18 - (ذلكم) الإبلاء حق (وأن الله موهن) مضعف (كيد الكافرين)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: " ذلكم "، هذا الفعل، من قتل المشركين، ورميهم حتى انهزموا، وابتلاء المؤمنين البلاء الحسن بالظفر بهم، وإمكانهم من قتلهم وأسرهم، فعلنا الذي فعلنا، " وأن الله موهن كيد الكافرين "، يقول: واعلموا أن الله مع ذلك مضعف، " كيد الكافرين "، يعني: مكرهم، حتى يذلوا وينقادوا للحق، أو يهلكوا.
وفي فتح ((أن)) من الوجوه ما في قوله: " ذلكم فذوقوه وأن للكافرين "، [الأنفال: 14]، وقد بينته هنالك.
وقد اختلفت القرأة في قرأة قوله: " موهن ".
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والبصريين: ((موهن)) بالتشديد، من: ((وهنت الشيء))، ضعفته.
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: " موهن "، من ((أوهنته، فأنا موهنه))، بمعنى: أضعفته.
قال أبو جعفر: والتشديد في ذلك أعجب إلي، لأن الله تعالى ذكره كان ينقض ما يبرمه المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، عقداً بعد عقد، وشيئاً بعد شيء. وإن كان الآخر وجهاً صحيحاً.
"ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين" قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو. وقراءة أهل الكوفة "موهن كيد الكافرين" وفي التشديد معنى المبالغة. وروي عن الحسن موهن كيد الكافرين بالإضافة والتخفيف. والمعنى: أن الله عز وجل يلقي في قلوبهم الرعب حتى يتشتتوا ويتفرق جمعهم فيضعفوا. والكيد: المكر. وقد تقدم.
يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه ولهذا قال: "فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم" أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم. أي بل هو الذي أظفركم عليهم كما قال: "ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة" الاية, وقال تعالى: "لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين" يعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس على كثرة العدد ولا بلبس اللأمة والعدد, وإنما النصر من عنده تعالى كما قال تعالى: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين". ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضاً في شأن القبضة من التراب التي حصب بها وجوه الكافرين يوم بدر حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته فرماهم بها وقال: "شاهت الوجوه" ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها ففعلوا فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله ولهذا قال تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" أي هو الذي بلغ ذلك إليهم وكبتهم بها لا أنت. قال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يعني يوم بدر فقال: "يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً" فقال له جبريل خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين, وقال السدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه يوم بدر "أعطني حصباً من الأرض" فناوله حصباً عليه تراب فرمى به في وجوه القوم فلم يبق مشرك إلا دخل عينيه من ذلك التراب شيء, ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم, وأنزل الله " فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " وقال أبو معشر المدني عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه" فدخلت في أعينهم كلهم وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" قال هذا يوم بدر أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات فرمى بحصاة ميمنة القوم, وحصاة في ميسرة القوم وحصاة بين أظهرهم وقال "شاهت الوجوه" فانهزموا, وقد روي في هذه القصة عن عروة عن مجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنه أنزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضاً, وقال أبو جعفر بن جرير: حدثنا أحمد بن منصور حدثنا يعقوب بن محمد حدثنا عبد العزيز بن عمران حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة عن يزيد بن عبد الله عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا, غريب من هذا الوجه, وههنا قولان آخران غريبان جداً (أحدهما) قال ابن جرير حدثني محمد بن عوف الطائي حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان بن عمرو حدثنا عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر دعا بقوس فأتى بقوس طويلة وقال "جيئوني بقوس غيرها" فجاءوه بقوس كبداء فرمى النبي صلى الله عليه وسلم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق وهو في فراشه فأنزل الله عز وجل "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" وهذا غريب وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ولعله اشتبه عليه أو أنه أراد أن الاية تعم هذا كله وإلا فسياق الاية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم والله أعلم (والثاني) روى ابن جرير أيضاً والحاكم في مستدركه بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا: أنزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أبي بن خلف بالحربة وهو في لأمته فخدشه في ترقوته فجعل يتدأدأ عن فرسه مراراً حتى كانت وفاته بعد أيام قاسى فيها العذاب الأليم موصولاً بعذاب البرزخ المتصل بعذاب الاخرة, وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضاً جداً ولعلهما أرادا أن الاية تتناوله بعمومها لا أنها نزلت فيه خاصة كما تقدم والله أعلم. وقال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير في قوله "وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً" أي ليعرف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته وهكذا فسره ابن جرير أيضاً, وفي الحديث "وكل بلاء حسن أبلانا" وقوله "إن الله سميع عليم" أي سميع الدعاء عليم بمن يستحق النصر والغلب, وقوله "ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين" هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر أنه أعلمهم تعالى بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل مصغر أمرهم وأنهم وكل ما لهم في تبار ودمار, ولله الحمد والمنة.
والإشارة بقوله ذلكم إلى البلاء الحسن، وهو في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي الغرض 18- "ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين" أي إن الغرض منه سبحانه بما وقع مما حكته الآيات السابقة إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين، وقيل المشار إليه القتل والرمي. وقد قرئ بتشديد الهاء وتخفيفها مع التنوين. وقرأ الحسن بتخفيف الهاء مع الإضافة. والكيد: المكر، وقد تقدم بيانه.
