(أحل لكم ليلة الصيام الرفث) بمعنى الإفضاء (إلى نسائكم) بالجماع ، نزل نسخا لما كان في صدر الإسلام على تحريمه وتحريم الأكل والشرب بعد العشاء (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) كناية عن تعانقهما أو احتياج كل منهما إلى صاحبه (علم الله أنكم كنتم تختانون) تخونون (أنفسكم) بالجماع ليلة الصيام ، وقع ذلك لعمر وغيره واعتذروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم (فتاب عليكم) قبل توبتكم (وعفا عنكم فالآن) إذ أحل لكم (باشروهن) جامعوهن. (وابتغوا) اطلبوا (ما كتب الله لكم) أي أباحه من الجماع أو قدَّره من الولد (وكلوا واشربوا) الليل كله (حتى يتبين) يظهر (لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) أي الصادق بيان للخيط الأبيض وبيان الأسود محذوف أي من الليل شبه ما يبدو من البياض وما يمتد معه من الغبش بخيطين أبيض وأسود في الامتداد (ثم أتموا الصيام) من الفجر (إلى الليل) أي إلى دخوله بغروب الشمس (ولا تباشروهن) أي نساءكم (وأنتم عاكفون) مقيمون بنية الاعتكاف (في المساجد) متعلق بعاكفون ، نهي لمن كان يخرج وهو معتكف فيجامع امرأته ويعود (تلك) الأحكام المذكورة (حدود الله) حدها لعباده ليقفوا عندها (فلا تقربوها) أبلغ من لا تعتدوها المعبر به في آية أخرى (كذلك) كما بين لكم ما ذكر (يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون) محارمه
قوله تعالى أحل لكم ليلة الصيام الآية روى أحمد وأبو داود والحاكم من طريق عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل قال كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا ثم ان رجلا من الأنصار يقال له قيس بن صرمة صلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح فأصبح مجهودا وكان عمر قد أصاب من النساء بعدما نام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فأنزل الله أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم إلى قوله ثم أتموا الصيام إلى الليل هذا الحديث مشهور عن ابن ابي ليلى لكنه لم يسمع من معاذ وله شواهد فأخرج البخاري عن البراء قال كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما فلما حضر الإفطار أتى إمرأته فقال هل عندك طعام فقالت لا ولكني أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عينه وجاءته إمرأته فلما رأته قالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ففرحوا بها فرحا شديدا ونزلت وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الأسود من الفجر
وأخرج البخاري عن البراء قال لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله فكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم الآية
وأخرج أحمد وابن جرير ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه قال كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد فرجع عمر من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده فأراد امرأته فقالت إني قد نمت قال ما نمت ووقع عليها وصنع كعب مثل ذلك فغدا عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية
قوله تعالى من الفجر روى البخاري عن سهل بن سعيد قال أنزلت كلوا واشربوا حتى يتبين لكنم الخيط الأبيض من الخيط الأسود ولم ينزل من الفجر فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الاسود فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعد من الفجر فعلموا إنما يعني الليل والنهار
قوله تعالى ولا تباشروهن الآية أخرج ابن جرير عن قتادة قال كان الرجل اذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء فنزلت ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "أحل لكم"، أطلق لكم وأبيح. ويعني بقوله: "ليلة الصيام"، في ليلة الصيام.فأما "الرفث" فإنه كناية عن الجماع في هذا الموضع، يقال: هو الرفث والرفوث .وقد روي أنها في قراءة عبد الله: أحل لكم ليلة الصيام الرفوث إلى نسائكم .وبمثل الذي قلنا في تأويل "الرفث" قال أهل التأويل.ذكر من قال ذلك:حدثني محمدبن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان، عن عاصم، عن بكربن عبد الله المزني، عن ابن عباس قال: الرفث، الجماع، ولكن الله كريم، يكني. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس مثله.حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه،عن ابن عباس قال: الرفث، النكاح. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال:الرفث، غشيان النساء.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، قال: الجماع.حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: الرفث هو النكاح.حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الكبير البصري قال، حدثنا الضحاك بن عثمان قال، سألت سالم بن عبد الله عن قوله: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، قال: هو الجماع.حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، يقول: الجماع.والرفث في غير هذا الموضع، الإفحاش في المنطق، كما قال العجاج:
عن اللغا ورفث التكلم
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: نساؤكم لباس لكم وأنتم لباس لهن.فإن قال قائل: وكيف يكون نساؤنا لباسا لنا، ونحن لهن لباسا، و اللباس إنما هو ما لبس؟.قيل: لذلك وجهان من المعاني:أحدهما: أن يكون كل واحد منهما جعل لصاحبه لباسا، لتجردهما عند النوم، واجتماعهما في ثوب واحد، وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه، بمنزلة ما يلبسه على جسده من ثيابه، فقيل لكل واحد منهما: هو لباس لصاحبه، كما قال نابغة بني جعدة:
إذا ما الضجيع ثنى عطفها، تداعت، فكانت عليه لباسا
ويروى: تثنت ، فكنى عن اجتماعهما متجردين في فراش واحدبـ اللباس ، كما يكنى بـ الثياب عن جسد الإنسان، كما قالت ليلى، وهي تصف إبلا ركبها قوم:
رموها بأثواب خفاف، فلا ترى لها شبها إلا النعام المنفرا
يعني: رموها بأنفسهم فركبوها، وكما قال الهذلي:
تبرأ من دم القتيل ووتره وقد علقت دم القتيل إزارها
يعني: ب إزارها، نفسها. وبذلك كان الربيع يقول.
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر،عن الربيع: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن"، يقول: هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن.والوجه الآخر: أن يكون جعل كل واحد منهما لصاحبه لباسا، لأنه سكن له، كما قال جل ثناؤه:"جعل لكم الليل لباسا" [الفرقان: 47]، يعني بذلك سكنا تسكنون فيه. وكذلك زوجة الرجل سكنه يسكن إليها، كما قال تعالى ذكره: "وجعل منها زوجها ليسكن إليها" [الأعراف: 189]، فيكون كل واحد منهما لباسا لصاحبه، بمعنى سكونه إليه. وبذلك كان مجاهد وغيره يقولون في ذلك.وقد يقال لما ستر الشيء وواراه عن أبصار الناظرين إليه: هو لباسه، وغشاؤه ، فجائز أن يكون قيل: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن"، بمعنى: أن كل واحد منكم ستر لصاحبه- فيما يكون بينكم من الجماع- عن أبصار سائر الناس.وكان مجاهد وغيره يقولون في ذلك بما:حدثنا به المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن"، يقول: سكن لهن.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن"، قال قتادة: هن سكن لكم، وأنتم سكن لهن.حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"هن لباس لكم"، يقول: سكن لكم، "وأنتم لباس لهن"، يقول: سكن لهن. حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال عبد الرحمن بن زيد في قوله: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن"، قال: المواقعة.حدثني أحمد بن إسحق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال حدثنا إبراهيم، عن يزيد، عن عمروبن دينار، عن ابن عباس قوله: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن"، قال: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن.قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذه الخيانة التي كان القوم يختانونها أنفسهم، التي تاب الله منهاعليهم فعفا عنهم؟قيل: كانت خيانتهم أنفسهم التي ذكرها الله في شيئين، أحدهما: جماع النساء، والآخر: المطعم والمشرب في الوقت الذي كان حراما ذلك عليهم، كما:حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمروبن مرة قال، حدثنا ابن أبي ليلى: أن الرجل كان إذا أفطر فنام لم يأتها، وإذا نام لم يطعم، حتى جاء عمربن الخطاب يريد امرأته، فقالت امرأته: قد كنت نمت! فظن أنها تعتل فوقع بها. قال: وجاء رجل من الأنصار فأراد أن يطعم، فقالوا: نسخن لك شيئا؟ 0000. (1) قال: ثم أنزلت هذه الآية: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" الاية.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، فلما دخل رمضان كانوا يصومون، فإذا لم يأكل الرجل عند فطره حتى ينام، لم يأكل إلى مثلها، وإن نام أو نامت امرأته لم يكن له أن يأتيها إلى مثلها. فجاء شيخ من الأنصار يقال له صرمة بن مالك، فقال لأهله: أطعموني. فقالت: حتى أجعل لك شيئا سخنا! قال: فغلبته عينه فنام. ثم جاء عمر فقالت له امرأته: إني قد نمت! فلم يعذرها، وظن أنها تعتل، فواقعها. فبات هذا وهذا يتقلبان ليلتهما ظهرا وبطنا، فأنزل الله في ذلك: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، وقال: "فالآن باشروهن" ، فعفا الله عن ذلك، وكانت سنة. حدثنا أبو كريب قال حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبدالله بن عتبة،عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا تركوا الطعام والشراب وإتيان النساء. فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صرمة يعمل في أرض له، قال: فلما كان عند فطره نام، فأصبح صائما قد جهد. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما لي أرى بك جهدا! فأخبره بما كان من أمره. واختان رجل نفسه في شأن النساء، فأنزل الله: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، إلى آخر الآية.حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحق، عن البراء- نحو حديث ابن أبي ليلى الذي حدث به عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى- قال: كانوا إذا صاموا ونام أحدهم، لم يأكل شيئا حتى يكون من الغد. فجاء رجل من الأنصار وقد عمل في أرض له وقد أعيا وكل، فغلبته عينه فنام، وأصبح من الغد مجهودا، فنزلت هذه الآية: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". حدثني المثنى قال، حدثنا عبدالله بن رجاء البصري قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحق، عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر، لم يأكل إلى مثلها، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، وكاد توجه ذلك اليوم فعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندكم طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته قالت: قد نمت! فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت فيه هذه الاية: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" إلى "من الخيط الأسود" ففرحوا بها فرحا شديدا. حدثني المثنى قال حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، وذلك أن المسلمين كانوا في شهررمضان إذا صلوا العشاء خرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن" يعني: انكحوهن، "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة قال، حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة: أنه سمع عبدالله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام، حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد. فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي عرو ذات ليلة وقد سمر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها فقالت: إني فد نمت! فقال: ما نمت! ثم وقع بها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك، فغدا عمربن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى ذكره: "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن" الاية.حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا ثابت: أن عمر بن الخطاب واقع أهله ليلة في رمضان، فاشتد ذلك عليه، فأنزل الله: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ".حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" إلى "وعفا عنكم". كان الناس أول ما أسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه، حتى إذا أمسى طعم من الطعام فيما بينه وبين العتمة، حتى إذا صليت حرم عليهم الطعام حتى يمسى من الليلة القابلة. وإن عمربن الخطاب بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله لبعض حاجته، فلما اغتسل أخذ يبكي وبلوم نفسه كأشد ما رأيت من الملامة، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، فإنها زينت لي فواقعت أهلي! هل تجد لي من رخصة يا رسول الله؟ قال: لم تكن حقيقا بذلك يا عمر! فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القران، وأمر الله رسوله أن يضعها في المئة الوسطى من سورة البقرة فقال: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" إلى " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم "، يعني بذلك: الذي فعل عمر بن الخطاب فأنزك الله عفوه. فقال: "فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن" إلى "من الخيط الأسود"، فأحل لهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتبين لهم الصبح.حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبوعاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم". قال: كان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصيام بالنهار، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء، فإذا رقد حرم ذلك كله عليه إلى مثلها من القابلة. وكان منهم رجال يختانون أنفسهم في ذلك، فعفا الله عنهم، وأحل أذلك، لهم بعد الرقاد وقبله في الليل كله. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الصائم في رمضان، فإذا أمسى- ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، وزاد فيه: وكان منهم رجال يختانون أنفسهم، وكان عمر بن الخطاب ممن اختان نفسه، فعفا الله عنهم، وأحل ذلك لهم بعد الرقاد وقبله وفي الليل كله.حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني إسمعيل بن شروس، عن عكرمة مولى ابن عباس؟ أن رجلا- قد سماه فنسيته- من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، جاء ليلة وهو صائم، فقالت له امرأته: لا تنم حتى نصنع لك طعاما! فنام، فجاءت فقالت: نمت والله! فقال: لا والله! قالت: بلى والله! فلم يأكل تلك الليلة، وأصبح صائما فغشي عليه، فأنزلت الرخصة فيه.حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم". وكان بدء الصيام أمروا بثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين غدوة وركعتين عشية، فأحل الله لهم في صيامهم- في ثلاثة أيام، وفي أول ما افترض عليهم في رمضان- إذا أفطروا، وكان الطعام والشراب وغشيان النساء لهم حلالا ما لم يرقدوا، فإذا رقدوا حرم عليهم ذلك إلى مثلها من القابلة. وكانت خيانة القوم أنهم كانوا يصيبون أو ينالون من الطعام والشراب وغشيان النساء بعد الرقاد، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم. ثم أحل الله لهم بعد ذلك الطعام والشراب وغشيان النساء إلى طلوع الفجر.
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، قال: كان الناس قبل هذه الاية إذا رقد أحدهم من الليل رقدة، لم يحل له طعام ولا شراب ولا أن يأتي امرأته إلى الليلة المقبلة، فوقع بذلك بعض المسلمين، فمنهم من أكل بعد هجعته أو شرب، ومنهم من وقع على امرأته، فرخص الله ذلك لهم.حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:كتب على النصارى رمضان، وكتب عليهم أن لايأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساء شهر رمضان. فكتب على المؤمنين كما كتب عليهم. فلم يزل المسلمون على ذلك يصنعون كما تصنع النصارى، حتى أقبل رجل من الأنصار يقال له أبو قيس بن صرمة، وكان يعمل في حيطان المدينة بالأجر، فأتى أهله بتمر فقال لامرأته: استبدلي بهذا التمر طحينا فاجعليه سخينة، لعلي أن آكله، فإن التمر قد أحرق جوفي! فانطلقت فاستبدلت له، ثم صنعت فأبطأت عليه، فنام، فأيقظته، فكره أن يعصي الله ورسوله، وأبى أن يأكل وأصبح صائما. فراه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشي. فقال: مالك يا أبا قيس! أمسيت طليحا (1)؟ فقص عليه القصة.
