ولما صُدَّ صلى الله عليه وسلم عن البيت عام الحديبية وصالح الكفار على أن يعود العام القابل ويخلوا له مكة ثلاثة أيام وتجهز لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي قريش ويقاتلوهم وكره المسلمون قتالهم في الحرم والإحرام والشهر الحرام نزل (وقاتلوا في سبيل الله) أي لإعلاء دينه (الذين يقاتلونكم) الكفار (ولا تعتدوا) عليهم بالابتداء بالقتال (إن الله لا يحب المعتدين) المتجاوزين ما حد لهم ، وهذا منسوخ بآية براءة أوبقوله:
قوله تعالى وقاتلوا في سبيل الله أخرج الواحدي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال نزلت هذه الآية في صلح الحديبية وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صد عن البيت ثم صالحه المشركون على أن يرجع عامه القابل فلما كان العام القابل تجهز هو وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لا تفي قريش بذلك وأن يصدوهم عن المسجد الحرام ويقاتلوهم وكره أصحابه قتالهم في الشهر الحرام فأنزل الله ذلك
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك ثم يرجع من العام المقبل فلما كان العام المقبل أقبل وأصحابه حتى دخلوا مكة معتمرين في ذي القعدة فأقام بها ثلاث ليال وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه فأقصه الله منهم فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردوه فيه فأنزل الله الشهر الحرام بالشهر الحرام وبالحرمات قصاص
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية.فقال بعضهم: هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك. وقالوا: أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين، والكف عمن كف عنهم، ثم نسخت بـ براءة.ذكر من قال ذلك:حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع في قوله: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة. فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من يقاتله، ويكف عمن كف عنه، حتى نزلت براءة ولم يذكر عبد الرحمن: المدينة.حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" إلى آخر الآية، قال: قد نسخ هذا! وقرأ قول الله: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" [التوبة:36] وهذه الناسخة، وقرأ: "براءة من الله ورسوله"، حتى بلغ "فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" إلى "إن الله غفور رحيم" [التوبة: 1-ه].وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار، لم ينسخ. وإنما الاعتداء الذي نهاهم الله عنه، هو نهيه عن قتل النساء والذراري. قالوا: والنهي عن قتلهم ثابت حكمه اليوم قالوا: فلا شيء نسخ من حكم هذه الاية. ذكر من قال ذلك:حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن صدقة الدمشقي، عن يحيى بن يحيى الغساني قال: كتبت إلى عمر بن العزيز أسأله عن قوله: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، قال: فكتب إلي: إن ذلك في النساء والذرية ومن لم ينصب لك الحرب منهم . حدثنى محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم"، لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أمروا بقتال الكفار. حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، يقول: لا تقتلوا النساء، ولا الصبيان، ولا الشيخ الكبير، ولا من ألقى السلم وكف يده. فإن فعلتم هذا فقد اعتديتم. حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمروبن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال، كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة: إني وجدت آية في كتاب الله: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، أي: لا تقاتل من لا يقاتلك، يعني: النساء والصبيان والرهبان .قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب، القول الذي قاله عمر بن عبد العزيز. لأن دعوى المدعي نسخ آية يحتمل أن تكون غير منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه، تحكم. والتحكم لا يعجز عنه أحد.وقد دللنا على معنى النسخ ، والمعنى الذي من قبله يثبت صحة النسخ، بما قد أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
فتأويل الآية- إذا كان الأمر على ما وصفنا-: وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله- وسبيله: طريقه الذي أوضحه، ودينه الذي شرعه لعباده- يقول لهم تعالى ذكره: قاتلوا في طاعتي وعلى ما شرعت لكم من ديني، وادعوا إليه من ولى عنه واستكبر بالأيدي والألسن، حتى ينيبوا إلى طاعتي، أو يعطوكم الجزية صغارا إن كانوا أهل كتاب. وأمرهم تعالى ذكره بقتال من كان منه قتال من مقاتلة أهل الكفر، دون من لم يكن منه قتال، من نسائهم وذراريهم، فإنهم أموال وخول لهم، إذا غلب المقاتلون منهم فقهروا. فذلك معنى قوله: "قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم". لأنه أباح الكف عمن كف فلم يقاتل من مشركي أهل الأوثان، والكافين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صغارا.فمعنى قوله: "ولا تعتدوا": لا تقتلوا وليدا ولا امرأة، ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابين والمجوس، "إن الله لا يحب المعتدين"، الذين يجاوزون حدوده، فيستحلون ما حرمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حرم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم.
وفيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "قاتلوا" هذه الآية أول آية نزلت في الأمر بالقتال ، ولا خلاف في أن القتال كان محظوراً قبل الهجرة بقوله : "ادفع بالتي هي أحسن" وقوله : "فاعف عنهم واصفح" وقوله : "واهجرهم هجرا جميلا" وقوله : "لست عليهم بمصيطر" وما كان مثله مما نزل بمكة . فلما هاجر إلى المدينة بأمر بالقتال فنزل : "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" قاله الربيع بن أنس وغيره . وروي عن ابي بكر الصديق : أن أول آية نزلت في القتال : "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" . والأول أكثر ، وأن آية الإذن إنما نزلت في القتال عامة لمن قاتل ولمن لم يقاتل من المشركين ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه إلى مكة للعمرة ، فلما نزل الحديبية بقرب مكة ـ والحديبية اسم بئر ، فسمي ذلك الموضع باسم تلك البئر ـ فصده المشركون عن البيت ، وأقام بالحديبية شهراً ، فصالحوه على أن يرجع من عامة ذلك كما جاء ، على أن تخلى له مكة في العام المستقبل ثلاثة أيام ، وصالحوه على ألا يكون بينهم قتال عشر سنين ، ورجع إلى المدينة . فلما كان من قابل تجهز لعمرة القضاء ، وخاف المسلمون غدر الكفار وكرهوا القتال في الحرم وفي الشهر الحرام ، فنزلت هذه الاية ، أي يحل لكم القتال إن قاتلكم الكفار . فالآية متصلة بما سبق من ذكر الحج وإتيان البيوت من ظهورها ، فكان عليه السلام يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه ، حتى نزل "فاقتلوا المشركين" فنسخت هذه الآية ، قاله جماعة من العلماء . وقال ابن زيد و الربيع : نسخها "وقاتلوا المشركين كافة" فأمر بالقتال لجميع الكفار . وقال ابن عباس وعمر بن عبد العزيز و مجاهد : هي محكمة ، أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم ،ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم ، على ما يأتي بيانه . قال أبو جعفر النحاس : وهذا اصح القولين في السنة والنظر ، فأما السنة فحديث ابن عمر :
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك ، ونهى عن قتل النساء والصبيان" ، رواه الأئمة . وأما النظر فإن فاعل لا يكون في الغالب إلا من اثنين ، كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة ، والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم ، كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون . وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد عن أبي سفيان حين ارسله إلى الشام ، إلا أن يكون لهؤلاء إذاية ، أخرجه مالك وغيره ، وللعلماء فيهم صور ست :
الأولى : النساء إن قاتلن قتلن ، قال سحنون : في حالة المقاتلة وبعدها ، لعموم قوله : "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" ، "واقتلوهم حيث ثقفتموهم" . وللمرأة آثار عظيمة في القتال ، منها الإمداد بالأموال ، ومنها التحريض على القتال ، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيرات بالفرار ، وذلك يبيح قتلهن ، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن ، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجل .
الثانية : الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية ، ولأنه لا تكليف عليهم ، فإن قاتل الصبي قتل .
الثالثة : الرهبان لا يقتلون ولا يسترقون ، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم ، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر ، لقول ابي بكر ليزيد : وستجد أقواماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله ، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا . ولو ترهبت المرأة فروى أشهب أنها لا تهاج . وقال سحنون : لا يغير الترهب حكمها . قال القاضي أبو بكر بن العربي : والصحيح عندي رواية أشهب ، لأنها داخلة تحت قوله : فذرهم وما حبسوا أنفسهم له .
الرابعة : الزمنى . قال سحنون : يقتلون . وقال ابن حبيب : لا يقتلون . والصحيح أن تعتبر أحوالهم ، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا ، وإلا تركوا وماهم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة .
الخامسة : الشيوخ . قال مالك في كتاب محمد : لا يقتلون . والذي عليه جمهور الفقهاء : إن كان شيخاً كبيراً لا يطيق القتال ، ولا ينتفع به في راي ولا مدافعة فإنه لا يقتل ، وبه قال مالك و أبو حنيفة . ولـ لشافعي قولان : أحدهما :مثل قول الجماعة . والثاني : يقتل هو والراهب . والصحيح الأول لقول ابي بكر ليزيد ، ولا مخالف له فثبت أنه إجماع . وأيضاً فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة ، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيراً بين خمسة اشياء : القتل أو المن او الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذمة على أداء الجزية .
السادسة : العسفاء ، وهم الأجراء والفلاحون ، فقال مالك في كتاب محمد :لا يقتلون . وقال الشافعي : يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية . والأول أصح ، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن الربيع :
الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا . وقال عمر بن الخطاب . اتقوا الله في الذرية والفلاحين الذين لا ينصبون لكم الحرب . وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حراثاً ، ذكره ابن المنذر .
الثانية : روى أشهب عن مالك أن المراد بقوله : "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" أهل الحديبية أمروا بقتال من قاتلهم . والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين ، أمر كل أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه . ألا تراه كيف بينها في سورة براءة بقوله : "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" وذلك أن المقصود أولاً كان أهل مكة فتعينت البداءة بهم ، فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعم الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة ، وذلك باق متماد إلى يوم القيامة ، ممتد إلى غاية هي قوله عليه السلام :
"الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم" . وقيل :غايته نزول عيسى ابن مريم عليه السلام ، وهو موافق للحديث الذي قبله ، لأن نزوله من أشراط الساعة .
