(يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء) أي ذاتهن (كَرها) بالفتح والضم لغتان ، أي مكرهيهن على ذلك كانوا في الجاهلية يرثون نساء أقربائهم فإن شاءوا تزوجوهن بلا صداق أو زوجوها وأخذوا صداقها أو عضلوها حتى تفتدي بما ورثته أو تموت فيرثوها فنهوا عن ذلك (ولا) أن (تعضُلوهن) أي تمنعوا أزواجكم عن نكاح غيركم بإمساكهن ولا رغبة لكم فيهن ضراراً (لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن) من المهر (إلا أن يأتين بفاحشة مُبَيَّنة) بفتح الياء وكسرها ، أي بِيْنَتْ أو هي بينة ، أي زنا أو نشوز فلكم أن تضاروهن حتى يفتدين منكم ويختلعن (وعاشروهن بالمعروف) أي بالإجمال في القول والنفقة والمبيت (فإن كرهتموهن) فاصبروا (فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا) ولعله يجعل فيهن ذلك بأن يرزقكم منهن ولدا صالحا
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها روى البخاري وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية
وأخرج ابن جرير وابن ابي حاتم بسند حسن عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته وكان لهم ذلك في الجاهلية فأنزل الله لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها وله شاهد عن عكرمة عن ابن جرير
وأخرج ابن أبي حاتم والفريابي والطبراني عن عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار قال توفي أبو قيس بن الأسلت وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه قيس امرأته فقالت إنما أعدك ولدا وأنت من صالحي قومك فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته فقال ارجعي إلى بيتك فنزلت هذه الآية ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف
وأخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال كان الرجل اذا توفي عن امرأته كان ابنه أحق بها أن ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه أو ينكحها من شاء فلما مات أبو قيس بن الأسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته ولم يورثها من المال شيئا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال ارجعي لعل الله ينزل فيك شيئا فنزلت هذه الآية ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء ونزلت لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها الآية
وأخرج أيضا عن الزهري قال نزلت هذه الآية في ناس من الأنصار كان إذا مات الرجل منهم كان أملك الناس بامرأة وليه فيمسكها حتى تموت
وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال قلت لعطاء وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم قال كنا نتحدث أنها نزلت في محمد صلى الله عليه وسلم حين نكح امرأة زيد بن حارثة قال المشركون في ذلك فنزلت وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ونزلت وما جعل أدعياءكم أبناءكم ونزلت ما كان محمد أبا أحد من رجالكم
قال أبو جعفر: يعني تبارك وتعالى [بقوله]: "يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها"، يقول: لا يحل لكم أن ترثوا نكاح نساء أقاربكم وآبائكم كرهاً.
فإن قال قائل : كيف كانوا يرثونهن؟ وما وجه تحريم وراثتهن؟ فقد علمت أن النساء مورثات كما الرجال مورثون!
قيل: إن ذلك ليس من معنى وراثتهن إذا هن متن فتركن مالاً، وإنما ذلك أنهن في الجاهلية كانت إحداهن إذا مات زوجها، كان ابنه أو قريبه أولى بها من غيره ، ومنها بنفسها، إن شاء نكحها، وإن شاء عضلها فمنعها من غيره ولم يزوجها حتى تموت. فحرم الله تعالى ذلك على عباده ، وحظر عليهم نكاح حلائل آبائهم، ونهاهم عن عضلهن عن النكاح.
وبنحو القول الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا أسباط بن محمد قال ، حدثنا أبو إسحق -يعني: الشيباني-، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله : "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، قال : كانوا إذا مات الرجل ، كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاؤوا زوجوها، وإن شاؤوا لم يزوجوها، وهم أحق بها من أهلها، فنزلت هذه الآية في ذلك.
وحدثني أحمد بن محمد الطوسي قال ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح قال ، حدثني محمد بن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن أبيه قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت، أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان ذلك لهم في الجاهلية، فلأنزل الله : "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها".
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا في قوله: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى نموت أو ترد إليه صداقها، فأحكم الله عن ذلك ، يعني أن الله نهاكم عن ذلك.
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها"، قال: كانت الأنصار تفعل ذلك. كان الرجل إذا مات حميمه ، ورث حميمه امرأته ، فيكون أولى بها من ولي نفسها.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج، عن عطاء ا الخراساني، عن ابن عباس في قوله : "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها" الآية، قال: كان الرجل إذا مات أبوه أو حميمه، فهو أحق بامرأته، إن شاء أمسكها، أو يحبسها حتى تفتدي منه بصداقها، أو تموت فيذهب بمالها. قال ابن جريج، فأخبرني عطاء بن أبي رباح: أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل فترك امرأة حبسها أهله على الصبي يكون فيهم ، فنزلت: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها" الآية، قال ابن جريج، وقال مجاهد: كان الرجل إذا توفي أبوه ، كان أحق بامرأته ، ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها، أو ينكحها إن شاء أخاه أو ابن أخيه . قال ابن جريج، وقال عكرمة نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم، من الأوس ، توفي عنها أبو قيس بن الأسلت ، فجنح عليها ابنه ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله ، لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تركت فأنكح! فنزلت هذه الآية.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله : "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها"، قال: كان إذا توفي الرجل ، كان ابنه الأكبر هو أحق بامرأته ، ينكحها إذا شاء إذا لم يكن ابنها، أو ينكحها من شاء، أخاه أو ابن أخيه.
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار، مثل قول مجاهد.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل قال ، سمعت عمرو بن دينار يقول مثل ذلك.
حدثني محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها"، فإن الرجل في الجاهلية كان يموت أبوه أو أخوه أو ابنه، فإذا مات وترك امرأته ، فإن سبق وارث الميت فألقى عليها ثوبه ، فهو أحق بها أن ينكحها بمهر صاحبه، أو ينكحها فيأخذ مهرها. وإن سبقته فذهبت إلى أهلها، فهم أحق بنفسها.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها"، كانوا بالمدينة إذا مات حميم الرجل وترك امرأة، ألقى الرجل عليها ثوبه ، فورث نكاحها، وكان أحق بها. وكان ذلك عندهم نكاحاً. فإن شاء أمسكها حتى تفتدي منه. وكان هذا في الشرك.
حدثنا يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها"، قال : كانت الوراثة في أهل يثرب بالمدينة ههنا. فكان الرجل يموت فيرث ابنه امرأة أبيه كما يرث أمه ، لا تستطيع أن تمتنع ، فإن أحب أن يتخذها اتخذها كما كان أبوه يتخذها، وإن كره فارقها، وإن كان صغيراً حبست عليه حتى يكبر، فإن شاء أصابها، وإن شاء فارقها، فذلك قول الله تبارك وتعالى: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها".