وكان عمربن الخطاب وقع على جارية له- في ناس من المؤمنين لم يملكوا أنفسهم- فلما سمع عمر كلام أبي قيس، رهب أن ينزل في أبي قيس شيء، فتذكر هو، فقام فاعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إني أعوذ بالله، إني وقعت على جاريتي ولم أملك نفسي البارحة! فلما تكلم عمر، تكلم أولئك الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت جديرا بذلك يا ابن الخطاب! فنسخ ذلك عنهم، فقال: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم"- يقول: إنكم تقعون عليهن خيانة- "فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم"- يقول: جامعوهن، ورجع إلى أبي قيس فقال-: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء." أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" قال: كانوا في رمضان لا يمسون النساء؟ ولا يطعمون ولا يشربون بعد أن يناموا حتى الليل من القابلة، فإن مسوهن قبل أن يناموا لم يروا بذلك بأسا. فأصاب رجل من الأنصار امرأته بعد أن نام، فقال: قد اختنت نفسي! فنزل القرآن، فأحل لهم النساء والطعام والشراب حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. قال: وقال مجاهد: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصائم منهم في رمضان، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء، فإذا رقد حرم ذلك عليه كله حتى كمثلها من القابلة. وكان منهم رجال يختانون أنفسهم في ذلك، فعفا عنهم وأحل لهم بعد الرقاد وقبله في الليل فقال: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" الآية.حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة أنه
قال في هذه الآية: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" مثل قول مجاهد، وزاد فيه: أن عمر بن الخطاب قال لامرأته: لا ترقدي حتى أرجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرقدت قبل أن يرجع، فقال لها: ما أنت براقدة! ثم أصابها، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية. قال عكرمة: نزلت: "وكلوا واشربوا" الاية في أبي قيس بن صرمة، من بني الخزرج، أكل بعد الرقاد.حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا محمد بن إسحق، عن محمد بن يحيى بن حبان، أن صرمة بن أنس أتى أهله ذات ليلة وهو شيخ كبير، وهو صائم فلم يهيئوا له طعاما، فوضع رأسه فأغفى، وجاءته امرأته بطعامه فقالت له: كل. فقال: إني قد نمت! قالت: إنك لم تنم! فأصبح جائعا مجهودا، فأنزل الله: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". فأما المباشرة في كلام العرب، فإنه ملاقاة بشرة ببشرة وبشرة الرجل جلدته الظاهرة.وإنما كنى الله بقوله: "فالآن باشروهن" عن الجماع. يقول: فالآن إذ أحللت لكم الرفث إلى نسائكم، فجامعوهن في ليالي شهر رمضان حتى يطلع الفجر، وهو تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسو من الفجر.وبالذي قلنا في المباشرة قال جماعة من أهل التأويل.ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان- وحدثنا عبد الحميد بن سنان قال، حدثنا إسحق، عن سفيان- وحدثني محمد بن عبدالله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر بن عبدالله المزني، عن ابن عباس قال: المباشرة الجماع، ولكن الله كريم، يكني.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكربن عبدالله المزني، عن ابن عباس نحوه.حدثني المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: "فالآن باشروهن"، انكحوهن.حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: المباشرة النكاح.حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء،
قوله: "فالآن باشروهن"، قال: الجماع. وكل شيء في القرآن من ذكر المباشرة فهو الجماع نفسه. وقالها عبدالله بن كثير مثل قول عطاء: في الطعام والشراب والنساء.حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا شعبة- وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة- عن أبي بشر، عن سعيدبن جبير، عن ابن عباس قال:المباشرة الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء.حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال أبو بشر، أخبرنا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فالآن باشروهن"، يقول: جامعوهن.حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: المباشرة الجماع.حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء مثله. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الأوزاعي قال، حدثني عبدة بن أبي لبابة قال: سمعت مجاهدا يقول: المباشرة، في كتاب الله، الجماع. حدثنا ابن البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، قال الأوزاعي: حدثنا من سمع مجاهدا يقول: المباشرة، في كتاب الله، الجماع.واختلفوا في تأويل قوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم". فقال بعضهم: الولد.ذكر من قال ذلك:حدثني عبدة بن عبدالله الصفار البصري قال، حدثنا إسماعيل بن زياد الكاتب، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد: "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد.حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا سهل بن يوسف وأبو داود، عن شعبة قال: سمعت الحكم: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، قال: الولد.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبيد الله، عن عكرمة قوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، قال: الولد. حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل، حدثنا أبو مودود بحربن موسى قال: سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في هذه الآية: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، قال: الولد. حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، فهو الولد. حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه،عن ابن عباس: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، يعني: الولد.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، قال: الولد، فإن لم تلد هذه فهذه.حدثني المثنى قال، حدثنا أبوحذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عمن سمع الحسن في قوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، قال: هو الولد. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، قال: ما كتب لكم من الولد.حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، قال: الجماع.حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سلمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم، قوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، قال: الولد.وقال بعضهم معنى ذلك: ليلة القدر. ذكر من قال ذلك:حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن عمروبن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، قال: ليلة القدر. قال أبو هشام هكذا قرأها معاذ.حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال، حدثنا عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء، عن ابن عباس في قوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، قال: ليلة القدر.وقال آخرون: بل معناه: ما أحله الله لكم، ورخصه لكم. ذكر من قال ذلك:حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، يقول: ما أحله الله لكم.حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة في ذلك: ابتغوا الرخصة التي كتبت لكم.وقرأ ذلك بعضهم: واتبعوا ما كتب الله لكم ذكر من قال ذلك:
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمروبن دينار، عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لابن عباس: كيف تقرأ هذه الاية. "وابتغوا" أو اتبعوا؟ قال: أيتهما شئت! قال!: عليك بالقراءة الأولى.قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره قال: "وابتغوا"- بمعنى: اطلبوا- "ما كتب الله لكم"- يعني: الذي قضى الله تعالى لكم.وإنما يريد الله تعالى ذكره: اطلبوا الذي كتبت لكم في اللوح المحفوظ أنه يباح فيطلق لكم. وطلب الولد إن طلبه الرجل بجماعه المرأة، مما كتب الله له في اللوح المحفوظ. وكذلك إن طلب ليلة القدر، فهو مما كتب الله له. وكذلك إن طلب ما أحل الله وأباحه، فهو مما كتبه له في اللوح المحفوظ. وقد يدخل في قوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم" جميع معاني الخير المطلوبة، غير أن أشبه المعاني بظاهر الاية قول من قال: معناه وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد، لأنه عقيب قوله: "فالآن باشروهن"، بمعنى جامعوهن، فلأن يكون قوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم"، بمعنى: وابتغوا ما كتب الله في مباشرتكم إياهن من الولد والنسل، أشبه بالآية من غيره من التأويلات التي ليس على صحتها دلالة من ظاهر التنزيل، ولا خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".فقال بعضهم: يعني بقوله: "الخيط الأبيض"، ضوء النهار، وبقوله: "الخيط الأسود"، سواد الليل.فتأويله على قول قائلي هذه المقالة: وكلوا بالليل في شهر صومكم واشربوا وباشروا نساءكم مبتغين ما كتب الله لكم من الولد، من أول الليل، إلى أن يقع لكم ضوء النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده.ذكر من قال ذلك: حدثني الحسن بن عرفة قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا أشعث، عن الحسن في قوله الله تعالى ذكره: "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، قال: الليل من النهار. حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، قال: حتى يتبين لكم النهار من الليل، "ثم أتموا الصيام إلى الليل".حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل "، فهما علمان وحدان بينان، فلا يمنعكم أذان مؤذن مراء أو قليل العقل من سحوركم، فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل. وقد يرى بياض ما على السحر يقال له: الصبح الكاذب كانت تسميه العرب، فلا يمنعكم ذلك من سحوركم، فإن الصبح لا خفاء به: طريقة معترضة في الأفق. وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح، فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، يعنى الليل من النهار، فأحل لكم المجامعة والأكل والشرب حتى يتبين لكم الصبح، فإذا تبين الصبح حرم عليهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتموا الصيام إلى الليل. فأمر بصوم النهار إلى الليل، وأمر بالإفطار بالليل. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، وقيل له: أرأيت قول الله تعالى: "الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"؟ قال:- إنك لعريض القفا، قال: هذا ذهاب الليل ومجيء النهار،قيل له: الشعبي عن عدي بن حاتم؟ قال: نعم، حدثنا حصين. وعلة من قال هذه المقالة، وتأول الآية هذا التأويل، ما:حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن غياث، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله، قول الله: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"؟ قال: هو بياض النهار وسواد الليل.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن نمير وعبد الرحيم بن سليمان، عن مجالد بن سعيد، عن عامر، عن عدي بن حاتم قال:" أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمني الإسلام، ونعت لي الصلوات كيف أصلي كل صلاة لوقتها، ثم قال: إذا جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتم الصيام إلى الليل. ولم أدر ما هو، ففتلت خيطين من أبيض وأسود، فنظرت فيهما عند الفجر، فرأيتهما سواء. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، كل شيء أوصيتني قد حفظت، غير "الخيط الأبيض من الخيط الأسود"! قال: وما منعك يا ابن حاتم؟ وتبسم كأنه قد علم ما فعلت. قلت: فتلت خيطين من أبيض وأسود، فنظرت فيهما من الليل فوجدتهما سواء! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رؤي نواجذه، ثم قال: ألم أقل لك "من الفجر"؟، إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل" .حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مالك بن إسمعيل قال، حدثنا داود وابن علية جميعا، عن مطرف، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال:" قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما "الخيط الأبيض من الخيط الأسود" أهما خيطان أبيض وأسود؟ فقال: إنك لعريض القفا، إن أبصرت الخيطين. ثم قال: لا، ولكنه سواد الليل وبياض النهار". حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا أبو حازم، عن سهل بن سعد قال: نزلت هذه الآية: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود"، فلم ينزل "من الفجر". قال: فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له. فأنزل الله بعد ذلك: "من الفجر"، فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار.وقال متأولو قول الله تعالى ذكره: "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"،أنه بياض النهار وسواد الليل: صفة ذلك البياض أن يكون منتشرا مستفيضا في السماء، يملأ بياضه وضوءة الطرق. فأما الضوء الساطع في السماء، فإن ذلك غير الذي عناه الله بقوله: "الخيط الأبيض من الخيط الأسود". ذكر من قال ذلك:حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا معتمربن سليمان قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبي مجلز: الضوء الساطع في السحاء ليس بالصبح، ولكن ذاك الصبح الكاذب ، إنما الصبح إذا انفضح الأفق.