وقد أخرج البخاري في تاريخه والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن نافع أنه سأل ابن عمر قال: إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ولا ندري من الفئة أمامنا أو عسكرنا؟ فقال لي: الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن الله يقول: "إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار" قال: إنما نزلت هذه الآية في أهل بدر لا قبلها ولا بعدها. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس في ناسخه وأبو الشيخ والحاكم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري في قوله: "ومن يولهم يومئذ دبره" الآية قال: إنها كانت لأهل بدر خاصة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال: لا تغرنكم هذه الآية فإنما كانت يوم بدر وأنا فئة لكل مسلم. وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: نزلت في أهل بدر خاصة ما كان لهم أن ينهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتركوه. وقد روى اختصاص هذه الآية بأهل بدر عن جماعة من التابعين ومن بعدهم وقد قدمنا الإشارة إلى ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: "إلا متحرفاً لقتال" يعني مستطرداً يريد الكرة على المشركين "أو متحيزاً إلى فئة" يعني أو ينحاز إلى أصحابه من غير هزيمة "فقد باء بغضب من الله" يقول: استوجبوا سخطاً من الله "ومأواه جهنم وبئس المصير" فهذا يوم بدر خاصة كان شديداً على المسلمين يومئذ ليقطع دابر الكافرين وهو أول قتال قاتل المشركين من أهل مكة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك قال: المتحرف المتقدم من أصحابه أن يرى عورة من العدو فيصيبها. والمتحيز: الفار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك من فر اليوم إلى أميره وأصحابه. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن عطاء بن أبي رباح في قوله: "ومن يولهم يومئذ دبره" قال: هذه الآية منسوخة بالآية التي في الأنفال "الآن خفف الله عنكم" الآية. وأخرج سعيد بن منصور وابن سعد وابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبخاري في الأدب المفرد واللفظ له، وأبو داود والترمذي وحسنه، وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال:" كنا في غزاة فحاص الناس حيصة، قلنا: كيف نلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب فأتينا رسول الله قبل صلاة الفجر، فخرج فقال:من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون، فقال: لا، بل أنتم العكارون، فقبلنا يده فقال: أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين، ثم قرأ: "إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة"". وقد روي في تحريم الفرار من الزحف، وأنه من الكبائر أحاديث، وورد عن جماعة من الصحابة أنه من الكبائر كما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "فلم تقتلوهم" قال لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال: هذا قتلت وهذا قتلت "وما رميت إذ رميت" قال لمحمد صلى الله عليه وسلم حين حصب الكفار. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة في قوله: "وما رميت إذ رميت" قال: رماهم يوم بدر بالحصباء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن حكيم بن حزام قال:" لما كان يوم بدر سمعنا صوتاً من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصباء وقال:شاهت الوجوه فانهزمنا، فذلك قوله تعالى:
"وما رميت إذ رميت" الآية". وأخرج أبو الشيخ وابن مردويه عن جابر قال: سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست، فلما اصطف الناس أخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن في وجوه المشركين فانهزموا، فذلك قوله: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه "عن ابن عباس في قوله: "وما رميت إذ رميت" قال: قال رسول الله لعلي:ناولي قبضة من حصباء، فناوله فرمى بها في وجوه القوم فما بقي أحد من القوم إلا امتلأت عيناه عن الحصباء فنزلت هذه الآية: "وما رميت إذ رميت"". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال:" لما كان يوم أحد أخذ أبي بن خلف يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترض رجال من المسلمين لأبي بن خلف ليقتلوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:استأخروا، فاستأخروا فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربته في يده فرمى بها أبي بن خلف وكسر ضلعاً من أضلاعه، فرجع أبي بن خلف إلى أصحابه ثقيلاً، فاحتملوه حين ولوا قافلين فطفقوا يقولون لا بأس، فقال أبي حين قالوا له ذلك: والله لو كانت بالناس لقتلتهم، ألم يقل إني أقتلك إن شاء الله، فانطلق به أصحابه ينعشونه حتى مات ببعض الطريق فدفنوه". قال ابن المسيب: وفي ذلك أنزل الله "وما رميت إذ رميت". وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب والزهري نحوه، وإسناده صحيح إليهما، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك. قال ابن كثير: وهذا القول عن هذين الإمامين غريب جداً، ولعلهما أرادا أن الآية تتناولهما بعمومهما، وهكذا قال فيما قاله عبد الرحمن بن جبير كما سيأتي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق دعا بقوس فرمى بها الحصن، فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه، فأنزل الله: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". وأخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير في قوله: "ولكن الله رمى" أي لم يكن ذلك برميتك لولا الذي جعل الله من نصرك وما ألقى في صدور عدوك حتى هزمهم "وليبلي المؤمنين منه بلاء حسناً" أي ليعرف المؤمنين من نعمته عليهم في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم ليعرفوا بذلك حقه ويشكروا بذلك نعمته.
18 - "ذلكم " الذي ذكرت من القتل والرمي والبلاء الحسن ، " وأن الله " ، قيل : فيه إضمار ، أي : { واعلموا } أن الله " موهن "، مضعف ، " كيد الكافرين " . قرأ ابن كثير و نافع وأهل البصرة : ( موهن ) بالتشديد والتنوين ، ( كيد ) نصب ، وقرأ الآخرون ( موهن ) بالتخفيف والتنوين إلا حفصاً ، فإنه يضيفه فلا ينون ويخفض ( كيد ) .
18. " ذلكم " إشارة إلى البلاء الحسن ، أو القتل أو الرمي ،ومحله الرفع أي المقصود أو الأمر ذلكم وقوله : " وأن الله موهن كيد الكافرين " معطوف عليه أي المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو " موهن " بالتشديد ، وحفص " موهن كيد " بالإضافة والتخفيف .
18. That (is the case); and (know) that Allah (it is) who maketh weak the plan of disbelievers.
18 - That, and also because God is he who makes feeble the plans and stratagems of the unbelievers.