(الشهر الحرام) المحرم مقابل (بالشهر الحرام) فكما قاتلوكم فيه فاقتلوهم في مثله رد لاستعظام المسلمين ذلك (والحُرُمات) جمع حُرمة ما يجب احترامه (قصاص) أي يقتص بمثلها إذا انتكهت (فمن اعتدى عليكم) بالقتال في الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام (فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) سمى مقابلته اعتداء لشبهها بالمقابل به في الصورة (واتقوا الله) في الانتصار وترك الاعتداء (واعلموا أن الله مع المتقين) بالعون والنصر
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: "الشهر الحرام بالشهر الحرام"، ذا القعدة، وهو الشهر الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر فيه عمرة الحديبية، فصده مشركو أهل مكة عن البيت ودخول مكة، سنة ست من هجرته. وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في تلك السنة، على أن يعود من العام المقبل فيدخل مكة ويقيم ثلاثا. فلما كان العام المقبل، وذلك سنة سبع من هجرته، خرج معتمراً وأصحابه في ذي القعدة- وهو الشهر الذي كان المشركون صدوه عن البيت فيه في سنة ست- وأخلى له أهل مكة البلد حتى دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى حاجته منها، وأتم عمرته، وأقام بها ثلاثا- ثم خرج منها منصرفا إلى المدينة. فقال الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمسلمين معه "الشهر الحرام"- يعني ذا القعدة، الذي أوصلكم الله فيه إلى حرمه وبيته، على كراهة مشركي قريش ذلك، حتى قضيتم منه وطركم- "بالشهر الحرام"، الذي صدكم مشركو قريش العام الماضي قبله فيه حتى انصرفتم عن كره منكم عن الحرم، فلم تدخلوه، ولم تصلوا إلى بيت الله، فأقصكم الله أيها المؤمنون من المشركين بإدخالكم الحرم في الشهر الحرام على كره منهم لذلك، بما كان منهم إليكم في الشهر الحرام من الصد والمنع من الوصول إلى البيت، كما: حدثني محمد بن عبدالله بن بزيع قال، حدثنا يوسف- يعني: ابن خالد السمتي- قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: "والحرمات قصاص"، قال: هم المشركون، حبسوا محمدا- صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فرجعه الله في ذي القعدة فأدخله البيت الحرام، فاقتص له منهم.حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص"، قال: فخرت قريش بردها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية محرما في ذي القعدة عن البلد الحرام، فأدخله الله مكة في العام المقبل من ذي القعدة، فقضى عمرته، وأقصه بما حيل بينه وبينها يوم الحديبية. حدثني المثنى قال، حدثني أبوحذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص"، أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فاعتمروا في ذي القعدة ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون. فصالحهم نبي الله- صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك، حتى يرجع من العام المقبل فيكون بمكة ثلاثة أيام ولا يدخلها إلا بسلاح راكب ويخرج، ولا يخرج بأحد من أهل مكة، فنحروا الهدي بالحديبية، وحلقوا وقصروا. حتى إذا كان من العام المقبل، أقبل نبي الله وأصحابه حتى دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القعدة، فأقاموا بها ثلاث ليال. فكان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه يوم الحديبية، فأقصه الله منهم، فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردوه فيه في ذي القعدة. فقال الله: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص". حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وعن عثمان، عن مقسم في قوله: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص"، قالا: كان هذا في سفر الحديبية، صد المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت في الشهر الحرام، فقاضوا المشركين يومئذ قضية: أن لكم أن تعتمروا في العام المقبل- في هذا الشهر الذي صدوهم فيه. فجعل الله تعالى ذكره لهم شهرا حراما يعتمرون فيه، مكان شهرهم الذي صدوا، فلذلك قال: "والحرمات قصاص". حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص"، قال: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من مهاجره، صده المشركون وأبوا أن يتركوه. ثم إنهم صالحوه في صلحهم على أن يخلوا له مكة من عام قابل ثلاثة أيام، يخرجون ويتركونه فيها. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر من السنة السابعة، فخلوا له مكة ثلاثة أيام، فنكح في عمرته تلك ميمونة بنت الحارث الهلالية. حدثني المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص"، أحصروا النبي صلى الله عليه وسلم ذي القعدة عن البيت الحرام، فأدخله الله البيت الحرام العام المقبل، واقتص له منهم، فقال: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص".حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأحرموا بالعمرة في ذي القعدة، ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع ذلك العام حتى يرجع العام المقبل، فيقيم بمكة ثلاثة أيام ولا يخرج معه بأحد من أهل مكة. فنحروا الهدي بالحديبية وحلقوا وقصروا. حتى إذا كانوا العام المقبل، أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة؟ فاعتمروا في ذي القعدة، وأقاموا بها ثلاثة أيام وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردوه يوم الحديبية فقاص الله له منهم، وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردوه فيه في ذي القعدة. قال الله جل ثناؤه: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص". حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه
عن ابن عباس قوله: "والحرمات قصاص"، فهم المشركون، كانوا حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عن البيت، ففخروا عليه بذلك، فرجعه الله في ذي القعدة، فأدخله الله البيت الحرام، واقتص له منهم.حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "الشهر الحرام بالشهر الحرام"، حتى فرغ من الآية، قال: هذا كله قد نسخ، أمره أن يجاهد المشركين، وقرأ: "قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة" [التوبة: 36]، وقرأ: "قاتلوا الذين يلونكم من الكفار" [التوبة:123] ، العرب. فلما فرغ منهم قال الله جل ثناؤه: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله" حتى بلغ قوله: "وهم صاغرون" [التوبة: 29]، قال: وهم الروم. قال فوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص"، قال: أمركم الله بالقصاص ويأخذ، منكم العدوان. حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء وسألته عن قوله: "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص"، قال: نزلت في الحديبية، منعوا في الشهر الحرام فنزلت: "الشهر الحرام بالشهر الحرام": عمرة في شهر حرام، بعمرة فى شهر حرام.
قال أبو جعفر: وإنما سمى الله جل ثناؤه ذا القعدة "الشهر الحرام"، لأن العرب في الجاهلية كانت تحرم فيه القتال والقتل، وتضع فيه السلاح، ولا يقتل فيه أحد أحدا، ولو لقي الرجل فيه قاتل أبيه أو ابنه. وإنما كانوا سموه ذا القعدة لقعودهم فيه عن المغازي والحروب، فسماه الله بالاسم الذي كانت العرب تسميه به.
وأما الحرمات فإنها جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة والحجرات جمع حجرة،وانما قال جل ثناؤه: "والحرمات قصاص" فجمع، لأنه أراد: الشهر الحرام، والبلد الحرام، وحرمة الإحرام. فقال جل ثناؤه لنبيه محمد والمؤمنين معه: دخولكم الحرم، بإحرامكم هذا، في شهركم هذا الحرام، قصاص مما منعتم من مثله عامكم الماضي. وذلك هو الحرمات التي جعلها الله قصاصا. وقد بينا أن القصاص هو المجازاة من جهة الفعل أو القول أو البدن، وهو في هذا الموضع من جهة الفعل.قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيما نزل فيه قوله: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم".فقال بعضهم: بما: حدثني به المثنى قال، حدثنا عبدالله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم "، فهذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل: وليس اعم سلطان يقهر المشركين. وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين، من يجازى منهم أن يجازب بمثل ما أتي إليه، أو يصبر، أو يعفو فهو أمثل. فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأعز الله سلطانه، أمر المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، وأن لا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية.وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن قاتلكم أيها المؤمنون من المشركين، فقاتلوهم كما قاتلوكم.وقالوا: أنزلت هذه الاية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وبعد عمرة القضية.ذكر من قال ذلك: حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد."فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"، فقاتلوهم فيه كما قاتلوكم.قال أبو جعفر: وأشبه التأويلين بما دل عليه ظاهر الآية، الذي حكي عن مجاهد. لأن الآيات قبلها إنما هي أمر من الله للمؤمنين بجهاد عدوهم على صفة، وذلك قوله: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" والايات بعدها. وقوله: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه" ، إنما هو في سياق الآيات التي فيها الأمر بالقتال والجهاد. والله جل ثناؤه إنما فرض القتال على المؤمنين بعد الهجرة.فمعلوم بذلك أن قوله "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" مدني لا مكي، إذ كان فرض قتال المشركين لم يكن وجب على المؤمنين بمكة، وأن قوله: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"، نظير قوله: "وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم"، وأن معناه: فمن اعتدى عليكم في الحرم فقاتلكم فاعتدوا عليه بالقتال نحو اعتدائه عليكم بقتاله إياكم، لأني قد جعلت الحرمات قصاصا، فمن استحل منكم أيها المؤمنون من المشركين حرمة في حرمي، فاستحلوا منه مثله فيه. وهذه الاية منسوخة بإذن الله لنبيه بقتال أهل الحرم ابتداء في الحرم وقوله: "وقاتلوا المشركين كافة" [التوبة: 36] 000 (1)على نحو ما ذكرنا، من أنه بمعنى: المجازاة، وإتباع لفظ لفظاً، وإن اختلف معنياهما، كما قال: "ومكروا ومكر الله" [آل عمران: 54]، وقد قال: "فيسخرون منهم سخر الله منهم" [التوبة: 79]، وما أشبه ذلك مما أتبع لفظ لفظا واختلف المعنيان. والاخر: أن يكون بمعنى العدو الذي هو شد ووثوب. من قول القائل: عدا الأسد على فريسته . فيكون معنى الكلام: فمن عدا عليكم- أي فمن شد عليكم ووثب- بظلم، فاعدوا عليه- أي فشدوا عليه وثبوا نحوه- قصاصا لما فعل بكم لا ظلما. ثم تدخل التاء في عدا فيقال: افتعل مكان فعل ، كما يقال: اقترب هذا الأمر بمعنى قرب ، و اجتلب كذلك بمعنى جلب وما أشبه ذلك. قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: واتقوا أيها المؤمنون في حرماته وحدوده أن تعتدوا فيها، فتتجاوزوا فيها ما بينه وحده لكم، واعلموا أن الله يحب المتقين، الذين يتقونه بأداء فرائضه وتجنب محارمه.
فيه عشر مسائل :
الأولى : قوله تعالى : "الشهر الحرام" قد تقدم اشتقاق الشهر .وسبب نزولها ما روي عن ابن عباس و قتادة و مجاهد ومقسم و السدي و الربيع و الضحاك . وغيرهم قالوا : نزلت في عمرة القضية وعام الحديبية ،وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً حتى بلغ الحديبية في ذي القعدة سنة ست ، فصده المشركون كفار قريش عن البيت فانصرف ، ووعده الله سبحانه أنه سيدخله ، فدخله سنة سبع وقضى نسكه ، فنزلت هذه الآية . وروي عن الحسن " أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أنهيت يا محمد عن القتال في الشهر الحرام ؟ قال : نعم . فأرادوا قتاله ، فنزلت الآية " . المعنى : إن استحلوا ذلك فيه فقاتلهم ، فأباح الله بالآية مدافعتهم ، والقول الأول أشهر وعليه الأكثر .