حدثنا محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها"، وذلك أن رجالاً من أهل المدينة كان إذا مات حميم أحدهم ألقى ثوبه على امرأته ، فورث نكاحها، فلم ينكحها أحد غيره ، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية، فأنزل الله عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها".
حدثني ابن وكيع قال ، حدثني أبي قال ، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن مقسم قال : كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبه ، كان أحق الناس بها. قال : فنزلت هذه الآية: "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها".
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا التأويل: يا أيها الذين آمنوا، لا يحل لكم أن ترثوا آباءكم وأقاربكم نكاح نسائهم كرهاً، فترك ذكر الآباء والأقارب والنكاح، ووجه الكلام إلى النهي عن وراثة النساء، اكتفاءً بمعرفة المخاطبين بمعنى الكلام ، إذ كان مفهوماً معناه عندهم.
وقال آخرون: بل معنى ذلك : لا يحل لكم ، أيها الناس ، أن ترثوا النساء تركاتهن كرهاً، قال : وإنما قيل ذلك كذلك، لأنهم كانوا يعضلون أياماهن، وهن كارهات للعضل ، حتى يمتن ، فيرثوهن أموالهن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها"، قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية، ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس. فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله : "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها"، قال: نزلت في ناس من الأنصار، كانوا إذا مات الرجل منهم ، فأملك الناس بامرأته وليه ، فيمسكها حتى تموت فيرثها، فنزلت فيهم.
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، القول الذي ذكرناه عمن قال: معناه: لا يحل لكم أن ترثوا نساء أقاربكم، لأن الله جل ثناؤه قد بين مواريث أهل المواريث ، فذلك لأهله ، كره وراثتهم إياه الموروث ذلك عنه من الرجال أو النساء، أو رضي.
فقد علم بذلك أنه جل ثناؤه لم يحظر على عباده أن يرثوا النساء فيما جعله لهم ميراثاً عنهن ، وأنه إنما حظر أن يكرهن موروثات، بمعنى حظر وراثة نكاحهن ، إذ كان ميتهم الذي ورثوه قد كان مالكاً عليهن أمرهن في النكاح ملك الرجل منفعة ما استأجر من الدور والأرضين وسائر ما له منافع.
فأبان الله جل ثناؤه لعباده: أن الذي يملكه الرجل منهم من بضع زوجه، معناه غير معنى ما يملك أحدهم من منافع سائر المملوكات التي تجوز إجارتها، فإن المالك بضع زوجته إذا هو مات ، لم يكن ما كان له ملكاً من زوجته بالنكاح لورثته بعده ، كما لهم من الأشياء التي كان يملكها بشراء أو هبة أو إجارة بعد موته، بميراثهم ذلك عنه.
وأما قوله تعالى: "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: تأويله : "ولا تعضلوهن"، أي: ولا تحبسوا، يا معشر ورثة من مات من الرجال ، أزواجهم عن نكاح من أردن نكاحه من الرجال، كيما يمتن ، "لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، أي : فتأخذوا من أموالهن إذا متن ، ما كان موتاكم الذين ورثتموهم ساقوا إليهن من صدقاتهن.
وممن قال ذلك جماعة قد ذكرنا بعضهم ، منهم ابن عباس والحسن البصري وعكرمة.
وقال آخرون: بل معنى ذلك : ولا تعضلوا، أيها الناس، نساءكم فتحبسوهن ضراراً، ولا حاجة لكم إليهن ، فتضروا بهن لتفتدين منكم بما آتيتموهن من صدقاتهن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله : "ولا تعضلوهن"، يقول : لا تقهروهن ، "لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، يعني ، الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر، فيضر بها لتفتدي.
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "ولا تعضلوهن"، يقول : لا يحل لك أن تحبس امرأتك ضراراً حتى تفتدي منك. قال وأخبرنا معمر قال ، وأخبرني سماك بن الفضل ، عن ابن البيلماني قال : نزلت هاتان الآيتان ، إحداهما في أمر الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام.
حدثني المثنى قال ، حدثنا سويد بن نصر قال ، أخبرنا ابن المبارك ، عن معمر قال ، أخبرنا سماك بن الفضل ، عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله : "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن"، قال : نزلت هاتان الآيتان : إحداهما في الجاهلية، والأخرى في أمر الإسلام.
قال عبد الله : لا يحل لكم أن ترثوا النساء في الجاهلية، ولا تعضلوهن في الإسلام.
حدثني المثنى قال ، حدثنا الحماني قال ، حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد: "ولا تعضلوهن"، قال : لا تحبسوهن.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، أما تعضلوهن، فيقول : تضاروهن ليفتدين منكم.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك يقول في قوله : "ولا تعضلوهن"، قال : العضل، أن يكره الرجل امرأته فيضر بها حتى تفتدي منه ، قال الله تبارك وتعالى : "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض" [النساء: 21].
وقال آخرون : المعني بالنهي عن عضل النساء في هذه الآية، أولياؤهن.
ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله : "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" أن ينكحن أزواجه، كالعضل في سورة البقرة.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
وقال آخرون : بل المنهي عن ذلك : زوج المرأة بعد فراقه إياها. وقالوا: ذلك كان من فعل الجاهلية، فنهوا عنه في الإسلام.
ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد: كان العضل في قريش بمكة، ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها أن لا توافقه ، فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد. فإذا خطبها خاطب ، فإن أعطته وأرضته أذن لها، وإلا عضلها . قال : فهذا قول الله : "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، الآية.
قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى معنى العضل وما أصله ، بشواهد ذلك من الأدلة.
وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله : "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن"، قول من قال : نهى الله جل ثناؤه زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب ، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد رجلين : إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها على نفسه وهو لها كاره ، مضارة منه لها بذلك ، ليأخذ منها ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك ، أو لوليها الذي إليه إنكاحها.
وإذا كان لا سبيل إلى عضلها لأحد غيرهما، وكان الولي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئاً فيقال إن عضلها عن النكاح : عضلها ليذهب ببعض ما آتاها، كان معلوماً أن الذي عنى الله تبارك وتعالى بنهيه عن عضلها، هو زوجها الذي له السبيل إلى عضلها ضراراً لتفتدي منه.
وإذا صح ذلك ، وكان معلوماً أن الله تعالى ذكره لم يجعل لأحد السبيل على زوجته بعد فراقه إياها وبينونتها منه ، فيكون له إلى عضلها سبيل لتفتدي منه من عضله إياها، أتت بفاحشة أم لم تأت بها، وكان الله جل ثناؤه قد أباح للأزواج عضلهن إذا أتين بفاحشة مبينة حتى يفتدين منه ، كان بينا بذلك خطأ التأويل الذي تأوله ابن زيد، وتأويل من قال : عني بالنهي عن العضل في هذه الآية أولياء الأيامى، وصحة ما قلنا فيه.
