(يسألونك) يا محمد (عن الأهلة) جمع هلال ، لم تبدو دقيقة ثم تزيد حتى تمتلئ نورا ثم تعود كما بدت ولا تكون على حالة واحدة كالشمس (قل) لهم (هي مواقيت) جمع ميقات (للناس) يعلمون بها أوقات زرعهم ومتاجرهم وعدد نسائهم وصيامهم وإفطارهم (والحج) عطف على الناس أي يعلم بها وقته فلو استمرت على حالة لم يعرف ذلك (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) في الإحرام بأن تنقبوا فيها نقبا تدخلون منه وتخرجون وتتركوا الباب وكانوا يفعلون ذلك ويزعمونه برا (ولكن البر) أي ذا البر (من اتقى) الله بترك مخالفته (وأتوا البيوت من أبوابها) في الإحرام (واتقوا الله لعلكم تفلحون) تفوزون
قوله تعالى يسألونك عن الأهلة ك أخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة فنزلت هذه الآية
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال بلغنا أنهم قالوا يا رسول الله لم حلقت الأهلة فأنزل الله يسألونك عن الأهلة
وأخرج أبو نعيم وابن عساكر في تاريخ دمشق من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة قالا يا رسول الله ما بال إلهلال يبدو أو يطلع دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد فنزلت يسألونك عن الأهلة
قوله تعالى وليس البر الآية روى البخاري عن البراء قال كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها الآية
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال كانت قريش تدعى الحمس وكانوا يدخلون من الأبواب في الأحرام وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الأحرام فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذا خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري فقالوا يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر وإنه خرج معك من الباب فقال له ما حملك على ما فعلت قال رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت قال إني رجل أحمسي قال له فإن ديني دينك فأنزل الله وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها الآية
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس نحوه وأخرج الطيالسي في مسنده عن البراء قال كانت الأنصار إذا قدموا من سفر لم يدخل الرجل من قبل بابه فنزلت هذه الآية
وأخرج عبد بن حميد عن قيس بن حبتر النهشلي قال كانوا إذا أحرموا لم يأتوا بيتا من قبل بابه وكانت الحمس بخلاف ذلك فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطا ثم خرج من بابه فأتبعه رجل يقال له رفاعة بن تابوت ولم يكن من الحمس فقالوا يا رسول الله نافق رفاعة فقال ما حملك على ماصنعت قال تبعتك قال إني من الحمس قال فإن ديننا واحد فنزلت وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها
قال أبو جعفر: ذكر أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم سئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية، جوابا لهم فيما سألوا عنه. ذكر الأخبار بذلك: حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس"، قال قتادة: سألوا نبي الله- صلى الله عليه وسلم عن ذلك: لم جعلت هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تسمعون: "هي مواقيت للناس"، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم، ولمناسكهم وحجهم، ولعدة نسائهم، ومحل دينهم، في أشياء. والله أعلم بما يصلح خلقه.حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لم خلقت الأهلة؟ فأنزل الله تعالى: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج"، جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم، ولحجهم ومناسكهم، وعدة نسائهم، وحل ديونهم. حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "مواقيت للناس والحج"، قال: هي مواقيت للناس في حجهم وصومهم وفطرهم ونسكهم.حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال الناس لم خلقت الأهلة؟ فنزلت: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس"، لصومهم وإفطارهم وحجهم ومناسكهم- قال: قال ابن عباس: ووقت حجهم، وعدة نسائهم، وحل دينهم. حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس"، فهي مواقيت الطلاق والحيض والحج.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمانعن الضحاك: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس"، يعني: حل دينهم، ووقت حجهم، وعد نسائهم.