الثانية : قوله تعالى : "والحرمات قصاص" الحرمات جمع حرمة ، كالظلمات جمع ظلمة ، والحجرات جمع حجرة . وإنما جمعت الحرمات لأنه أراد حرمة الشهر الحرام وحرمة البلد الحرام ، وحرمة الإحرام . والحرمة :ما منعت من انتهاكه . والقصاص المساواة ، أي اقتصصت لكم منهم إذ صدوكم سنة ست فقضيتم العمرة سنة سبع . فـ "والحرمات قصاص" على هذا متصل بما قبله ومتعلق به . وقيل :هو مقطوع منه . وهو ابتداء أمر كان في أول الإسلام : :إن من انتهك حرمتك نلت منه مثل ما اعتدى عليك ، ثم نسخ ذلك بالقتال . وقالت طائفة : ما تناولت الاية من التعدي بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم والجنايات ونحوها لم ينسخ ، وجاز لمن تعدي عليه في مال أو جرح أن يتعدى بمثل ما تعدي به عليه إذا خفي له ذلك ، وليس بينه وبين الله تعالى في ذلك شيء ، قاله الشافعي وغيره ، وهي رواية في مذهب مالك . وقالت طائفة من أصحاب مالك : ليس ذلك له ، وأمور القصاص وقف على الأحكام . والأموال يتناولها قوله صلى الله عليه وسلم :
"أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" . خرجه الدار قطني وغيره . فمن ائتمنه من خانة فلا يجوز له أن يخونه ويصل إلى حقه مما ائتمنه عليه ، وهو المشهور من المذهب ، وبه قال أبو حنيفة تمسكاً بهذا الحديث ، وقوله تعالى : "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" . وهو قول عطاء الخراساني . قال قدامة بن الهيثم : سألت عطاء بن ميسرة الخراساني فقلت له : لي على رجل حق ، وقد جحدني به وقد أعيا علي البينة ، أفأقتص من ماله ؟ قال : أرأيت لو وقع بجاريتك ، فعلمت ما كنت صانعاً .
قلت : والصحيح جواز ذلك كيف ما توصل إلى أخذ حقه ما لم يعد سارقاً ، وهو مذهب الشافعي وحكاه الداودي عن مالك ، وقال به ابن المنذر ، واختاره ابن العربي ، وأن ذلك ليس خيانة وإنما هو وصول إلى حق . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" وأخذ الحق من ظالم نصر له . و" قال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لما قالت له : إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني إلا ما أخذت من ماله بغير علمه ، هل علي جناح ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذي ما يكفيك ويكفي ولدك بالمعروف" . فأباح لها الأخذ وألا تأخذ إلا القدر الذي يجب لها . وهذا كله ثابت في الصحيح ، وقوله تعالى : "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" . قاطع في موضع الخلاف .
الثالثة : واختلفوا إذا ظفر له بمال من غير جنس ماله ، فقيل : لا يأخذ إلا بحكم الحاكم . ولـ الشافعي قولان ، أصحهما الأخذ ، قياساً على ما لو ظفر جنس ماله .والقول الثاني لا يأخذ لأنه خلاف الجنس . ومنهم من قال : يتحرى قيمة ما له عليه ويأخذ مقدار ذلك . وهذا هو الصحيح لما بيناه من الدليل ، والله أعلم .
الرابعة : وإذا فرعنا على الأخذ فهل يعتبر ما عليه من الديون وغير ذلك ، فقال الشافعي : لا ، بل يأخذ ماله عليه . وقال مالك . يعتبر ما يحصل له مع الغرماء في الفلس ، وهو القياس ، والله أعلم .
الخامسة : قوله تعالى : "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" عموم متفق عليه ، إما بالمباشرة إن أمكن ، وإما بالحكام . واختلف الناس في المكافأة هل تسمى عدواناً أم لا ، فمن قال : ليس في القرآن مجاز ، قال : المقابلة عدوان ، وهو عدوان مباح ، كما أن المجاز في كلام العرب كذب مباح ، لأم قول القائل :
فقالت له العينان سمعاً وطاعة
وكذلك :
امتلأ الحوض وقال قطني
وكذلك :
شكا إلي جملي طول السرى
ومعلوم أن هذه الأشياء لا تنطق . وحد الكذب : إخبار عن الشيء على خلاف ما هو به . ومن قال في القرآن مجاز سمى هذا عدواناً على طريق المجاز ومقابلة الكلام بمثله ، كما قال عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال الآخر :
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
ومن رام تقويمي فإني مقوم ومن رام تعويجي فإني معوج
يريد : أكافىء الجاهل والمعوج ، لا أنه امتدح بالجهل والاعوجاج .
السادسة : واختلف العلماء فيمن استهلك أو أفسد شيئاً من الحيوان أو العروض التي لا تكال ولا توزن ، فقال الشافعي و أبو حنيفة وأصحابهما وجماعة من العلماء : عليه في ذلك المثل ، ولا يعدل إلى القيمة إلا عند عدم المثل ، لقوله تعالى : "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" وقوله تعالى : "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" .