وقوله : "ولا تعضلوهن"، في موضع نصب ، عطفاً على قوله : "أن ترثوا النساء كرها". ومعناه : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها، ولا أن تعضلوهن.
وكذلك هي فيما ذكر في حرف ابن مسعود.
ولو قيل : هو في موضع جزم على وجه النهي ، لم يكن خطأ.
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه : لا يحل لكم ، أيها المؤمنون ، أن تعضلوا نساءكم ضراراً منكم لهن ، وأنتم لصحبتهن كارهون ، وهن لكم طائعات ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتهن ، "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، فيحل لكم حينئذ الضرار بهن ليفتدين منكم.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الفاحشة التي ذكرها الله جل ثناؤه في هذا الموضع.
فقال بعضهم : معناها الزنا، وقال : إذا زنت امرأة الرجل حل له عضلها والضرار بها، لتفتدي منه بما آتاهن صداقها.
ذكر من قال ذلك:
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا ابن إدريس قال ، أخبرنا أشعث ، عن الحسن في البكر تفجر قال : تضرب مئة. وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه. وتأول هذه الآية : "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة".
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني - في الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة : أخذ ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك الحدود.
حدثنا أحمد بن منيع قال ، حدثنا عبد الله بن المبارك قال ، أخبرنا معمر، عن أيوب ، عر.، أبي قلابة قال : إذا رأى الرجل من امرأته فاحشة، فلا باش أن يضارها ويشق عليها حتى تختلع منه.
حدثنا ابن حميد قال ، أخبرنا ابن المبارك قال ، أخبرني معمر، عن أيوب ، عن أبي قلابة - في الرجل يطلع من امرأته على فاحشة، فذكر نحوه.
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : ، "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، وهو الزنا، فإذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن، ابن جريج قال : أخبرني عبد الكريم : أنه سمع الحسن البصري : "إلا أن يأتين بفاحشة"، قال : الزنا، قال : وسمعت الحسن وأبا الشعثاء يقولان : فإن فعلت ، حل لزوجها أن يكون هو يسألها الخلع ، تفتدي نفسها.
وقال آخرون : الفاحشة المبينة ، في هذا الموضع ، النشوز.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس : "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، وهو البغض والنشوز، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا حكام قال ، حدثنا عنبسة، عن علي بن بذيمة، عن مقسم في قوله : ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن إلا أن يفحشن في قراءة ابن مسعود. قال : إذا عصتك وآذتك ، فقد حل لك أخذ ما أخذت منك.
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا جرير، عن مطرف بن طريف ، عن خالد، عن الضحاك بن مزاحم : "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، قال : الفاحشة ههنا النشوز. فإذا نشزت ، حل له أن يأخذ خلعها منها.
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله : "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، قال : هو النشوز.
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال ، قال عطاء بن أبي رباح : "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، فإن فعلن : إن شئتم أمسكتموهن ، وإن شئتم أرسلتموهن.
حدثت عن الحسين بن الفرج قال ، سمعت أبا معاذ يقول ، أخبرنا عبيد بن سليمان قال ، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله : "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، قال : عدل ربنا تبارك وتعالى في القضاء، فرجع إلى النساء فقال : "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، والفاحشة : العصيان والنشوز. فإذا كان ذلك من قبلها، فإن الله أمره أن يضربها، وأمره بالهجر. فإن لم تدع العصيان والنشوز، فلا جناح عليه بعد ذلك أن يأخذ منها الفدية.
قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في تأويل قوله : "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، أنه معني به كل فاحشة: من بذاء باللسان على زوجها، وأذى له ، وزنا بفرجها. وذلك أن الله جل ثناؤه عم بقوله "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، كل فاحشة متبينة ظاهرة، فكل زوج امرأة أتت بفاحشة من الفواحش التي هي زنا أو نشوز، فله عضلها على ما بين الله في كتابه ، والتضييق عليها حتى تفتدي منه ، بأي معاني الفواحش أتت ، بعد أن تكون ظاهرة مبينة، بظاهر كتاب الله تبارك وتعالى، وصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالذي:
حدثني يونس بن سليمان البصري قال ، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال ، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه ، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، وإن لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف.
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال ، حدثنا زيد بن الحباب قال ، حدثنا موسى بن حبيدة الربذي قال ، حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر:" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أيها الناس ، إن النساء عندكم عوان ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن حق ، ولهن عليكم حق . ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً، ولا يعصينكم في معروف ، وإذا فعلن ذلك ، فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
فأخبر صلى الله عليه وسلم أن من حق الزوج على المرأة أن لا توطىء فراشه أحداً، وأن لا تعصيه في معروف ، وأن الذي يجب لها من الرزق والكسوة عليه ، إنما هو واجب عليه إذا أدت هي إليه ما يجب عليها من الحق ، بتركها إيطاء فراشه غيره ، وتركها معصيته في معروف.
ومعلوم أن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : من حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا، إنما هو أن لا يمكن من أنفسهن أحداً سواكم.
وإذا كان ما روينا في ذلك صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبين أن لزوج المرأة إذا أوطأت امرأته نفسها غيره وأمكنت من جماعها سواه ، أن له من منعها الكسوة والرزق بالمعروف ، مثل الذي له من منعها ذلك إذا هي عصته في المعروف . وإذا كان ذلك له ، فمعلوم أنه غير مانع لها -بمنعه إياها ما له منعها-حقا لها واجبا عليه . لاذ كان ذلك كذلك ، فبين أنها إذا افتدت نفسها عند ذلك من زوجها، فاخذ منها زوجها ما أعطته ، أنه لم يأخذ ذلك عن عضل منهي عنه ، بل هم أخذ ما أخذ منها عن عضل له مباح . لاذ كان ذلك كذلك ، كان بينا أنه داخل في استثناء الله تبارك وتعالى الذي استثناه من العاضلين بقوله : "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة".
وإذ صح ذلك ، فبين فساد قول من قال : "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"، منسوخ بالحدود، لأن الحد حق الله جل ثناؤه على من أتى بالفاحشة التي هي زنا. وأما العضل لتفتدي المرأة من الزوج بما آتاها أو ببعضه ، فحق لزوجها، كما عضله إياها وتضييقه عليها إذا هي نشزت عليه لتفتدي منه ، حق له. وليس حكم أحدهما يبطل حكم الآخر.
قال أبو جعفر: فمعنى الآية : ولا يحل لكم ، أيها الذين آمنوا، أن تعضلوا نساءكم فتضيقوا عليهن وتمنعوهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صدقاتكم ، إلا أن يأتين بفاحشة من زنا أو بذاء عليكم ، وخلاف لكم فيما يجب عليهن لكم - مبينة ظاهرة، فيحل لكم حينئذ عضيهن والتضييق عليهن ، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن من صداق إن هن افتدين منكم به.
واختلفت القرأة في قراءة قوله : مبينة.