حدثني سلم بن جنادة السوائي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم قال: لم يكونوا يعدون الفجر فجركم هذا، كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت والطرق. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن مسلم: ما كانوا يرون إلا أن الفجر الذي يستفيض في السماء.حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا روح بن عباده قال: حدثنا ابن جريج قال، أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول: هما فجران، فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا، ولكن الفجر الذي يستبين على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب.حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة، عن محمد بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثربان قال، "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الفجر فجران، فالذي كأنه ذنب السرحان لا يحرم شيئا، وأما المستطير الذي يأخذ الأفق، فإنه يحل الصلاة ويحرم الصوم".حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وإسمعيل بن صبيح وأبو أسامة، عن أبي هلال، عن سوادة بن حنظلة، عن سمرة بن جندب قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطير في الأفق".حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام الأسدي قال، حدثنا شعبة، عن سوادة قال:سمعت سمرة بن جندب يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه وهو يقول: "لا يغرنكم نداء بلال، ولا هذا البياض، حتى يبدو الفجر وينفجر".وقال آخرون: "الخيط الأبيض": هو ضوء الشمس. و "الخيط الأسود": هو سواد الليل.ذكر من قال ذلك:حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عبيدة بن حميد، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي قال: سافر أبي مع حذيفة، قال: فسار، حتى إذا خشينا أن يفجأنا الفجر قال: هل منكم من أحد آكل أو شارب؟ قال: قلت له: أفا من يريد الصوم فلا. قال: بلى! قال: ثم سار، حتى إذا استبطأنا الصلاة نزل فتسحر.حدثنا هناد وأبو السائب قالا، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خرجت مع حذيفة إلى المدائن في رمضان، فلما طلع الفجر قال: هل منكم من أحد آكل أو شارب؟ قلنا: أما رجل يريد أن يصوم فلا. قال: لكني! قال: ثم سرنا حتى استبطأنا الصلاة، قال: هل منكم أحد يريد أن يتسحر؟ قال: قلنا: أما من يريد الصوم فلا. قال: لكني. ثم نزل فتسحر ثم صلى. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال: ربما شربت بعد قول المؤذن- يعني في رمضان-: قد قامت الصلاة. قال: وما رأيت أحدا كان أفعل له من الأعمش، وذلك لما سمع قال: حدثنا إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: كنا مع حذيفة نسير ليلا فقال: هل منكم متسحر الساعة؟ قال: ثم سار، ثم قال حذيفة: هل منكم متسحر الساعة؟ قال: ثم سار حتى استبطأنا الصلاة، قال: فنزل فتسحر. حدثنا هرون بن إسحق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحق، عن هبيرة، عن علي: أنه لما صلى الفجر قال: هذا حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن الصلت قال، حدثنا إسحق بن حذيفة العطار، عن أبيه، عن البراء قال: تسحرت في شهررمضان، ثم خرجت فأتيت ابن مسعود فقال: اشرب. فقلت: إني قد تسحرت! فقال: اشرب! فشربنا، ثم خرجنا والناس في الصلاة.حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الشيباني، عن جبلة بن سحيم، عن عامر بن مطر قال: أتيت عبدالله بن مسعود في داره، فأخرج فضلا من لسحوره فأكلنا معه، ثم أقيمت الصلاة فخرجنا فصلينا.حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا أبو بكربن عياش، عن أبي إسحق، عن عبدالله بن معقل، عن سالم مولى أبي حذيفة قال: كنت أنا وأبو بكر الصديق فوق سطح واحد في رمضان، فأتيت ذات ليلة فقلت: ألا تأكل يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأومأ بيده: أن كف. ثم أتيته مرة أخرى فقلت له: ألا تأكل يا خليفة رسول الله؟ فأومأ بيده: أن كف ثم أتيته مرة أخرى فقلت: ألا تأكل يا خليفة رسول الله؟ فنظر إلى الفجر ثم أومأ بيده: أن كف. ثم أتيته فقلت: ألا تأكل يا خليفة رسول الله؟ قال: هات غداءك! قال: فأتيته به فأكل، ثم صلى ركعتين، ثم قام إلى الصلاة.حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: الوتر بالليل، والسحور بالنهار.وقد روي عن إبراهيم غير ذلك.حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن حماد، عن إبراهيم قال: السحور بليل، والوتر بليل.حدثنا حكام، عن ابن أبي جعفر، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: السحور والوتر ما بين التثويب والإقامة. حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن شبيب بن غرقدة، عن عروة، عن حبان قال: تسحرنا مع علي، ثم خرجنا وقد أقيمت الصلاة، فصلينا. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن شبيب، عن حبان بن الحارث قال: مررت بعلي وهو في دار أبي موسى وهو يتسحر، فلما انتهيت إلى المسجد اقيمت الصلاة.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي إسحق، عن أبي السفر قال: صلى علي بن أبي طالب الفجر، ثم قال: هذا حين يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.وعلة من قال هذا القول: أن الوقت إنما هو النهار دون الليل. قالوا: وأول النهار طلوع الشمس،
كما أن آخره غروبها. قالوا: ولو كان أوله طلوع الفجر، لوجب أن يكون آخره غروب الشفق. قالوا: وفي إجماع الحجة على أن اخر النهار غروب الشمس، دليل واضح على أن أوله طلوعها. قالوا: وفي الخبر "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تسحر بعد طلوع الفجر"، أوضح الدليل على صحة قولنا.ذكر الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك:حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة، قال، قلت: تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قال: لو أشاء لأقول هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال: ما كذب عاصم على زر، ولا زر على حذيفة،قال: قلت له: يا أبا عبدالله تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسحر وأنا أرى مواقع النبل. قال قلت: أبعد الصبح؟ قال: هو الصبح، إلا أنه لم تطلع الشمس " . حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمرو بن قيس وخلاد الصفار، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش قال: أصبحت ذات يوم فغدوت إلى المسجد، فقلت: لو مررت على باب حذيفة! ففتح لي فدخلت، فإذا هو يسخن له طعام، فقال: اجلس حتى تطعم. فقلص: إني أريد الصوم. فقرب طعامه فأكل وأكلت معه، ثم قام إلى لقحة في الدار، فأخذ يحلب من جانب وأحلب أنا من جانب، فناولني فقلت: ألا ترى الصبح؟ فقال: اشرب! فشربت، ثم جئت إلى باب المسجد فأقيمت الصلاة، فقلت له: أخبرني بآخر سحور تسخرته مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو الصبح، إلا أنه لم تطلع الشمس.حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا حماد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده، فلايضعه حتى يقضي حاجته منه".
حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، وزاد فيه: وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر.حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين- وحدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي قال، أخبرنا الحسين بن واقد- قالا جميعا، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال: أقيمت الصلاة والإناء في يد عمر، قال: أشربها يا رسول الله؟ قال: نعم! فشربها. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس، عن أبيه، عن عبدالله قال، قال بلال: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم اوذنه بالصلاة وهو يريد الصوم، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولني فشربت، ثم خرج إلى الصلاة".
حدثني محمد بن أحمد الطوسي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحق، عن عبدالله بن معقل، عن بلال قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أوذنه بصلاة الفجر وهو يريد الصيام، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولني فشربت، ثم خرجنا إلى الصلاة.قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالاية، التأويل الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخيط الأبيض" بياض النهار، و "الخيط الأسود" سواد الليل. وهو المعروف في كلام العرب، قال أبو ذؤاد الإيادي:
فلما أضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط انارا
وأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرب أو تسحر ثم خرج إلى الصلاة، فإنه غير دافع صحة ما قلنا في ذلك. لأنه غير مستنكر أن يكون صلى الله عليه وسلم شرب قبل الفجر ثم خرج إلى الصلاة، إذ كانت الصلاة- صلاة الفجر- هي على عهده كانت تصلى بعد ما يطلع الفجر ويتبين طلوعه، ويؤذن لها قبل طلوعه.وأما الخبر الذي زوي عن حذيفة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتسحر وأنا أرى مواقع النبل "فإنه قد استثبت فيه فقيل له: أبعد الصبح؟ فلم يجب في ذلك بأنه كان بعد الصبح، ولكنه قال: هو الصبح وذلك من قوله يحتمل أن يكون معناه: هو الصبح لقربه منه، وإن لم يكن هو بعينه، كما تقول العرب:
هذا فلان ، شبها وهي تشير إلى غير الذي سمته فتقول: هو هو، تشبيها منها له به. فكذلك قول حذيفة: هو الصبح ، معناه: هو الصبح شبها به وقربا منه.وقال ابن زيد في معنى الخيط الأبيض والأسود، ما:حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"، قال: "الخيط الأبيض" الذي يكون من تحت الليل، يكشف الليل-، والأسود ما فوقه.وأما قوله: "من الفجر"، فإنه تعالى ذكره يعني: حين يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسودالذي هو من الفجر، وليس ذلك هو جميع الفجر، ولكنه إذا تبين لكم أيها المؤمنون من الفجر ذلك الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل الذي فوقه سواد الليل، فمن حينئذ فصوموا، ثم أتموا صيامكم من ذلك إلى الليل.وبمثل ما قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول.حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "من الفجر"، قال:ذلك الخيط الأبيض هو من الفجر نسبة إليه، وليس الفجر كله. فإذا جاء هذا الخيط، وهو أوله، فقد حلت الصلاة وحرم الطعام والشراب على الصائم.قال أبو جعفر: وفي قوله تعالى ذكره: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل"، أوضح الدلالة على خطأ قول من قال: حلال الأكل والشرب لمن أراد الصوم إلى طلوع الشمس. لأن الخيط الأبيض من الفجر، يتبين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر. وقد جعل الله تعالى ذكره حدا لمن لزمه الصوم في الوقت الذي أباح إليه الأكل والشرب والمباشرة.فمن زعم أن له أن يتجاوز ذلك الحد، قيل له: أرأيت إن جاز له اخر ذلك ضحوة أو نصف النهار؟فإن قال: إن قائل ذلك مخالف للأمة.قيل له: وأنت لما دل عليه كتاب الله ونقل الأمة مخالف، فما الفرق بينك وبينه من أصل أو قياس؟فإن قال: الفرق بيني وبينه أن الله أمر بصوم النهار دون الليل، والنهار من طلوع الشمس.قيل له: كذلك يقول مخالفوك، والنهار عندهم أوله طلوع الفجر، وذلك هو ضوء الشمس وابتداء طلوعها دون أن يتتام طلوعها، كما أن آخر النهار ابتداء غروبها دون أن يتتام غروبها.ويقال لقائلي ذلك: إن كان النهار عندكم كما وصفتم، هو ارتفاع الشمس، وتكامل طلوعها، وذهاب جميع سدفة الليل وغبس سواده- فكذلك عندكم الليل : هو تتام غروب الشمس، وذهاب ضيائها، وتكامل سواد الليل وظلامه؟فإن قالوا: ذلك كذلك!قيل لهم: فقد يجب أن يكون الصوم إلى مغيب الشفق وذهاب ضوء الشمس وبياضها من أفق السماء!فإن قالوا: ذلك كذلك! أوجبوا الصوم إلى مغيب الشفق الذي هو بياض. وذلك قول إن قالوه مدفوع بنقل الحجة، التي لا يجوز فيما نقلته مجمعة عليه- الخطا والسهو، وكفى بذلك شاهدا، على تخطئته.وإن قالوا: بل أول الليل ابتداء سدفته وظلامه، ومغيب عين الشمس عنا.قيل لهم: وكذلك أول النهار: طلوع أول ضياء الشمس، ومغيب أوائل سدفة الليل.ثم يعكس عليه القول في ذلك، ويسأل الفرق بين ذلك، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.وأما "الفجر" فإنه مصدر من قول القائل: تفجر الماء يتفجر فجرا، إذا انبعث وجرى. فقيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلع الشمس فجر، لانبعاث ضوئه عليهم، وتورده عليهم بطرقهم ومحاجهم، تفجر الماء المتفجرمن منبعه.وأما قوله: "ثم أتموا الصيام إلى الليل"، فإنه تعالى ذكره حذ الصوم بأن آخر وقته إقبال الليل،كما حد الإفطار وإباحة الأكل والشرب والجماع وأول الصوم، بمجيء أول النهار وأول إدبار آخر الليل. فدل بذلك على أن لا صوم بالليل، كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم، وعلى أن المواصل مجوع نفسه في غيرطاعة ربه، كما:
حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع وعبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عاصم بن عمر، عن عمر قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل وأدبر النهار وغابت الشمس، فقد أفطر الصائم ".حدثنا هناد قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو إسحق الشيباني- وحدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو عبيدة وأبو معاوية، عن الشيباني- وحدثنا ابن المثنى قال حدثنا أبو معاوية- وحدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني- قالوا جميعا في حديثهم، عن عبدالله بن أبي أوفى قال!: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير وهو صائم، فلما غربت الشمس قال لرجل: انزل فاجدح لي . قالوا: لو أمسيت يا رسول الله! فقال: انزل فاجدح. فقال الرجل: يا رسول الله لو أمسيت! قال: انزل فاجدح لي . قال: يا رسول الله إن علينا نهارا! فقال له الثالثة، فنزل فجدح له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا- وضرب بيده نحو المشرق- فقد أفطر الصائم ".
