ويقال لهم إذا ألقوا فيها: (ذلك) العذاب (بما قدمت أيديكم) عبر بها عن الإنسان لأن أكثر الأفعال تزاول بها (وأن الله ليس بظلام) أي بذي ظلم (للعبيد) فيعذبهم بغير ذنب
وأما قوله : "ذلك بما قدمت أيديكم"، أي : قولنا لهم يوم القيامة، "ذوقوا عذاب الحريق"، بما أسلفت أيديكم واكتسبتها أيام حياتكم في الدنيا، وبأن الله عدل لا يجور فيعاقب عبداً له بغير استحقاق منه العقوبة، ولكنه يجازي كل نفس بما كسبت ، ويوفي كل عامل جزاء ما عمل ، فجازى الذين قال لهم [ذلك] يوم القيامة- من اليهود الذين وصف صفتهم ، فأخبر عنهم أنهم قالوا: "إن الله فقير ونحن أغنياء"، وقتلوا الأنبياء بغير حق - بما جازاهم به من عذاب الحريق ، بما اكتسبوا من الآثام ، واجترحوا من السيئات ، وكذبوا على الله بعد الإعذار إليهم بالإنذار. فلم يكن تعالى ذكره بما عاقبهم به من إذاقتهم عذاب الحريق ظالماً، ولا واضعاً عقوبته في غير أهلها. وكذلك هو جل ثناؤه ، غير ظلام أحداً من خلقه ، ولكنه العادل بينهم ، والمتفضل على جميعهم بما أحب من فواضله ونعمه.
قوله تعالى : " ذلك بما قدمت أيديكم " أي ذلك العذاب بما سلف من الذنوب ، وخص الأيدي بالذكر ليدل على تولي الفعل ومباشرته إذ قد يضاف الفعل إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به ، كقوله : " يذبح أبناءهم " [ القصص : 4 ] ، وأصل ( أيديكم ) أيديكم فحذفت الضمة لثقلها ، والله أعلم .
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : لما نزل قوله تعالى: "من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة" قالت اليهود: يا محمد, افتقر ربك فسأل عباده القرض ؟ فأنزل الله "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء" الاية, رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم . وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أنه حدثه عن ابن عباس رضي الله عنه, قال: دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بيت المدراس فوجد من يهود أناساً كثيراً قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص, وكان من علمائهم وأحبارهم, ومعه حبر يقال له أشيع, فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم, فو الله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله قد جاءكم بالحق من عنده, تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل. فقال فنحاص: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر, وإنه إلينا لفقير, ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا, وإنا عنه لأغنياء, ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم, ينهاكم عن الربا ويعطينا, ولو كان غنياً ما أعطانا الربا, فغضب أبو بكر رضي الله عنه فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً, وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله, فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال: يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : "ما حملك على ما صنعت ؟ فقال: يا رسول الله, إن عدو الله قد قال قولاً عظيماً, زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء, فلما قال ذلك, غضبت لله مما قال, فضربت وجهه, فجحد فنحاص ذلك, وقال: ما قلت ذلك, فأنزل الله فيما قال فنحاص رداً عليه وتصديقاً لأبي بكر "لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء" الاية " , رواه ابن أبي حاتم . وقوله "سنكتب ما قالوا" تهديد ووعيد, ولهذا قرنه تعالى بقوله: "وقتلهم الأنبياء بغير حق" أي هذا قولهم في الله وهذه معاملتهم لرسل الله وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء, ولهذا قال تعالى: "ونقول ذوقوا عذاب الحريق * ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد" أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً وتصغيراً, وقوله تعالى: " الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار " يقول تعالى تكذيياً أيضاً لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم, أن لا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته, فتقبلت منه, أن تنزل نار من السماء تأكلها, قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. قال الله عز وجل: "قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات" أي بالحجج والبراهين, "وبالذي قلتم" أي وبنار تأكل القرابين المتقبلة, "فلم قتلتموهم" أي فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم "إن كنتم صادقين" أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل. ثم قال تعالى مسلياً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات والزبر والكتاب المنير " أي لا يوهنك تكذيب هؤلاء لك, فلك أسوة بمن قبلك من الرسل الذين كذبوا مع ما جاءوا به من البينات وهي الحجج والبراهين القاطعة, "والزبر" وهي الكتب المتلقاة من السماء كالصحف المنزلة على المرسلين, "والكتاب المنير" أي البين الواضح الجلي.
والإشارة بقوله 182- "ذلك" إلى العذاب المذكور قبله، وأشار إلى القريب بالصيغة التي يشار بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلة في الفظاعة وذكر الأيدي لكونها المباشرة لغالب المعاصي. وقوله "وأن الله ليس بظلام للعبيد" معطوف على "ما قدمت أيديكم" ووجه أنه سبحانه عذبهم بما أصابوا من الذنب وجازاهم على فعلهم فلم يكن ذلك ظلماً، أو بمعنى: أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وليس بظالم لمن عذبه بذنبه وقيل: إن وجهه أن نفي الظلم مستلزم للعدل المقتضي لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء، ورد بأن ترك التعذيب مع وجود سببه، ليس بظلم عقلاً ولا شرعاً، وقيل: إن جملة قوله "وأن الله ليس بظلام للعبيد" في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف: أي والأمر أن الله ليس بظلام للعبيد، والتعبير بذلك عن نفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم عند أهل السنة فضلاً عن كونه ظلماً بالغاً لبيان تنزهه عن ذلك، ونفي ظلام المشعر بالكثرة يفيد ثبوت أصل الظلم. وأجيب عن ذلك بأن الذي توعد بأن يفعله بهم لو كان ظلماً لكان عظيماً فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتاً.
182-"ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد"، فيعذب بغير ذنب.
182" ذلك " إشارة إلى العذاب. " بما قدمت أيديكم " من قتل الأنبياء وقولهم هذا وسائر معاصيهم. عبر بالأيدي عن الأنفس لأن أكثر أعمالها بهن. " وأن الله ليس بظلام للعبيد " عطف على ما قدمت وسببيته للعذاب من حيث إن نفي اظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء.
182. This is on account of that which your own hands have sent before (you to the judgment). Allah is no oppressor of (His) bondmen.
182 - This is because of the (unrighteous deeds) which your hands sent on before ye: for God never harms those who serve him.