(إن الدين) المرضي (عند الله) هو (الإسلام) أي الشرع المبعوث به الرسل المبني على التوحيد وفي قراءة بفتح {أن} بدل من أنه الخ بدل اشتمال (وما اختلف الذين أوتوا الكتاب) اليهود والنصارى في الدين بأن وحد بعض وكفر بعض (إلا من بعد ما جاءهم العلم) بالتوحيد (بغيا) من الكافرين (بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب) أي المجازاة له
قال أبو جعفر: ومعنى "الدين"، في هذا الموضع: الطاعة والذلة، من قول الشاعر:
ويوم الحزن إذ حشدت معد وكان الناس، إلا نحن، دينا
يعني بذلك: مطيعين على وجه الذل، ومنه قول القطامي:
كانت نوار تدينك الأديانا
يعني: تذلك، وقول الأعشى ميمون بن قيس:
هو دان الرباب إذ كرهوا الدي ـن دراكاً بغزوة وصيال
يعني بقوله: دان ذلل- وبقوله: كرهوا الدين ، الطاعة.
وكذلك "الإسلام"، وهو الانقياد بالتذلل والخشوع، والفعل منه: أسلم بمعنى : دخل في السلم ، كما يقال: أقحط القوم ، إذا دخلوا في القحط ، وأربعوا، إذا دخلوا في الربيع ، فكذلك أسلموا ، إذا دخلوا في السلم ، وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة .
فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل قوله: "إن الدين عند الله الإسلام": إن الطاعة التي هي الطاعة عنده ، الطاعة له ، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذلة، وانقيادها له بالطاعة فيما أمر ونهى ، وتذللها له بذلك، من غير استكبار عليه، ولا انحراف عنه، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة.
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا بشرقال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "إن الدين عند الله الإسلام"، والإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودل عليه أولياءه، لا يقبل غيره، ولا يجزي إلا به.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قال ، حدثنا أبو العالية في قوله: "إن الدين عند الله الإسلام"، قال : "الإسلام"، الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، واقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وسائر الفرائض لهذا تبع. حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: (أسلمنا) [الحجرات: 4]، قال: دخلنا في السلم ، وتركنا الحرب .
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق ، عن محمد بن جعفر بن الزاجر: "إن الدين عند الله الإسلام"، أي : ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للرب ، والتصديق للرسل.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل - وهو "الكتاب" الذي ذكره الله في هذه الآية - في أمر عيسى، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم، وتشتتت بها كلمتهم، وباين بها بعضهم بعضاً حتى استحل بها بعضهم دماء بعض، "إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم"، يعني : إلا من بعد ما علموا الحق فيما اختلفوا فيه من أمره، وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفرية مبطلون. فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل ، وقالوا من القول الذي هو كفر بالله ، على علم منهم بخطأ ما قالوه، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلاً، منهم بخطئه، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه الاختلاف الذي هم عليه، تعدياً من بعضهم على بعض، وطلب الرياسات والملك والسلطان ، كما :
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم"، قال: قال أبو العالية: إلا من بعد ما جاءهم الكتاب والعلم ، "بغيا بينهم"، يقول: بغياً على الدنيا، وطلب ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضاً على الدنيا، من بعد ما كانوا علماء الناس .
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع، عن ابن عمر: أنه كان يكثر تلاوة هذه الآية : "إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم"، يقول: بغياً على الدنيا، وطلب ملكها وسلطانها. من قبلها والله أتينا ما كان علينا من يكون علينا، بعد أن يأخذ فينا كتاب الله وسنة نبيه؟ ولكنا أتينا من قبلها.
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحق قال ، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه ، عن الربيع قال: إن موسى لما حضره الموت دعا سبعين حبراً من أحبار بني إسرائيل، فاستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليه، كل حبر جزءاً منه، واستخلف موسى يوشع بن نون. فلما مضى القرن الأول ومضى الثاني ومضى الثالث، وقعت الفرقة بينهم -وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين - حتى أهراقوا بينهم الدماء، ووقع الشر والاختلاف. وكان ذلك كله من قبل الذين أوتوا العلم ، بغياً بينهم على الدنيا، طلباً لسلطانها وملكها وخزائنها وزخرفها، فسلط الله عليهم جبابرتهم، فقال الله : "إن الدين عند الله الإسلام"، إلى قوله: "والله بصير بالعباد".
فقول الربيع بن أنس هذا، يدل على أنه كان عنده أنه معني بقوله . "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب"، اليهود من بني إسرائيل، دون النصارى منهم، وغيرهم.
وكان غيره يوجه ذلك إلى أن المعني به النصارى الذين أوتوا الإنجيل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم"، الذي جاءك ، أي : أن الله الواحد الذي ليس له شريك -"بغيا بينهم"، يعني بذلك النصارى .