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن رفيع قال: فرض الله الصيام إلى الليل، فإذا جاء الليل فأنت مفطر، إن شئت فكل، وإن شئت فلا تأكل.حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي العالية: أنه سئل عن الوصال في الصوم فقال: افترض الله على هذه الأمة صوم النهار، فإذا جاء الليل فإن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل.حدثني يعقوب قال، حدثني ابن علية، عن داود بن أبي هند قال، قال أبو العالية في الوصال في الصوم قال: قال الله: "ثم أتموا الصيام إلى الليل"، فإذا جاء الليل فهو مفطر، فإن شاء أكل وان شاء لم يأكل.حدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين، عن مسعر، عن قتادة قال: قالت عاثشة: أتموا الصيام إلى الليل- يعني: أنها كرهت الوصال.قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه وصال من واصل؟ فقد علمت بما:حدثكم به أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن هشام بن عروة قال: كان عبدالله بن الزبير يواصل سبعة أيام، فلما كبر جعلها خمسا، فلما كبر جدا جعلها ثلاثا.حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن عبد الملك قال: كان ابن أبي يعمر يفطر كل شهرمرة. حدثنا ابن أبي بكر المقدمي قال، حدثنا الفروي قال، سمعت مالكا يقول: كان عامر بن عبدالله بن الزبيريواصل ليلة ست عشرة وليلة سبع عشرة من رمضان، لا يفطر بينهما، فلقيته فقلت له: يا أبا الحارث ماذا تجده يقويك في وصالك؟ قال: السمن، أشربه أجده يبل عروقي، فأما الماء، فإنه يخرج من جسدي.وما أشبه ذلك، ممن فعل ذلك، ممن يطول بذكرهم الكتاب؟قيل: وجه من فعل ذلك إن شاء الله تعالى على طلب الخموصة لنفسه والقوة، لا على طلب البر لله بفعله. وفعلهم ذلك نظير ما كان عمربن الخطاب يأمرهم به بقوله: اخشوشنوا وتمعددوا، وانزوا على الخيل نزوا، واقطعوا الركب، وامشوا حفاة.يأمرهم في ذلك بالتخشن في عيشهم، لئلا يتنعموا فيركنوا إلى خفض العيش، ويميلوا إلى الدعة فيجبنوا ويحتموا عن أعدائهم.وقد رغب- لمن واصل- عن الوصال كثير من أهل الفضل. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحق:أن ابن أبي نعم كان يواصل من الأيام، حتى لا يستطيع أن يقوم، فقال عمرو بن ميمون: لو أدرك هذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم رجموه.ثم في الأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الوصال، التي يطول بإحصائها الكتاب، تركنا ذكر أكثرها استغناء بذكر بعضها، إذ كان في ذكر ما ذكرنا مكتفى عن الاستشهاد على كراهة الوصال بغيره.حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيدالله قال، أخبرني نافع، عن ابن عمر: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال، قالوا: إنك تواصل يا رسول الله! قال: إني لست كأحد منكم، إني أبيت اطعم وأسقى".وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن بالوصال من السحر إلى السحر. حدثني محمد بن عبدالله بن عبد الحكم المصري قاك، حدثنا شعيب، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن عبدالله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري:" أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر. قالوا: يا رسول الله، إنك تواصل! قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني، وساق يسقيني ".حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو إسرائيل العبسي، عن أبي بكر بن حفص، عن أم ولد حاطب بن أبي بلتعة: "أنها مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر، فدعاها إلى الطعام فقالت: إني صائمة. قال: وكيف تصومين؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أين أنت من وصال آل محمدى صلى الله عليه وسلم، من السحر إلى السحر".فتأويل الآية إذا: ثم أتموا الكف عما أمركم الله بالكف عنه، من حين يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، إلى الليل. ثم حل لكم ذلك بعده إلى مثل ذلك الوقت، كما:حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ثم أتموا الصيام إلى الليل"، قال: من هذه الحدود الأربعة، فقرأ "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" فقرأ حتى بلغ "ثم أتموا الصيام إلى الليل". وكان أبي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا.قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره- بقوله: "ولا تباشروهن"، لا تجامعوا نساءكم. وبقوله: "وأنتم عاكفون في المساجد"، يقول: في حال عكوفكم في المساجد، وتلك حال حبسهم أنفسهم على عبادة الله في مساجدهم.والعكوف أصله المقام، وحبس النفس على الشيء، كما قال الطرفاح بن حكيم:
فبات بنات الليل حولي عكفا عكوف البواكي بينهن صريع
يعني بقوله: عكفا، مقيمة، وكما قال الفرزدق:
ترى حولهن المعتفين كانهم على صنم في الجاهلية عكف
وقد اختلف أهل التأويل في معنى المباشرة التي عنى الله بقوله: "ولا تباشروهن".فقال بعضهم: معنى ذلك: الجماع دون غيره من معاني المباشرة.ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"- في رمضان أو في غير رمضان، فحرم الله أن ينكح النساء ليلا ونهارا حتى يقضي اعتكافه. حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قال لي عطاء: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، قال: الجماع.حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك قال: كانوا يجامعون وهم معتكفون، حتى نزلت: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد".حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك في قوله: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، قال: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء، فقال الله: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، يقول: لا تقربوهن ما دمتم عاكفين، في مسجد ولا غيره.حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك نحوه. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال:كان أناس يصيبون نساءهم وهم عاكفون فيها، فنهاهم الله عن ذلك. وحدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، قال: كان الرجل إذا خرج من المسجد وهو معتكف ولقي امرأته باشرها إن شاء، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، وأخبرهم أن ذلك لا يصلح حتى يقضي اعتكافه. حدثنا موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد "، يقول: من اعتكف فإنه يصوم، لا يحل له النساء ما دام معتكفا. حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، قال: الجوار، فإذا خرج أحدكم من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء. حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:كان ابن عباس يقول: من خرج من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء.حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، قال: كان الناس إذا اعتكفوا يخرج الرجل فيباشر أهله ثم برجع إلى المسجد، فنهاهم الله عن ذلك.حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلى الغائط جامع امرأته ثم اغتسل، ثم رجع إلى اعتكافه. فنهوا عن ذلك. قال ابن جريج: قال مجاهد: نهوا عن جماع النساء في المساجد، حيث كانت الأنصار تجامع، فقال: "لا تباشروهن وأنتم عاكفون"، قال: "عاكفون"، الجوار، قال ابن جريج: فقلت لعطاء: الجماع المباشرة؟ قال: الجماع نفسه! فقلت له: فالقبلة في المسجد والمسة؟ فقال: أما ما حرم فالجماع، وأنا أكره كل شيء من ذلك في المسجد.حدثت عن حسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك: "ولا تباشروهن"، يعني الجماع.وقال آخرون: معنى ذلك على جميع معاني المباشرة، من لمس وقبلة وجماع.ذكر من قال ذلك: حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك بن أنس: لا يمس المعتكف امرأته،ولا يباشرها، ولا يتلذذ منها بشيء، قبلة ولا غيرها.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، قال: المباشرة الجماع وغير الجماع، كله محرم عليه. قال: المباشرة بغير جماع، إلصاق الجلد بالجلد.قال أبو جعفر: وعلة من قال هذا القول: أن الله تعالى ذكره عم بالنهي عن المباشرة، ولم يخصص منها شيئا دون شيء. فذلك على ما عمه، حتى تأتي حجة يجب التسليم لها بأنه عنى به مباشرة دون مباشرة.وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: الجماع، أو ما قام الجماع، مما أوجب غسلا إيجابه. وذلك أنه لا قول في ذلك إلا أحد قولين:إما جعل حكم الاية عاما، أو جعل حكمها في خاص من معاني المباشرة. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نساءه كن يرجلنه وهو معتكف. فلما صح ذلك عنه، علم أن الذي عنى به من معاني المباشرة، البعض دون الجميع. حدثنا علي بن شعيب قال، حدثنا معن بن عيسى القزاز قال، أخبرنا مالك، عن الزهري، عن عروة وعن عمرة، عن عائشة "أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله". حدثني يونس قاك، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة بن
الزبير، وعمرة: أن عائشة قالت: "إن رسول الله-صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، وكان يدخل علي رأسه وهو في المسجد فأرجله".حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت:
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه وهو مجاور في المسجد، وأنا في حجرتي، وأنا حائض، فأغسله وأرجله". حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن فضيل ويعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة قالت: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف فيخرج إلي رأسه من المسجد وهو عاكف، فأغسله وانا حائض".حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا مالك بن أنس، عن الزهري وهشام بن عروة جميعا، عن عروة، عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه فأرجله وهو معتكف".فإذ كان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا من غسل عائشة رأسه وهو معتكف، فمعلوم أن المراد بقوله: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، غير جميع ما لزمه اسم المباشرة، وأنه معني به البعض من معاني المباشرة دون الجميع. فإذ كان ذلك كذلك، وكان مجمعا على أن الجماع مما عني به، كان واجبا تحريم الجماع على المعتكف وما أشبهه، وذلك كل ما قام في الالتذاذ مقامه من المباشرة. قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: هذه الأشياء التي بينتها: من الأكل والشرب والجماع في شهر رمضان نهارا في غير عذر، وجماع النساء في الاعتكاف في المساجد، يقول: هذه الأشياء حددتها لكم، وأمرتكم أن تجتنبوها في الأوقات التي أمرتكم أن تجتنبوها، وحرمتها فيها عليكم، فلا تقربوها، وابعدوا منها أن تركبوها، فتستحقوا بها من العقوبة ما يستحقه من تعدى حدودي، وخالف أمري، وركب معاصي.وكان بعض أهل التأويل يقول: "حدود الله": شروطه. وذلك معنى قريب من المعنى الذي قلنا، غير أن الذي قلنا في ذلك أشبه بتأويل الكلمة.وذلك أن حد كل شيء: ما حصره من المعاني وميز بينه وبين غيره. فقوله: "تلك حدود الله"من ذلك، يعني به المحارم التي ميزها من الحلال المطلق، فحددها بنعوتها وصفاتها، وعرفها عباده.ذكر من قال إن ذلك بمعنى الشروط: حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمروبن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أما "حدود الله" فشروطه.وقال بعضهم: "حدود الله"، معاصيه.ذكر من قال ذلك: حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك: "تلك حدود الله"، يقول: معصية الله- يعني المباشرة في الاعتكاف.قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: كما بينت لكم أيها الناس واجب فرائضي عليكم من الصوم، وعرفتكم حدوده وأوقاته، وما عليكم منه في الحضر، وما لكم فيه في السفر والمرض، وما اللازم لكم تجنبه في حال اعتكافكم في مساجدكم، فأوضحت جميع ذلك لكم- فكذلك أبين أحكامي، وحلالي وحرامي، وحدودي، وأمري ونهي، في كتابي وتنزيلي، وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس. ويعني لقوله: "لعلهم يتقون"، يقول: أبين ذلك لهم ليتقوا محارمي ومعاصي، ويتجنبوا سخطي وغضبي، بتركهم ركوب ما أبين لهم في آياتي أني قد حرمته عليهم، وأمرتهم بهجره وتركه.
قوله تعالى : " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد تلك حدود الله فلا تقربوها كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون " .
فيه ست وثلاثون مسألة :
الأولى :قوله تعالى : "أحل لكم" لفظ احل يقتضي أنه كان محرماً قبل ذلك ثم نسخ . روى أبو داود عن ابن ابي ليلى قال وحدثنا اصحابنا قال : وكان الرجل إذا افطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح ، قال : فجاء عمر فأراد امرأته فقالت: إني قد نمت ، فظن أنها تعتل فأتاها . فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاماً فقالوا : حتى نسخن لك شيئاً فنام ، فلما أصبحوا أنزلت هذه الآية ، وفيها "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" . وروى البخاري عن البراء قال :
كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمشي ، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً ـ وفي رواية : كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائماً ـ فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها : أعندك طعام ؟ قالت لا ، لكن أنطلق فأطلب لك ، وكان يومه يعمل ، فغلبته عيناه ، فجاءته امرأته فلما رأته قالت : خيبة لك ! فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله فنزلت هذه الآية "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" ففرحوا فرحاً شديداً ، ونزلت : "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" . وفي البخاري أيضاً عن البراء قال :
لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون انفسهم ، فأنزل الله تعالى : "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم" . يقال : خان واختان بمعنى من الخيانة ، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم . ومن عصي الله فقد خان نفسه إذ جلب اليها العقاب . وقال القتبي : اصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه . وذكر الطبري :
"أن عمر رضي الله تعالى عنه رجع من عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له : قد نمت ، فقال لها : ما نمت ، فوقع بها . وصنع كعب بن مالك مثله ، فغدا عمر على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أعتذر إلى الله وإليك ، فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي ، فهل تجد لي من رخصة ؟ فقال لي :لم تكن حقيقاً بذلك يا عمر فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن " . وذكره النحاس و مكي ، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته ، وأنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت : " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن " الآية .
الثانية : قوله تعالى : "ليلة الصيام الرفث" ليلة نصب على الظرف ، وهي اسم جنس فلذلك أفردت . والرفث : كناية عن الجماع لأن الله عز وجل كريم يكني ، قاله ابن عباس و السدي . وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته ، وقاله الأزهري ايضاً . وقال ابن عرفة : الرفث ها هنا الجماع . والرفث :التصريح بذكر الجماع والإعراب به . قال الشاعر :
ويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفار
وقيل : الرفث أصله قول الفحش ، يقال : رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح ، ومنه قول الشاعر :
ورب اسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم
وتعدى الرفث بإلى في قوله تعالى جده : "الرفث إلى نسائكم" . وأنت لا تقول : رفثت إلى النساء ، ولكنه جيء به محمولاً على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله : " وقد أفضى بعضكم إلى بعض " . ومن هذا المعنى : "وإذا خلوا إلى شياطينهم" كما تقدم . وقوله :" يوم يحمى عليها " أي يوقد ، لأنك تقول : أحميت الحديدة في النار ، وسيأتي ، ومنه قوله : "فليحذر الذين يخالفون عن أمره" حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره ، لأنك تقول : خالفت زيداً . ومثله قوله تعالى : "وكان بالمؤمنين رحيما" حمل على معنى رؤوف في نحو "بالمؤمنين رؤوف رحيم" ، ألا ترى إنك تقول : رؤفت به ، ولا تقول رحمت به ، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية . ومن هذا الضرب قول ابي كبير الهذلي :
حملت به في ليلة مزءودة كرها وعقد نطاقها لم يحلل
عدى حملت بالباء ، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه ، كما جاء في التنزيل : :"حملته أمه كرها ووضعته كرها" لكنه قال : حملت به ، لأنه في معنى حبلت به .
الثانية : قوله تعالى : "هن لباس لكم" ابتداء وخبر ، وشددت النون من هن لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر . "وأنتم لباس لهن" أصل اللباس في الثياب ، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباساً ، لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيهاً بالثوب . وقال النابغة الجعدي :
إذا مات الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا
وقال أيضا :
لبست أناساً فأفنيتهم وأفنيت بعد أناس أناسا
وقال بعضهم : يقال لما ستر الشيء وداراه : لباس . فجائز أن يكون كل واحد منهما ستراً لصاحبه عما لا يحل ، كما ورد في الخبر . وقيل : لأن كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس . وقال ابو عبيد وغيره : يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك . قال رجل لعمر بن الخطاب :
ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدى لك من أخي ثقة إزاري
قال أبو عبيد : أي نسائي . وقيل نفسي . وقال الربيع : هن فراش لكم ، وأنتم لحاف لهن . مجاهد : أي سكن لكم ، أي يسكن بعضكم إلى بعض .
الرابعة : قوله تعالى : "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم" يستأمر بعضكم بعضاً في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم ، كقوله تعالى : "تقتلون أنفسكم" يعني يقتل بعضكم بعضا . ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها ، وسماه خائناً لنفسه من حديث كان ضرره عائداً عليه ، كما تقدم . وقوله : "فتاب عليكم" يحتمل معنيين : أحدهما : قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم . والآخر ـ التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة ، كقوله تعالى : " علم أن لن تحصوه فتاب عليكم " . يعني خفف عنكم . وقوله عقيب القتل الخطأ : "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله" يعني تخفيفاً ، لأن القاتل خطأ لم يفعل شيئاً تلزمه التوبة منه ، وقال تعالى : "لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة" وإن لم يكن من النبي صلى الله عليه وسلم ما يوجب التوبة منه . وقوله : "وعفا عنكم" يحتمل العفو من الذنب ، ويحتمل التوسعة والتسهيل ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : "أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله" يعني تسهيله وتوسعته . فمعنى "علم الله" أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة "فتاب عليكم" بعد ما وقع ، أي خفف عهنكم" وعفا" أي سهل . و "تختانون" من الخيانة ، كما تقدم . قال ابن العربي : وقال علماؤنا الزهد : وكذلك فلتكن العناية وشرف المنزلة ، خان نفسه عمر رضي الله عنه فجعلها الله تعالى شريعة ، وخفف من أجله عن الأمة فرضي الله عنه وأرضاه .
قوله تعالى : " فالآن باشروهن " كناية عن الجماع ،أي قد أحل لكم ما حرم عليكم . وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه . قال ابن العربي : وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر رضي الله عنه لا جوع قيس ، لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال : فالان كلوا ، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله .
