(و) اذكر (إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) أي العهد عليهم في التوراة (ليبيننه) أي الكتاب (للناس ولا يكتمونه) أي الكتاب بالياء والتاء بالفعلين (فنبذوه) طرحوا الميثاق (وراء ظهورهم) فلم يعملوا به (واشتروا به) أخذوا بدله (ثمنا قليلا) من الدنيا من سفلتهم برياستهم في العلم فكتموه خوف فوته عليهم (فبئس ما يشترون) شراؤهم هذا
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره : واذكر أيضاً من [أمر] هؤلاء اليهود وغيرهم من أهل الكتاب منهم ، يا محمد، إذا أخذ الله ميثاقهم ليبينن للناس أمرك الذي أخذ ميثاقهم على بيانه للناس في كتابهم الذي في أيديهم ، وهو التوراة ولإنجيل، وأنك لله رسول مرسل بالحق ولا يكتمونه ، "فنبذوه وراء ظهورهم"، يقول : فتركوا أمر الله وضيعوه ، ونقضوا ميثاقه الذي أخذ عليهم بذلك ، فكتموا أمرك ، وكذبوا بك ، "واشتروا به ثمنا قليلا"، يقول : وابتاعوا بكتمانهم ما أخذ عليهم الميثاق أن لا يكتموه من أمر نبوتك ، عوضاً منه خسيساً قليلاً من عرض الدنيا. ثم ذم جل ثناؤه شراءهم ما اشتروا به من ذلك فقال : "فبئس ما يشترون".
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية . فقال بعضهم : عني بها اليهود خاصة.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا يونس بن بكير قال ، حدثنا محمد بن إسحق قال ، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة : أنه حدثه ، عن ابن عباس : "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه" إلى قوله : "عذاب أليم"، يعني فنحاص وأشيع وأشباههما من الأحبار.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، عن عكرمة مولى ابن عباس مثله.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم"، كان أمرهم أن يتبعوا النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ، وقال : "اتبعوه لعلكم تهتدون" [الأعراف : 158]. فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم قال : "أوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون" [البقرة : 45]، عاهدهم على ذلك ، فقال حين بعث محمداً : صدقوه ، وتلقون الذي أحببتم عندي.
حدثنا محمد قال ، حدثنا أحمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس" الآية، قال : إن الله أخذ ميثاق اليهود ليبينه للناس ، محمداً صلى الله عليه وسلم ، ولا يكتمونه ، "فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا".
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا الثوري ، عن أبي الجحاف ، عن مسلم البطين قال : سأل الحجاج بن يوسف جلساءه عن هذه الآية: "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، فقام رجل إلى سعيد بن جبير فسأله فقال : "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، يهود، ليبينه للناس، محمدا صلى الله عليه وسلم ، ولا يكتمونه فنبذوه.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قوله : "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه"، قال : وكان فيه أن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده ، وأن محمداً يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ولإنجيل.
وقال آخرون : عني بذلك كل من أوتي علماً بأمر الدين.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة : "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم" الآية، هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ، فمن علم شيئاً فليعلمه ، وإياكم وكتمان العلم ، فإن كتمان العلم هلكة، ولا يتكلفن رجل ما لا علم له به ، فيخرج من دين الله فيكون من المتكلفين ، كان يقال : مثل علم لا يقال به ، كمثل كنز لا ينفق منه ! ومثل حكمة لا تخرج ، كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب. وكان يقال : طوبى لعالم ناطق ، وطوبى لمستمع واع . هذا رجل علم علماً فعلمه وبذله ودعا إليه ، ورجل سمع خيراً فحفظه ووعاه وانتفع به.
حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة قال : جاء رجل إلى قوم في المسجد وفيه عبد الله بن مسعود فقال : إن أخاكم كعباً يقرئكم السلام ، ويبشركم أن هذه الآية ليست فيكم : "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه". فقال له عبد الله : وأنت فأقره السلام وأخبره أنها نزلت وهو يهودي.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن الأعمش ، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، بنحوه ، عن عبد الله وكعب.
وقال آخرون : معنى ذلك : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم . ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار قال ، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان قال ، حدثني يحيى بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن أصحاب عبد الله يقرأون : وإذ أخذ ربك من الذين أوتوا الكتاب ميثاقهم، قال : من النبيين على قومهم.