قال أبو جعفر: يعني بذلك: ومن يجحد حجج الله وأعلامه التي نصبها ذكرى لمن عقل، وأدلة لمن اعتبر وتذكر، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا، فمجازيه بها في الآخرة، فإنه جل ثناؤه "سريع الحساب"، يعني: سريع الإحصاء. وإنما معنى ذلك أنه حافظ على كل عامل عمله، لا حاجة به إلى عقد كما يعقده خلقه بأكفهم، أو يعونه بقلوبهم، ولكنه يحفظ ذلك عليهم، بغير كلفة ولا مؤونة، ولا معاناة لما يعانيه غيره من الحساب.
وبنحو الذي قلنا في معنى "سريع الحساب"، كان مجاهد يقول :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله عز وجل: "ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب"، قال: إحصاؤه عليهم .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: "ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب"، إحصاؤه.
قوله تعالى : " إن الدين عند الله الإسلام " الدين في هذه الآية الطاعة والملة ، والإسلام بمعنى الإيمان والطاعات ، قاله أبو العالية ، وعليه جمهور المتكلمين . والأصل في مسمى الإيمان والإسلام التغاير ، لحديث جبريل . وقد يكون بمعنى المرادفة . فيسمى كل واحد منهما باسم الآخر ، كما في حديث وفد عبد القيس وأنه أمرهم بالإيمان بالله وحده قال :
هل تدرون ما الإيمان قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم الحديث ، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : " الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله "أخرجه الترمذي . وزاد مسلم والحياء شعبة من الإيمان . ويكون أيضا بمعنى التداخل ، وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الأصل ومسمى الآخر ، كما في هذه الآية إذ قد دخل فيها التصديق والأعمال ، ومنه قوله عليه السلام :
" الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان" أخرجه ابن ماجه ، وقد تقدم . والحقيقة هو الأول وضعا وشرعا ، وما عداه من باب التوسع . والله أعلم .
قوله تعالى : " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب" . الآية : أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائق ، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا . قاله ابن عمر وغيره . وفي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم ، قاله الأخفش . قال محمد بن جعفر بن الزبير : المراد بهذه الآية النصارى ، وهو توبيخ لنصارى نجران . وقال الربيع بن أنس : المراد بها اليهود . ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعم اليهود والنصارى ، أي وما اختلف الذين أوتوا الكتاب يعني في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ما جاءهم العلم يعني بيان صفته ونبوته في كتبهم . وقيل : أي وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل في أمر عيسى وفرقوا فيه القول إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله إله واحد ، وأن عيسى عبدالله ورسوله . وبغيا نصب على المفعول من أجله أو على الحال من الذين والله تعالى أعلم .
شهد تعالى وكفى به شهيداً وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم, وأصدق القائلين "أنه لا إله إلا هو" أي المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق, وأن الجميع عبيده وخلقه وفقراء إليه, وهوالغني عما سواه, كما قال تعالى: "لكن الله يشهد بما أنزل إليك" الاية, ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته, فقال " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم " وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام "قائماً بالقسط" منصوب على الحال وهو في جميع الأحوال كذلك "لا إله إلا هو" تأكيد لما سبق, "العزيز الحكيم" العزيز الذي لا يرام جنابه عظمةً وكبرياءً, الحكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره, وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه , حدثنا بقية بن الوليد حدثني جبير بن عمرو القرشي , حدثنا أبو سعيد الأنصاري عن أبي يحيى مولى آل الزبير بن العوام , عن الزبير بن العوام قال: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الاية " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم " وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب " , وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر فقال: حدثنا علي بن حسين , حدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني , حدثنا عمر بن حفص بن ثابت أبو سعيد الأنصاري , حدثنا عبد الملك بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده عن الزبير , قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ هذه الاية "شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة" قال: وأنا أشهد أي رب" وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في المعجم الكبير : حدثنا عبدان بن أحمد وعلي بن سعيد الرازي , قالا: حدثنا عمار بن عمر بن المختار , حدثني أبي , حدثني غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة, فنزلت قريباً من الأعمش , فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر قام فتهجد من الليل فمر بهذه الاية " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام " ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به, وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة "إن الدين عند الله الإسلام" قالها مراراً, قلت: لقد سمع فيها شيئاً فغدوت إليه فودعته ثم قلت: يا أبا محمد, إني سمعتك تردد هذه الاية, قال: أوما بلغك ما فيها ؟ قلت: أنا عندك منذ شهر لم تحدثني. قال: والله لا أحدثك بها إلى سنة, فأقمت سنة, فكنت على بابه, فلما مضت السنة قلت: يا أبا محمد, قد مضت السنة قال: حدثني أبو وائل عن عبد الله , قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاء بصاحبها يوم القيامة, فيقول الله عز وجل: عبدي عهد إلي وأنا أحق من وفى بالعهد, أدخلوا عبدي الجنة", وقوله تعالى "إن الدين عند الله الإسلام" إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام, وهواتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم, فمن لقي الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل, كما قال تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه" الاية, وقال في هذه الاية مخبراً بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام "إن الدين عند الله الإسلام", وذكر ابن جرير أن ابن عباس قرأ " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام ", بكسر إنه, وفتح أن الدين عند الله الإسلام, أي شهد هو والملائكة وأولوا العلم من البشر بأن الدين عند الله الإسلام, والجمهور قرؤوها بالكسر على الخبر, وكلا المعنيين صحيح, ولكن هذا على قول الجمهور أظهر, والله أعلم, ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول, إنما اختلفوا بعد ما قامت عليهم الحجة بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم, فقال: "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم" أي بغى بعضهم على بعض فاختلفوا في الحق لتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم, فحمل بعضهم بغض البعض الاخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقاً, ثم قال تعالى: "ومن يكفر بآيات الله" أي من جحد ما أنزل الله في كتابه "فإن الله سريع الحساب" أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه, ويعاقبه على مخالفته كتابه.