الخامسة : قوله تعالى : "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال ابن عباس و مجاهد و الحكم بن عيينة و عكرمة و الحسن و السدي و الربيع والضحاك : معناه وابتغوا الولد ، يدل عليه أنه عقيب قوله : " فالآن باشروهن " . وقال ابن عباس :ما كتب الله لنا هو القرآن . الزجاج : أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به . وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر . وقيل : المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة ، قاله قتادة . قال ابن عطية : وهو قول حسن . وقيل : "وابتغوا ما كتب الله لكم" من الإماء والزوجات . وقرأ الحسن البصري و الحسن بن قرة واتبعوا من الاتباع ، وجوزها ابن عباس ، ورجح ابتغوا من الابتغاء .
السادسة : قوله تعالى : "وكلوا واشربوا" هذا جواب نازلة قيس ، والأول جواب عمر ، وقد ابتدأ بنازله عمر لأنه المهم فهو المقدم .
السابعة : قوله تعالى : "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" حتى غاية للتبيين ، ولا يصح أن يقع التبيين لأحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر . واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك ، فقال الجمهور : ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنة ويسرة ، وبهذا جاءت الأخبار ومضت عليه الأمصار . روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا" . وحكاه حماد بيديه قال : يعني معترضاً . وفي حديث ابن مسعود :
"إن الفجر ليس الذي يقول هكذا ـ وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض ـ ولكن الذي يقول هكذا ـ ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه" . وروى الدار قطني عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
"هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئاً ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام" هذا مرسل . وقالت طائفة : ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت ، روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي و عطاء بن ابي رباح والأعمش سليمان وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رؤوس الجبال . وقال مسروق : لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت . وروى النسائي عن عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة : أي ساعة تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع . وروى الدار قطني عن طلق بن علي أن نبي الله قال :
"كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا وشاربوا حتى يعرض لكم الأحمر" . قال الدار قطني : قيس بن طلق ليس بالقوي . وقال أبو داود : هذا مما تفرد به أهل اليمامة . قال الطبري : والذي قادهم إلى هذا ان الصوم إنما هو في النهار ، والنهار عندهم من طلوع الشمس ، وآخره غروبها ، وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين . وتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله : "إنما هو سواد الليل وبياض النهار" الفيصل في ذلك ، وقوله : "أياما معدودات" .وروى الدار قطني عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له" . تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الإسناد ، وكلهم ثقات . وروي عن حفصة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له" . رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء ، وروي عن حفصة موقوفاً من قولها . ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر ، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر ، خلافاً لقول ابي حنيفة ، وهي :
الثامنة : وذلك أن الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية ، وقد وقتها الشارع قبل الفجر ، فكيف يقال : إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز . وروى البخاري و مسلم عن سهل بن سعد قال :
نزلت "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" ولم ينزل من الفجر وكان رجال إذا ارادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعد من الفجر فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار . و" عن عدي بن حاتم قال قلت : يا رسول الله ، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، أهما الخيطان ؟ قال : إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين ـ ثم قال ـ لا بل هو سواد الليل وبياض النهار " . اخرجه البخاري . وسمي الفجر . خيطاً لأن ما يبدو من البياض يرى ممتداً الخيط . قال الشاعر :
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق والخيط الأسود جنح الليل مكتوم
والخيط في كلامهم عبارة عن اللون . والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجراً إذا جرى وانبعث ، وأصله الشق ، فذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها : فجر لانبعاث ضوئه ، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر ، تسميه العرب الخيط الأبيض ، كما بينا . قال أبو داؤد الإيادي :
فلما اضاءت لنا سدفة ولاح من الصبح خيط أنارا
وقال آخر :
قد كاد يبدو وبدت تباشره وسدف الليل البهيم ساتره
وقد تسميه أيضاً الصديع ، ومنه قولهم : انصدع الفجر . قال بشر بن ابي خازم أو عمرو بن معد يكرب :
ترى السرحان مفترشا يديه كأن بياض لبته صديع
وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال :
إذا ما الليل كان الصبح فيه أشق كمفرق الرأس الدهين
ويقولون في الأمر الواضح : هذا كفلق الصبح ، وكانبلاج الفجر ، وتباشير الصبح .
قال الشاعر :
فوردت قبل انبلاج الفجر وابن ذكاء كامن في كفر
التاسعة : قوله تعالى : "ثم أتموا الصيام إلى الليل" جعل الله جل ذكره الليل ظرفاً للأكل والشرب والجماع ، والنهار ظرفاً للصيام ، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما . فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض ، كما تقدم بيانه . فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامداً أو ناسياً ، فإن كان الأول فقال مالك : من افطر في رمضان عامداً بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة ، لما رواه مالك في موطئه ، و مسلم في صحيحه عن ابي هريرة :
"أن رجلاً أفطر في رمضان فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً" ، الحديث . وبهذا قال الشعبي . وقال الشافعي وغيره : إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع ، لحديث أبي هريرة أيضاً قال :
"جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هلكت يا رسول الله ! قال : وما أهلكك ، قال : وقعت على امرأتي في رمضان" ، الحديث . وفيه ذكر الكفارة على الترتيب ، أخرجه مسلم . وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا : هي واحدة ، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان ، لأن مساقهما مختلف ، وقد علق الكفارة على من أفطر مجرداً عن القيود فلزم مطلقاً . وبهذا قال مالك وأصحابه و الأوزاعي و إسحاق و أبو ثور و الطبري و ابن المنذر ، وروى ذلك عن عطاء في رواية ، وعن الحسن و الزهري . ويلزم الشافعي القول به فإنه يقول: ترك الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على عموم الحكم . وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر .
العاشرة :واختلفوا أيضاً فيما يجب على المرأة يطؤها زوجها في شخر رمضان ، فقال مالك و ابو يوسف وأصحاب الراي : عليها مثل ما على الزوج . وقال الشافعي : ليس عليها إلا كفارة واحدة ، وسواء طاوعته أو أكرهها ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل . وروي عن أبي حنيفة : إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة ، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير . وهو قول سحنون بن سعيد المالكي . وقال مالك : عليه كفارتان ، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه .
الحادية عشرة : واختلفوا أيضاً فيمن جامع ناسياً لصومه أو أكل ، فقال الشافعي و أبو حنيفة وأصحابه و إسحاق : ليس عليه في الوجهين شيء ، لا قضاء ولا كفارة . وقال مالك و الليث و الأوزاعي : عليه القضاء ولا كفارة ، وروي مثل ذلك عن عطاء . وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة وإن جامع ، وقال : مثل هذا لا ينسى . وقال قوم من أهل الظاهر : سواء وطىء ناسياً أو عامداً فعليه القضاء والكفارة ، وهو قول ابن الماجشون عبد الملك ، وإليه ذهب أحمد بن حنبل ، لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد . قال ابن المنذر لا شيء عليه .
الثانية عشرة : قال مالك و الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي : إذا أكل ناسياً فظن أن ذلك قد فطره فجامع عامداً أن عليه القضاء ولا فارة عليه . قال ابن المنذر : وبه نقول : وقيل في المذهب : عليه القضاء والكفارة إن كان قاصداً لهتك حرمة صومه جرأة وتهاوناً . قال أبو عمر : وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر ، لأن من أكل ناسياً فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك ، فاي حرمة هتك وهو مفطر . وعند غير مالك : ليس بمفطر كل من أكل ناسياً لصومه .
قلت : وهو الصحيح ، وبه قال الجمهور : إن من أكل أو شرب ناسياً فلا قضاء عليه وإن صومه تام ، لحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"إذا أكل الصائم ناسياً أو شرب ناسياً فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه ولا قضاء عليه ـ في رواية ـ وليتم صومه فإن الله أطعمه وسقاه" . أخرجه الدار قطني . وقال : إسناد صحيح وكلهم ثقات . قال أبو بكر الأثرم : سمعت ابا عبد الله يسئل عمن أكل ناسياً في رمضان ، قال : ليس عليه شيء على حديث أبي هريرة . ثم قال أبو عبد الله مالك : وزعموا أن مالكا يقول عليه القضاء ! وضحك . وقال ابن المنذر : لا شيء عليه ، "لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن أكل أو شرب ناسياً :
يتم صومه" وإذا قال "يتم صومه" فأتمه فهو صوم تام كامل .
قلت : وإذا كان من أفطر ناسياً لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه إذا جامع عامداً القضاء والكفارة ـ والله أعلم ـ كمن لم يفطر ناسياً . وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا : المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع فيه خرم ، لقوله تعالى : "ثم أتموا الصيام إلى الليل" وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه ، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته . وقد جاء في صحيحي البخاري و مسلم :
"من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه" فلم يذكر قضاء ولا تعرض له ، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والأمر بمضيه على صومه وإتمامه ، هذا إن كان واجباً فدل على ما ذكرناه من القضاء . وأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسياً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : "لا قضاء عليه" .
قلت : هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح ، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرنا ،وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"من أفطر في شهر رمضان ناسياً فلا قضاء عليه ولا كفارة" أخرجه الدار قطني وقال : تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري ، فزال الاحتمال وارتفع الإشكال ، والحمد لله ذي الجلال والكمال .
الثالثة عشرة : لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع ، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والحبسة وغيرها ، دل ذلك على صحة صوم من قبل وباشر ، لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة ، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل ، ولذلك شاع الاختلاف فيه ، واختلف علماء السلف فيه ، فمن ذلك المباشرة . قال علماؤنا : يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها ، لئلا يكون سبباً إلى ما ما يفسد الصوم . روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم ، وهذا ـ والله أعلم ـ خوف ما يحدث عنهما ، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه ، وكذلك إن باشر . وروى البخاري عن عائشة قالت :
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم" . وممن كره القبلة للصائم عبد الله بن مسعود وعروة بن الزبير . وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوماً مكانه ، والحديث حجة عليهم .قال أبو عمر : ولا أعلم أحداً رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه ، فإن قبل فأمنى فعليه القضاء ولا كفارة ، قاله أبو حنيفة وأصحابه و الثوري و الحسن و الشافعي ، واختاره ابن المنذر وقال : ليس أوجب عليه الكفارة حجة . قال أبو عمر : ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عندهم . وقال أحمد : من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه ، إلا على من جامع فأولج عامداً أو ناسياً . وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملةً عليه القضاء . وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي . قال القاضي أبو محمد : واتفق اصحابنا على أنه لا كفارة عليه . وإن كان منياً فهل تلزمه الكفارة مع القضاء ، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل ، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل ، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال اشهب وسحنون : لا كفارة عليه حتى يكرر . وقال ابن القاسم : يكفر في ذلك له ، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر . وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى : الحسن البصري و عطاء و ابن المبارك و أبو ثور و إسحاق ، وهو قول مالك في المدونة . وحجة قول أشهب : أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها ، وإنما يبقى أن تؤول إلى الأمر الذي يقع به الفطر ، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الإنزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها ، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر . قال اللخمي : واتفق جميعهم في الإنزال عن النظر أن لا كفارة عليه إلا أن يتابع . والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم ، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك ، فإذا كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة ، أو كانت عادته مختلفة :مرة ينزل ، ومرة لا ينزل ، ورأيت عليه الكفارة ، لأن فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له . وإن كانت عادته السلامة فقدر أن كان منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة ، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة فقدر أن كان منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة ، وقد يحتمل قوله مالك في وجوب الكفارة ، لأن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفى بما ظهر منه . وحمل أشهب الأمر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك ، وقولهم في النظر دليل على ذلك .
قلت : ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلاً ليس كذلك ، فقد حكى الباجي في المنتقى فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة فأنزل فقد قال الشيخ أبو الحسن :عليه القضاء والكفارة . قال الباجي : وهو الصحيح عندي ، لأنه إذا قصد بها الاستمتاع كانت كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع ، و الله أعلم . ؟وقال جابر بن زيد و الثوري و الشافعي و أبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى : فلا قضاء عليه ولا كفارة ، قاله ابن المنذر . قال الباجي : وروى في المدينة ابن نافع عن مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة .
الرابعة عشرة : والجمهور من العلماء على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب . وقال القاضي ابو بكر بن العربي : وذلك جائز إجماعا ، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الأمر على أن من أصبح جنباً فإن صومه صحيح .
قلت : أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور ، وذلك قول ابي هريرة : من أصبح جنباً فلا صوم له ، أخرجه الموطأ وغيره . وفي كتاب النسائي أنه قال لما روجع : والله ما أنا قلته ، محمد صلى الله عليه وسلم والله قاله . وقد اختلف في رجوعه عنها ، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له ، حكاه ابن المنذر ، وروي عن الحسن بن صالح . وعن ابي هريرة أيضاً قول ثالث قال : إذا علم بجنايته ثم نام حتى حتى يصبح فهو مفطر ، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم ، روي ذلك عن عطاء و طاوس وعروة بن الزبير . وروي عن الحسن و النخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضي في الفرض .
قلت :فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنباً ، والصحيح منها مذهب الجمهور ، لحديث عائشة رضي الله عنها وأم سلمة :
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم" . وعن عائشة رضي الله عنها قالت :
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم" ، أخرجهما البخاري و مسلم . وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى : " فالآن باشروهن " الآية ، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب ، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر . وقد قال الشافعي : ولو كان الذكر داخل فنزعه مع طلوع الفجر أنه لا قضاء عليه . وقال المزني : عليه القضاء لأنه من تمام الجماع ، والأول أصح لما ذكرنا ، وهو قول علماؤنا .
الخامسة عشرة : واختلفوا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح ، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه ، سواء تركته عمداً أو سهواً كالجنب ، وهو قول مالك و ابن القاسم . وقال عبد الملك :إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر ، لأنها في بعضه غير طاهرة ، وليست كالجنب لأن الاحتلام لا ينقض الصوم ، والحيضة تنقضه . هكذا أبو الفرج في كتابه عن عبد الملك . وقال الأوزاعي : تقضي لأنها فرطت في الاغتسال . وذكر ابن الجلاب عن عبد الملك أنها أن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصحبت لم يضرها كالجنب ، وإن كان الوقت ضيقاً لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر ، وقاله مالك ، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض . وقال محمد بن مسلمة في هذه : تصوم وتقضي ، مثل قول الأوزاعي .وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح ـ الكفارة مع القضاء .