قالوا : وهذا عموم في جميع الأشياء كلها ، وعضدوا هذا بأن النبي صلى الله عليه وسلم حبس القصعة المكسورة في بيت التي كسرتها ودفع الصحيحة وقال : إناء بإناء وطعام بطعام خرجه أبو داود قال : حدثنا مسدد حدثنا يحيى ح وحدثنا محمد بن المثنى حدثنا خالد عن حميد عن أنس :
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه ، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم قصعة فيها طعام ، قال : فضربت بيدها فكسرت القصعة . قال ابن المثنى : فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين فضم إحداهما إلى الأخرى ، فجعل يجمع فيها الطعام ويقول : غارت أمكم" . زاد ابن المثنى كلوا فأكلوا حتى جاءت قصعتها التي في بيتها . ثم رجعنا إلى لفظ حديث مسدد وقال : كلوا وحبس الرسول والقصعة ختى فرغوا ، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول وحبس المكسورة في بيته . حدثنا أبو داود قال : حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال وحدثنا فليت العامري ـ قال أبو داود : وهو أفلت بن خليفة ـ عن جسرة بنت دجاجة قالت قالت عائشة رضي الله عنها :
"ما رأيت صانعاً طعاماً مثل صفية ، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً فبعثت به ، فأخذني أفكل فكسرت الإناء ، فقلت : يا رسول الله ، ما كفارة ما صنعت ؟ قال : إناء مثل إناء وطعام مثل طعام" . قال مالك وأصحابه ، عليه في الحيوان والعروض التي لا تكال ولا توزن القيمة لا المثل ، بدليل تضمين النبي صلى الله عليه وسلم الذي أعتق نصف عبده قيمة نصف شريكه ، ولم يضمنه مثل نصف عبده . ولا خلاف بين العلماء على تضمين المثل في المطعومات والمشروبات والموزونات ، لقوله عليه السلام : "طعام بطعام" .
السابعة : لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في المماثلة في القصاص ، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به ، وهو قول الجمهور ، ما لم يقتله بفسق كاللوطية وإسقاء الخمر فيقتل بالسيف . وللشافعية قول : إنه يقتل بذلك ، فيتخذ عود على تلك الصفة ويطعن به في دبره حتى يموت ، ويسقى عن الخمر ماء حتى يموت . وقال ابن الماجشون : إن من قتل بالنار أو بالسم لا يقتل به ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
"لا يعذب بالنار إلا الله" . والسم نار باطنة . وذهب الجمهور إلى أنه يقتل بذلك ، لعموم الآية .
الثامنة : وأما القود بالعصا فقال مالك في إحدى الروايتين : إنه إن كان في القتل بالعصا تطويل وتعذيب قتل بالسيف ، رواه عنه ابن وهب ، وقاله ابن القاسم . وفي الأخرى : يقتل بها وإن كان فيه ذلك ، وهو قول الشافعي . وروى أشهب وابن نافع عن مالك في الحجر والعصا أنه يقتل بهما إذا كانت الضربة مجهزة ، فأما أن يضرب ضربات فلا . وعليه لا يرمى بالنبل ولا بالحجارة لأنه من التعذيب ، وقاله عبد الملك . قال ابن العربي : والصحيح من أقوال علمائنا أن المماثلة واجبة ، إلا أن تدخل في حد التعذيب فلتترك إلى السيف . واتفق علماؤنا على أنه إذا قطع يده ورجله وفقأ عينه قصد التعذيب فعل به ذلك ، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بقتله الرعاء . وإن كان في مدافعة أو مضاربة قتل بالسيف . ذهبت طائفة إلى خلاف هذا كله فقالوا : لا قود إلا بالسيف ، وهو مذهب أبي حنيفة و الشعبي و النخعي . واحتجوا على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"لا قود إلا بحديدة" ، وبالنهي عن المثلة ، وقوله : "لا يعذب بالنار إلا رب النار" . والصحيح ما ذهب إليه الجمهور ، لما رواه الأئمة عن أنس بن مالك :
أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين ، فسألوها : من صنع هذا بك ! أفلان ، أفلان ؟ حتى ذكروا يهودياً فأومأت برأسها ، فأخذ اليهودي فأقر ، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ترض رأسه بالحجارة . وفي رواية : فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين . وهذا نص صريح صحيح ، وهو مقتضى قوله تعالى : "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" وقوله : "فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" . وأما ما استدلوا به من حديث جابر فحديث ضعيف عند المحدثين ، لا يروى من طريق صحيح ، ولو صح قلنا بموجبه ، وأنه إذا قتل بحديدة قتل بها ، يدل على ذلك حديث أنس : أن يهودياً رض رأس جارية بين حجرين فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين . وأما النهي عن المثلة فنقول أيضاً بموجبها إذا لم يمثل ، فإذا مثل مثلنا به ، يدل على ذلك حديث :
العرنيين ، وهو صحيح أخرجه الأئمة . وقوله : "لا يعذب بالنار إلا رب النار" صحيح إذا لم يحرق ، فإن حرق حرق ، يدل عليه عموم القرآن . قال الشافعي : إن طرحه في النار عمداً طرح في النار حتى يموت ، وذكره الوقار في مختصره عن مالك ، وهو قول محمد بن عبد الحكم . قال ابن المنذر : وقول كثير من أهل العلم في الرجل يخنق الرجل : عليه القود ، وخالف في ذلك محمد بن الحسن فقال :لو خنقه حتى مات أو طرحه في بئر فمات ، أو ألقاه من جبل أو سطح فمات ، لم يكن عليه قصاص وكان على عاقلته الدية ، فإن كان معروفاً بذلك ـ قد خنق غير واحد ـ فعليه القتل . قال ابن المنذر :ولما أقاد النبي صلى الله عليه وسلم من اليهودي الذي رض رأس الجارية بالحجر كان هذا في معناه ، فلا معنى لقوله .
قلت : وحكى هذا القول غيره عن ابي حنيفة فقال :وقد شد أبو حنيفة فقال فيمن قتل بخنق أو بسم أو تردية من جبل أو بئر أو بخشبة : إنه لا يقتل ولا يقتص منه ، إلا إذا قتل بمحدد : حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفاً بالخنق والتردية وكان على عاقلته الدية . وهذا منه رد للكتاب والسنة ، وإحداث ما لم يكن عليه أمر الأمة ، وذريعة إلى رفع القصاص الذي شرعه الله للنفوس ، فليس عنه مناص .
التاسعة : واختلفوا فيمن حبس رجلاً وقتله آخر ، فقال عطاء : يقتل القاتل ويحبس الحابس حتى يموت . وقال مالك : إن كان حبسه وهو يرى أنه يريد قتله قتلاً جميعاً ، وفي قول الشافعي وأبي ثور والنعمان يعاقب الحابس . واختاره ابن المنذر .
قلت :قول عطاء صحيح ، وهو مقتضى التنزيل . وروى الدار قطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يقتل القاتل ويحبس الذي أمسكه" . رواه سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر ، ورواه معمر و ابن جريج عن إسماعيل مرسلاً .
العاشرة : قوله تعالى : "فمن اعتدى" الاعتداء هو التجاوز ، قال الله تعالى : "ومن يتعد حدود الله" أي يتجاوزها ، فمن ظلمك فخذ حقك منه بقدر مظلمتك ، ومن شتمك فرد عليه مثل قوله ، ومن أخذ عرضك فخذ عرضه ، لا تتعدى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه ، وليس لك أن تكذب عليه وإن كذب عليك ، فإن المعصية لا تقابل بالمعصية ، فلو قال لك مثلاً : يا كافر ، جاز لك أن تقول له : أنت الكافر . وإن قال لك : يا زان ، فقصاصك أن تقول له : يا كذاب يا شاهد زور . ولو قلت له يا زان ، كنت كاذباً وأثمت في الكذب . وإن مطلك وهو غني دون عذر فقال : يا ظالم ، يا آكل أموال الناس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" . أما عرضه فبما فسرناه ، وأما عقوبته فالسجن يحبس فيه . وقال ابن عباس : نزل هذا قبل أن يقوى الإسلام ، فأمر من أوذي من المسلمين أن يجازي بمثل ما أوذي به ، أو يصبر أو يعفو ، ثم نسخ ذلك بقوله :"وقاتلوا المشركين كافة" . وقيل : نسخ ذلك بتصييره إلى السلطان . ولا يحل لأحد أن يقتص من أحد إلا بإذن السلطان .