فقرأ بعضهم : مبينة بفتح الياء، بمعنى أنها قد بينت لكم وأعلنت وأظهرت.
وقرأه بعضهم : "مبينة" بكسر الياء، بمعنى أنها ظاهرة بينة للناس أنها فاحشة.
وهما قراءتان مستفيضتان في قرأة أمصار الإسلام ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب في قراءته الصواب ، لأن الفاحشة إذا أظهرها صاحبها فهي ظاهرة بينة ، وإذا ظهرت ، فبإظهار صاحبها إياها ظهرت . فلا تكون ظاهرة بينة إلا وهي مبينة، ولا مبينة إلا وهي مبينة . فلذلك رأيت القراءة بأيهما قرأ القارىء صواباً.
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله : "وعاشروهن بالمعروف"، وخالقوا ، أيها الرجال ، نساءكم وصاحبوهن ، "بالمعروف"، يعني بما أمرتكم به من المصاحبة، وذلك إمساكهن بأداء حقوقهن التي فرض الله جل ثناؤه لهن عليكم إليهن ، أو تسريح منكم لهى بإحسان ، كما:
حدثنا محمد بن الحسين قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "وعاشروهن بالمعروف" ، يقول : وخالطوهن.
كذا قال محمد بن الحسين ، وإنما هو خالقوهن، من العشرة وهي المصاحبة.
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره : لا تعضلوا نساءكم لتذهبوا ببعض ما اتيتموهن من غير ريبة ولا نشوز كان منهن ، ولكن عاشروهن بالمعروف وإن كرهتموهن ، فلعلكم أن تكرهوهن فتمسكوهن ، فيجعل الله لكم - في إمساككم إياهن على كره منكم لهن - خيراً كثيراً، من ولد يرزقكم منهن ، أو عطفكم عليهن بعد كراهتكم إياهن ، كما:
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا"، يقول : فعسى الله أن يجعل في الكراهة خيراً كثيراً.
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبوحذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله.
حدثني محمد بن الحسن قال ، حدثنا أحمد بن مفضل قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : "ويجعل الله فيه خيرا كثيرا"، قال : الولد.
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : "ويجعل الله فيه خيرا كثيرا"، والخير الكثير: أن يعطف عليها، فيرزق الرجل ولدها، ويجعل الله في ولدها خيراً كثيراً.
والهاء في قوله : "ويجعل الله فيه خيراً كثيرا"، على قول مجاهد الذي ذكرناه ، كناية عن مصدر تكرهوا، كأن معنى الكلام عنده : فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله في كرهه خيراً كثيراً.
ولو كان تأويل! الكلام : فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله في ذلك الشيء الذي تكرهونه خيراً كثيراً ، كان جائزاً صحيحاً.
فيه ثمان مسائل:
الأولى - قوله تعالى :" لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها" هذا متصل بما تقدم ذكره من الزوجات والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهن والخطاب لأولياء. وأن في موضع رفع ب يحل أن لا يحل لكم وراثة النساء. وكرها مصدر في موضع الحال واختلفت الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها، فروى البخاري:
عن ابن عباس "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك وأخرجه أبو داود بمعناه. وقال الزهري وأبو مجلز: كان من عادتهم إذا مات الرجل يلقي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي اصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئاً، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها فأنزل الله تعالى :"يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها" فيكون المعنى : لا يحل لكم أن ترثوهن من أزواجهن فتكونوا أزواجاً لهن. وقيل: كان الوارث إن سبق فألقى عليها ثوباً فهو أحق بها، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها، قاله السدي. وقيل: كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها. فنزلت هذه الآية وأمر الزوج أن يطلقها إن كره صحبتها ولا يمسكها كرهاً، فذلك قوله تعالى :" لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها" والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال. وكرها بضم الكاف قراءة حمزة والكسائي، الباقون بالفتح وهما لغتان وقال التقبي: الكره بالفتح بمعنى الإكراه والكره بالضم المشقة يقال: لتفل ذلك طوعاً أو كرهاً ، يعني طائعاً أو مكرهاً والخطاب للأولياء.
وقيل، لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية إرثها، أو يفتدين ببعض مهورهن، وهذا أصح واختاره ابن عطية قال : دليل ذلك قوله تعالى:" إلا أن يأتين بفاحشة " وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعاً من الأمة وإنما ذلك للزوج على ما يأتي بيانه في المسألة بعد هذا .
الثانية- قوله تعالى :" فلا تعضلوهن" قد تقدم العضل وأنه المنع في البقرة " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" اختلف الناس في معنى الفاحشة فقال الحسن: هو الزنا، وإذا زنت البكر، فإنها تجلد مائة وتنفى سنة، وترد إلى زوجها ما أخذت منه وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه، وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن وقال ابن سيرين وأبو قلابة : لا يحل له أن يأخذ منها فدية إلا أن يجد على بطنها رجلا قال تعالى : " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " وقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك وقتادة: الفاحشة المبينة في هذه الآية البغض والنشوز، قالوا: فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها،وهذا مذهب مالك. قال ابن عطية: إلا أني لا أحفظ له نصا في الفاحشة في الآية ، وقال قوم: الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولاً وفعلاً، وهذا في معنى النشوز. ومن أهل العلم من يجيز أخذا المال من الناشز على جهة الخلع، إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركوناً إلى قوله تعالى :" لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" وقال مالك وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. قال ابن عطية: والزنا أصحاب على الزوج من النشوز والأذى وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال. قال أبو عمر: قول ابن سيرين وأبي قلابة عندي ليس بشيء لأن الفاحشة قد تكون البدء والأذى ومنه قيل للبذي: فاحش ومتفحش، وعلى أنه لو اطلع منها على الفاحشة كان له لعانها، وإن شاء طلقها وأما إن يضارها حتى تفتدي منه بما لها فليس له ذلك ولا أعلم أحداً قال: له أن يضارها ويسيء إليها حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة والله أعلم . وقال الله عز وجل :" فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله " [البقرة:229] يعني في حسن العشرة والقيام بحق الزوج وقيامه بحقها" فلا جناح عليهما فيما افتدت به " [البقرة:229] وقال الله عز وجل: "فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا" [النساء :4][ فهذه الآيات أصل هذا الباب وقال عطاء الخرساني: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها، فنسخ ذلك بالحدود. وقول رابع إلا أن يأتين بفاحشة مبينة إلا أن يزنين فيحبسن في البيوت فيكو هذا قبل النسخ وهذا في معنى قو عطاء وهو ضعيف.
الثالثة- وإذا تنزلنا على القول بأن المراد بالخطاب في العضل الأولياء ففقهه أنه متى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها إلا الأب في بناته، فإنه إن كان في عضله صلاح فلا يعترض، قولاً واحداً وذلك بالخطاب والخاطبين وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك: أنه كسائر الأولياء، يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه، والقول الآخر- لا يعرض له .