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا قبيصة قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن سعيد قال ، قلت لابن عباس : إن أصحاب عبد الله يقرأون : "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين" قال فقال : أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم . وأما قوله : "لتبيننه للناس"، فإنه كما:
حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا محمد بن ذكوان قال ، حدثنا أبو نعامة السعدي قال : كان الحسن يفسر قوله : "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه"، لتتكلمن بالحق ، ولتصدقنه بالعمل.
قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة ذلك:
فقرأه بعضهم "لتبيننه للناس ولا تكتمونه" بالتاء. وهي قراءة عظم قرأة أهل المدينة والكوفة، على وجه المخاطب ، بمعنى : قال الله لهم : لتبيننه للناس ولا تكتمونه.
وقرأ ذلك آخرون : ليبيننه للناس ولا يكتمونه بالياء جميعاً، على وجه الخبر عن الغائب ، وإنما هم في وقت إخبار الله نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك عنهم ، كانوا غير موجودين ، فصار الخبر عنهم كالخبر عن الغائب.
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندنا أنهما قراءتان ، صحيحة وجوههما، مستفيضتان في قرأة الإسلام ، غير مختلفتي المعاني ، فبأيتهما قرأ القارىء فقد أصاب الحق والصواب في ذلك.
غير أن الأمر في ذلك وإن كان كذلك ، فإن أحب القراءتين إلي أن أقرأ بها: "لتبيننه للناس ولا تكتمونه"، بالياء جميعاً، استدلالاً بقوله : "فنبذوه"، إذ كان قد خرج مخرج الخبر عن الغائب على سبيل قوله : "فنبذوه"، حتى يكون متسقاً كله على معنى واحد ومثال واحد. ولو كان الأول بمعنى الخطاب ، لكان أن يقال : فنبذتموه وراء ظهوركم أولى، من أن يقال : فنبذوه وراء ظهورهم.
وأما قوله: "فنبذوه وراء ظهورهم".فإنه مثل لتضييعهم القيام بالميثاق وتركهم العمل به.
وقد بينا المعنى الذي من أجله قيل ذلك كذلك ، فيما مضى من كتابنا هذا فكرهنا إعادته.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا يحيى بن أيوب البجلي ، عن الشعبي في قوله : "فنبذوه وراء ظهورهم"، قال : إنهم قد كانوا يقرأونه ، إنما نبذوا العمل به.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : "فنبذوه وراء ظهورهم"، قال : نبذوا الميثاق. حدثني محمد بن سنان قال ، حدثنا عثمان بن عمر قال ، حدثنا مالك بن مغول قال : نبئت عن الشعبي في هذه الآية : "فنبذوه وراء ظهورهم"، قال : قذفوه بين أيديهم ، وتركوا العمل به.
وأما قوله : "واشتروا به ثمنا قليلا"، فإن معناه ما قلنا، من أخذهم ما أخذوا على كتمانهم الحق وتحريفهم الكتاب ،كما:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "واشتروا به ثمنا قليلا"، أخذوا طمعاً، وكتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله : "فبئس ما يشترون"، يقول : فبئس الشراء يشترون في تضييعهم الميثاق وتبديلهم الكتاب ، كما:
حدثنا محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "فبئس ما يشترون"، قال : تبديل اليهود التوراة.
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " هذا متصل بذكر اليهود ، فإنهم أمروا بالإيمان بمحمد عليه السلام ، وبيان أمره ، فكتموا نعته ، فالآية توبيخ لهم ، ثم مع ذلك هو خبر عام لهم ولغيرهم ، قال الحسن و قتادة : هي في كل من أوتي علم شيء من الكتاب ، فمن علم شيئاً فليعلمه ، وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة ، وقال محمد بن كعب : لا يحل لعالم أن يسكت على علمه ، ولا للجاهل أن يسكت على جهله ، قال الله تعالى : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " ، وقال : " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " [ الأنبياء : 7 ] ، وقال أبو هريرة : لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ، ثم تلا هذه الآية : " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب " وقال الحسن بن عمارة : أتيت الزهري بعد ما ترك الحديث ، فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت تحدثني ، فقال : أما علمت أني تركت الحديث ؟ فقلت : إما أن تحدثني وإما أن أحدثك ، قال حدثني ، قلت : حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال سمعت علي بن أبي طالب يقول : ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا ، قال : فحدثني أربعين حديثاً .