قال عكرمة: عن ابن عباس والضحاك والسدي وقتادة ومقسم والربيع بن أنس وعطاء وغيرهم, لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم, معتمراً في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت وصدوه بمن معه من المسلمين, في ذي القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل, فدخلها في السنة الاتية هو ومن كان من المسلمين, وأقصه الله منهم, فنزلت في ذلك هذه الاية "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص" وقال الإمام أحمد: حدثنا إسحاق بن عيسى حدثنا ليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله, قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام, إلا أن يغزى ويغزوا، فإذا حضره أقام حتى ينسلخ. هذا إسناد صحيح: ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم, وهو مخيم بالحديبية أن عثمان قتل, وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين, بايع أصحابه وكانوا ألفاً وأربعمائة تحت الشجرة, على قتال المشركين, فلما بلغه أن عثمان لم يقتل, كف عن ذلك وجنح إلى المسالمة والمصالحة, فكان ما كان. وكذلك لما فرغ من قتال هوازن يوم حنين, وتحصن فلهم بالطائف, عدل إليها فحاصرها, ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق, واستمر عليه إلى كمال أربعين يوماً كما ثبت في الصحيحين عن أنس, فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تفتح, ثم كر راجعاً إلى مكة واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين, وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضاً, عام ثمان صلوات الله وسلامه عليه وقوله: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" أمر بالعدل حتى في المشركين, كما قال: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" وقال: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" وروى علي بن أبي طلحة, عن ابن عباس أن قوله: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم", نزلت بمكة حيث لا شوكة ولا جهاد, ثم نسخ بآية القتال بالمدينة, وقد رد هذا القول ابن جرير, وقال: بل الاية مدنية بعد عمرة القضية وعزا ذلك إلى مجاهد رحمه الله, وقوله: "واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين" أمر لهم بطاعة الله وتقواه, وإخباره بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والاخرة.
قوله: 194- "الشهر الحرام بالشهر الحرام" أي إذا قاتلوكم في الشهر الحرام وهتكوا حرمته قاتلتموهم في الشهر الحرام مكافأة لهم ومجازاة على فعلهم. "والحرمات" جمع حرمة، كالظلمات جمع ظلمة، إنما جمع الحرمات لأنه أراد الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام، والحرمة: ما منع الشرع من انتهاكه. والقصاص: المساواة، والمعنى: أن كل حرمة يجري فيها القصاص، فمن هتك حرمة عليكم فلكم أن تهتكوا حرمة عليه قصاصاً، قيل: وهذا كان في أول الإسلام ثم نسخ بالقتال، وقيل: إنه ثابت بين أمة محمد صلى الله عليه وسلم لم ينسخ، ويجوز لمن تعدى عليه في مال أو بدن أن يتعدى بمثل ما تعدى عليه، وبهذا قال الشافعي وغيره. وقال آخرون: إن أمور القصاص مقصورة على الحكام، وهكذا الأموال لقوله صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". أخرجه الدارقطني وغيره، وبه قال أبو حنيفة وجمهور المالكية وعطاء الخراساني، والقول الأول أرجح، وبه قال ابن المنذر واختاره ابن العربي والقرطبي، وحكاه الداودي عن مالك، ويؤيده إذنه صلى الله عليه وسلم لامرأة أبي سفيان أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها وهو في الصحيح، ولا أصرح وأوضح من قوله تعالى في هذه الآية: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" وهذه الجملة في حكم التأكيد للجملة الأولى، أعني قوله: "والحرمات قصاص" وإنما سمى المكافأة اعتداء مشاكلة كما تقدم.