الرابعة- يجوز أن يكون تعضلوهن جزماً على النهي، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى، ويجوز أن يكون نصباً عطفاً على " أن ترثوا" فتكون الواو مشتركة عطفت فعلاً على فعل، وقرأ ابن مسعود ولا أن تعضلوهن فهذه القراءة تقوي احتمال النصب وأن العضل مما لا يجوز بالنص.
الخامسة- قوله تعالى :" مبينة" بكسر الياء قراءة نافع وأبي عمرو والباقون بفتح الياء وقرأ ابن عباس مبينة بكسر الباء وسكون الياء، من أبان الشيء يقال: أبان الأمر بنفسه، وأبنته وبين وبينته، وهذه القراءات كلها لغات فصيحة.
السادسة- قوله تعالى :" وعاشروهن بالمعروف" أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة . والخطاب للجميع، إذ لكل أحد عشرة، زوجاً كان أو ولياً، ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج، وهو مثل قوله تعالى :" فإمساك بمعروف " [البقرة:229] وذلك توفيه حقها من المهر والنفقة، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب، وأن يكون منطلقاً في القول لا فظاً ولا غليظاً ولا مظهراً ميلاً إلى غيرها، والعشرة: المخالطة والممازجة ومنه قول طرفة:
فلئن شطت نواها مرة لعلى عهد حبيب معتشر
جعل الحبيب جمعاً كالخليط والغريق. وعاشره معاشرة، وتعاشر القوم واعتشروا. فأمر الله سبحانه بحسن صحبه النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال، فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش، وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء وقال بعضهم: هو أن يتصنع لها كما تتصنع، له قال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي: أتيت محمد بن الحنفية فخرج إلي في ملحقة حمراء ولحيته تقطر من الغالية فقلت: ما هذا؟ قال: إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب وإنهن يشتهين منها ما نشتهيه منهن وقال ابن عباس رضي الله عنه: إني أحب أن أتزين لأمرأتي كما أحب أن تتزين لي، وهذا داخل فيهما ذكرناه قال ابن عطية: وإلى معنى الآية ينظر "قول النبي صلى الله عليه وسلم :
فاستمتع بها وفيها عوج" أي لا يكن منك سوء عشرة مع اعوجاجها،فعنها تنشأ المخالفة وبها يقع الشقاق، وهو سبب الخلع .
السابعة- استدل علماؤنا بقوله تعالى:" وعاشروهن بالمعروف" على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفينا خادم واحد، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يلزمه إلا خادم واحد، وذلك يكفيها خدمة نفسها، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عدة فلا يسهم له إلا لفرس واحد، لأنه لا يمكنه القتال إلا على فرس واحد قال علماؤنا: وهذا غلط لأن مثل بنات الملوك اللآئى لهن خدمة كثرة لا يكفيها خادم واحد لأنها تحتاج من غسل ثيابها وإصلاح مضجعها وغير ذلك إلى ما لا يقوم به الواحد، وهذا بين والله أعلم .
الثامنة- قوله تعالى :" فإن كرهتموهن" أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز، فهذا يندب به إلى الاحتمال فعسى أن يؤول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولاداً صالحين. و" أن" رفع ب عسى وأن والفعل مصدر.
قلت: ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم "عن أبي هريرة قال قال سول الله صلى الله عليه وسلم :
لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر" أو قال غيره. المعنى :أي لا يبغضها بغضاً كلياً يحمله على فراقها، أي لا ينبغي له ذلك بل يغفر سيئتها لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يحب وقال مكحول: سمعت ابن عمر يقول: إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له فيسخط على ربه عز وجل فلا يثبت أن ينظر في العاقبة فإذا وهو قد خير له وذكر ابن العربي قال أخبرني أبو القاسم بن حبيب بالمهدية عن أبي القاسم السيوري عن أبي بكر بن عبد الرحمن حيث قال: كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقتصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها فيقال له في أمرها ويعذل بالصبر عليها فكان يقول ك أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها قال علماؤنا: في هذا دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة، وروى "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله لا يكره شيئاً أباحه إلا الطلاق والأكل وإن الله ليبعض المعي إذا امتلأ"
قال البخاري: حدثنا محمد بن مقاتل, حدثنا أسباط بن محمد, حدثنا الشيباني عن عكرمة, عن ابن عباس, ـ قال الشيباني: وذكره أبو الحسن السوائي, ولا أظنه ذكره إلا عن ابن عباس ـ "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" قال: كانوا إذا مات الرجل, كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها, وإن شاؤوا زوجوها, وإن شاؤوا لم يزوجوها, فهم أحق بها من أهلها, فنزلت هذه الاية "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" هكذا رواه البخاري وأبو داود والنسائي وابن مردويه وابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق الشيباني واسمه سليمان بن أبي سليمان, عن عكرمة, وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء, كوفي أعمى, كلاهما عن ابن عباس بما تقدم. وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي, حدثني علي بن حسين عن أبيه, عن يزيد النحوي, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها, فأحكم الله تعالى عن ذلك, أي نهى عن ذلك, تفرد به أبو داود, وقد رواه غير واحد عن ابن عباس بنحو ذلك. فقال وكيع عن سفيان, عن علي بن بذيمة, عن مقسم, عن ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها, فجاء رجل فألقى عليها ثوباً كان أحق بها, فنزلت "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" قال: كان الرجل إذا مات وترك جارية, ألقى عليها حميمه ثوبه فمنعها من الناس فإن كانت جميلة تزوجها, وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها, وروى العوفي عنه: كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميم أحدهم, ألقى ثوبه على امرأته, فورث نكاحها, ولم ينكحها أحد غيره, وحبسها عنده حتى تفتدي منه بفدية, فأنزل الله "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وقال زيد بن أسلم في الاية: كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية, ورث امرأته من يرث ماله, وكان يعضلها حتى يرثها, أو يزوجها من أراد, وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها, ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها, فنهى الله المؤمنين عن ذلك, رواه ابن أبي حاتم. وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم, حدثنا موسى بن إسحاق, حدثنا علي بن المنذر, حدثنا محمد بن فضيل, عن يحيى بن سعيد, عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف, عن أبيه, قال: لما توفي أبو قيس بن الأسلت, أراد ابنه أن يتزوج امرأته, وكان لهم ذلك في الجاهلية, فأنزل الله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل به. ثم روى من طريق ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هلك الرجل وترك امرأة, حبسها أهله على الصبي يكون فيهم, فنزلت "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" الاية. وقال ابن جريج: قال مجاهد: كان الرجل إذ توفي, كان ابنه أحق بامرأته ينكحها إن شاء إذا لم يكن ابنها, أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه. وقال ابن جريج: قال عكرمة: نزلت في كبيشة بنت معن بن عاصم من الأوس, توفي عنها أبو قيس بن الأسلت, فجنح عليها ابنه, فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: يا رسول الله, لا أنا ورثت زوجي, ولا أنا تركت فأنكح, فأنزل الله هذه الاية. وقال السدي عن أبي مالك: كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها, جاء وليه فألقى عليها ثوباً, فإن كان له ابن صغير, أو أخ, حبسها حتى يشب, أو تموت فيرثها, فإن هي انفلتت فأتت أهلها ولم يلق عليها ثوباً, نجت, فأنزل الله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً". وقال مجاهد في هذه الاية: كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها, فيحبسها رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها أو يزوجها ابنه, رواه ابن أبي حاتم. ثم قال: وروي عن الشعبي وعطاء بن أبي رباح وأبي مجلز والضحاك والزهري وعطاء الخراساني ومقاتل بن حيان, نحو ذلك. قلت: فالاية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد, ومن وافقه, وكل ما كان فيه نوع من ذلك, والله أعلم. وقوله "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" أي لا تضاروهن في العشرة, لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقاً من حقوقها عليك, أو شيئاً من ذلك على وجه القهر لها والإضطهاد. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله "ولا تعضلوهن" يقول: ولا تقهروهن "لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" يعني الرجل, تكون له امرأة وهو كاره لصحبتها, ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي, وكذا قال الضحاك وقتادة, واختاره ابن جرير, وقال ابن المبارك وعبد الرزاق: أخبرنا معمر, قال أخبرني سماك بن الفضل عن ابن البيلماني, قال: نزلت هاتان الايتان, إحداهما في أمر الجاهلية, والأخرى في أمر الإسلام. قال عبد الله بن المبارك: يعني قوله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" في الجاهلية, "ولا تعضلوهن" في الإسلام. وقوله "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والحسن البصري ومحمد بن سيرين وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء الخراساني والضحاك وأبو قلابة وأبو صالح والسدي وزيد بن أسلم وسعيد بن أبي هلال: يعني بذلك الزنا, يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها, وتضاجرها حتى تتركه لك, وتخالعها, كما قال تعالى في سورة البقرة: " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله " الاية, وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك: الفاحشة المبينة النشوز والعصيان, واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله الزنا والعصيان, والنشوز وبذاء اللسان, وغير ذلك. يعني أن هذا كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها, وهذا جيد, والله أعلم. وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفرداً به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس في قوله " لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " قال: وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى تموت, أو ترد إليه صداقها, فأحكم الله عن ذلك, أي نهى عن ذلك. قال عكرمة والحسن البصري: وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية, ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام, وقال عبد الرحمن بن زيد: كان العضل في قريش بمكة ينكح الرجل المرأة الشريفة, فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه, فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد, فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها قال: فهذا قوله "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" الاية, وقال مجاهد في قوله "ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" هو كالعضل في سورة البقرة. وقوله تعالى: "وعاشروهن بالمعروف" أي طيبوا أقوالكم لهن, وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها, فافعل أنت بها مثله, كما قال تعالى: "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خيركم خيركم لأهله, وأنا خيركم لأهلي" وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة دائم البشر, يداعب أهله, ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته, ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها, يتودد إليها بذلك, قالت: سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته, وذلك قبل أن أحمل اللحم, ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني, فقال "هذه بتلك" ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان, ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها, وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد, يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار, وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام, يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتب الأحكام, ولله الحمد.
وقوله تعالى "فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً" أي فعسى أن يكون صبركم مع إمساككم لهن وكراهتهن فيه, خير كثير لكم في الدنيا والاخرة, كما قال ابن عباس في هذه الاية: هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً, ويكون في ذلك الولد خير كثير, وفي الحديث الصحيح "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر".
وقوله تعالى: "وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً" أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئاً ولو كان قنطاراً من المال, وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته ههنا. وفي هذه الاية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل, وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق, ثم رجع عن ذلك, كما قال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل, حدثنا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين, قال: نبئت عن أبي العجفاء السلمي, قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: ألا لا تغلوا في صداق النساء, فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله, كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم, ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية, وإن كان الرجل ليبتلى بصدقة امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه وحتى يقول: كلفت إليك علق القربة, ثم رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن محمد بن سيرين عن أبي العجفاء واسمه هرم بن مسيب البصري, وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(طريق أخرى عن عمر) قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا أبو خيثمة, حدثنا يعقوب بن إبراهيم, حدثنا أبي عن ابن إسحاق, حدثني محمد بن عبد الرحمن عن المجالد بن سعيد, عن الشعبي, عن مسروق, قال: ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أيها الناس, ما إكثاركم في صدق النساء. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنما الصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم, فما دون ذلك, ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها. فلا أعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم. قال: ثم نزل, فاعترضته امرأة من قريش فقالت: يا أمير المؤمنين, نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم, قال: نعم, فقالت: أما سمعت ما أنزل الله في القرآن ؟ قال: وأي ذلك ؟ فقالت: أما سمعت الله يقول "وآتيتم إحداهن قنطاراً" الاية ؟ قال: فقال: اللهم غفراً, كل الناس أفقه من عمر. ثم رجع فركب المنبر فقال: إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن على أربعمائة درهم, فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى: وأظنه قال: فمن طابت نفسه فليفعل, إسناده جيد قوي.
(طريق أخرى) قال ابن المنذر: حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق, عن قيس بن ربيع, عن أبي حصين, عن أبي عبد الرحمن السلمي, قال: قال عمر بن الخطاب: لا تغالوا في مهور النساء, فقالت امرأة: ليس ذلك لك يا عمر, إن الله يقول: "وآتيتم إحداهن قنطاراً" ـ من ذهب ـ قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود, " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا ", فقال عمر: إن امرأة خاصمت عمر فخصمته.
(طريق أخرى عن عمر فيها انقطاع) قال الزبير بن بكار: حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال: قال عمر بن الخطاب: لا تزيدوا في مهور النساء وإن كانت بنت ذي الغصة ـ يعني يزيد بن الحصين الحارثي ـ فمن زاد, ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة من صفة النساء طويلة, في أنفها فطس: ما ذاك لك. قال: ولم ؟ قالت: لأن الله قال "وآتيتم إحداهن قنطاراً" الاية, فقال عمر: امرأة أصابت ورجل أخطأ ولهذا قال منكراً "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض" أي وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت إليك ؟ قال ابن عباس ومجاهد والسدي وغير واحد: يعني بذلك الجماع ـ وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما "الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب ؟" قالها ثلاثاً, فقال الرجل: يا رسول الله مالي ؟ ـ يعني ما أصدقها ـ قال "لا مال لك. إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها, وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها". في سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم أنه تزوج امرأة بكراً في خدرها, فإذا هي حامل من الزنا, فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له, فقضى لها بالصداق, وفرق بينهما, وأمر بجلدها, وقال "الولد عبد لك. فالصداق في مقابلة البضع" ولهذا قال تعالى "وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض".