الثانية : الهاء في قوله : " لتبيننه للناس " ترجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر ، وقيل : ترجع إلى الكتاب ، ويدخل فيه بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه في الكتاب ، وقال " ولا تكتمونه " ولم يقل تكتمنه لأنه في معنى الحال ، أي لتبيننه غير كاتمين ، وقرأ أبو عمرو و عاصم في رواية أبي بكر وأهل مكة ( لتبيننه ) بالتاء على حكاية الخطاب ، والباقون بالياء لأنهم غيب ، وقرأ ابن عباس ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين ليبيننه ) فيجيء قوله " فنبذوه " عائداً على الناس الذين بين لهم الأنبياء ، وفي قراءة ابن مسعود ( ليبيونه ) دون النون الثقيلة ، والنبذ الطرح ، وقد تقدم بيانه في البقرة ، " وراء ظهورهم " مبالغة في الإطراح ، ومنه " واتخذتموه وراءكم ظهريا " وقد تقدم في البقرة بيانه أيضاً ، وتقدم معنى قوله : " واشتروا به ثمنا قليلا " في البقرة فلا معنى لإعادته " فبئس ما يشترون " تقدم أيضاً ، والحمد لله .
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم, وأن ينوهوا بذكره في الناس, ليكونوا على أهبة من أمره, فإذا ارسله الله تابعوه, فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والاخرة بالدون الطفيف, والخط الدنيوي السخيف, فبئست الصفقة صفقتهم, وبئست البيعة بيعتهم, وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم, ويسلك بهم مسالكهم, فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع, الدال على العمل الصالح, ولا يكتموا منه شيئاً, فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم, أنه قال: "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" وقوله تعالى: "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا", يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا, كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "من ادعى دعوة كاذبة ليتكثر بها, لم يزده الله إلا قلة"., وفي الصحيح أيضاً "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور", وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج عن ابن جريج , أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان قال: اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرىء منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون, فقال ابن عباس : وما لكم وهذه, إنما نزلت هذه في أهل الكتاب, ثم تلا ابن عباس "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون * لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا" الاية. وقال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه, واستحمدوا بذلك إليه, وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه, وهكذا رواه البخاري في التفسير, و مسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما, و ابن أبي حاتم , وابن جرير, والحاكم في مستدركه و ابن مردويه كلهم من حديث عبد الملك بن جريج بنحوه, ورواه البخاري أيضاً من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن وقاص , أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس , فذكره وقال البخاري : حدثنا سعيد بن أبي مريم , أنبأنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار , عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه, وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا, وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا, فنزلت "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا" الاية, وكذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم بنحوه. وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم , قال: كان أبو سعيد ورافع بن خديج وزيد بن ثابت عند مروان فقال: يا أبا سعيد رأيت قوله تعالى: "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا", ونحن نفرح بما أتينا ونحب أن نحمد بما لم نفعل ؟ فقال أبو سعيد : إن هذا ليس من ذاك, إنما ذاك أن ناساً من المنافقين كانوا يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً, فإن كان فيهم نكبة فرحوا بتخلفهم, وإن كان لهم نصر من الله وفتح حلفوا لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح, فقال مروان : أين هذا من هذا ؟ فقال أبو سعيد : وهذا يعلم هذا ؟ فقال مروان : أكذلك يا زيد ؟ قال: نعم صدق أبو سعيد , ثم قال أبو سعيد : وهذا يعلم ذاك ـ يعني رافع بن خديج , ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع قلائصه في الصدقة, فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري : ألا تحمدني على ما شهدت لك, فقال أبو سعيد : شهدت الحق فقال زيد : أولا تحمدني على ما شهدت الحق ؟ ثم رواه من حديث مالك عن زيد بن أسلم , عن رافع بن خديج : أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة, فقال مروان : يا رافع في أي شيء نزلت هذه الاية ؟ فذكره كما تقدم عن أبي سعيد رضي الله عنهم, وكان مروان يبعث بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم, فقال له ما ذكرناه ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء, لأن الاية عامة في جميع ما ذكر, والله أعلم, وقد روى ابن مردويه أيضاً من حديث محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة عن الزهري , عن محمد بن ثابت الأنصاري , أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: " يا رسول الله, والله لقد خشيت أن أكون هلكت, قال لم ؟ قال نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد, ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهوري الصوت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ترضى أن تعيش حميداً, وتقتل شهيداً, وتدخل الجنة ؟ فقال: بلى يا رسول الله. فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب " , وقوله تعالى: "فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب" يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد, وبالياء على الإخبار عنهم أي لا يحسبون أنهم ناجون من العذاب بل لا بد لهم منه ولهذا قال تعالى: "ولهم عذاب أليم" ثم قال تعالى " ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير " أي هو مالك كل شيء, والقادر على كل شيء, فلا يعجزه شيء, فهابوه ولا تخالفوه, واحذورا غضبه ونقمته فإنه العظيم الذي لا أعظم منه, والقدير الذي لا أقدر منه.