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية: "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس"، يعلمون بها حل دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم. حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن علي: أنه سئل عن قوله: "مواقيت للناس"، قال: هي مواقيت الشهر: هكذا وهكذا وهكذ - وقبض إبهامه- فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين.قال أبو جعفر: فتأويل الآية- إذ كان الأمر على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنه قوله في ذلك-: يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسرارها وتمامها واستوائها، وتغير أحوالها بزيادة ونقصان ومحاق واستسرار، وما المعنى الذي خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان؟ فقل يا محمد: خالف بين ذلك ربكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها، ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه مواقيت لكم ولغيركم من بني آدم فى معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقها واستسرارها وإهلالكم إياها، أوقات فى ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه، وتصرم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها مواقيت للناس.وأما قوله "والحج"، فإنه يعني: وللحج. يقول: جعلها أيضا ميقاتا لحجكم، تعرفون بها وقت مناسككم وحجكم.قال أبو جعفر: قيل: نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون إذا أحرموا بيوتهم من قبل أبوابها. ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي إسحق قال: سمعت البراء يقول: كانت الأنصار إذا حجوا وهـ جعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها. قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها". حدثني سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحق، عن البراء قال: كانوا في الجاهلية إذا أحرموا، أتوا البيوت من ظهورها ولم يأتوا من أبوابها، فنزلت: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" الآية. حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت داود، عن قيس بن حبتر: "أن ناسا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه، ولا داراً من بابها أو بيتا فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دارا، وكان رجل من الأنصار يقال له: رفاعة بن تابوت فجاء فتسور الحائط، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما خرج من باب الدار أو قال: من باب البيت خرج معه رفاعة، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله، رأيتك خرجت منه فخرجت منه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رجل أحمس! فقال: إن تكن رجلا أحمس، فإن ديننا واحد!" فأنزل الله تعالى ذكره: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها". حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها"، يقول: ليس البر بأن تأتوا البيوت من كؤات في ظهور البيوت، وأبواب في جنوبها، تجعلها أهل الجاهلية. فنهوا أن يدخلوا منها، وأمروا أن يدخلوا من أبوابها. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كان ناس من أهل الحجاز إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوا من ظهورها، فنزلت: "ولكن البر من اتقى" الآية.
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها"، قال: كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم نقب كوة في ظهر بيته، فجعل سلما، فجعل يدخل منها. قال: "فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ومعه رجل من المشركين، قال: فأتى الباب ليدخل فدخل منه قال: فانطلق الرجل ليدخل من الكوة. تال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شأنك؟ فقال: إني أحمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أحمس ". حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال:
كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء، يتحرجون من ذلك. وكان الرجل يخرج مهلاً بالعمرة، فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته، فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيفتح الجدار من ورائه، ثم يقوم في حجرته، فيأمر بحاجته، فتخرج إليه من بيته، حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة، فدخل حجرة، فدخل رجل على أثره، من الأنصار من بني سلمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني أحمس قال الزهري: وكانت الحمس لا يبالون ذلك، فقال الأنصاري: وأنا أحمس! يقول: وأنا على دينك، فأنزل الله تعالى ذكره: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها". حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وليس البر بأن تأتوا البيوت" الآية كلها، قال قتادة: كان هذا الحي من الأنصار في الجاهلية، إذا أهل أحدهم بحج أو عمرة لا يدخل دارا من بابها، إلا أن يتسور حائطا تسورا، وأسلموا وهم كذلك، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك ما تسمعون، ونهاهم عن صنيعهم ذلك، وأخبرهم أنه ليس من البر صنيعهم ذلك، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها.
حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها"، فـ"إن ناسا من العرب كانوا إذا حجوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها، كانوا ينقبون في أدبارها.فلما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، أقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم باب البيت، احتبس الرجل خلفه وأبى أن يدخل، قال: يا رسول الله، إني أحمس!- يقول: إني محرم- وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون الحمس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أيضا أحمس! فادخل". فدخل الرجل، فأنزل الله تعالى ذكره: "وأتوا البيوت من أبوابها". حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه،عن ابن عباس: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها"، و"أن رجالا من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدهم من عدوه شيئا أحرم فأمن. فإذا أحرم لم يلج من باب بيته، واتخذ نقبا من ظهر بيته. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، كان بها رجل محرم كذلك- وأن أهل المدينة كانوا يسمون البستان الحش - وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل بستانا، فدخله من بابه، ودخل معه ذلك المحرم. فناداه رجل من ورائه: يا فلان، إنك محرم وقد دخلت! فقال: أنا أحمس! فقال: يا رسول! الله، إن كنت محرما فأنا محرم، وإن كنت أحمس فأنا أحمس فأنزل الله تعالى ذكره: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" "، إلى آخر الاية، فأحل الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها. حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها"، قال: "كان أهل المدينة وغيرهم إذا أحرفوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها، وذلك أن يتسوروها. فكان إذا أحرم أحدهم لا يدخل البيت إلا أن يتسوره من قبل ظهره. وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم بيتا لبعض الأنصار، فدخل رجل على أثره ممن قد أحرم، فأنكروا ذلك عليه، وقالوا: هذا رجل فاجر! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم دخلت من الباب وقد أحرمت؟ فقال: رأيتك يا رسول الله دخلت فدخلت على أثرك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني أحمس! قريش يومئذ تدعى الحمس فلما أن قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، قال الأنصاري: إن ديني دينك! فأنزل الله تعالى ذكره: "ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" الاية". حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء قوله: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها"، قال: كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرونه برا، فقال: "البر"، ثم نعت "البر"، وأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها. قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول: كانت هذه الآية في الأنصار، يأتون البيوت من ظهورها، يتبررون بذلك.قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها، ولكن البر من اتقى الله، فخافه وتجنب محارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها. فأما إتيان البيوت من ظهورها فلا بر لله فيه، فأتوها من حيث شئتم من أبوابها وغير أبوابها، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال، فإن ذلك غير جائز لكم اعتقاده، لأنه مما لم أحرمه عليكم. قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واتقوا الله أيها الناس، فاحذروه وارهبوه، بطاعته فيما
أمركم به من فرائضه، واجتناب ما نهاكم عنه، لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه، وتدركوا به البقاء في جناته، والخلود في نعيمه.وقد بينا معنى الفلاح فيما مضى قبل بما يدل عليه.
فيه أثنتا عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : "يسألونك عن الأهلة" هذا مما سأل عنه اليهود واعترضوا به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال معاذ :
يا رسول الله ، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة ، فما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يزيد حتى يستوي ويستدير ، ثم ينتقص حتى يعود كما كان ؟ فأنزل الله هذه الآية . وقيل : إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال وما سبب محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس ، قاله ابن عباس و قتادة و الربيع وغيرهم .
الثانية : قوله تعالى : "عن الأهلة" الأهلة جمع الهلال ، وجمع وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحداً في شهر ، غير كونه هلالا في آخر ، فإنما جمع أحواله من الأهلة . ويريد بالأهلة شهورها ، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلوله فيه ، كما قال :
أخوان من نجد على ثقة الشهر مثل قلامة الظفر
وقيل : سمي شهراً لأن الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه . ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر ، وليلتين من أوله . وقيل : لثلاث من أوله . وقال الأصمعي : هو هلال حتى يحجر ويستدير كالخيط الرقيق . وقيل : بل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء ، وذلك ليلة سبع . قال أبو العباس : وإنما قيل له هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه . ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه . واستهل وجهه فرحاً وتهلل إذا ظهر فيه السرور . قال أبو كبير :
وإذا نظرت إلى اسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل
ويقال : أهللنا الهلال إذا دخلنا فيه . قال الجوهري : وأهل الهلال واستهل على ما لم يسم فاعله . ويقال أيضاً : استهل بمعنى تبين ، ولايقال : أهل . ويقال : أهللنا عن ليلة كذا ،ولا يقال : أهللناه فهل ، كما يقال : أدخلناه فدخل ، وهو قياسه : قال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره : ويقال : أهل الهلال واستهل وأهللنا الهلال واستهللنا .
الثالثة : قال علماؤنا : من حلف ليقضين غريمه أو ليفعلن كذا في الهلال أو رأس الهلال أو عند الهلال ، ففعل ذلك بعد رؤية الهلال بيوم أو يومين لم يحنث . وجميع الشهور تصلح لجميع العبادات والمعاملات على مايأتي .