وقال تعالى: "وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" روي عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير, أن المراد بذلك العقد. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس في قوله "وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً" قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. قال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد وأبي العالية والحسن وقتادة ويحيى بن أبي كثير والضحاك والسدي, نحو ذلك. وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس في الاية: هو قوله "أخذتموهن بأمانة الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله" فإن كلمة الله هي التشهد في الخطبة, قال: وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به, قال له "جعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي" رواه ابن أبي حاتم, وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها "واستوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله".
وقال تعالى: "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الاية, يحرم الله تعالى زوجات الاباء تكرمة لهم, وإعظاماً واحتراماً أن توطأ من بعده, حتى إنها لتحرم عن الابن بمجرد العقد عليها, وهذا أمر مجمع عليه. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا مالك بن إسماعيل, حدثنا قيس بن الربيع حدثنا أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت, عن رجل من الأنصار, قال: لما توفي أبو قيس ـ يعني ابن الأسلت ـ وكان من صالحي الأنصار, فخطب ابنه قيس امرأته, فقالت: إنما أعدك ولداً وأنت من صالحي قومك, ولكن آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقالت: إن أبا قيس توفي, فقال "خيراً" ثم قالت: إن ابنه قيساً خطبني, وهو من صالحي قومه. وإنما كنت أعده ولداً فما ترى ؟ فقال لها "ارجعي إلى بيتك", قال: فنزلت "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" الاية, وقال ابن جرير: حدثنا القاسم, حدثنا حسين, حدثنا حجاج عن ابن جريج, عن عكرمة في قوله "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف" قال: نزلت في أبي قيس بن الأسلت خلف على أم عبيد الله بنت صخرة, وكانت تحت الأسلت أبيه وفي الأسود بن خلف, وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار, وكان عند أبيه خلف, وفي فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد كانت عند أمية بن خلف, فخلف عليها صفوان بن أمية. وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الاباء كان معمولاً به في الجاهلية, ولهذا قال "إلا ما قد سلف" كما قال "وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف" قال: وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة, تزوج بامرأة أبيه, فأولدها ابنه النضر بن كنانة, قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم "ولدت من نكاح لا من سفاح" قال: فدل على أنه كان سائغاً لهم ذلك, فإن أراد أنهم كانوا يعدونه نكاحاً فيما بينهم. فقد قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي, حدثنا قراد, حدثنا ابن عيينة عن عمرو, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين, فأنزل الله تعالى "ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء" "وأن تجمعوا بين الأختين", وهكذا قال عطاء وقتادة, ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر, والله أعلم, وعلى كل تقدير فهو حرام في هذه الاية, مبشع غاية التبشع, ولهذا قال تعالى: "إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً" وقال " ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن " وقال " ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا " فزاد ههنا "ومقتاً" أي بغضاً أي هو أمر كبير في نفسه, ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته, فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله, ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالأب, بل حقه أعظم من حق الاباء بالإجماع, بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه . وقال عطاء بن أبي رباح في قوله "ومقتاً" أي يمقت الله عليه, "وساء سبيلاً" أي وبئس طريقاً لمن سلكه من الناس, فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه, فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن من طرق عن البراء بن عازب, عن خاله أبي بردة ـ وفي رواية: ابن عمر, وفي رواية: عن عمه ـ أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله. وقال الإمام أحمد: حدثنا هشيم, حدثنا أشعث عن عدي بن ثابت, عن البراء بن عازب, قال: مر بي عمي الحارث بن عمرو ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: أي عم أين بعثك النبي ؟ قال: بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه.
(مسألة) وقد أجمع العلماء على تحريم من وطئها الأب بتزويج أو ملك أو شبهة, واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع, أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية, فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضاً بذلك, وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة خديج الحمصي مولى معاوية قال: اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة, فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب, فجعل يهوي به إلى متاعها, ويقول: هذا المتاع, لو كان له متاع اذهب بها إلى يزيد بن معاوية, ثم قال: لا, ادع لي ربيعة بن عمرو الجرسي, وكان فقيهاً, فلما دخل عليه قال: إن هذه أتيت بها مجردة فرأيت منها ذاك وذاك, وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد, فقال: لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنها لا تصلح له, ثم قال: نعم ما رأيت, ثم قال ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري, فدعوته وكان آدم شديد الأدمة, فقال: دونك هذه بيض بها ولدك, قال: وكان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته, ثم أعتقته, ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس على علي رضي الله عنه.
