19 - (قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) بالنبوة
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا أبو بكر، عن عاصم ، قال : قال ابن زيد: وذكر قصص مريم فقال : قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك" يقول تعالى ذكره : فقال لها روحنا : إنما أنا رسول ربك يا مريم أرسلني إليك "لأهب لك غلاما زكيا".
واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عاقة قراء الحجاز والعراق غير أبي عمرو "لأهب لك" بمعنى : إنما أنا رسول ربك . يقول : أرسلني إليك لأهب لك "غلاما زكيا" على الحكاية . وقرأ ذلك أبو عمرو بن العلاء ليهب لك غلاما زكياً بمعنى : إنما أنا رسول ربك أرسلني إليك ليهب الله لك غلاماً زكياً.
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ، ما عليه قراء الأمصار، وهو "لأهب لك" بالألف دون الياء، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين ، وعليه قراءة قديمهم وحديثهم ، غير أبي عمرو، وغير جائز خلافهم فيما أجمعوا عليه ، ولا سائغ لأحد خلاف مصاحفهم ، والغلام الزكي : هو الطاهر من الذنوب وكذلك تقول العرب : غلام زاك وزكي ، وعال وعلي.
قوله تعالى " قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا "
لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام, وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً مباركاً, عطف بذكر قصة مريم في إيجاده ولدها عيسى عليهما السلام منها من غير أب, فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة, ولهذا ذكرهما في آل عمران وههنا, وفي سورة الأنبياء يقرن بين القصتين لتقارب ما بينهما في المعنى, ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه, وأنه على ما يشاء قادر, فقال "واذكر في الكتاب مريم" وهي مريم بنت عمران من سلالة داود عليه السلام. وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل, وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران, وأنها نذرتها محررة, أي تخدم مسجد بيت المقدس, وكانوا يتقربون بذلك "فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً" ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة, فكانت إحدى العابدات الناسكات المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب, وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبي بني إسرائيل إذ ذاك, وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم, ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف, وثمر الصيف في الشتاء, كما تقدم بيانه في سورة آل عمران, فلما أراد الله تعالى وله الحكمة والحجة البالغة, أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام "انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً" أي اعتزلتهم وتنحت عنهم, وذهبت إلى شرق المسجد المقدس. وقال السدي لحيض أصابها, وقيل لغير ذلك.
قال أبو كدينة عن قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت والحج إليه, وما صرفهم عنه إلا قيل ربك: " انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " قال: خرجت مريم مكاناً شرقياً, فصلوا قبل مطلع الشمس, رواه ابن أبي حاتم وابن جرير . وقال ابن جرير أيضاً: حدثنا إسحاق بن شاهين , حدثنا خالد بن عبد الله عن داود عن عامر , عن ابن عباس قال: إني لأعلم خلق الله لأي شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة لقول الله تعالى: " انتبذت من أهلها مكانا شرقيا " واتخذوا ميلاد عيسى قبلة. وقال قتادة "مكاناً شرقياً" شاسعاً منتحياً, وقال محمد بن إسحاق : ذهبت بقلتها لتستقي الماء. وقال نوف البكالي : اتخذت لها منزلاً تتعبد فيه, فالله أعلم.
وقوله: "فاتخذت من دونهم حجاباً" أي استترت منهم وتوارت, فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام "فتمثل لها بشراً سوياً" أي على صورة إنسان تام كامل. قال مجاهد والضحاك وقتادة وابن جريج ووهب بن منبه والسدي في قوله: "فأرسلنا إليها روحنا" يعني جبرائيل عليه السلام, وهذا الذي قالوه هو ظاهر القرآن, فإنه تعالى قد قال في الاية الأخرى: " نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين " وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال: إن روح عيسى عليه السلام من جملة الأرواح التي أخذ عليها العهد في زمان آدم عليه السلام, وهو الذي تمثل لها بشراً سوياً, أي روح عيسى, فحملت الذي خاطبها, وحل في فيها, وهذا في غاية الغرابة والنكارة وكأنه إسرائيلي "قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً" أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب, خافته وظنت أنه يريدها على نفسها, فقالت: "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً" أي إن كنت تخاف الله تذكيراً له بالله وهذا هو المشروع في الدفع أن يكون بالأسهل فالأسهل, فخوفته أولاً بالله عز وجل.
