19 - (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة) الشمال
وقوله : " والذين كفروا بآياتنا " يقول : والذين كفروا بأدلتنا وأعلامنا وحججنا من الكتب والرسل وغير ذلك " هم أصحاب المشأمة " يقول : هم أصحاب الشمال يوم القيامة الذين يؤخذ بهم ذات الشمال . وقد بينا معنى المشأمة ، ولم قيل لليسار المشأمة فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .
قوله تعالى: " والذين كفروا بآياتنا" أي القرآن.
" هم أصحاب المشأمة" أي يأخذون كتبهم بشمائلهم، قاله محمد بن كعب . يحي بن سلام: لأنهم مشائيم على أنفسهم ابن زيد: لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر. ميمون: لأن منزلتهم عن اليسار.
قلت: ويجمع هذه الأقوال أن يقال: إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة، وأصحاب المشأمة أصحاب النار، قال الله تعالى: " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين * في سدر مخضود" [الواقعة:27-28] وقال:" وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال * في سموم وحميم" [الواقعة:41-42]. وما كان مثله.
قال ابن جرير : حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد , حدثنا عبد الله بن إدريس عن أبيه عن أبي عطية عن ابن عمر في قوله تعالى: "فلا اقتحم" أي دخل "العقبة" قال: جبل في جهنم. وقال كعب الأحبار : "فلا اقتحم العقبة" هو سبعون درجة في جهنم وقال الحسن البصري : "فلا اقتحم العقبة" قال عقبة في جهنم, وقال قتادة : إنها عقبة قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله تعالى. وقال قتادة : " وما أدراك ما العقبة " ثم أخبر تعالى عن اقتحامها فقال " فك رقبة * أو إطعام " وقال ابن زيد "فلا اقتحم العقبة" أي أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير ثم بينهما فقال تعالى: " وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام " قرىء فك رقبة بالإضافة, وقرىء على أنه فعل وفيه ضمير الفاعل والرقبة مفعوله, وكلتا القراءتين معناهما متقارب. قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إبراهيم , حدثنا عبد الله يعني ابن سعيد بن أبي هند عن إسماعيل بن أبي حكيم , مولى آل الزبير عن سعيد بن مرجانة أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب ـ أي عضو ـ منها إرباً منه من النار حتى إنه ليعتق باليد اليد وبالرجل الرجل وبالفرج الفرج".
فقال علي بن الحسين : أنت سمعت هذا من أبي هريرة ؟ فقال سعيد : نعم. فقال علي بن الحسين لغلام له أفره غلمانه: ادع مطرفاً, فلما قام بين يديه قال: اذهب فأنت حر لوجه الله, وقد رواه البخاري , و مسلم والترمذي والنسائي من طرق عن سعيد بن مرجانة به, وعند مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم, وقال قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أيما مسلم أعتق رجلاً مسلماً فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامه عظماً من عظامه محرراً من النار, وأيما امرأة أعتقت امرأة مسلمة فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظماً من عظامها من النار" رواه ابن جرير هكذا و أبو نجيح هذا هو عمر بن عبسة السلمي رضي الله عنه.
قال الإمام أحمد : حدثنا حيوة بن شريح , حدثنا بقيه حدثني بجير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن عمرو بن عبسة أنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بنى مسجداً ليذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة. ومن أعتق نفساً مسلمة كانت فديته من جهنم, ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة".
(طريق أخرى) قال أحمد : حدثنا الحكم بن نافع , حدثنا جرير عن سليم بن عامر أن شرحبيل بن السمط قال لعمرو بن عبسة : حدثنا حديثاً ليس فيه تزيد ولا نسيان. قال عمرو : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار عضواً بعضو, ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة, ومن رمى بسهم فبلغ فأصاب أو أخطأ كان كمعتق رقبة من بني إسماعيل" وروى أبو داود والنسائي بعضه.
(طريق أخرى) قال أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم , حدثنا الفرج , حدثنا لقمان عن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة , قال السلمي : قلت له: حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا وهم, قال سمعته يقول: "من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم, ومن شاب شيبة فيسبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة, ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ به العدو أصاب أو أخطأ كان له عتق رقبة, ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار, ومن أنفق زوجين في سبيل الله فإن للجنة ثمانية أبواب يدخله الله من أي باب شاء منها" وهذه أسانيد جيدة قوية, ولله الحمد.
(حديث آخر) قال أبو داود : حدثنا عيسى بن محمد الرملي , حدثنا ضمرة عن ابن أبي عبلة عن العريف بن عياش الديلمي , قال: أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا حديثاً ليس فيه زيادة ولا نقصان, فغضب وقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص, قلنا: إنما أردنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: " أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب يعني النار بالقتل فقال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار", وكذا رواه النسائي من حديث إبراهيم بن أبي عبلة , عن العريف بن عياش الديلمي , عن واثلة به.