هذا متصل بما تقدم من ذكر الزوجات والمقصود نفي الظلم عنهن، والخطاب للأولياء، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها، وهو ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله 19- "يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" قال: كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها، فهم أحق بها من أهلها، فنزلت. وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية: كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته فيعضلها حتى يموت أو ترد إليه صداقها. وفي لفظ لابن جرير وابن أبي حاتم عنه: فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها. وقد روي هذا السبب بألفاظ، فمعنى "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" أي: لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم وتحبسونهن لأنفسكم ولا يحل لكم أن "تعضلوهن" عن أن يتزوجن غيركم لتأخذوا ميراثهن إذا متن، أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح. قال الزهري وأبو مجلز: كان من عاداتهم إذا مات الرجل وله زوجة ألقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئاً، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت فيرثها، فنزلت الآية. وقيل: الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طمعاً في إرثهن، أو يفتدين ببعض مهورهن واختاره ابن عطية. قال: ودليل ذلك قوله "إلا أن يأتين بفاحشة" إذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى تذهب بمالها إجماعاً من الأمة، وإنما ذلك للزوج. قال الحسن: إذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى وترد إلى زوجها ما أخذت منه. وقال أبو قلابة: إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه. وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. وقال قوم: الفاحشة البذاءة باللسان، وسوء العشرة قولاً وفعلاً. وقال مالك وجماعة من أهل العلم: للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. هذا كله على أن الخطاب في قوله "ولا تعضلوهن" للأزواج، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله "ولا تعضلوهن" لمن خوطب بقوله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" فيكون المعنى: ولا يحل لكم أن تمنعوهن من الزواج "لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" أي: ما آتاهن من ترثونه "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" جاز لكم حبسهن عن الأزواج، ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج وتستعف من الزنا، وكما أن جعل قوله "ولا تعضلوهن" خطاباً للأولياء فيه هذا التعسف، كذلك جعل قوله "لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً" خطاباً للأزواج فيه تعسف ظاهر مع مخالفته لسبب نزول الآية الذي ذكرناه، والأولى أن يقال: إن الخطاب في قوله "لا يحل لكم" للمسلمين: أي لا يحل لكم معاشر المسلمين أن ترثوا النساء كرهاً كما تفعله الجاهلية، ولا يحل لكم معاشر المسلمين أن تعضلوا أزواجكم: أي تحسبوهن عندكم مع عدم رغوبكم فيهن، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهن من المهر يفتدين به من الحبس والبقاء تحتكم، وفي عقدتكم مع كراهتكم لهن "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة" جاز لكم مخالعتهن ببعض ما آتيتموهن. قوله "مبينة" قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بكسر الياء. وقرأ الباقون بفتحها. وقرأ ابن عباس "مبينة" بكسر الباء وسكون الياء من أبان الشيء فهو مبين. قوله "وعاشروهن بالمعروف" أي: يما هو معروف في هذه الشريعة وبين أهلها من حسن المعاشرة، وهو خطاب للأزواج أو لما هو أعم، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى والفقر والرفاعة والوضاعة "فإن كرهتموهن" لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ولا نشوز "فعسى" أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة وتبدلها بالمحبة، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة وحصول الأولاد، فيكون الجزاء على هذا محذوفاً مدلولاً عليه بعلته: أي فإن كرهتموهن فاصبروا "فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً".أوK
19-"يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً"، نزلت في أهل المدينة كانوا في الجاهلية وفي أول الإسلام،إذا مات الرجل وله أمراً جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألقى ثوبه على تلك المرأة وعلى خبائها ، فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوجها غيره واخذ صداقها، وإن شاء عضلها ومنعها من الأزواج يضارها لتفتدي منه بما ورثته من الميت، أو تموت هي فيرثها،فإن ذهبت المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بنفسها، فكانوا على هذا حتى توفي أبو قيس بن الأسلت الأنصاري وترك امرأته كبيشة بنت معن الأنصارية ، فقام ابن له من غيرها يقال له حصن، وقال مقاتل بن حيان : اسمه قيس بن أبي قيس، فطرح ثوبه عليها فورث نكاحها ، ثم تركها ولم ينفق عليها، يضارها لتفتدي منه، فأتت كبيشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن أبا قيس توفي وورث نكاحي ابنه فلا هو ينفق علي ولا يدخل بي ولا يخلي سبيلي ، فقال: اقعدي في بيتك حتى يأتي فيك أمر الله، فأنزل الله تعالى هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً".
قرأحمزة والكسائي:كرهاً بضم الكاف ، ها هنا وفي التوبة وقرأ الباقون بالفتح قال الكسائي : هما لغتان . قال الفراء : الكره بالفتح ما اكره عليهن وبالضم ما كان من قبل نفسه من المشقة.
"ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن" أي: لا تمنعوهن من الأزواج لتضجر فتفتدي ببعض مالها، قيل: هذا خطاب لأولياء الميت، والصحيح انه خطاب للأزواج.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذا في الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وترد إليه ما ساق إليها من المهر، فنهى الله تعالى عن ذلك ، ثم قال: "إلا أن يأتين بفاحشة مبينة"فحينئذ يحل لكم إضرارهن ليفتدين منكم.
واختلفوا في الفاحشة،قال ابن مسعودوقتادة: هي النشوز، وقال بعضهم وهو قولالحسن: هي الزنا،يعني: المرأة إذا نشزت،أو زنت حل للزوج أن يسألها الخلع ، وقال عطاء: كان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشةً اخذ منها ما ساق إليها وأخرجها ، فنسخ الله تعالى ذلك بالحدود.
وقرأابن كثيروأبو بكر"مبينة" ،" مبينات "بفتح الياء، ووافق أهل المدينة والبصرة في "مبينات" والباقون بكسرها.
"وعاشروهن بالمعروف"،قالالحسن: رجع إلى أول الكلام، يعني"وآتوا النساء صدقاتهن نحلة""وعاشروهن بالمعروف"والمعاشرة بالمعروف: هي الإجمال في القول والمبيت والنفقة ، وقيل: هو أن يتصنع لها كما تتصنع له،"فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً"، قيل: هو ولد صالح، أو يعطفه الله عليها.
19" يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها " كان الرجل إذا مات وله عصبة ألقى ثوبه على امرأته وقال: أنا أحق بها ثم إن شاء تزوجها بصداقها الأول، وإن شاء زوجها غيره وأخذ صداقها، وإن شاء عضلها لتفتدي بما ورثت من زوجها، فنهوا عن ذلك. وقيل: لا يحل لكم أن تأخذوهن على سبيل الإرث فتتزوجوهن كارهات لذلك أو مكرهات عليه. وقرأ حمزة و الكسائي " كرها " بالضم في مواضعه وهما لغتان. وقيل بالضم المشقة وبالضم ما يكره عليه. " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن " عطف على " أن ترثوا "، ولا لتأكيد النفي أي ولا تمنعوهن من التزويج، وأصل العضل التضييق يقال عضلت الدجاجة ببيضها. وقيل الخطاب مع الأزواج كانوا يحبسون النساء من غير حاجة ورغبة حتى يرثوا منهن أو يختلعن بمهورهن. وقيل تم الكلام بقوله كرهاً ثم خاطب الأزواج ونهاهم عن العضل. " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " كالنشوز وسوء العشرة وعدم التعفف، والاستثناء من أعم عام الظرف أو المفعول له تقديره ولا تعضلوهن للافتداء إلا وقت أن يأتين بفاحشة، أو لا تعضلوهن لعلة إلا أن يأتين بفاحشة. وقرأ ابن كثير و أبو بكر " مبينة " هنا وفي الأحزاب والطلاق بفتح الياء والباقون بكسرها فيهن. " وعاشروهن بالمعروف " بالإنصاف في الفعل والإجمال بالقول. " فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا " أي فلا تفارقوهن لكراهة النفس فإنها قد تكره ما هو أصلح ديناً وأكثر خيراً، وقد تحب ما هو بخلافه. وليكن نظركم إلى ما هو أصلح للدين وأدنى إلى الخير، وعسى في الأصل علة فأقيم مقامه. والمعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن فعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم.
19. O ye who believe! It is not lawful for you forcibly to inherit the women (of your deceased kinsmen), nor (that) ye should put constraint upon them that ye may take away a part of that which ye have given them, unless they be guilty of flagrant lewdness. But consort with them in kindness, for if ye hate them it may happen that ye hate a thing wherein Allah hath placed much good.
19 - O ye who believe ye are forbidden to inherit women against their will. nor should ye treat them with harshness, that ye may take away part of the dower ye have given them, except where they have been guilty of open lewdness; on the contrary live with them on a footing of kindness and equity. if ye take a dislike to them it may be that ye dislike a thing, and God brings about through it a great deal of good.