قوله تعالى : "قل هي مواقيت للناس والحج" تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه ، وهو زوال الإشكال في الآجال والمعاملات والأيمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والأكرية ، إلى غير ذلك من مصالح العباد . ونظيره قوله الحق : "وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب" على ما يأيي . وقوله : "هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب" . وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام .
الرابعة : وبهذا الذي قررناه يرد على أهل الظاهر ومن قال بقولهم : إن المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة ، واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من غير توقيت . وهذا لا دليل فيه ، لأنه عليه السلام قال لليهود :
"أقركم فيها ما أقركم الله" . وهذا أدل دليل وأوضح سبيل على أن ذلك خصوص له ، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه ،وليس كذلك غيره . وقد أحكمت الشريعة معاني الإجارات وسائر المعاملات ، فلا يجوز شيء منها إلا على ما أحكمه الكتاب والسنة ، وقال به علماء الأمة .
الخامسة : قوله تعالى : "مواقيت" المواقيت : جمع الميقات وهو الوقت . وقيل : الميقات منتهى الوقت . و مواقيت لا تنصرف ، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد ، فهو جمع ونهاية جمع ، إذ ليس يجمع فصار كأن الجمع تكرر فيها . وصرفت قوارير في قوله : "قواريرا" لأنها وقعت في رأس آية فنونت كما تنون القوافي ، فليس هو تنوين الصرف الذي يدل على تمكن الإسم .
السادسة : قوله تعالى : "والحج" بفتح الحاء قراءة الجمهور . وقرأ ابن ابي إسحاق بالكسر في جميع القرآن ، وفي قوله : "حج البيت" . في آل عمران . سيبويه : الحج كالرد والشد ، والحج كالذكر ، فهما مصدران بمعنى . وقيل : الفتح كصدر ، والكسر الإسم .
السابعة : أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت ، وأنه لا يجوز النسيء فيه عن وقته ، بخلاف ما رأته العرب ،فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور ،فأبطل الله قولهم وفعلهم ، على ما يأتي بيانه في براءة إن شاء الله تعالى .
الثامنة : استدل مالك رحمه الله و أبو حنيفة وأصحابهما في أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج بهذه الآية ، لأن الله تعالى جعل الأهلة ظرفاً لذلك ، فصح أن يحرم في جميعها بالحج ، وخالف في ذلك الشافعي ، لقوله تعالى : "الحج أشهر معلومات" على ما يأتي . وأن معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس ،وبعضها مواقيت للحج ، وهذا كما تقول : الجارية لزيد وعمرو ،وذلك يقضي أن يكون بعضها لزيد وبعضها لعمرو ، ولا يجوز أن يقال : جميعها لزيد وجميعها لعمرو . والجواب أن يقال: إن ظاهر قوله : "هي مواقيت للناس والحج" يقتضي كون جميعها مواقيت للناس وجميعها مواقيت للحج ، ولو أراد التبعيض لقال :بعضها مواقيت للناس وبعضها مواقيت للحج . وهذا كما تقول : إن شهر رمضان ميقات لصوم زيد وعمرو . ولا خلاف أن المراد بذلك أن جميعه ميقات لصوم كل واحد منهما . وما ذكروه من الجارية فصحيح ، لأن كونها جمعاء لزيد مع كونها جمعاء لعمرو مستحيل ، وليس كذلك في مسألتنا ، فإن الزمان يصح أن يكون ميقاتاً لزيد وميقاتاً لعمرو ، فبطل ما قالوه .
التاسعة : لا خلاف بين العلماء أن من باع معلوماً من السلع بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهور العرب أو إلى أيام معروفة العدد أن البيع جائز . وكذلك قالوا في السلم إلى الأجل المعلوم . واختلفوا في من باع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء وشبه ذلك ، فقال مالك: ذلك جائز لأنه معروف ، وبه قال أبو ثور . وقال أحمد: ارجو ألا يكون به بأس . وكذلك إلى قدوم الغزاة . وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء . وقالت طائفة . ذلك غير جائز ، لأن الله تعالى وقت المواقيت وجعلها علماً لآجالهم في بياعاتهم ومصالحهم . كذلك قال ابن عباس ، وبه قال الشافعي والنعمان . قال ابن المنذر : قول ابن عباس صحيح .