قال ابن جرير : حدثني أبو كريب , حدثنا أبو بكر عن عاصم قال: قال أبو وائل وذكر قصة مريم, فقال: قد علمت أن التقي ذو نهية حين قالت: "إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقياً * قال إنما أنا رسول ربك" أي فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها لست مما تظنين ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك, ويقال إنها لما ذكرت الرحمن انتفض جبريل فرقاً وعاد إلى هيئته وقال " إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " هكذا قرأ أبو عمرو بن العلاء أحد مشهوري القراء, وقرأ الاخرون "لأهب لك غلاماً زكياً" وكلا القرائتين له وجه حسن ومعنى صحيح, وكل تستلزم الأخرى "قالت أنى يكون لي غلام" أي فتعجبت مريم من هذا وقالت: كيف يكون لي غلام ؟ أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني, ولست بذات زوج, ولا يتصور مني الفجور, ولهذا قالت: "ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا" والبغي هي الزانية, ولهذا جاء في الحديث نهي عن مهر البغي "قال كذلك قال ربك هو علي هين" أي فقال لها الملك مجيباً لها عما سألت: إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاماً وإن لم يكن لك بعل, ولا توجد منك فاحشة, فإنه على ما يشاء قادر, ولهذا قال: "ولنجعله آية للناس" أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم الذي نوع في خلقهم, فخلق أباهم آدم من غير ذكر ولا أنثى وخلق حواء من ذكر بلا أنثى, وخلق بقية الذرية من ذكر وأنثى إلا عيسى, فإنه أوجده من أنثى بلا ذكر, فتمت القسمة الرباعية الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه فلا إله غيره ولا رب سواه.
وقوله: "ورحمة منا" أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله ونبياً من الأنبياء, يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده, كما قال تعالى في الاية الأخرى: " إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين " أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته, قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا عبد الرحيم بن إبراهيم , حدثنا مروان , حدثنا العلاء بن الحارث الكوفي عن مجاهد : قال: قالت مريم عليها السلام: كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني, وإذا كنت مع الناس سبح في بطني وكبر.
وقوله: "وكان أمراً مقضياً" يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم, يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدرته ومشيئته, ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها, كما قال تعالى: "ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا" وقال: "والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا" قال محمد بن إسحاق : "وكان أمراً مقضياً" أي إن الله قد عزم على هذا فليس منه بد, واختار هذا أيضاً ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره, والله أعلم.
19- "قال إنما أنا رسول ربك" أي قال لها جبريل: إنما أنا رسول ربك الذي استعذب به، ولست ممن يتوقع منه ما خطر ببالك من إرادة السوء "لأهب لك غلاماً زكياً" جعل الهبة من قبله لكونه سبباً فيها من جهة كون الإعلام لها من جهته، أو من جهة كون النفخ قام به في الظاهر. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وورش عن نافع " يهب " على معنى أرسلني ليهب لك، وقرأ الباقون بالهمز. والزكي الطاهر من الذنوب الذي ينمو على النزاهة والعفة، وقيل المراد بالزكي النبي.
19- " قال " ، لها جبريل : " إنما أنا رسول ربك لأهب لك " ، قرأ نافع و أهل البصرة: " لأهب لك " بالياء ، أي : ليهب لك ربك ، وقرأ الآخرون : " لأهب لك " أسند الفعل إلى الرسول ،وإن كانت الهبة من الله تعالى ، لأنه أرسل به .
" غلاماً زكياً " ، ولداً صالحاً طاهراً من الذنوب .
19ـ " قال إنما أنا رسول ربك " الذي استعذت به. " لأهب لك غلاماً " أي لأكون سبباً في هبته بالنفخ في الدرع، ويجوز أن يكون حكاية لقول الله تعالى، ويؤيده قراءة أبي عمرو والأكثر عن نافع و يعقوب بالياء. " زكياً " طاهراً من الذنوب أو نامياً على الخير أي مترقياً من سن إلى سن على الخير والصلاح.
19. He said: I am only a messenger of thy Lord, that I may bestow on thee a faultless son.
19 - He said: Nay, I am only A messenger from thy Lord, (To announce) to thee the gift of a holy son.