الثالثة : قوله تعالى : "ولا تعتدوا" قيل في تأويله ما قدمناه ، فهي محكمة . فأما المرتدون فليس إلا القتل أو التوبة ، وكذلك أهل الزيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة . ومن أسر الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزنديق يقتل ولا يستتاب . وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق . وقال قوم : المعنى لا تعتدوا في القتال لعير وجه الله ، كالحمية وكسب الذكر ، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ، يعني ديناً وإظهاراً للكلمة . وقيل : لا تعتدوا أي لا تقاتلوا من لم يقاتل . فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار ، والله أعلم .
قال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس, عن أبي العالية في قوله تعالى: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" قال: هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة, فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله, ويكف عمن كف عنه, حتى نزلت سورة براءة, وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم, حتى قال: هذه منسوخة بقوله: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" وفي هذا نظر , لأن قوله "الذين يقاتلونكم" إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذين همتهم قتال الإسلام وأهله, أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم, كما قال: "وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" ولهذا قال في الاية: "واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم" أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم, كما همتهم منبعثة على قتالكم, وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً.
وقوله: "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" أي قاتلوا في سبيل الله, ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي, كما قاله الحسن البصري: من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ, الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم, والرهبان وأصحاب الصوامع, وتحريق الأشجار , وقتل الحيوان لغير مصلحة, كما قال ذلك ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومقاتل بن حيان وغيرهم, ولهذا جاء في صحيح مسلم, عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اغزوا في سبيل الله وقاتلوا من كفر بالله, اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع" رواه الإمام أحمد وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال "اخرجوا باسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع" رواه الإمام أحمد, ولأبي داود عن أنس مرفوعاً نحوه, وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة, فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان. وقال الإمام أحمد: حدثنا مصعب بن سلام, حدثنا الأحلج عن قيس بن أبي مسلم, عن ربعي بن حراش, قال: سمعت حذيفة يقول: ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالاً واحداً وثلاثة وخمسة وسبعة وتسعة, وأحد عشر , فضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مثلاً وترك سائرها, قال "إن قوماً كانوا أهل ضعف ومسكنة قاتلهم أهل تجبر وعداوة, فأظهر الله أهل الضعف عليهم, فعمدوا إلى عدوهم فاستعملوهم وسلطوهم, فأسخطوا الله عليهم إلى يوم القيامة" هذا حديث حسن الإسناد, ومعناه أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء فاعتدوا عليهم فاستعملوهم فيما لا يليق بهم, أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء, والأحاديث والاثار في هذا كثيرة جداً. ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال, نبه تعالى على أن ماهم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله, أبلغ وأشد وأعظم وأطم من القتل, ولهذا قال: "والفتنة أشد من القتل" قال أبو مالك: أي ما أنتم مقيمون عليه أكبر من القتل. ولهذا قال: "والفتنة أشد من القتل", يقول الشرك أشد من القتل, وقوله: "ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام" كما جاء في الصحيحين "إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, ولم يحل إلا ساعة من نهار وإنها ساعتي هذه, حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, لا يعضد شجره ولا يختلي خلاه, فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقولوا إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم", يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهله يوم فتح مكة, فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة, وقيل صلحاً لقوله "من أغلق بابه فهو آمن, ومن دخل المسجد فهو آمن, ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" وقوله: "حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين" يقول تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدؤوكم بالقتال فيه, فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعاً للصائل, كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال, لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ, ثم كف الله القتال بينهم فقال "وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم" وقال " ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما " وقوله: "فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم" أي فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة, فإن الله يغفر ذنوبهم ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه, ثم أمر الله بقتال الكفار "حتى لا تكون فتنة", أي شرك قاله ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وقتادة والربيع ومقاتل بن حيان والسدي وزيد بن أسلم "ويكون الدين لله" أي يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان, كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء, أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" وفي الصحيحين "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله".