العاشرة : إذا روي الهلال كبيراً فقال علماؤنا : لا يعول على كبره ولا على صغره وإنما هو ابن ليلته . روى مسلم " عن أبي البختري قال : خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة قال : تراءينا الهلال ، فقال بعض القوم : هو ابن ثلاث ، وقال بعض القوم : هو ابن ليلتين . قال : فلقينا ابن عباس فقلنا : إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث ، وقال بعض القوم هو ابن ليلتين . فقال : أي ليلة رأيتموه ؟ قال فقلنا : ليلة كذا وكذا . فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله مده للرؤية فهو لليلة رأيتموه " .
الحادية عشرة : قوله تعالى : "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع القضيتين في وقت السؤال عن الأهلة وعن دخول البيوت من ظهورها ، فنزلت الآية فيهما جميعاً . وكان الأنصار إذا حجو وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ، فإنهم كانوا إذا اهلوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعا ألا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك ، أي من بعد إحرامه من بيته ، فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء ، فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته . فكانوا يرون هذا من النسك والبر ، كما كانوا يعتقدون أشياء نسكاً ، فرد عليهم فيها ، وبين الرب تعالى أن البر في امتثال أمره . وقال ابن عباس في رواية أبي صالح :كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج فإن كان من أهل المدر ـ يعني من اهل البيوت ـ نقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج ، أو يضع سلماً فيصعد منه وينحدر عليه . وإن كان من أهل الوبر ـ يعني أهل الخيام ـ يدخل من خلف الخيام الخيمة ، إلا من كان من الحمس .وروى الزهري :
"أن النبي صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته ودخل خلفه رجل أنصاري من بني سلمة ، فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لم دخلت وأنت قد أحرمت . فقال : دخلت انت فدخلت بدخولك . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : إني أحمس : أي من قوم لا يدينون بذلك . فقال له الرجل وأنا ديني دينك " ، فنزلت الآية ، وقاله ابن عباس و عطاء و قتادة . وقيل : إن هذا الرجل هو قطبة بن عامر الأنصاري .
والحمس : قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخثعم وبنو عامر بن صعصعة وبنو النضر بن معاوية . وسموا حمساً لتشديدهم في دينهم . والحماسة الشدة . قال العجاج :
وكم قطعنا من قفاف حمس
أي شداد . ثم اختلفوا في تأويلها ، فقيل ما ذكرنا ، وهو الصحيح . وقيل : إنه النسيء وتأخير الحج به ، حتى كانوا يجعلون الشهر الحلال حراماً بتأخير الحج إليه ، والشهر الحرام حلالاً بتأخير الحج عنه ، فيكون ذكر البيوت على هذا مثلاً لمخالفة الواجب في الحج وشهوره . وسيأتي بيان النسيء في سورة براءة إن شاء الله تعالى . وقال أبو عبيدة: الآية ضرب مثل : المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن اتقوا الله واسألوا العلماء ، فهذا كما تقول : أتيت هذا الأمر من بابه . وحكى المهدوي ومكي عن ابن الأنباري ، و الماوردي عن ابن زيد أن الآية مثل في جماع النساء ، أمر بإتيانهن في القبل لا من الدبر . وسمي النساء بيوتاً للإيواء إليهن كالإيواء إلى البيوت . قال ابن عطية : وهذا بعيد مغير نمط الكلام . وقال الحسن :كانوا يتطيرون ، فمن سافر ولم تحصل حاجته كان يأتي بيته من وراء ظهره تطيراً من الخيبة ، فقيل لهم : ليس في التطير بر ، بل البر أن تتقوا الله وتتوكلوا عليه .
قلت : القول الأول أصح هذه الأقوال ، لما رواه البراء قال :
كان الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت من أبوابها ، قال : فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه ، فقيل له في ذلك ، فنزلت هذه الآية : "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" وهذا نص في البيوت حقيقة . خرجه البخاري ومسلم . وأما تلك الأقولا فتؤخذ من موضع آخر لا من الآية فتأمله . وقد قيل : إن الآية خرجت مخرج التنبيه من الله تعالى على أن يأتوا البر من وجهه ، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به ، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلاً ليشير به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه .
قلت : فعلى هذا يصح ما ذكر من الأقوال . والبيوت جمع بيت ، وقرىء بضم الباء وكسرها . وتقدم معنى التقوى والفلاح ولعل ، فلا معنى للإعادة .
الثانية عشرة : في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب . قال ابن خويز منداد : إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس هو بر وقربة أن ينظر في ذلك العلم ، فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون ، وإن لم يكن فليس يبر ولا قربة . قال : وبذلك جاءت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم . وذكر حديث ابن عباس قال :
"بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه ، فقالوا : هو ابو إسرائيل ، نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه" . فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته ، وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن .
قال العوفي عن ابن عباس: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة, فنزلت هذه الاية "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" يعلمون بها حل دينهم وعدة نسائهم ووقت حجهم, وقال أبو جعفر عن الربيع, عن أبي العالية: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم خلقت الأهلة ؟ فأنزل الله "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت" يقول جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم وعدة نسائهم ومحل دينهم, كذا روي عن عطاء والضحاك وقتادة والسدي والربيع بن أنس نحو ذلك، وقال عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "جعل الله الأهلة مواقيت للناس, فصوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته, فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً" ورواه الحاكم في مستدركه من حديث ابن أبي رواد به, وقال: كان ثقة عابداً مجتهداً شريف النسب فهو صحيح الإسناد ولم يخرجاه, وقال محمد بن جابر عن قيس بن طلق عن أبيه, قال: قال رسول الله: "جعل الله الأهلة, فإذا رأيتم الهلال فصوموا, وإذا رأيتموه فأفطروا, فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" وكذا روي من حديث أبي هريرة ومن كلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقوله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" قال البخاري: حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن البراء, قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية, أتوا البيت من ظهره فأنزل الله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" وكذا رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة, عن أبي إسحاق, عن البراء, قال: كانت الأنصار إذا قدموا من سفرهم, لم يدخل الرجل من قبل بابه, فنزلت هذه الاية, وقال الأعمش, عن أبي سفيان, عن جابر: كانت قريش تدعى الحمس, وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام, وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام, فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان, إذ خرج من بابه, وخرج معه قطبة بن عامر من الأنصار فقالوا: يا رسول الله, إن قطبة بن عامر رجل تاجر , وإنه خرج معك من الباب, فقال له: ما حملك على ما صنعت ؟ قال: رأيتك فعلته, ففعلت كما فعلت, فقال: إني أحمس, قال له: فإن ديني دينك. فأنزل الله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" رواه ابن أبي حاتم, ورواه العوفي عن ابن عباس بنحوه, وكذا روي عن مجاهد والزهري وقتادة وإبراهيم النخعي والسدي والربيع بن أنس, وقال الحسن البصري: كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً, وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له, ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره, لم يدخل البيت من بابه ولكن يتسوره من قبل ظهره, فقال الله تعالى: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" الاية, وقال محمد بن كعب: كان الرجل إذا اعتكف لم يدخل منزله من باب البيت, فأنزل الله هذه الاية, وقال عطاء بن أبي رباح: كان أهل يثرب إذا رجعوا من عيدهم دخلوا منازلهم من ظهورها, ويرون أن ذلك أدنى إلى البر, فقال الله "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" ولا يرون أن ذلك أدنى إلى البر وقوله: "واتقوا الله لعلكم تفلحون" أي اتقوا الله, فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه "لعلكم تفلحون" غداً إذا وقفتهم بين يديه فيجازيكم على التمام والكمال.