ثم قال تعالى "فإن حاجوك" أي جادلوك في التوحيد "فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن" أي فقل: أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له ولا ند له, ولا ولد له, ولا صاحبة له, "ومن اتبعن" أي على ديني يقول كمقالتي, كما قال تعالى: "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني" الاية, ثم قال تعالى آمراً لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به, الكتابيين من الملتين والأميين من المشركين, فقال تعالى: " وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ " أي والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم, وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء وله الحكمة البالغة, والحجة الدامغة ولهذا قال تعالى: "والله بصير بالعباد" أي هوعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة, وهو الذي "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" وما ذلك إلا لحكمته ورحمته وهذه الاية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة, وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث, فمن ذلك قوله تعالى: "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً" وقال تعالى: "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً" وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الافاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم كتابيهم وأميهم امتثالاً لأمر الله له بذلك, وقد روى عبد الرزاق عن معمر , عن همام , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "والذي نفسي بيده, لا يسمع بي أحد من هذه الأمة: يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار" رواه مسلم وقال صلى الله عليه وسلم "بعثت إلى الأحمر والأسود", وقال "كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة".
وقال الإمام أحمد : حدثنا مؤمل , حدثنا حماد , حدثنا ثابت عن أنس رضي الله عنه: أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه, ويناوله نعليه, فمرض, فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " يا فلان قل لا إله إلا الله فنظر إلى أبيه فسكت أبوه, فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم, فنظر إلى أبيه, فقال أبوه: أطع أبا القاسم, فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله, فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : الحمد لله الذي أخرجه بي من النار" رواه البخاري في الصحيح , إلى غير ذلك من الايات والأحاديث.
قوله 19- "إن الدين عند الله الإسلام". قرأه الجمهور بكسر إن على أن الجملة مستأنفة مؤكدة للجملة الأولى، وقرئ بفتح أن. قال الكسائي: أنصبهما جميعاً يعني قوله "شهد الله أنه" وقوله "إن الدين عند الله الإسلام" بمعنى شهد الله أنه كذا وأن الدين عند الله الإسلام. قال ابن كيسان: إن الثانية بدل من الأولى. وقد ذهب الجمهور إلى أن الإسلام هنا بمعنى الإيمان وإن كانا في الأصل متغايرين كما في حديث جبريل الذي بين فيه النبي صلى الله عليه وسلم معنى الإسلام ومعنى الإيمان، وصدقه جبريل، وهو في الصحيحين وغيرهما ولكنه قد يسمى كل واحد منهما باسم الآخر وقد ورد ذلك في الكتاب والسنة. قوله " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " فيه الإخبار بأن اختلاف اليهود والنصارى كان لمجرد البغي بعد أن علموا بأنه يجب عليهم الدخول في دين الإسلام بما تضمنته كتبهم المنزلة إليهم. قال الأخفش: وفي الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: ما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم. والمراد بهذا الخلاف الواقع بينهم هو خلافهم في كون نبينا صلى الله عليه وسلم نبياً أم لا؟ وقيل: اختلافهم في نبوة عيسى، وقيل: اختلافهم في ذات بينهم حتى قالت اليهود: ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء. قوله "ومن يكفر بآيات الله" أي بالآيات الدالة على أن الدين عند الله الإسلام "فإن الله سريع الحساب" فيجازيه ويعاقبه على كفره بآياته، والإظهار في قوله فإن الله مع كونه مقام الإضمار للتهويل عليهم والتهديد لهم.