وقوله: "فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين" يقول تعالى فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم, فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين, وهذا معنى قول مجاهد أن لا يقاتل إلا من قاتل أو يكون تقديره فإن انتهوا تخلصوا من الظلم وهو الشرك, فلا عدوان عليهم بعد ذلك, والمراد بالعدوان ههنا المعاقبة والمقاتلة كقوله: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" وقوله: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" ولهذا قال عكرمة وقتادة: الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله, وقال البخاري: قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" الاية, حدثنا محمد بن بشار , حدثنا عبد الوهاب حدثنا عبيد الله عن نافع, عن ابن عمر قال: أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا: إن الناس ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ فقال يمنعني أن الله حرم دم أخي, قالا: ألم يقل الله "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" ؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله, وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة, وحتى يكون الدين لغير الله, وزاد عثمان بن صالح عن ابن وهب, أخبرني فلان وحيوة بن شريح عن بكر بن عمر المغافري, أن بكير بن عبد الله حدثه عن نافع, أن رجلاً أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتقيم عاماً وتترك الجهاد في سبيل الله عز وجل, وقد علمت ما رغب الله فيه ؟ فقال: يا ابن أخي بني الإسلام على خمس: الإيمان بالله ورسوله والصلوات الخمس وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت. قالوا: يا أبا عبد الرحمن, ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه, " وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله " "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلاً, فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه أو عذبوه, حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة, قال فما قولك في علي وعثمان ؟ قال: أما عثمان فكان الله عفا عنه, وأما أنتم فكرهتم أن يعفو عنه, وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه, فأشار بيده, فقال: هذا بيته حيث ترون.
لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعاً قبل الهجرة لقوله تعالى: "فاعف عنهم واصفح" وقوله: "واهجرهم هجراً جميلاً" وقوله: " لست عليهم بمصيطر " وقوله: "ادفع بالتي هي أحسن" ونحو ذلك مما نزل بمكة، فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال، ونزلت هذه الآية، وقيل: إن أول ما نزل قوله تعالى: "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" فلما نزلت الآية كان صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله، ويكف عمن كف عنه حتى نزل قوله تعالى: "اقتلوا المشركين" وقوله تعالى: "وقاتلوا المشركين كافة". وقال جماعة من السلف: إن المراد بقوله: 190- "الذين يقاتلونكم" من عدا النساء والصبيان والرهبان ونحوهم، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة، والمراد بالاعتداء عند أهل القول الأول هو مقاتلة من يقاتل من الطوائف الكفرية. والمراد به على القول الثاني مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه ممن تقدم ذكره.
190. " وقاتلوا في سبيل الله " أي في طاعة الله " الذين يقاتلونكم " كان في ابتداء الإسلام أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالكف عن قتال المشركين ثم لما هاجر إلى المدينة أمره بقتال من قاتله منهم بهذه الآية، وقال الربيع بن أنس : هذه أول آية نزلت في القتال ثم أمره بقتال المشركين كافة قاتلوا أو لم يقاتلوا بقوله ( فاقتلوا المشركين ) فصارت هذه الآية منسوخة بها، وقيل: نسخ بقوله ( فاقتلوا المشركين ) قريب من سبعين آية وقوله " ولا تعتدوا " أي لا تبدؤهم بالقتال وقيل: هذه الآية محكمة غير منسوخة أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال المقاتلين ومعنى قوله: " ولا تعتدوا " أي لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير والرهبان ولا من ألقى إليكم السلام هذا قول ابن عباس و مجاهد :
أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو بكر بن سهل القهستاني المعروف بأبي تراب أخبرنا محمد بن عيسى الطرسوسي أنا يحيى بن بكير أنا الليث بن سعد عن جرير بن حازم عن شعبة عن علقمة بن يزيد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيشاً قال: اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، لا تغلوا ولا تقتلوا امرأة ولا وليداً ولا شيخاً كبيراً " وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس نزلت هذه الآية في صلح الحديبية، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج مع أصحابه للعمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدهم المشركون عن البيت الحرام فصالحهم على أن يرجع عامه ذلك على أن يخلوا له مكة عام قابل ثلاثة أيام فيطوف بالبيت فلما كان العام القابل تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا أن لاتفي قريش بما قالوا وأن يصدوهم عن البيت الحرام وكره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالهم في الشهر الحرام وفي الحرم فأنزل الله تعالى " وقاتلوا في سبيل الله " يعني محرمين " الذين يقاتلونكم " يعني قريشاً " ولا تعتدوا " فتبدؤوا بالقتال في الحرم محرمين " إن الله لا يحب المعتدين ".
190-" وقاتلوا في سبيل الله " جاهدوا لإعلاء كلمته وإعزاز دينه . " الذين يقاتلونكم " قيل : كان ذلك قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمحاجزين . وقيل معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهبان والنساء ، أو الكفرة كلهم فإنهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده . ويؤيد الأول ما روي : أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية ، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ـ شرفها الله ـ ثلاثة أيام ، فرجع لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم . أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت " ولا تعتدوا " بابتداء القتال ، أو بقتال المعاهدة ، أو المفاجأة به من غير دعوة ، أو المثلة ، أو قتل من نهيتم عن قتله . " إن الله لا يحب المعتدين " لا يريد بهم الخير .
190. Fight in the way of Allah against those who fight against you, but begin not hostilities. Lo! Allah loveth not, aggressors.
190 - Fight in the cause of God those who fight you, but do not transgress limits; for God loveth not transgressors.