السادسة عشرة : وإذا طهرت المرأة ليلاً في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده ، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطاً ، ولا كفارة عليها .
السابعة عشرة : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"أفطر الحاجم والمحجوم" . من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج ، وبه قال أحمد وإسحاق ، وصحح أحمد حديث شداد بن أوس ، وصحح علي بن المديني حديث رافع بن خديج . وقال مالك و الشافعي و الثوري : لا قضاء عليه ، ألا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير . وفي صحيح مسلم من حديث أنه قيل له :
أكنتم تكرهون الحجامة للصائم ؟ قال لا ، إلا من أجل الضعف . وقال أبو عمر :حديث شداد ورافع وثوبان عندنا مسنوخ بحديث ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم صائماً محرما" . لأن في حديث شداد بن أوس وغيره "أنه صلى الله عليه وسلم مر عام الفتح على رجل يحتجم بثمان عشرة ليلة خلت من رمضان فقال: أفطر الحاجم والمحجوم" . واحتجم هو صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وهو محرم صائم ، فإذا كانت حجته صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة ، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يدرك بعد ذلك رمضان ،لأنه توفي في ربيع الأول ، صلى الله عليه وسلم .
الثامنة عشرة : قوله تعالى : "ثم أتموا الصيام إلى الليل" أمر يقتضي الوجوب من غير خلاف . و إلى غاية ، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه ، كقولك ، اشتريت الفدان إلى حاشيته ، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة ـ والمبيع شجر ، فإن الشجرة داخلة في المبيع . بخلاف قولك : اشتريت الفدان إلى الدار ، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليست من جنسه . فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل ، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار .
التاسعة عشرة : ومن تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها ، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطراً وعليه القضاء . وفي كتاب ابن حبيب أنه على صومه ، قال : ولا يخرجه من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية . وقيل : عليه القضاء والكفارة . وقال سحنون : إنما يكفر من بيت الفطر ، فأما من نواه في نهاره فلا يضره ، وإنما يقضي استحساناً .
قلت : هذا حسن .
الموفية عشرين : قوله تعالى : "إلى الليل" إذا تبين الليل سن الفطر شرعاً ، أكل أو لم يأكل . قال ابن العربي : وقد سئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثاً أنه لا يفطر على حار ولا بارد ، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه ، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا جاء الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم" . وسئل عنها الإمام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال: لا بد أن يفطر على حار أو بارد . وما أجاب له الإمام أبو إسحاق أولى ، لأنه مقتضى الكتاب والسنة .
الحادية والعشرون : فإن ظن أن الشمس قد غربت لغيم أو غيره فأفطر ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء . وفي البخاري عن اسماء بنت ابي بكر رضي الله عنهما قالت :
أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس ، قيل لهشام : فأمروا بالقضاء ، قال : لا بد من قضاء ؟ . قال عمر في الموطأ في هذا :الخطب يسير . وقد اجتهدنا في الوقت يريد القضاء . وروي عن عمر أنه قال : لا قضاء عليه ، وبه قال الحسن البصري :لا قضاء عليه كالناسي ، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر . وقول الله تعالى : "إلى الليل" يرد هذا القول ، والله أعلم .
هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين, ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام, فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك, فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة, فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة, والرفث هنا هو الجماع, قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير وطاوس وسالم بن عبد الله وعمرو بن دينار والحسن وقتادة والزهري والضحاك وإبراهيم النخعي والسدي وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان, وقوله "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والسدي ومقاتل بن حيان: يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن, وقال الربيع بن أنس: هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن, وحاصله: أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الاخر ويماسه ويضاجعه, فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان لئلا يشق ذلك عليهم ويحرجوا, قال الشاعر :
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تداعت فكانت عليه لباسا
وكان السبب في نزول هذه الاية كما تقدم في حديث معاذ الطويل, وقال أبو إسحاق عن البراء بن عازب, كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها, وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً وكان يومه ذلك يعمل في أرضه, فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام ؟ قالت: لا, ولكن أنطلق فأطلب لك, فغلبته عينه فنام, وجاءت امرأته, فلما رأته نائماً قالت: خيبة لك أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الاية " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " ففرحوا بها فرحاً شديداً, ولفظ البخاري ههنا من طريق أبي إسحاق سمعت البراء, قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله, وكان رجال يخونون أنفسهم, فينزل الله "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم" وقال علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس, قال: كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلوا العشاء, حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة, ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء, منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأنزل الله تعالى: " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن " الاية, وكذا روى العوفي عن ابن عباس, وقال موسى بن عقبة عن كريب عن ابن عباس, قال: إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل فيهم, يأكلون ويشربون ويحل لهم شأن النساء, فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب ولا يأتي أهله حتى يفطر من القابلة, فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعد ما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله, ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أشكو إلى الله وإليك الذي صنعت. قال: وما صنعت ؟ قال: إني سولت لي نفسي, فوقعت على أهلي بعد ما نمت, وأنا أريد الصوم, فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما كنت خليقاً أن تفعل فنزل الكتاب "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" وقال سعد بن أبي عروبة عن قيس بن سعد, عن عطاء بن أبي رباح, عن أبي هريرة في قول الله تعالى: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل " قال: كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الاية إذا صلوا العشاء الاخرة, حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا, وأن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء, وأن صرمة بن قيس الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب, فنام ولم يشبع من الطعام, ولم يستقيظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء, فقام فأكل وشرب, فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك, فأنزل الله عند ذلك " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " يعني بالرفث مجامعة النساء "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم" يعني تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء " فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن " يعني جامعوهن "وابتغوا ما كتب الله لكم" يعني الولد "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" فكان ذلك عفواً من الله ورحمة, وقال هشيم عن حصين بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى, قال: قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فقال: يا رسول الله, إني أردت أهلي البارحة على ما يريد الرجل أهله, فقالت: إنها قد نامت فظننتها تعتل فواقعتها, فنزل في عمر "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" وهكذا رواه شعبة عن عمرو بن مرة عن ابن أبي ليلى به, وقال أبو جعفر بن جرير: حدثني المثنى, حدثنا سويد, أخبرنا ابن المبارك, عن أبي لهيعة, حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة, أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد, فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده, فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت: إني قد نمت, فقال: ما نمت, ثم وقع بها, وصنع كعب بن مالك مثل ذلك, فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأنزل الله: " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن " الاية, وهكذا روي عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغيرهم في سبب نزول هذه الاية في عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع, وفي صرمة بن قيس, فأباح الجماع والطعام الشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقاً.
وقوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال أبو هريرة وابن عباس وأنس وشريح القاضي ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء والربيع بن أنس والسدي وزيد بن أسلم والحكم بن عتبة ومقاتل بن حيان والحسن البصري والضحاك وقتادة وغيرهم: يعني الولد: وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "وابتغوا ما كتب الله لكم" يعني الجماع, وقال عمرو بن مالك البكري عن أبي الجوزاء عن ابن عباس "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ليلة القدر , رواه ابن أبي حاتم وابن جرير. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر , قال: قال قتادة: ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم, يقول: ما أحل الله لكم, وقال عبد الرزاق أيضاً: أخبرنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء بن أبي رباح, قال: قلت لابن عباس: كيف تقرأ هذه الاية "وابتغوا ما كتب الله لكم" ؟ قال: أيتهما شئت, عليك بالقراءة الأولى, واختار ابن جرير أن الاية أعم من هذا كله.
وقوله "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" أباح تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل, وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود, ورفع اللبس بقوله "من الفجر" كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أبو عبد الله البخاري: حدثني ابن أبي مريم, حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف, حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد, قال: أنزلت "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" ولم ينزل "من الفجر" وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود, فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما, فأنزل الله بعد "من الفجر" فعلموا أنه يعني الليل والنهار. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشام, أخبرنا حصين عن الشعبي, أخبرني عدي بن حاتم قال: لما نزلت هذه الاية "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" عدت إلى عقالين: أحدهما أسود والاخر أبيض, قال: فجعلتهما تحت وسادتي, قال: فجعلت أنظر إليهما, فلما تبين لي الأبيض من الأسود أمسكت, فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله فأخبرته بالذي صنعت, فقال "إن وسادك إذاً لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل" أخرجاه في الصحيحين من غير وجه عن عدي, ومعنى قوله: إن وسادك إذاً لعريض, أي إن كان ليسع الخيطين: الخيط الأسود والأبيض المرادين من هذه الاية تحتها, فإنهما بياض النهار وسواد الليل, فيقتضي أن يكون بعرض المشرق والمغرب, وهكذا وقع في رواية البخاري مفسراً بهذا, حدثنا موسى بن إسماعيل, حدثنا أبو عوانة عن حصين, عن الشعبي, عن عدي, قال: أخذ عدي عقالاً أبيض وعقالاً أسود, حتى كان بعض الليل نظر فلم يستبينا, فلما أصبح قال يا رسول الله جعلت تحت وسادتي, قال إن وسادك إذاً لعريض, إن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك> وجاء في بعض الألفاظ إنك لعريض القفا ففسره بعضهم بالبلادة, وهو ضعيف, بل يرجع إلى هذا لأنه إذا كان وساده عريضاً فقفاه أيضاً عريض, والله أعلم. ويفسره رواية البخاري أيضاً حدثنا قتيبة حدثنا جرير عن مطرف عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال قلت يا رسول الله ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود, أهما الخيطان ؟ قال: إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين, ثم قال: لا بل هو سواد الليل وبياض النهار.
وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر دليل عى استحباب السحور لأنه من باب الرخصة والأخذ بها محبوب, ولهذا وردت السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السحور ففي الصحيحين عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تسحروا فإن في السحور بركة" وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور" وقال الإمام أحمد, حدثنا إسحاق بن عيسى هو ابن الطباع, حدثنا عبد الرحمن بن زيد عن أبيه, عن عطاء بن يسار , عن أبي سعيد, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "السحور أكلة بركة فلا تدعوه, ولو أن أحدكم تجرع جرعة ماء, فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين" وقد ورد في الترغيب في السحور أحاديث كثيرة حتى ولو بجرعة ماء تشبهاً بالاكلين, ويستحب تأخيره إلى وقت انفجار الفجر, كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك, عن زيد بن ثابت قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة, قال أنس: قلت لزيد: كم كان بين الاذان والسحور ؟ قال: قدر خمسين آية. وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود , حدثنا ابن لهيعة, عن سالم بن غيلان, عن سليمان بن أبي عثمان, عن عدي بن حاتم الحمصي, عن أبي ذر , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور " وقد ورد أحاديث كثيرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماه الغذاء المبارك, وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وابن ماجه من رواية حماد بن سلمة, عن عاصم بن بهدلة, عن زر بن حبيش عن حذيفة, قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان النهار إلا أن الشمس لم تطلع, وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود , قاله النسائي, وحمله على أن المراد قرب النهار, كما قال تعالى: " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف " أي قاربن انقضاء العدة فإما إمساك بمعروف أو ترك للفراق, وهذا الذي قاله هو المتعين حمل الحديث عليه أنهم تسحروا ولم يتيقنوا طلوع الفجر , حتى أن بعضهم ظن طلوعه وبعضهم لم يتحقق ذلك, وقد روى عن طائفة كثيرة من السلف, أنهم تسامحوا في السحور عند مقاربة الفجر , روي مثل هذا عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وحذيفة وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت, وعن طائفة كثيرة من التابعين منهم محمد بن علي بن الحسين وأبو مجلز وإبراهيم النخعي وأبو الضحى وأبو وائل وغيره من أصحاب ابن مسعود وعطاء والحسن والحاكم بن عيينة ومجاهد وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء جابر بن زيد, وإليه ذهب الأعمش وجابر بن راشد, وقد حررنا أسانيد ذلك في كتاب الصيام المفرد, ولله الحمد, وحكى أبو جعفر بن جرير في تفسيره عن بعضهم: أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها. (قلت) وهذا القول ما أظن أحداً من أهل العلم يستقر له قدم عليه, لمخالفته نص القرآن في قوله "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" وقد ورد في الصحيحين من حديث القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم, فإنه ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر" لفظ البخاري, وقال الإمام أحمد: حدثنا موسى بن داود, حدثنا محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال" ليس الفجر المستطيل في الأفق ولكن المعترض الأحمر" ورواه الترمذي ولفظهما "كلوا واشربوا ولا يهيدنكم الساطع المصعد فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنى, حدثنا عبد الرحمن بن مهدي, حدثنا شعبة عن شيخ من بني قشير, سمعت سمرة بن جندب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يغرنكم نداء بلال وهذا البياض حتى ينفجر الفجر أو يطلع الفجر", ثم رواه من حديث شعبة وغيره, عن سواد بن حنظلة, عن سمرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكنه الفجر المستطير في الأفق", قال: وحدثني يعقوب بن إبراهيم حدثنا بن علية عند عبد الله بن سوادة القشيري عن أبيه, عن سمرة بن جندب, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض ـ لعمود الصبح ـ حتى يستطير" رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب, عن إسماعيل بن إبراهيم هو ابن علية مثله سواء, وقال ابن جرير: حدثنا ابن حميد, حدثنا ابن المبارك عن سليمان التيمي, عن أبي عثمان النهدي, عن ابن مسعود, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يمنعن أحدكم أذان بلال عن سحوره, أو قال نداء بلال, فإن بلالاً يؤذن بليل أو قال ينادي لينبه نائمكم وليرجع قائمكم, وليس الفجر أن يقول هكذا وهكذا حتى يقول هكذا", ورواه من وجه آخر عن التيمي به, وحدثني الحسن بن الزبرقان النخعي حدثني أبو أسامة عن محمد بن أبي ذئب, عن الحارث بن عبد الرحمن, عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان, وإنما هو المستطير الذي يأخذ الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام وهذا مرسل جيد وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج عن عطاء: سمعت ابن عباس يقول: هما فجران, فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئاً, ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب, وقال عطاء فأما إذا سطع سطوعاً في السماء, وسطوعه أن يذهب في السماء طولاً, فإنه لا يحرم به شراب الصائم ولا صلاة ولا يفوت به الحج, ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال, حرم الشراب للصيام وفات الحج, وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء, وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله.