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال:" لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً في سنة ست من الهجرة وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت، وصدوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة، وهو شهر حرام قاضاهم على الدخول من قابل، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان معه من المسلمين وأقصه الله منهم نزلت في ذلك هذه الآية "الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص"". وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه أيضاً. وأخرجا أيضاً عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج نحوه. وأخرج أبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: "فمن اعتدى عليكم" الآية. وقوله: "وجزاء سيئة" الآية، وقوله: "ولمن انتصر بعد ظلمه" الآية، وقوله: "وإن عاقبتم" الآية قال: هذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل ليس لهم سلطان بقهر المشركين، فكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين من يتجازى منهم أن يتجازى بمثل ما أوتى إليه أو يصبروا ويعفوا، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأعز الله سلطانه، أمر الله المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، ولا يعدوا بعضهم على بعض كأهل الجاهلية، فقال: "ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً" الآية، يقول: ينصره السلطان حتى ينصفه على من ظلمه، ومن انتصر لنفسه دون السلطان فهو عاص مسرف قد عمل بحمية الجاهلية ولم يرض بحكم الله تعالى انتهى. وأقول: هذه الآية التي جعلها ابن عباس رضي الله عنه ناسخة مؤيدة لما تدل عليه الآيات التي جعلها منسوخة ومؤكدة له، فإن الظاهر من قوله: "فقد جعلنا لوليه سلطاناً" أنه جعل السلطان له: أي جعل له تسلطاً يتسلط به على القاتل، ولهذا قال: "فلا يسرف في القتل" ثم لو سلمنا أن معنى الآية كما قاله لكان ذلك مخصصاً للقتل من عموم الآيات المذكورة لا ناسخاً لها، فإنه لم ينص في هذه الآية إلا على القتل وحده، وتلك الآيات شاملة له ولغيره، وهذا معلوم من لغة العرب التي هي المرجع في تفسير كلام الله سبحانه.
194. قوله تعالى: " الشهر الحرام بالشهر الحرام " نزلت في عمرة القضاء وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً في ذي القعدة فصده المشركون عن البيت بالحديبيةفصالح أهل مكة على أن ينصرف عامه ذلك ويرجع العام القابل فيقضي عمرته، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم عامه ذلك ورجع في العام القابل في ذي القعدة وقضى عمرته سنة سبع من الهجرة فذلك معنى قوله تعالى "الشهر الحرام " يعني ذا القعدة الذي دخلتم فيه مكة وقضيتم فيه عمرتكم سنة سبع"بالشهر الحرام" يعني ذي القعدة الذي صددتم فيه عن البيت سنة ست " والحرمات قصاص" جمع حرمة وإنما جمعها لأنه أراد حرمة الشهر الحرام والبلد الحرام وحرمة الإحرام، والقصاص المساواة والمماثلة وهو أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل، وقيل هذا في أمر القتال معناه: إن بدؤوكم بالقتال في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه ف إنه قصاص بما فعلوا فيه " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه " وقاتلوهم " بمثل ما اعتدى عليكم " سمى الجزاء باسم الابتداء على ازدواج الكلام كقوله تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها " (40-الشورى) " واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين ".
194-" الشهر الحرام بالشهر الحرام " قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه ، وكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته فقيل لهم هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به . " والحرمات قصاص " احتجاج عليه ، أي كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص . فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله ، وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم . كما قال : " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " وهو فذلكة التقرير . " واتقوا الله " في الأنصار ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم . " واعلموا أن الله مع المتقين " فيحرسهم ويصلح شأنهم .
194. The forbidden month for the forbidden month, and forbidden things in retaliation. And one who attacketh you, attack him like manner as he attacked you. Observe your duty to Allah, and know that Allah is with those who ward off (evil).
194 - The prohibited month for the prohibited month, and so for all things prohibited, there is the law of equality. if then any one transgresses the prohibition against you, transgress ye likewise against him. but fear God, and know that God is with those who restrain themselves.