19-" إن الدين عند الله الإسلام" يعني الدين المرضي الصحيح ، كما قال تعالى :"ورضيت لكم الإسلام دينا"(3- المائدة) وقال " ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه" (85-آل عمران) وفتح الكسائي الألف من ان الدين رداً على ان الأولي تقديره شهد الله انه لا إله إلا هو وشهد ان الذين عند الله الإسلام هو الدخول في السلم وهو الانقياد والطاعة ، يقال : أسلم أي دخل في السلم واستسلم ، قال قتادة في قوله تعالى " إن الدين عند الله الإسلام" قال: شهادة ان لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله تعالى وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ودل عليه أولياءه (ولا يقبل غيره ولا يجزي إلا به).
أخبرنا ابو عسيد الشريحي ، أنا ابو اسحق الثلبي، أنا ابو عمروا الفراتي ، انا موسى عمران بن موسى،أنا الحسن بن سفينان،أنا عمار بن عمر بن المختار ، حدثني أبي عن غالب القطان قال: أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الاعمش وكنت اختلف اليه فلما كنت ذات ليلة اردت ان أتنحدر إلى البصرة ، فإذا الاعمش قائم من الليل يتهجد ، فمر بهذه الآية " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم " ثم قال الاعمش:وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة"إن الدين عند الله الإسلام" قالها مراراً، قلت لقد سمع فيها شيئاً ، فصليت معه وودعته ، ثم قلت: إني سمعتك تقرأ آية ترددها فما بلغك فيها؟ (قال لي : أوما بلغك مافيها؟قلت: أنا عند منذ سنتين لم تحدثني) قال: والله لا احدثك بها الى سنة ، فكتبت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة ، فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة قال : حدثني أبو وائل عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله :إن لعبدي هذا عندي عهداً ، وأنا أحق من وفي بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنة" .
قوله تعالى :"وما اختلف الذين أوتوا الكتاب" قال الكلبي : نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام ، أي وما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلا من بعد ماجاءهم العلم ، يعني بيان نعته في كتبهم ، وقال الربيع : إن موسى عليه السلام لما حضره الموت ، دعا سبعين رجلاً من احبار بني إسرائيل فاستودعهم/ التوراة واستخلف يوشع بن نون ، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء اولئك السبعين حتى أهرقوا بينهم الدماء ، ووقع الشر والاختلاف ، وذلك من بعد ماجاءهم العلم يعني بيان مافي التوراة "بغياً بينهم" أي طلباً للملك والرياسة ، فسلط الله عليهم الجبابرة وقال محمد بن جعفر بن الزبير : نزلت في نصارى نجران ومعناها "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب" يعني الإنجيل في أمر عيسى عليه السلام ، وفرقوا القول فيه إلا من بعد ماجاءهم العلم بإن الله واجد وأن عيسى عبده ورسوله "بغياً بينهم" أي للمعاداة والمخالفة " ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ".
19"إن الدين عند الله الإسلام" جملة مستأنفة مؤكدة للأولى أي لا دين مرضي عند الله سوى الإسلام، وهو التوحيد والتدرع بالشرع الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وقرأ الكسائي بالفتح على أنه بدل الكل أن فسر الإسلام بالإيمان، أو بما يتضمنه وبدل إشتمال إن فسر بالشريعة. وقريء أنه بالكسر وأن بالفتح على وقوع الفعل على الثاني، وإعتراض ما بينهما أو إجراء شهد مجرى قال تارة وعلم أخرى لتضمنه معناهما. "وما اختلف الذين أوتوا الكتاب" من اليهود والنصارى، أو من أرباب الكتيب المتقدمة في الإسلام فقال قوم إنه حق وقال قوم إنه مخصوص بالعرب ونفاه آخرون مطلقاً، أو في التوحيد فثلثت النصارى " وقالت اليهود عزير ابن الله " وقيل هم قوم موسى اختلفوا بعده وقيل هم النصارى اختلفوا في أمر عيسى عليه السلام "إلا من بعد ما جاءهم العلم" أي بعد ما علموا حقيقة الأمر وتمكنوا من العلم بها بالآيات والحجج. "بغياً بينهم" حسداً بينهم وطلباً للرئاسة، لا لشبه وخفاء بالأمر. "ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب" وعيد لمن كفر منهم.
19. Lo! religion with Allah (is) The Surrender (to His will and guidance). Those who (formerly) received the Scripture differed only after knowledge came unto them, through transgression among themselves. Whoso disbelieveth the revelations of Allah (will find that) Lo! Allah is swift at reckoning.
19 - The religion before God is Islam (submission to his will): nor did the people of the book dissent therefrom except through envy of each other, after knowledge had come to them. but if any deny the signs of. God, God is swift in calling to account.