(مسألة) ومن جعله تعالى الفجر غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام يستدل على أنه من أصبح جنباً فليغتسل وليتم صومه ولا حرج عليه, وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً, لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم وفي حديث أم سلمة عندهما: ثم لا يفطر ولا يقضي, وفي صحيح مسلم عن عائشة, أن رجلاً قال: يا رسول الله, تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم" فقال: لست مثلنا يا رسول الله, فقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر , فقال "والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق عن معمر, عن همام, عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, أنه قال "إذا نودي للصلاة صلاة الصبح وأحدكم جنب فلا يصم يومئذ" فإنه حديث جيد الإسناد على شرط الشيخين كما ترى, وهو في الصحيحين عن أبي هريرة, عن الفضل بن عباس, عن النبي صلى الله عليه وسلم, وفي سنن النسائي عنه عن أسامة بن زيد والفضل بن عباس ولم يرفعه: فمن العلماء من علل هذا الحديث بهذا, ومنهم من ذهب إليه, ويحكى هذا عن أبي هريرة وسالم وعطاء وهشام بن عروة والحسن البصري, ومنهم من ذهب إلى التفرقة بين أن يصبح جنباً نائماً فلا عليه, لحديث عائشة وأم سلمة, أو مختاراً فلا صوم له, لحديث أبي هريرة, يحكى هذا عن عروة وطاوس والحسن, ومنهم من فرق بين الفرض فيتم فيقضيه, وأما النفل فلا يضره, رواه الثوري عن منصور , عن إبراهيم النخعي وهو رواية عن الحسن البصري أيضاً, ومنهم من ادعى نسخ حديث أبي هريرة بحديثي عائشة وأم سلمة, ولكن لا تاريخ معه, وادعى ابن حزم أنه منسوخ بهذه الاية وهو بعيد أيضاً إذ لا تاريخ بل الظاهر من التاريخ خلافه, ومنهم من حمل حديث أبي هريرة على نفي الكمال فلا صوم له, لحديث عائشة وأم سلمة الدالين على الجواز, وهذا المسلك أقرب الأقوال وأجمعها, والله أعلم. "ثم أتموا الصيام إلى الليل" يقتضي الإفطار عند غروب الشمس حكماً شرعياً, كما جاء في الصحيحين عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أقبل الليل من ههنا, وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم" وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر" أخرجاه, وقال الإمام أحمد: حدثنا الوليد بن مسلم, حدثنا الأوزاعي, حدثنا قرة بن عبد الرحمن عن الزهري, عن أبي سلمة, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "يقول الله عز وجل إن أحب عبادي إلي أعجلهم فطراً" ورواه الترمذي من غير وجه عن الأوزاعي به, وقال: هذا حديث حسن غريب, وقال أحمد أيضاً: حدثنا عفان, حدثنا عبيد الله بن إياد, سمعت إياد بن لقيط , سمعت ليلى امرأة بشير بن الخصاصية قالت أردت أن أصوم يومين مواصلة, فمنعني بشير وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال "يفعل ذلك النصارى, ولكن صوموا كما أمركم الله "ثم أتموا الصيام إلى الليل" فإذا كان الليل فأفطروا" ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال وهو أن يصل يوماً بيوم ولا يأكل بينهما شيئاً, قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة, عن أبي هريرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تواصلوا قالوا: يا رسول الله إنك تواصل, قال "فإني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني" قال: فلم ينتهوا عن الوصال فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ثم رأوا الهلال, فقال: "لو تأخر الهلال لزدتكم" كالمنكل لهم, وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري به, وكذلك أخرجا النهي عن الوصال من حديث أنس وابن عمر , وعن عائشة رضي الله عنهما, قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم, فقالوا: إنك تواصل, قال: "إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني" فقد ثبت النهي عنه من غير وجه وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يقوى على ذلك ويعان, والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان معنوياً لا حسياً, وإلا فلا يكون مواصلاً مع الحسي, ولكن كما قال الشاعر:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد
وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك, كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر " قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال "إني لست كهيئتكم, إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني" أخرجاه في الصحيحين أيضاً, وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب, حدثنا أبو نعيم, حدثنا أبو إسرائيل العبسي عن أبي بكر بن حفص, عن أم ولد حاطب بن أبي بلتعة: أنها مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر فدعاها إلى الطعام, فقالت: إني صائمة, قال: وكيف تصومين. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم, فقال: أين أنت من وصال آل محمد من السحر إلى السحر وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق, حدثنا إسرائيل عن عبد الأعلى, عن محمد بن علي, عن علي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل من السحر إلى السحر, وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن الزبير وغيره من السلف: أنهم كانوا يواصلون الأيام المتعددة, وحمله منهم على أنهم كانوا يفعلون ذلك رياضة لأنفسهم لا أنهم كانوا يفعلونه عبادة, والله أعلم. ويحتمل أنهم كانوا يفهمون من النهي أنه إرشاد من باب الشفقة, كما جاء في حديث عائشة: رحمة لهم, فكان ابن الزبير وابنه عامر ومن سلك سبيلهم يتجشمون ذلك ويفعلونه, لأنهم كانوا يجدون قوة عليه, وقد ذكر عنهم أنهم كانوا أول ما يفطرون على السمن والصبر لئلا تتخرق الأمعاء بالطعام أولاً, وقد روي عن ابن الزبير أنه كان يواصل سبعة أيام ويصبح في اليوم السابع أقواهم وأجلدهم, وقال أبو العالية: إنما فرض الله الصيام بالنهار , فإذا جاء بالليل فمن شاء أكل ومن شاء لم يأكل. قوله تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان, فحرم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهاراً حتى يقضي اعتكافه وقال الضحاك كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء , فقال الله تعالى: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره. وكذا قال مجاهد وقتادة وغير واحد: أنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت هذه الاية, قال ابن أبي حاتم: روي عن ابن مسعود ومحمد بن كعب ومجاهد وعطاء والحسن وقتادة والضحاك والسدي والربيع بن أنس ومقاتل, قالوا: لا يقربها وهو معتكف وهذا الذي حكاه عن هؤلاء هو الأمر المتفق عليه عند العلماء أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفاً في مسجده, ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بد له منها فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك من قضاء الغائط أو الأكل, وليس له أن يقبل امرأته ولا أن يضمها إليه, ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه, ولا يعود المريض لكن يسأل عنه وهو مار في طريقه, وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابها, منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ومنها ما هو مختلف فيه, وقد ذكرنا قطعة صالحة من ذلك في آخر كتاب الصيام, ولله الحمد والمنة, ولهذا كان الفقهاء المصنفون يتبعون كتاب الصيام بكتاب الاعتكاف اقتداء بالقرآن العظيم, فإنه نبه على ذكر الاعتكاف بعد ذكر الصوم. وفي ذكره تعالى, الاعتكاف بعد الصيام إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام, كما ثبتت في السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل, ثم اعتكف أزواجه من بعده, أخرجاه من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, وفي الصحيحين أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد, فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها, وكان ذلك ليلاً, فقام النبي صلى الله عليه وسلم ليمشي معها حتى تبلغ دارها, وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة, فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار , فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا, وفي رواية: تواريا, أي حياء من النبي صلى الله عليه وسلم لكون أهله معه, فقال لهما صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما إنها صفية بنت حيي" أي لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي, فقالا: سبحان الله يا رسول الله, فقال صلى الله عليه وسلم "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم, وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً, أو قال: شراً" قال الشافعي رحمه الله: أراد عليه السلام أن يعلم أمته التبري من التهمة في محلها, لئلا يقعا في محذور , وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً, والله أعلم, ثم المراد بالمباشرة إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك, فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به, فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلي رأسه فأرجله وأنا حائض, وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان, قالت عائشة: ولقد كان المريض يكون في البيت, فما أسأل عنه, إلا وأنا مارة, وقوله "تلك حدود الله" أي هذا الذي بيناه وفرضناه وحددناه من الصيام وأحكامه وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه, حدود الله أي شرعها الله وبينها بنفسه, فلا تقربوها أي لا تجاوزوها وتتعدوها, وكان الضحاك ومقاتل يقولان في قوله "تلك حدود الله" أي المباشرة في الاعتكاف, وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يعني هذه الحدود الأربعة, ويقرأ " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل " قال: وكان أبي وغيره من مشيختنا يقولون هذا ويتلونه علينا: "كذلك يبين الله آياته للناس" أي كما بين الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم "للناس لعلهم يتقون" أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون, كما قال تعالى: "هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور وإن الله بكم لرؤوف رحيم".
قوله: 187- "أحل لكم" فيه دلالة على أن هذا الذي أحله الله كان حراماً عليهم، وهكذا كان كما يفيده السبب لنزول الآية وسيأتي. والرفث: كناية عن الجماع. قال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وكذا قال الأزهري، ومنه قول الشاعر:
ويرين من أنس الحديث زوانيا وبهن عن رفث الرجال نفار
وقيل الرفث: أصله قول الفحش، رفث وأرفث: إذا تكلم بالقبيح، وليس هو المراد هنا، وعدي الرفث بإلى لتضمينه معنى الإمضاء، وجعل النساء لباساً للرجال، والرجال لباساً لهن لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ولابسه. قال أبو عبيدة وغيره: يقال للمرأة: لباس وفراش وإزار. وقيل: إنما جعل كل واحد منهما لباساً للآخر لأنه يستره عند الجماع عن أعين الناس. وقوله: " تختانون أنفسكم " أي تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم، يقال: خان واختان بمعنى، وهما من الخيانة. قال القتيبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه انتهى. وإنما سماهم خائنين لأنفسهم لأن ضرر ذلك عائد عليهم وقوله: "فتاب عليكم" يحتمل معنيين: أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة كقوله: "علم أن لن تحصوه فتاب عليكم" يعني خفف عنكم، وكقوله: "فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله" يعني تخفيفاً، وهكذا قوله: "وعفا عنكم" يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل. وقوله: "وابتغوا" قيل هو الولد: أي ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح وهو حصول النسل، وقيل: المراد ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه قاله الزجاج وغيره، وقيل: ابتغوا الرخصة والتوسعة، وقيل: ابتغوا ما كتب لكم من الإماء والزوجات، وقيل غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني، ولا دل عليه دليل آخر، وقرأ الحسن البصري واتبعوا بالعين المهملة من الإتباع، وقوله: "حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" هو تشبيه بليغ، والمراد هنا بالخيط الأبيض: هو المعترض في الأفق، لا الذي هو كذنب السرحان، فإن الفجر الكذاب الذي لا يحل شيئاً ولا يحرمه. والمراد بالخيط الأسود: سواد الليل، والتبين: أن يمتاز أحدهما عن الآخر، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر. وقوله: "ثم أتموا الصيام إلى الليل" فيه التصريح بأن اللصوم غاية هي الليل، فعند إقبال الليل من المشرق وإدبار النهار من المغرب يفطر الصائم ويحل له الأكل والشرب وغيرهما. وقوله: "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قيل: المراد بالمباشرة هنا الجماع، وقيل: تشمل التقبيل واللمس إذا كانا لشهوة لا إذا كانا لغير شهوة، فهما جائزان كما قاله عطاء والشافعي وابن المنذر وغيرهم، وعلى هذا يحتمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل، فتكون هذه الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكونا لشهوة، والاعتكاف في اللغة: الملازمة، يقال عكف على الشيء: إذا لازمه، ومنه قول الشاعر:
وظل بنات الليل حولي عكفاً عكوف البواكي حولهن صريع
ولما كان المعتكف يلازم المسجد قيل له: عاكف في المسجد ومعتكف فيه، لأنه يحبس نفسه لهذه العبادة في المسجد والاعتكاف في الشرع: ملازمة طاعة مخصوصة على شرط مخصوص. وقد وقع الإجماع على أنه ليس بواجب وعلى أنه لا يكون إلا في مسجد، وللإعتكاف أحكام مستوفاة في كتب الفقه وشروح الحديث. وقوله: "تلك حدود الله" أي هذه الأحكام حدود الله. وأصل الحد المنع، ومنه سمي البواب والسبحان حداداً، وسميت الأوامر والنواهي حدود الله، لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج عنها ما هو منها، ومن ذلك سميت الحدود حدوداً لأنها تمنع أصحابها من العود. ومعنى النهي عن قربانها النهي عن تعديها بالمخالفة لها، وقيل: إن حدود الله هي محارمه فقط، ومنها المباشرة من المعتكف والإفطار في رمضان لغير عذر وغير ذلك مما سبق النهي عنه، ومعنى النهي عن قربانها على هذا واضح. وقوله: "كذلك يبين الله آياته" أي كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم العلامات الهادية إلى الحق وقد أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن البراء بن عازب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائماً، فكان يومه ذلك يعمل في أرضه، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال: هل عندك طعام؟ قالت: لا، ولكن انطلق فأطلب لك، فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته، فلما رأته نائماً قالت: خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: "أحل لكم ليلة الصيام" إلى قوله: "من الفجر" ففرحوا بها فرحاً شديداً. وأخرج البخاري أيضاً من حديثه قال: لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، فكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم" الآية. وقد روي في بيان سبب نزول هذه الآية أحاديث عن جماعة من الصحابة نحو ما قاله البراء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان الناس أول ما أسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه حتى إذا أمسى طعم من الطعام، ثم قال: وإن عمر بن الخطاب أتى امرأته، ثم أتى رسول الله فقال: يا رسول إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي، وذكر ما وقع منه، فنزل قوله تعالى: "أحل لكم ليلة الصيام" الآية. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: إن المسلمين كانوا في شهر رمضان، إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام والشراب إلى مثلها من القابلة، ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا النساء والطعام في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله "أحل لكم ليلة الصيام" الآية. وأخرج ابن أبي شيبة ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال: الرفث الجماع. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر مثله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرفث واللمس والمس هذا الجماع، غير أن الله حيي كريم يكني بما شاء عما شاء. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: "هن لباس لكم وأنتم لباس لهن" قال: هن سكن لكم وأنتم سكن لهن. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "تختانون أنفسكم" قال: تظلمون أنفسكم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: "فالآن باشروهن" قال: انكحوهن. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة والضحاك مثله. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ليلة القدر. وأخرج البخاري في تاريخه عن أنس مثله. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال: "وابتغوا" الرخصة التي كتب الله لكم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد. قال: أنزلت "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود" ولم ينزل "من الفجر" فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله "من الفجر" فعلموا أنه يعني الليل والنهار. وفي الصحيحين وغيرهما "عن عدي بن حاتم، أنه جعل تحت وسادة خيطين أبيض وأسود، وجعل ينظر إليهما فلا يتبين له الأبيض من الأسود، فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: إن وسادك إذاً لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل". وفي رواية في البخاري وغيره. إنه" قال له: إنك لعريض القفا". وفي رواية عند ابن جرير وابن أبي حاتم: "أنه ضحك منه" وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن الضحاك قال: كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزلت "ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد". وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن الربيع نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: "إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه ويستأنف". وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "تلك حدود الله" قال: يعني طاعة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك. قال: "حدود الله" معصية الله: يعني المباشرة في الاعتكاف. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنها الجماع. وأخرج أيضاً عن سعيد بن جبير في قوله: "كذلك" يعني هكذا يبين الله.
