(ولله ملك السماوات والأرض) خزائن المطر والرزق والنبات وغيرها (والله على كل شيء قدير) ومنه تعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين
قال أبو جعفر: وهذا تكذيب من الله جل ثناؤه الذين قالوا: "إن الله فقير ونحن أغنياء". يقول تعالى ذكره ، مكذباً لهم : لله ملك جميع ما حوته السموات والأرض. فكيف يكون ، أيها المفترون على الله ، من كان ملك ذلك له فقيراً؟ ثم أخبر جل ثناؤه أنه القادر على تعجيل العقوبة لقائلي ذلك ، ولكل مكذب به ومفتر عليه ، وعلى غير ذلك مما أراد وأحب ، ولكنه تفضل بحلمه على خلقه ، فقال : "والله على كل شيء قدير"، يعني : من إهلاك قائلي ذلك ، وتعجيل عقوبته لهم ، وغير ذلك من الأمور.
هذا احتجاج على الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ، وتكذيب لهم ، وقيل : المعنى لا تظنن الفرحين ينجون من العذاب ، فإن لله كل شيء ، وهم في قبضة القدير ، فيكون معطوفاً على الكلام الأول ، أي إنهم لا ينجون من عذابه ، يأخذهم متى شاء " والله على كل شيء " أي ممكن " قدير " وقد مضى في البقرة .
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم, وأن ينوهوا بذكره في الناس, ليكونوا على أهبة من أمره, فإذا ارسله الله تابعوه, فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والاخرة بالدون الطفيف, والخط الدنيوي السخيف, فبئست الصفقة صفقتهم, وبئست البيعة بيعتهم, وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم, ويسلك بهم مسالكهم, فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع, الدال على العمل الصالح, ولا يكتموا منه شيئاً, فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم, أنه قال: "من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار" وقوله تعالى: "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا", يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا, كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم "من ادعى دعوة كاذبة ليتكثر بها, لم يزده الله إلا قلة"., وفي الصحيح أيضاً "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور", وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج عن ابن جريج , أخبرني ابن أبي مليكة أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره أن مروان قال: اذهب يا رافع لبوابه إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرىء منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعون, فقال ابن عباس : وما لكم وهذه, إنما نزلت هذه في أهل الكتاب, ثم تلا ابن عباس "وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون * لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا" الاية. وقال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه, واستحمدوا بذلك إليه, وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه, وهكذا رواه البخاري في التفسير, و مسلم والترمذي والنسائي في تفسيريهما, و ابن أبي حاتم , وابن جرير, والحاكم في مستدركه و ابن مردويه كلهم من حديث عبد الملك بن جريج بنحوه, ورواه البخاري أيضاً من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن علقمة بن وقاص , أن مروان قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس , فذكره وقال البخاري : حدثنا سعيد بن أبي مريم , أنبأنا محمد بن جعفر حدثني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار , عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رجالاً من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه, وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا, وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا, فنزلت "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا" الاية, وكذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم بنحوه. وقد رواه ابن مردويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم , قال: كان أبو سعيد ورافع بن خديج وزيد بن ثابت عند مروان فقال: يا أبا سعيد رأيت قوله تعالى: "لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا", ونحن نفرح بما أتينا ونحب أن نحمد بما لم نفعل ؟ فقال أبو سعيد : إن هذا ليس من ذاك, إنما ذاك أن ناساً من المنافقين كانوا يتخلفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً, فإن كان فيهم نكبة فرحوا بتخلفهم, وإن كان لهم نصر من الله وفتح حلفوا لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح, فقال مروان : أين هذا من هذا ؟ فقال أبو سعيد : وهذا يعلم هذا ؟ فقال مروان : أكذلك يا زيد ؟ قال: نعم صدق أبو سعيد , ثم قال أبو سعيد : وهذا يعلم ذاك ـ يعني رافع بن خديج , ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع قلائصه في الصدقة, فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري : ألا تحمدني على ما شهدت لك, فقال أبو سعيد : شهدت الحق فقال زيد : أولا تحمدني على ما شهدت الحق ؟ ثم رواه من حديث مالك عن زيد بن أسلم , عن رافع بن خديج : أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مروان بن الحكم وهو أمير المدينة, فقال مروان : يا رافع في أي شيء نزلت هذه الاية ؟ فذكره كما تقدم عن أبي سعيد رضي الله عنهم, وكان مروان يبعث بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم, فقال له ما ذكرناه ولا منافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء, لأن الاية عامة في جميع ما ذكر, والله أعلم, وقد روى ابن مردويه أيضاً من حديث محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة عن الزهري , عن محمد بن ثابت الأنصاري , أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: " يا رسول الله, والله لقد خشيت أن أكون هلكت, قال لم ؟ قال نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد, ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهوري الصوت, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ترضى أن تعيش حميداً, وتقتل شهيداً, وتدخل الجنة ؟ فقال: بلى يا رسول الله. فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب " , وقوله تعالى: "فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب" يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد, وبالياء على الإخبار عنهم أي لا يحسبون أنهم ناجون من العذاب بل لا بد لهم منه ولهذا قال تعالى: "ولهم عذاب أليم" ثم قال تعالى " ولله ملك السماوات والأرض والله على كل شيء قدير " أي هو مالك كل شيء, والقادر على كل شيء, فلا يعجزه شيء, فهابوه ولا تخالفوه, واحذورا غضبه ونقمته فإنه العظيم الذي لا أعظم منه, والقدير الذي لا أقدر منه.
189- "ولله ملك السموات والأرض والله على كل شيء قدير".
189-"ولله ملك السموات والأرض"، يصرفها كيف يشاء، "والله على كل شيء قدير".
189"ولله ملك السموات والأرض" فهو يملك أمرهم. " والله على كل شيء قدير " فيقدر على عقابهم. وقيل هو رد لقولهم إن الله فقير.
189. Unto Allah belongeth the Sovereignty of the heavens and the earth. Allah is Able to do all things.
189 - To God belongeth the dominion of the heavens and the earth; and God hath power over all things.