قوله 187- "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب" هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى، أو اليهود فقط على الخلاف في ذلك- والظاهر أن المراد بأهل الكتاب كل من آتاه الله علم شيء من الكتاب: أي كتاب كان كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب. قال الحسن وقتادة: إن الآية عامة لكل عالم، وكذا قال محمد بن كعب ويدل على ذلك قول أبي هريرة: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم تلا هذه الآية، والضمير في قوله "لتبيننه" راجع إلى الكتاب، وقيل: راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يتقدم له ذكر، لأن الله أخذ على اليهود والنصارى أن يبينوا نبوته للناس ولا يكتموها "فنبذوه وراء ظهورهم". وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وأهل المدينة ليبيننه بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالمثناة الفوقية. وقرأ ابن عباس " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه " ويشكل على هذه القراءة قوله "فنبذوه" فلا بد من أن يكون فاعله الناس. وفي قراءة ابن مسعود لتبينونه والنبذ: الطرح وقد تقدم في البقرة. وقوله "وراء ظهورهم" مبالغة في النبذ والطرح، وقد تقدم أيضاً معنى قوله "اشتروا به ثمناً قليلاً" والضمير عائد إلى الكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عنه كتمانه. وقوله "ثمناً قليلاً" أي: حقيراً يسيراً من حطام الدنيا وأعراضها، قوله "فبئس ما يشترون" ما نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس، ويشترون صفة، والمخصوص بالذم محذوف: أي بئس شيئاً يشترونه بذلك الثمن.
187-"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه "، قرأ ابن كثير وأهل البصرة وأبو بكر بالياء فيهما ، لقوله تعالى: " فنبذوه وراء ظهورهم "، وقرأ الآخرون بالتاء فيها على إضمار القول، "فنبذوه وراء ظهورهم" ، أي: طرحوه وضيعوه وتركوا العمل به ،" واشتروا به ثمناً قليلاً "، يعني: المآكل والرشا،"فبئس ما يشترون"، قالقتادة : هذا ميثاق أخذه الله تعالى على أهل العلم فمن علم شيئاً فليعلمه ، وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لولا ما أخذ الله على اهل الكتاب ما حدثتكم بشئ ، ثم تلا هذه الآية " وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"الآية.
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي أخبرنا أبو معاذ الشاه بن عبد الرحمن أخبرنا أبو بكر عمر ابن سهل بن إسماعيل الدينوري أخبرنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي أخبرنا أبو حذيفة موسى بن مسعود أخبرنا إبراهيم بن طهمان عن سماك بن حرب عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار".
وقال الحسن بن عمارة : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه ، فقلت : إن رأيت أن تحدثني؟ فقال :أما علمت أني قد تركت الحديث ؟فقلت: إما ان تحدثني وإما أن أحدثك ، فقال: حدثني، فقلت: حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال: سمعت علي بن ابي طالب رضي الله عنه يقول: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا ، قال : فحدثني أربعين حديثاً.
187" وإذ أخذ الله " أي اذكر وقت أخذه. " ميثاق الذين أوتوا الكتاب " يريد به العلماء. " لتبيننه للناس ولا تكتمونه " حكاية لمخاطبتهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش بالياء لأنهم غيب، واللام جواب القسم الذي ناب عنه قوله: " أخذ الله ميثاق الذين " والضمير للكتاب. " فنبذوه " أي الميثاق. " وراء ظهورهم " فلم يراعوه ولم يتلفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثل في ترك الاعتداد وعدم الإلتفات، ونقيضه جعله نصب عينيه وإلقاؤه بين عينيه. " واشتروا به ". وأخذوا بدله.
" ثمنا قليلا " من حطام الدنيا وأعراضها. " فبئس ما يشترون " يختارون لأنفسهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم "من كتم علماً عن أهله ألجم بلجام من نار". وعن علي رضي الله تعالى عنه ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا.
187. And (remember) when Allah laid a charge on those who had received the Scripture (He said): Ye are to expound it to mankind and not to hide it. But they flung it behind their backs and bought thereby a little gain. Verily evil is that which they have gained thereby.
187 - And remember God took a covenant from the people of the book, to make it known and clear to mankind, and not to hide it; but they threw it away behind their backs, and purchased with it some miserable gain and vile was the bargain they made