قوله: 189- "يسألونك" سيأتي بيان من هم السائلون له صلى الله عليه وسلم، والأهلة جمع هلال، وجمعها باعتبار هلال كل شهر، أو كل ليلة، تنزيلاً لاختلاف الأوقات منزلة اختلاف الذوات، والهلال: اسم لما يبدو في أول الشهر وفي آخره. قال الأصمعي: هو هلال حتى يستدير- وقيل: هو هلال حتى ينير بضوئه السماء وذلك ليلة السابع. وإنما قيل له: هلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه عند رؤيته، ومنه استهل الصبي: إذا صاح، واستهل وجهه وتهلل: إذا ظهر فيه السرور. قوله: "قل هي مواقيت للناس والحج" فيه بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال ونقصانه، وأن ذلك لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عباداتهم ومعاملاتهم بها كالصوم والفطر والحج ومدة الحمل والعدة والإجارات والأيمان وغير ذلك، ومثله قوله تعالى: "لتعلموا عدد السنين والحساب" والمواقيت جمع الميقات، وهو الوقت. وقراءة الجمهور والحج بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها في جميع القرآن. قال سيبويه: الحج بالفتح كالرد والشد، وبالكسر كالذكر مصدران بمعنى، وقيل: بالفتح مصدر، وبالكسر الاسم. وإنما أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، ولا يجوز فيه النسيء عن وقته، ولعظم المشقة على من التبس عليه وقت مناسكه أو أخطأ وقتها أو وقت بعضها. وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب، أعني قوله: "قل هي مواقيت" من الأسلوب الحكيم، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب، تنبيهاً على أنه الأولى بالقصد، ووجه ذلك أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة والنقصان لأجلها لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل، وأحق بأن يتطلع لعمله. قوله: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة والجواب بأنها مواقيت للناس والحج أن الأنصار كانوا إذا حجوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه، لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز بينه وبين السماء حائل، وكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم. وقال أبو عبيدة: إن هذا من ضرب المثل، والمعنى: ليس البر أن تسألوا الجهال، ولكن البر التقوى واسألوا العلماء، كما تقول: أتيت هذا الأمر من بابه، وقيل: هو مثل في جماع النساء، وأنهم أمروا بإتيانهن في القبل لا في الدبر، وقيل غير ذلك. والبيوت جمع بيت، وقرئ بضم الباء وكسرها. وقد تقدم تفسير التقوى والفلاح، وسبق أيضاً أن التقدير في مثل قوله: "ولكن البر من اتقى" ولكن البر بر من اتقى.
وقد أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس في قوله تعالى: "يسألونك عن الأهلة" قال: نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن عثمة. وهما رجلان من الأنصار قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقاً مثل الخيط، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان لا يكون على حال واحد؟ فنزلت "يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" في حل دينهم ولصومهم ولفطرهم وعدد نسائهم والشروط التي إلى أجل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: سألو النبي صلى الله عليه وسلم عن الأهلة لم جعلت؟ فأنزل الله "يسألونك عن الأهلة" الآية، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم ولمناسكهم وحجهم وعدد نسائهم ومحل دينهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس نحوه. وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جعل الله الأهله مواقيت للناس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً". وأخرج أحمد والطبراني وابن عدي والدارقطني بسند ضعيف عن طلق بن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث ابن عمر. وأخرج البخاري وغيره عن البراء قال: كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فنزلت "وليس البر" الآية. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن جابر قال: كانت قريش تدعى الحمس، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر، وإنه خرج معك من الباب، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت، فقال: إني رجل أحمسي، قال: فإن ديني دينك، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة والتابعين.
189. قوله تعالى: " يسألونك عن الأهلة " نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم الأنصاريين قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يزيد حتى يمتلئ نوراً ثم يعود دقيقاً كما بدأ ولا يكون على حالة واحدة؟ فأنزل الله تعالى: " يسألونك عن الأهلة " وهي جمع هلال مثل رداء وأردية سمي هلالاً لأن الناس يرفعون أصواتهم بالذكر عند رؤيته من قولهم استهل الصبي إذا صرخ حين يولد وأهل القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية " قل هي مواقيت للناس والحج " جمع ميقات أي فعلنا ذلك فعلنا ذلك ليعلم ذلك ليعلم الناس أوقات الحج والعمرة والصوم والإفطار وآجال الديون وعدد النساء وغيرها، فلذلك خالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة على حالة واحدة " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ".