187. قوله تعالى: " أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " فالرفث كناية عن الجماع، قال ابن عباس: إن الله تعالى حيي كريم يكنى كل ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدخول والرفث فإنما عنى به الجماع وقال الزجاج : الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجال من النساء، قال أهل التفسير: كان في ابتداء الأمر إذا أفطر الرجل حل له الطعام والشراب والجماع إلى أن يصلي العشاء الآخرة أو يرقد قبلها، فإذا صلى العشاء أو رقد قبلها حرم عليه الطعام والنساء إلىالليلة القابلة، ثم "إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه واقع أهله بعد ما صلى العشاء فلما اغتسل أخذ يبكي ويلوم نفسه، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، إني رجعت إلى أهلي بعدما صليت العشاء فوجدت رائحة طيبة فسولت لي نفسي فجامعت أهلي فهل تجد لي من رخصة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت جديراً بذلك يا عمر فقام رجال فاعترفوا بمثله فنزل في عمر وأصحابه.
" أحل لكم "" أي أبيح لكم " ليلة الصيام " أي في ليلة الصيام " الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم " أي سكن لكم " وأنتم لباس لهن " أي سكن لهن دليله. قوله تعالى: " وجعل منها زوجها ليسكن إليها " (189-الأعراف) وقيل لا يسكن شيء كسكون أحد الزوجين لى الآخر، وقيل: سمي كل واحد من الزوجين لباساً لتجردهما عند النوم واجتماعهما في ثوب واحد حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه، وقال الربيع بن أنس: هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن، قال أبو عبيدة وغيره: يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك وقيل: اللباس اسم لما يواري الشيء فيجوز أن يكون كل واحد منهما ستراً لصاحبه عما لا يحل كما جاء في الحديث: " من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه ".
" علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم " أي تخونوها وتظلموها بالمجامعة بعد العشاء، قال البراء: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى" علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم " " فتاب عليكم " تجاوز عنكم " وعفا عنكم " محا ذنوبكم " فالآن باشروهن " جامعوهن حلالاً، سميت المجامعة مباشرة لتلاصق بشرة كل واحد منهم لصاحبه، " وابتغوا ما كتب الله لكم " أي فاطلبوا ما قضى الله لكم، وقيل ما كتب الله لكم في اللوح المحفوظ يعني الولد، قاله أكثر المفسرين، قال مجاهد : ابتغوا الولد إن لم تلد هذه فهذه وقال قتادة : وابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم بإباحة الأكل والشرب والجماع في اللوح المحفوظ، وقال معاذ بن جبل: وابتغوا ما كتب الله لكم يعني ليلة القدر.
قوله: " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض " نزلت في رجل من الأنصار اسمه أبو صرمة ابن قيس بن صرمة، وقال عكرمة : أبو قيس بن صرمه، وقال الكلبي : أبو قيس صرمة بن أنس بن أبي صرمة، وذلك أنه ظل نهاره يعمل في أرض له وهو صائم، فلما أمسى رجع إلى أهله بتمر، وقال لأهله قدمي الطعام فأرادت المرأة أن تطعمه شيئاً سخيناً فأخذت تعمل له سخينة، وكان في الابتداء من صلى العشاء ونام حرم عليه الطعام والشراب، فلما فرغت من طعامه إذ هي به قد نام وكان قد أعيا وكل فأيقظته فكره أن يعصي الله ورسوله، فأبى أن يأكل فأصبح صائماً مجهوداً، فلم ينتصف النهار حتى غشي عليه، فلما أفاق أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا قيس مالكأمسيت طليحاً فذكر له ماله فاغتم لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل " وكلوا واشربوا " يعني في ليالي الصوم " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود " يعني بياض النهار من سواد الليل، سميا خيطين لأن كل واحد منهما يبدو في الابتداء ممتداً كالخيط.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف اخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا سعيد بن مريم أخبرنا أبو غسان محمد بن مطرف ثنا أبو حازم عن سهل بن سعد قال: أنزلت " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود " ولم ينزل قوله: " من الفجر " فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى بعده " من الفجر " فعلموا أنما يعني بهما الليل والنهار.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحجاج بن منهال أخبرنا هشيم أخبرنا حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: لما نزلت " حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود " عمدت إلى عقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر إليهما وإلى الليل فلا يستبين لي فغدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال " إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار ".
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن بلالاً ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم " قال " كان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت " واعلم أن الفجر فجران كاذب وصادق، فالكاذب يطلع أولاً مستطيلاً كذنب السرحان يصعد إلى السماء فبطلوعه لا يخرج الليل ولا يحرم الطعام والشراب على الصائم، ثم يغيب فيطلع بعده الفجر الصادق مستطيراً ينتشر سريعاً في الأفق، فبطلوعه يدخل النهار ويحرم الطعام والشراب على الصائم.
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي أخبرنا أبو العباس المحبوبي أخبرنا أبو عيسى الترمذي أخبرنا هناد و يوسف بن عيسى قالا: أخبرنا وكيع عن أبي هلال عن سوادة بن حنظلة عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال ولا الفجر المستطيل ولكن الفجر المستطير في الأفق ".
قوله تعالى: " ثم أتموا الصيام إلى الليل " فالصائم يحرم عليه الطعام والشراب بطلوع الفجر الصادق ويمتد إلى غروب الشمس فإذا غربت حصل الفطر.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا الحميدي أخبرنا سفيان أخبرنا هشام بن عروة قال: سمعت أبي يقول: سمعت عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم ".
قوله تعالى: " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " [وقد نويتم الإعتكاف في المساجد وليس المراد عنمباشرتهن في المساجد لأن ذلك ممنوع منه في غير الاعتكاف] والعكوف هو الإقامة على الشيء والاعتكاف في الشرع هو الإقامة في المسجد على عبادة الله، وهو سنة ولا يجوز في غير المسجد ويجوز في جميع المساجد.
أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل أخبرنا عبد الله بن يوسف أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة ابن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم (( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده )) والآية نزلت في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يعتكفون في المسجد، فإذا عرضت للرجل منهم الحاجة إلى أهله خرج إليها فجامعها ثم اغتسل، فرجع إلى المسجد فنهوا عن ذلك ليلاً ونهاراً حتى يفرغوا من اعتكافهم، فالجماع حرام في حال الاعتكاف ويفسد به الاعتكاف، أما ما دون الجماع من المباشرات كالقبلة واللمس بالشهوة، فمكروه ولا يفسد به الاعتكاف عند أكثر أهل العلم وهو أظهر قولي الشافعي ، كما لا يبطل به الحج، وقالت طائفة يبطل بها اعتكافه وهو قول مالك ، وقيل إن أنزل بطل اعتكافه وإن لم ينزل فلا كالصوم، وأما اللمس الذي لا يقصد به التلذذ فلا يفسد به الاعتكاف لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عمرة بني عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف أدنى إلي رأسه فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان )).
قوله تعالى: " تلك حدود الله " يعني تلك الأحكام التي ذكرها في الصيام والاعتكاف، حدود الله أي: ما منع الله عنها، قال السدي : شروط الله، وقال شهر بن حوشب : فرائض الله، وأصل الحد في اللغة المنع، ومنه يقال للبواب حداد، لأنه يمنع الناس من الدخول، وحدود الله ما منع الله من مخالفتها " فلا تقربوها " فلا تأتوها " كذلك " هكذا " يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون " لكي يتقوها فينجوا من العذاب.
187-" أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم " روي أن المسلمين كانوا إذا أمسو احل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء الآخرة أو يرقدوا ، ثم : إن عمر رضي الله عنه باشر بعد العشاء فندم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم واعتذر إليه ، فقام رجال واعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزلت وليلة الصيام : الليلة التي تصبح منها صائماً ،والرفث : كناية عن الجماع ، لأنه لا يكاد يخلو من رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه ، وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء ، وإيثاره ههنا لتقبيح ما ارتكبوه و لذلك سماه خيانة . وقرئ الرفوث " هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " استئناف يبين سبب الإحلال وهو قلة الصبر عنهن ، وصعوبة اجتنابهن لكثرة المخالطة وشدة الملابسة ، ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه باللباس قال الجعدي :
إذا ما الضجيع ثنى عطفها تثنت فكانت عليه لباسا
أو لأن كل واحد منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور . " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم " تظلمونها بتعريضها للعقاب ، وتنقيص حظها من الثواب ،والاختيان أبلغ من الخيانة كالاكتساب من الكسب . " فتاب عليكم " لما تبتم مما اقترفتموه . " وعفا عنكم " ومحا عنكم أثره . " فالآن باشروهن " لما نسخ عنكم التحريم وفيه دليل على جواز نسخ السنة بالقرآن ، والمباشرة : إلزاق البشرة كني به عن الجماع . " وابتغوا ما كتب الله لكم " واطلبوا ما قدره لكم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد ، والمعنى أن المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد فإنه الحكمة من خلق الشهوة . وشرع النكاح لاقضاء الوطر ، وقيل النهي عن العزل ، وقيل عن غير المأتي : والتقدير وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم . " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " شبه أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل ، بخيطين أبيض وأسود ، واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله " من الفجر " عن بيان " الخيط الأسود " ، لدلالته عليه . وبدلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل . ويجوز أن تكون من للتبعيض ، فإن ما يبدو بعض الفجر . وما روي أنها نزلت ولم ينزل من الفجر ، فعمد رجال إلى خيطين أسود وأبيض ولا يزالون يأكلون ويشربون حتى يتبينا لهم فنزلت ، إن صح فلعله كان قبل دخول رمضان وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائزة ، أو أكتفى أولاً باشتهارهما في ذلك ثم صرح بالبيان لما التبس على بعضهم وفي تجويز المباشرة إلى الصبح الدلالة على جواز تأخير الغسل إليه وصحة صوم المصبح جنباً " ثم أتموا الصيام إلى الليل " بيان لآخر وقته ، وإخراج الليل عنه فينفي صوم الوصال " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " معتكفون فيها والاعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد القربة . والمراد بالمباشرة : الوطء . وعن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع فنهوا عن ذلك . فيه دليل على أن الاعتكاف يكون في المسجد ولا يختص بمسجد دون مسجد . وأن الوطء يحرم فيه ويفسده لأن النهي في العبادات يوجب الفساد . " تلك حدود الله " أي الأحكام التي ذكرت . " فلا تقربوها " نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يداني الباطل ، فضلاً عن أن يتخطى عنه . كما قال عليه الصلاة والسلام " إن لكل ملك حمى و إن حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه " . وهو أبلغ من قوله " فلا تعتدوها " ، ويجوز أن يريد بـ " حدود الله " محارمه ومناهيه . " كذلك " مثل ذلك التبيين " يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون " مخالفة الأوامر والنواهي .
187. It is made lawful for you to go unto your wives on the night of the fast. They are raiment for you and ye are raiment for them. Allah is aware that ye were deceiving yourselves in this respect and He hath turned in mercy toward you and relieved you. So hold intercourse with them and seek that which Allah hath ordained for you, and eat and drink until the white thread becometh distinct to you from the black thread of the dawn. Then strictly observe the fast till nightfall and touch them not, but be at your devotions in the mosques. These are the limits imposed by Allah, so approach them not. Thus Allah expoundeth His revelations to mankind that they may ward off (evil).
187 - Permitted to you, on the night of the fasts, is the approach to your wives. they are your garments and ye are their garments. God knoweth what ye used to do secretly among yourselves; but he turned to you and forgave you; so now associate with them, and seek what God hath ordained for you, and eat and drink, until the white thread of dawn appear to you distinct from its black thread; then complete your fast till the night appears; but do not associate with your wives while ye are in retreat i n the mosques. those are limits (set by) God: approach not nigh thereto. thus doth God make clear his signs to men: that they may learn self restraint.