(حديث آخر) قال أحمد : حدثنا عبد الصمد , حدثنا هشام عن قتادة عن قيس الجذامي عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة مسلمة فهو فداؤه من النار", وحدثنا عبد الوهاب الخفاف عن سعيد عن قتادة , قال: ذكر لنا أن قيساً الجذامي حدث عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار" تفرد به أحمد من هذا الوجه.
(حديث آخر) قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم وأبو أحمد قالا: حدثنا عيسى بن عبد الرحمن البجلي من بني بجيلة من بني سليم عن طلحة بن مصرف عن عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء بن عازب قال: " جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني عملاً يدخلني الجنة, فقال: لئن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة, أعتق النسمة وفك الرقبة فقال: يا رسول الله أو ليستا بواحدة, قال: لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها, وفك الرقبة أن تعين في عتقها, والمنحة الوكوف, والفيء على ذي الرحم الظالم فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع, واسق الظمآن, وأمر بالمعروف وانه عن المنكر, فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير".
وقوله تعالى: "أو إطعام في يوم ذي مسغبة" قال ابن عباس : ذي مجاعة, وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة وغير واحد, والسغب هو الجوع, وقال إبراهيم النخعي : في يوم الطعام فيه عزيز, وقال قتادة : في يوم مشتهى فيه الطعام وقوله تعالى: "يتيماً" أي أطعم في مثل هذا اليوم يتيماً "ذا مقربة" أي ذا قرابة منه, قاله ابن عباس وعكرمة والحسن والضحاك والسدي , كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا يزيد , أخبرنا هشام عن حفصة بنت سيرين عن سلمان بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان: صدقة وصلة" وقد رواه الترمذي والنسائي وهذا إسناد صحيح, وقوله تعالى: "أو مسكيناً ذا متربة" أي فقيراً مدقعاً لاصقاً بالتراب, وهو الدقعاء أيضاً. قال ابن عباس : ذا متربة هو المطروح في الطريق الذي لا بيت له ولا شيء يقيه من التراب, وفي رواية هو الذي لصق بالدقعاء من الفقر والحاجة ليس له شيء, وفي رواية عنه: هو البعيد التربة, قال ابن أبي حاتم : يعني الغريب عن وطنه, وقال عكرمة : هو الفقير المديون المحتاج, وقال سعيد بن جبير , هو الذي لا أحد له, وقال ابن عباس وسعيد وقتادة ومقاتل بن حيان : هو ذو العيال, وكل هذه قريبة المعنى.
وقوله تعالى: "ثم كان من الذين آمنوا" أي ثم هو مع هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة مؤمن بقلبه محتسب ثواب ذلك عند الله عز وجل كما قال تعالى: " ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا " وقال تعالى: "من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن" الاية. وقوله تعالى: "وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة" أي كان من المؤمنين العاملين صالحاً "المتواصين بالصبر على أذى الناس وعلى الرحمة بهم كما جاء في الحديث الشريف الراحمون يرحمهم الرحمن, ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" وفي الحديث الاخر "لا يرحم الله من لا يرحم الناس". وقال أبو داود : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة , حدثنا سفيان عن ابن أبي نجيح عن ابن عامر عن عبد الله بن عمرو يرويه قال: "من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا".
وقوله تعالى "أولئك أصحاب الميمنة" أي المتصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين. ثم قال " والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة " أي أصحاب الشمال "عليهم نار مؤصدة" أي مطبقة عليهم فلا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها! قال أبو هريرة وابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحمد بن كعب القرظي وعطية العوفي والحسن وقتادة والسدي "مؤصدة" أي مطبقة قال ابن عباس : مغلقة الأبواب, وقال مجاهد : أصد الباب بلغة قريش أي أغلقه وسيأتي في ذلك حديث في سورة "ويل لكل همزة لمزة" وقال الضحاك "مؤصدة" حيط لا باب له, وقال قتادة "مؤصدة" مطبقة فلا ضوء فيها ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد, وقال أبو عمران الجوني إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان وكل من كان يخاف الناس في الدنيا شره, فأوثقوا بالحديد ثم أمر بهم إلى جهنم ثم أوصدوها عليهم أي أطبقوها, قال: فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبداً, ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبداً, ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبداً, ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبداً, رواه ابن أبي حاتم . آخر تفسير سورة البلد, ولله الحمد والمنة.
19- "والذين كفروا بآياتنا" أي بالقرآن، أو بما هو أعم منه، فتدخل الآيات التنزيلية والآيات التكوينية التي تدل على الصانع سبحانه "هم أصحاب المشأمة" أي أصحاب الشمال، أو أصحاب الشؤم، أو الذين يعطون كتبهم بشمالهم، أو غير ذلك مما تقدم.
19- "والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة".
19-" والذين كفروا بآياتنا " بما نصبناه دليلاً على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن . " هم أصحاب المشأمة " الشمال أو الشؤم ، ولتكرير ذكر المؤمنين باسم الإشارة والكفار بالضمير شأن لا يخفى .
19. But those who disbelieve Our revelations, their place will be on the left hand.
19 - But those who reject Our Signs, they are the (unhappy) Companions of the Left Hand.