الأخرس . وقيل : الأخرس والأبكم واحد . ويقال : رجل وبكيم ، أي أخرس بين الخرس والبكم ، قال :
فليت لساني كان نصفين منهما بكيم ونصف عند مجرى الكواكب
والعمى : ذهاب البصر، وقد عمي فهو أعمى ، وقوم عمي ، وأعماه الله . وتعامى الرجل : أرى ذلك من نفسه . وعمي عليه الأمر إذا التبس ، ومنه قوله تعالى : "فعميت عليهم الأنباء يومئذ" . وليس الغرض مما ذكرناه نفي الإدراكات عن حواسهم جملة ، وإنما الغرض نفيها من جهة ما ، تقول : فلان أصم عن الخنا . ولقد أحسن الشاعر حيث قال :
أصم عما ساءه سميع
وقال آخر :
وعوراء الكلام صممت عنها ولو أني أشاء بها سميع
وقال الدارمي :
أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الجدر
وقال بعضهم في وصائه لرجل يكثر الدخول على الملوك :
أدخل إذا ما دخلت أعمى واخرج إذا ما خرجت أخرس
وقال قتادة : صم عن استماع الحق ، بكم عن التكلم به ، عمي عن الإبصار له . قلت وهذا المعنى هو المراد في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ولاة آخر الزمان في حديث جبريل :
" وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها" . والله أعلم .
قوله تعالى : "فهم لا يرجعون" أي الى الحق لسابق علم الله تعالى فيهم . يقال : رجع بنفسه رجوعاً ، ورجعه غيره ، وهذيل تقول : ارجعه غيره . وقوله تعالى :"يرجع بعضهم إلى بعض القول" أي يتلاومون فيما بينهم ، حسب ما بينه التنزيل في سورة سبأ .
يقال مثل ومثل ومثيل أيضاً والجمع أمثال، قال الله تعالى: "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى، بمن استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله وتأنس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره وصار في ظلام شديد لا يبصر ولا يهتدي وهو مع هذا أصم لا يسمع أبكم لا ينطق أعمى لو كان ضياء لما أبصر ، فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى واستحبابهم الغي على الرشد وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع، والله أعلم.
وقد حكى هذا الذي قلناه الرازي في تفسيره عن السدي، ثم قال والتشبيه ههنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك فوقعوا في حيرة عظيمة فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين.
وزعم ابن جرير أن المضروب لهم المثل ههنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات واحتج بقوله تعالى " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين "، والصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ثم سلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جرير هذه الاية ههنا وهي قوله تعالى "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون" فلهذا وجه هذا المثل بأنهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان أي في الدنيا ثم أعقبهم ظلمات يوم القيامة قال وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال "رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت" أي كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" وقال تعالى: "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً" وقال بعضهم تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا ناراً، وقال بعضهم المستوقد واحد لجماعة معه وقال آخرون الذي ههنا بمعنى الذين كما قال الشاعر :
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد
قلت وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى: "فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون" وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في الظلام، وقوله تعالى "ذهب الله بنورهم" أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان "وتركهم في ظلمات" وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق "لا يبصرون" لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها وهم مع ذلك "صم" لا يسمعون خيراً "بكم" لا يتكلمون بما ينفعهم "عمي" في ضلالة وعماية البصيرة كما قال تعالى: "فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور" فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة.
ذكر أقوال المفسرين من السلف بنحو ما ذكرناه
قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة في قوله تعالى "فلما أضاءت ما حوله" زعم أن ناساً دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة ثم إنهم نافقوا وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقي منه فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال والحرام والخير والشر فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر، وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الاية، قال: أما النور فهو إيمانهم الذي كانوا يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالتهم وكفرهم الذي كانوا يتكلمون به وهم قوم كانوا على هدى ثم نزع منهم فعتوا بعد ذلك. وقال مجاهد: "فلما أضاءت ما حوله" أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وقال عطاء الخراساني في قوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" قال هذا مثل المنافق يبصر أحياناً ويعرف أحياناً ثم يدركه عمى القلب. وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو قول عطاء الخراساني وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" إلى آخر الاية. قال هذه صفة المنافقين كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما أضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون، وأما قول ابن جرير فيشبه ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين أنهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سلب صاحب النار ضوءه، وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" فإنما ضوء النار ما أوقدتها ، فإذا خمدت ذهب نورها وكذلك المنافق كلما تكلم بكلمة الإخلاص بلا إله إلا الله أضاء له، فإذا شك وقع في الظلمة، وقال الضحاك: "ذهب الله بنورهم" أما نورهم فهو إيمانهم الذي تكلموا به، وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله" فهي لا إله إلا الله أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا ونكحوا النساء وحقنوا دمائهم حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون. وقال سعيد عن قتادة في هذه الاية: إن المعنى أن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فأضاءت له في الدنيا فناكح بها المسلمين وغازاهم بها ووارثهم بها وحقن بها دمه وماله فلما كان عند الموت سلبها المنافق لأنه لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله "وتركهم في ظلمات لا يبصرون" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: "وتركهم في ظلمات لا يبصرون" يقول في عذاب إذا ماتوا، وقال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: "وتركهم في ظلمات" أي يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفؤوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق، وقال السدي في تفسيره بسنده: "وتركهم في ظلمات" فكانت الظلمة نفاقهم. وقال الحسن البصري: وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فذلك حين يموت المنافق فيظلم عليه عمله عمل السوء فلا يجد له عملاً من خير عمل به يصدق به قوله لا إله إلا الله: "صم بكم عمي" قال السدي بسنده: صم بكم عمي فهم خرس عمي، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس "صم بكم عمي" يقول لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه، ولا يعقلونه وكذا قال أبو العالية وقتادة بن دعامة: "فهم لا يرجعون" قال ابن عباس: أي لا يرجعون إلى هدى، وكذا قال الربيع بن أنس: وقال السدي بسنده "صم بكم عمي فهم لا يرجعون" إلى الإسلام. وقال قتادة: فهم لا يرجعون، أي لا يتوبون ولا هم يذكرون ،
18- و"صم" وما بعده خبر مبتدأ محذوف: أي هم. وقرأ ابن مسعود صماً بكماً عمياً بالنصب على الذم، ويجوز أن ينتصب بقوله تركهم. والصمم: الانسداد، يقال قناة صماء: إذا لم تكن مجوفة، وصممت القارورة: إذا سددتها، وفلان أصم: إذا انسدت خروق مسامعه. والأبكم: الذي لا ينطلق ولا يفهم، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل: الأخرس والأبكم واحد. والعمى: ذهاب البصر. والمراد بقوله: "فهم لا يرجعون" أي إلى الحق، وجواب لما في قوله فلما أضاءت، قيل هو: "ذهب الله بنورهم" وقيل: محذوف تقديره: طفئت فبقوا حائرين. وعلى الثاني فيكون قوله: "ذهب الله بنورهم" كلاماً مستأنفاً أو بدلاً من المقدر.
ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت، فإنه يعود إلى الظلمة ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل لأن الباطل كذلك تستطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت. ومنه قولهم: للباطل صولة ثم يضمحل وقد تقرر علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأناً عظيماً في إبراز خفيات المعاني ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر من ذلك في كتابه العزيز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ومواعظه. قال ابن جرير: إن هؤلاء المضروب لهم المثل ها هنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: "ومن الناس من يقول: آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين". وقال ابن كثير: إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله تعالى: "ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون". قال ابن جرير: وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال: "رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت" أي كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: " مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا " أهـ. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه "وتركهم في ظلمات لا يبصرون" يقول: في عذاب "صم بكم عمي" فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: "مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً" قالوا: إن ناساً دخلوا في الإسلام عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فأضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى. فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر، فهم صم بكم هم الخرس، فهم لا يرجعون إلى الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "كمثل الذي استوقد ناراً" قال: ضربه الله مثلاً للمنافق، وقوله: "ذهب الله بنورهم" قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمة فهو ضلالهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرجا أيضاً عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو ما تقدم.
18. " صم " أي هم صم عن الحق لا يقبلونه وإذا لم يقبلوا فكأنهم لم يسمعوا " بكم " خرس عن الحق لا يقولونه أو أنهم لما أبطنوا خلاف ما أظهروا فكأنهم لم ينطقوا بالحق " عمي " أي لا بصائر لهم ومن لا بصيرة له كمن لا بصر له " فهم لا يرجعون " عن الضلالة إلى الحق.
18-" صم بكم عمي " لما سدوا مسامعهم عن الإصاخة إلى الحق وأبوا أن ينطقوا به ألسنتهم ويتبصروا الآيات بأبصارهم ، جعلوا كأنما أيفت مشاعرهم وانتفت قواهم كقوله :
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وكقوله :
أصم عن الشئ الذي لا أريده وأسمع خلق الله حين أريد
وإطلاقها عليهم على طريقة التمثيل ، لا الاستعارة إذ من شرطها أن يطوي ذكر المستعار له ، بحيث يمكن حمل الكلام على المستعار منه لولا القرينة كقول زهير :
لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم
ومن ثم ترى المفلقين السحرة يضربون عن توهم التشبيه صفحاً كما قال أبو تمام الطائي :
ويصعد حتى يظن الجهول بأن له حاجة في السماء
وههنا وإن طوى ذكره بحذف المبتدأ لكنه في حكم المنطوي به ، ونظيره :
أسد علي وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفير الصافر
هذا إذا جعلت للمنافقين على أن الآية فذلكة التمثيل ونتيجته ، وإن جعلته للمستوقدين ، فهي على حقيقتها . والمعنى : أنهم لما أوقدوا ناراً فذهب الله بنورهم ، وتركهم في ظلمات هائلة أدهشتهم بحيث اختلت حواسهم وانتقصت قواهم ، وثلاثتها قرئت بالنصب على الحال من المفعول تركهم . والصمم : أصله صلابة من اكتناز الأجزاء ، ومنه قيل حجر أصم وقناة صماء ، وصمام القارورة ، وسمي به فقدان حاسة السمع لأن سببه أن يكون باطن الصماخ مكتنزاً لا تجويف فيه ، فيشتمل على هواء يسمع الصوت بتموجه . والبكم الخرس . والعمى : عدم البصر عما من شأنه أن يبصر وقد يقال لعدم البصيرة .
" فهم لا يرجعون " لا يعودون إلى الهدى الذي باعوه وضيعوه : أو عن الضلالة التي اشتروها ، أو فهم متحيرون لا يدرون أيتقدمون أم يتأخرون ، وإلى حيث ابتدؤوا منه كيف يرجعون . الفاء للدلالة على أن اتصافهم بالأحكام السابقة سبب لتحيرهم واحتباسهم .
18. Deaf, dumb and blind; and they return not
18 - Deaf, dumb, and blind, They will not return (to the path).