قال أهل التفسير: كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم الرجل منهم بالحج أو العمرة لم يدخل حائطاً ولا بيتاً ولا داراً من بابه فإن كان من أهل المدر نقب نقباً في ظهر بيته ليدخل منه ويخرج أو يتخذ سلماً فيصعد منه ةوإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ولا يخل ولا يخرج من الباب حتى يحل من إحرامه ويرون ذلك براً إلا أن يكون من الحمس وهم قريش وكنانة [ وخزاعة وثقيف وخثعم وبنو عامر بن صعصعة وبنو مضر بن معاوية سموا حمساً لتشددهم في دينهم والحماسة الشدة والصلابة ] "فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بيتاً لبعض الأنصار، فدخل رجل من الأنصار يقال له رفاعة بن التابوت على أثره من الباب وهو محرم فأنكروا عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم دخلت من الباب وأنت محرم؟قال رأيتك دخلت فدخلت على أثرك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحمس فقال الرجل إن كنت أحمسياً فإني أحمسي رضيت بهديك وسمتك ودينك فأنزل الله تعالى هذه الآية " وقال الزهري : كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شيء، وكان الرجل يخرج مهلاً بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء فيفتح الجدار من ورائه، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته حتى بلغنا "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرة فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم فعلت ذلك؟ قال لأني رأيتك دخلت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أحمس فقال الأنصاري وأنا أحمس يقول وأنا على دينك فأنزل الله تعالى " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها"".
قرأ ابن كثير و ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر : والغيوب والجيوب والعيون وشيوخاً بكسر أوائلهن لمكان الياء وقرأ الباقون بالضم على الأصل وقرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي (( جيوبهن )) بكسر الجيم، وقرأ أبو بكر و حمزة (( الغيوب )) بكسر الغين " ولكن البر من اتقى " أي: البر: بر من اتقى.
" وأتوا البيوت من أبوابها " في حال الإحرام " واتقوا الله لعلكم تفلحون ".
189-" يسألونك عن الأهلة " سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم فقالا : ( ما بال الهلال يبدو دقيقاً كالخيط ، ثم يزيد حتى يستوي ،ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا ) " قل هي مواقيت للناس والحج " فإنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره ، فأمره الله أن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون معالم للناس يؤقتون بها أمورهم ، ومعالم للعبادات المؤقتة يعرف بها أوقاتها . وخصوصاً الحج فإن الوقت مراعى فيه أداء وقضاء . والمواقيت : جمع ميقات ، من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان : أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها . والزمان : مدة مقسومة ، والوقت : الزمان المفروض لأمر . " وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها " وقرأ نافع و أبو عمرو و ورش و حفص بضم الباء ، والباقون بالكسر . " ولكن البر من اتقى " وقرأ نافع و ابن عامر بتخفيف " ولكن " ، ورفع " البر " . كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا داراً ولا فسطاطاً من بابه ، وأنما يدخلون من نقب أو فرجة وراءه ، ويعدون ذلك براً ، فبين لهم أنه ليس ببر وإنما البر من اتقى المحارم والشهوات ، ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين . أو أنه لما ذكر أنها مواقيت الحج وهذا أيضاً من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد ، أو أنهم لما سألوا عما لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم النبوة ، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيهاً على أن اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها ، أو أن المراد يه التنبيه على تعكيسهم في السؤال بتمثيل حالهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه . والمعنى : وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر بر من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله . " وأتوا البيوت من أبوابها " إذ ليس في العدول بر فباشروا الأمور من وجوهها . " واتقوا الله " في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله . " لعلكم تفلحون " لكي تظفروا بالهدى والبر .
189. They ask thee, (O Muhammad), of new moons. Say: They are fixed seasons for mankind and for the pilgrimage. It is not righteousness that ye go to houses by the backs thereof (as do the idolaters at certain seasons), but the righteous man is he who wardeth off (evil). So go to houses by the gates thereof, and observe your duty to Allah, that ye may be successful
189 - They ask thee concerning the new moons. say: they are but signs to mark fixed periods of time in (the affairs of) men, and for pilgrimage. it is no virtue if ye enter your houses from the back: it is virtue if ye fear God. enter houses through the proper doors: and fear God: that ye may prosper.